الريع والسيولة: ماذا نعرف عن "المجهول" الذي يسير العراق نحوه؟  

عبد الله السعد

02 آذار 2025

70 بالمئة من "الكاش العراقي" خارج المصارف. والحكومة بمؤسساتها المالية تعاني من قلّة الدينار، وأسعار النفط قد تهوي.. إذاً، ماذا نعرف عن "المجهول" الذي يسير العراق نحوه؟

يعيش العراق، اليوم، أزمة مالية حقيقية جرّاء عدم توفّر السيولة النقدية لثلاثة أسباب؛ الأول هو فقدان أكثر من 70 بالمئة من الكتلة النقدية إثر القرارات غير المدروسة للجهاز المصرفي العراقي. وتمثّلت القرارات بتحديد السحوبات النقدية للمودعين، وتسلُّط عدد كبير من ضعاف النفوس على أموال المودعين عند إجرائهم لعمليات الإيداع أو السحب، ما أسفر عن فقدان ثقة المودعين بالمصارف الحكومية واضطرارهم إلى الاحتفاظ بأموالهم دون إيداعها في المصارف. والسبب الثاني هو تضخم النفقات التشغيلية على حساب الإيرادات العامة، وأما السبب الثالث فهو الإجراءات الرقابية الصارمة التي اعتمدها النظام الفيدرالي الأمريكي، بالتنسيق والتعاون مع البنك المركزي العراقي، لمتابعة عمليات التحويل المالي من العراق إلى مختلف دول العالم بغية مساعدة العراق في الحرب ضد مافيا تهريب العملة وغسل الأموال، التي تقف وراء تهريب عشرات مليارات الدولارات من العراق إلى خارجه خلال السنوات المنصرمة. 

التركة وشطب الديون 

لقد ورث النظام السياسي القائم حالياً تركة ثقيلة من الديون الخارجية تقدّر بأكثر من 130 مليار دولار وفقاً لبيانات دائرة الدين العام في وزارة المالية العراقية

 وبغية مساعدة العراق على تجاوز مخلّفات الحقبة السابقة، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم 1483 في 22 أيار عام 2003، الذي أنشأ بموجبه صندوق تنمية العراق (DFI)، لتودع فيه جميع عائدات العراق من مبيعات النفط ومشتقاته ومبيعات الغاز، لحين تشكيل حكومة عراقية منتخبة تمثل الشعب العراقي وفق الأصول، باستثناء خمسة بالمئة من تلك العائدات يتم إيداعها في صندوق التعويضات، الذي أُنشأ وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 687 لعام 1991. 

كما طالب مجلس الأمن الدولي بقراره المرقم 1483 لعام 2003، المشار إليه آنفاً، المؤسسات المالية الدولية بمساعدة العراق في جهوده الرامية إلى إعادة بناء اقتصاده وتنميته، ومُرَحّباً باستعداد الدائنين له، بما فيهم نادي باريس بالتفاوض مع العراق بهدف الوصول إلى حلول لملف ديونه السيادية. 

إثر صدور القرار، خاض العراق العديد من جولات التفاوض مع الدائنين، بدعم غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أسفرت عن شطب 80 بالمئة من مديونية العراق الخارجية، وجدولة المتبقي من الديون، إضافة إلى تلقّي العراق منحاً وقروض جديدة لغرض مساعدته على تجاوز مخلفات الحقبة السابقة والارتقاء باقتصاده. 

التركة وما تلاها 

بهدف تمكين العراق من بلوغ هدف الارتقاء باقتصاده الوطني، عمد صندوق النقد الدولي إلى رسم خارطة طريق للعراق، تضمّنت العديد من الخطوات، التي تمحور أغلبها حول ترشيد الإنفاق الحكومي وتنويع موارد الدخل، بهدف تخفيف الأعباء عن كاهل الخزينة العامة، وتحول العراق من دولة ذات اقتصاد ريعي إلى دولة تتمتع بموارد دخل متعددة. 

التزم العراق بتنفيذ بعض التوصيات بصورة تدريجية، وخاصة فيما يتعلق بتخفيض الدعم الحكومي التدريجي لمفردات البطاقة التموينية والمحروقات، ضمن نطاق محدود، ولكنه أخفق في تنفيذ بقية الخطوات، وخاصة فيما يتعلق بهيكلة القطاع العام ودعم القطاع الخاص وخلق بيئة آمنة للاستثمار. 

اقرأ أيضاً

الأوليغارشية العراقية: أرباب المصارف الخاصة والسيطرة على السياسة النقدية 

فقد عمدت القوى السياسية، عبر ممثليها في البرلمان بجميع الدورات التشريعية والحكومات المتعاقبة، إلى زيادة أعداد موظفي الدولة وأعداد المشمولين بالرواتب، والإعانات الشهرية من خزينة الدولة، عبر تشريع القوانين وإصدار القرارات غير المدروسة بعناية تامة؛ سعياً منها لكسب ودّ الشارع وتأسيس قواعد انتخابية على حساب الصالح العام، دون وعي من تلك القوى أنها ذاهبة بالبلد في اتجاه الانهيار الاقتصادي التام، خاصة وأنها تجاهلت الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. 

بحلول شهر تموز عام 2014، شعرت الحكومة العراقية بالحرج، بسبب الهبوط النسبيّ في أسعار النفط عالمياً، بالتزامن مع زيادة في النفقات التشغيلية، التي ترتبت بسبب السياسات الخاطئة، وزيادة كبيرة في النفقات العسكرية جرّاء الحرب على تنظيم داعش، الذي فرض سيطرته على عدد من المحافظات منتصف شهر حزيران عام 2014، ما اضطر الحكومة العراقية مطلع عام 2015 إلى اتباع سياسة التقشّف وترشيد الإنفاق الحكومي، عبر سلسلة من الإجراءات، كما تقدمت بطلب رسمي لصندوق النقد الدولي في شهر تموز عام 2015، للحصول على تمويل طارئ بقيمة 1.2 مليار دولار. 

بحلول شهر تشرين الثاني من عام 2015 بدأ صندوق النقد الدولي، بطلب من السلطات العراقية تنفيذ برنامج لا يرتبط بقروض، يراقبه خبراء الصندوق لإرساء الأوضاع الضرورية وبناء القدرات المطلوبة، وتحقيق سجل الأداء اللازم للانتقال إلى اتفاق الاستعداد الائتماني، وكان البرنامج يركز على أربعة عناصر أساسية، وهي: 

 أولاً: ترشيد الإنفاق الحكومي وإعادة المالية العامة إلى حالة صحية وتحقيق استقرار الدين. 

 ثانياً: حماية الإنفاق الاجتماعي لتخفيف أعباء الحياة عن الشرائح الأشدّ فقراً والنازحين داخلياً واللاجئين. 

 ثالثاً: تحسين جودة الإنفاق العام ومنع تراكم الدين غير المسدد من خلال تحسينات في الإدارة المالية العامة. 

 رابعاً: هيكلة البنوك المملوكة للدولة بغية الحد من سيطرتها على الجهاز المصرفي، ومن ثم تخفيف مخاطر القطاع المالي والحفاظ على استقراره. 

لقد كان لالتزام العراق ببعض بنود هذا البرنامج مقترناً بنمو القطاع النفطي خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2016، الأثر البالغ بدعم الاستقرار الاقتصادي في حينه، على الرغم من الهبوط الحاد في أسعار النفط عالمياً. 

الاستمرار على الأخطاء 

استمر العراق بالعمل وفق برنامج النقد الدولي خلال عامي 2017 و2018، بالتزامن مع انخفاض نفقات الحرب إثر الانتصار الكبير الذي حققته القوات المسلحة بمختلف صنوفها على التنظيمات المتطرفة منتصف شهر تموز عام 2017، واستقرار أسعار النفط عالمياً خلال عام 2017، والنصف الأول من عام 2018، وعودتها إلى الارتفاع مجدداً على خلفية قرارات الأوبك وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرضها حزمة جديدة من العقوبات على إيران في حينه، ما أسفر عن زيادة في إيرادات مبيعات النفط العراقي، إضافة إلى زيادة في الإيرادات غير النفطية، كانت نتاج سلسلة من الإجراءات التي عمدت إليها الحكومة في حينه، ليتعافى الاقتصاد العراقي بعض الشيء.  

لكن الحال لم تستمر على ما هي عليه، إذ أنه وبمجرد تشكيل الحكومة اللاحقة برئاسة عادل عبد المهدي، عادت الأمور إلى سابق عهدها، حيث ارتكب مجلس النواب بدورته الرابعة، أخطاءً كارثية، تمثّلت بتعديلات غير مدروسة على قانون الموازنة الاتحادية لعام 2019. وتضمنت التعديلات موادَ تلزم الحكومة بإعادة المفسوخة عقودهم، وتَكفُل الحكومة الاتحادية بدفع رواتب مقاتلي قوات البيشمركة بعيداً عن حصة إقليم كردستان العراق من تخصيصات الموازنة، إضافة إلى تعاقد الوزارات ومؤسسات الدولة المختلفة مع مئات الآلاف من الموظفين الجدد، وتشغيل أعداد كبيرة جداً بنظام الأجر اليومي (المياومة)، ومن ثمّ تحويلهم إلى موظفين بصفة عقود قبل أن يتمّ تثبيتهم فيما بعد على الملاك الدائم. 

 حدث ذلك كلّه في ظل صمت حكومي مطبق، دون التفات ممثلي القوى السياسية في البرلمان للأعباء المالية الكبيرة التي ستتحملها الخزينة العامة جراء هذه التعديلات على مشروع قانون الموازنة الاتحادية العامة لعام 2019، والقرارات ذات الصلة التي صدرت بعد تشريع قانون الموازنة. 

عاش العراق أزمة حقيقية أواخر عام 2019، بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في شهر تشرين الأول من العام نفسه، وما رافقها من أحداث دفعت بحكومة عبد المهدي فيما بعد إلى الاستقالة يوم 30 تشرين الثاني 2019، ومن ثمّ تفشي وباء كورونا عالمياً وما ترتب عليه من هبوط حاد بأسعار النفط في الأسواق العالمية. 

تخفيض الدينار والسوق الموازية 

مطلع شهر أيار عام 2020، تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، لتعمد إلى سلسلة من الإجراءات بغية تجاوز الأزمة، وكان قرار البنك المركزي العراقي بتخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار أواخر عام 2021، من 1190 دينار لكل دولار إلى 1470 دينار لكل دولار أحد أهم القرارات التي أصدرها البنك المركزي العراقي، بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية وعموم القوى السياسية لتجاوز الأزمة، قبل أن تنقلب أغلب القوى السياسية فيما بعد على حكومة الكاظمي، التي انتهت ولايتها يوم 26 تشرين الأول عام 2022، لتُحمّلها مسؤولية القرار وما ترتب عليه من تداعيات، في محاولة من تلك القوى للتنصّل من المسؤولية في مواجهة الشارع العراقي.  

بحلول عام 2023 شهدت الأسواق هزّة قوية إثر الإجراءات الرقابية الصارمة التي اعتمدها النظام الفيدرالي الأمريكي لمتابعة الحوالات الخارجية من العراق إلى مختلف دول العالم، بهدف القضاء على عمليات غسل الأموال، وتهريب العملة إلى خارج العراق من قبل مافيات الفساد وعصابات الجريمة المنظمة. 

واستمراراً لمسلسل التخبّط في إدارة شؤون الدولة عاد البنك المركزي العراقي، في عهد رئيس الحكومة العراقية الجديدة محمد شياع السوداني، ليصدر قراراً جديداً يوم 8 شباط 2023، يقضي بتخفيض قيمة الدولار أمام الدينار، ليصبح 1320 ديناراً لكل دولار بدلاً عن سعره السابق البالغ 1470 ديناراً لكل دولار، في محاولة من حكومة السوداني لدغدغة مشاعر الشارع العراقي وامتصاص غضبه، الذي اشتدت حدّته بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار السلع. 

ولكن هذا القرار لم يترك أي أثر إيجابي في الشارع العراقي، حيث بقيت الأسعار على حالها، بارتفاع مستمر، خاصة وأن أسعار الدولار في السوق الموازي بقيت تتراوح بين 1490 – 1520 ديناراً لكل دولار في الأسواق المحلية، بسبب الزيادة في الطلب على الدولار وقلة المعروض منه، على الرغم من محاولات الجهات الرسمية المعنية للسيطرة على أسعار صرف الدولار، ما أسفر عن حالة ركود في الأسواق، دفعت بالكثير من أصحاب المهن للبحث عن بدائل. 

وكان لسوء التخطيط والإدارة، وتفشي الفساد المالي والإداري، دور كبير في الإبقاء على اقتصاد العراق ريعياً، على الرغم من المقومات التي يمتلكها والتي يمكن استثمارها باتجاه تنويع مصادر الدخل. 

أي مصير؟ 

لم يتقدم العراق خلال آخر عشرين سنة، ولو لخطوة واحدة، باتجاه التحرر من قيود السوق النفطية، بسبب الاعتماد الكلي على إيرادات مبيعات النفط مورداً رئيسياً لتأمين النفقات التشغيلية والاستثمارية. 

وبسبب عدم استقرار أسعار النفط عالمياً، وتقلبها بين الارتفاع والهبوط تأثراً بمستجدات الأحداث في العالم، فإن العراق سيبقى على المدى المنظور يعيش حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، لكون إيرادات مبيعات النفط اليوم، بالكاد تسدّ النفقات التشغيلية، وأيّ هبوط في أسعار النفط عالمياً ستكون له تداعيات كارثية على مجمل الأوضاع في العراق، خاصة إذا ما علمنا أن أيّاً من المؤسسات المالية الدولية لن تقدم في المستقبل قروضاً للعراق لغرض تأمين النفقات التشغيلية. 

وعلى الرغم من إصدار ما يقارب 105 ترليون دينار لغاية نهاية عام 2024، لكن العراق يعاني من فقدان أكثر من 70 بالمئة من الكتلة النقدية. لسببين؛ الأول منهما هو عدم ثقة المواطن بالمصارف العراقية سواء كانت حكومية أو أهلية، وتوجهه للاحتفاظ بمدخراته النقدية خارج المصارف. والثاني منهما هو عمليات تهريب الدينار العراقي إلى بعض دول الجوار. 

وبدلاً من العمل على معالجة هذه المشكلة بشكل جذريّ، ذهبت الجهات المعنية باتجاه حلول “ترقيعية” غير مجدية، في محاولة منها لذرّ الرماد في العيون، والتمويه على عمليات تهريب العملة وغسل الأموال التي تقوم بها أغلب المصارف الأهلية لصالح جهات وشخصيات متنفذة في العراق، وأخرى خارج الحدود.   

لذا، بات من الضروري أن يقبل العراق فكرة المضي باتجاه ثورة حقيقية للإصلاح الإداري والمالي، تشمل مختلف القطاعات دون أي استثناء.  

فتكون إعادة هيكلة القطاع العام وترشيد الإنفاق الحكومي، وتعزيز دور القطاع الخاص وتقديم الدعم اللازم له ليرتقي إلى مستوى الشريك الحقيقي للقطاع العام، وإصلاح النظام المصرفي العراقي بما يؤمن مواكبته للنظام المصرفي العالمي، وإعادة ثقة المواطن العراقي بالنظام المصرفي في العراق، تمثّل حلولاً جذرية لمشاكل العراق الاقتصادية، وبخلافه فإنه ماضٍ نحو المجهول. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

يعيش العراق، اليوم، أزمة مالية حقيقية جرّاء عدم توفّر السيولة النقدية لثلاثة أسباب؛ الأول هو فقدان أكثر من 70 بالمئة من الكتلة النقدية إثر القرارات غير المدروسة للجهاز المصرفي العراقي. وتمثّلت القرارات بتحديد السحوبات النقدية للمودعين، وتسلُّط عدد كبير من ضعاف النفوس على أموال المودعين عند إجرائهم لعمليات الإيداع أو السحب، ما أسفر عن فقدان ثقة المودعين بالمصارف الحكومية واضطرارهم إلى الاحتفاظ بأموالهم دون إيداعها في المصارف. والسبب الثاني هو تضخم النفقات التشغيلية على حساب الإيرادات العامة، وأما السبب الثالث فهو الإجراءات الرقابية الصارمة التي اعتمدها النظام الفيدرالي الأمريكي، بالتنسيق والتعاون مع البنك المركزي العراقي، لمتابعة عمليات التحويل المالي من العراق إلى مختلف دول العالم بغية مساعدة العراق في الحرب ضد مافيا تهريب العملة وغسل الأموال، التي تقف وراء تهريب عشرات مليارات الدولارات من العراق إلى خارجه خلال السنوات المنصرمة. 

التركة وشطب الديون 

لقد ورث النظام السياسي القائم حالياً تركة ثقيلة من الديون الخارجية تقدّر بأكثر من 130 مليار دولار وفقاً لبيانات دائرة الدين العام في وزارة المالية العراقية

 وبغية مساعدة العراق على تجاوز مخلّفات الحقبة السابقة، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم 1483 في 22 أيار عام 2003، الذي أنشأ بموجبه صندوق تنمية العراق (DFI)، لتودع فيه جميع عائدات العراق من مبيعات النفط ومشتقاته ومبيعات الغاز، لحين تشكيل حكومة عراقية منتخبة تمثل الشعب العراقي وفق الأصول، باستثناء خمسة بالمئة من تلك العائدات يتم إيداعها في صندوق التعويضات، الذي أُنشأ وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 687 لعام 1991. 

كما طالب مجلس الأمن الدولي بقراره المرقم 1483 لعام 2003، المشار إليه آنفاً، المؤسسات المالية الدولية بمساعدة العراق في جهوده الرامية إلى إعادة بناء اقتصاده وتنميته، ومُرَحّباً باستعداد الدائنين له، بما فيهم نادي باريس بالتفاوض مع العراق بهدف الوصول إلى حلول لملف ديونه السيادية. 

إثر صدور القرار، خاض العراق العديد من جولات التفاوض مع الدائنين، بدعم غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أسفرت عن شطب 80 بالمئة من مديونية العراق الخارجية، وجدولة المتبقي من الديون، إضافة إلى تلقّي العراق منحاً وقروض جديدة لغرض مساعدته على تجاوز مخلفات الحقبة السابقة والارتقاء باقتصاده. 

التركة وما تلاها 

بهدف تمكين العراق من بلوغ هدف الارتقاء باقتصاده الوطني، عمد صندوق النقد الدولي إلى رسم خارطة طريق للعراق، تضمّنت العديد من الخطوات، التي تمحور أغلبها حول ترشيد الإنفاق الحكومي وتنويع موارد الدخل، بهدف تخفيف الأعباء عن كاهل الخزينة العامة، وتحول العراق من دولة ذات اقتصاد ريعي إلى دولة تتمتع بموارد دخل متعددة. 

التزم العراق بتنفيذ بعض التوصيات بصورة تدريجية، وخاصة فيما يتعلق بتخفيض الدعم الحكومي التدريجي لمفردات البطاقة التموينية والمحروقات، ضمن نطاق محدود، ولكنه أخفق في تنفيذ بقية الخطوات، وخاصة فيما يتعلق بهيكلة القطاع العام ودعم القطاع الخاص وخلق بيئة آمنة للاستثمار. 

اقرأ أيضاً

الأوليغارشية العراقية: أرباب المصارف الخاصة والسيطرة على السياسة النقدية 

فقد عمدت القوى السياسية، عبر ممثليها في البرلمان بجميع الدورات التشريعية والحكومات المتعاقبة، إلى زيادة أعداد موظفي الدولة وأعداد المشمولين بالرواتب، والإعانات الشهرية من خزينة الدولة، عبر تشريع القوانين وإصدار القرارات غير المدروسة بعناية تامة؛ سعياً منها لكسب ودّ الشارع وتأسيس قواعد انتخابية على حساب الصالح العام، دون وعي من تلك القوى أنها ذاهبة بالبلد في اتجاه الانهيار الاقتصادي التام، خاصة وأنها تجاهلت الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. 

بحلول شهر تموز عام 2014، شعرت الحكومة العراقية بالحرج، بسبب الهبوط النسبيّ في أسعار النفط عالمياً، بالتزامن مع زيادة في النفقات التشغيلية، التي ترتبت بسبب السياسات الخاطئة، وزيادة كبيرة في النفقات العسكرية جرّاء الحرب على تنظيم داعش، الذي فرض سيطرته على عدد من المحافظات منتصف شهر حزيران عام 2014، ما اضطر الحكومة العراقية مطلع عام 2015 إلى اتباع سياسة التقشّف وترشيد الإنفاق الحكومي، عبر سلسلة من الإجراءات، كما تقدمت بطلب رسمي لصندوق النقد الدولي في شهر تموز عام 2015، للحصول على تمويل طارئ بقيمة 1.2 مليار دولار. 

بحلول شهر تشرين الثاني من عام 2015 بدأ صندوق النقد الدولي، بطلب من السلطات العراقية تنفيذ برنامج لا يرتبط بقروض، يراقبه خبراء الصندوق لإرساء الأوضاع الضرورية وبناء القدرات المطلوبة، وتحقيق سجل الأداء اللازم للانتقال إلى اتفاق الاستعداد الائتماني، وكان البرنامج يركز على أربعة عناصر أساسية، وهي: 

 أولاً: ترشيد الإنفاق الحكومي وإعادة المالية العامة إلى حالة صحية وتحقيق استقرار الدين. 

 ثانياً: حماية الإنفاق الاجتماعي لتخفيف أعباء الحياة عن الشرائح الأشدّ فقراً والنازحين داخلياً واللاجئين. 

 ثالثاً: تحسين جودة الإنفاق العام ومنع تراكم الدين غير المسدد من خلال تحسينات في الإدارة المالية العامة. 

 رابعاً: هيكلة البنوك المملوكة للدولة بغية الحد من سيطرتها على الجهاز المصرفي، ومن ثم تخفيف مخاطر القطاع المالي والحفاظ على استقراره. 

لقد كان لالتزام العراق ببعض بنود هذا البرنامج مقترناً بنمو القطاع النفطي خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2016، الأثر البالغ بدعم الاستقرار الاقتصادي في حينه، على الرغم من الهبوط الحاد في أسعار النفط عالمياً. 

الاستمرار على الأخطاء 

استمر العراق بالعمل وفق برنامج النقد الدولي خلال عامي 2017 و2018، بالتزامن مع انخفاض نفقات الحرب إثر الانتصار الكبير الذي حققته القوات المسلحة بمختلف صنوفها على التنظيمات المتطرفة منتصف شهر تموز عام 2017، واستقرار أسعار النفط عالمياً خلال عام 2017، والنصف الأول من عام 2018، وعودتها إلى الارتفاع مجدداً على خلفية قرارات الأوبك وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرضها حزمة جديدة من العقوبات على إيران في حينه، ما أسفر عن زيادة في إيرادات مبيعات النفط العراقي، إضافة إلى زيادة في الإيرادات غير النفطية، كانت نتاج سلسلة من الإجراءات التي عمدت إليها الحكومة في حينه، ليتعافى الاقتصاد العراقي بعض الشيء.  

لكن الحال لم تستمر على ما هي عليه، إذ أنه وبمجرد تشكيل الحكومة اللاحقة برئاسة عادل عبد المهدي، عادت الأمور إلى سابق عهدها، حيث ارتكب مجلس النواب بدورته الرابعة، أخطاءً كارثية، تمثّلت بتعديلات غير مدروسة على قانون الموازنة الاتحادية لعام 2019. وتضمنت التعديلات موادَ تلزم الحكومة بإعادة المفسوخة عقودهم، وتَكفُل الحكومة الاتحادية بدفع رواتب مقاتلي قوات البيشمركة بعيداً عن حصة إقليم كردستان العراق من تخصيصات الموازنة، إضافة إلى تعاقد الوزارات ومؤسسات الدولة المختلفة مع مئات الآلاف من الموظفين الجدد، وتشغيل أعداد كبيرة جداً بنظام الأجر اليومي (المياومة)، ومن ثمّ تحويلهم إلى موظفين بصفة عقود قبل أن يتمّ تثبيتهم فيما بعد على الملاك الدائم. 

 حدث ذلك كلّه في ظل صمت حكومي مطبق، دون التفات ممثلي القوى السياسية في البرلمان للأعباء المالية الكبيرة التي ستتحملها الخزينة العامة جراء هذه التعديلات على مشروع قانون الموازنة الاتحادية العامة لعام 2019، والقرارات ذات الصلة التي صدرت بعد تشريع قانون الموازنة. 

عاش العراق أزمة حقيقية أواخر عام 2019، بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في شهر تشرين الأول من العام نفسه، وما رافقها من أحداث دفعت بحكومة عبد المهدي فيما بعد إلى الاستقالة يوم 30 تشرين الثاني 2019، ومن ثمّ تفشي وباء كورونا عالمياً وما ترتب عليه من هبوط حاد بأسعار النفط في الأسواق العالمية. 

تخفيض الدينار والسوق الموازية 

مطلع شهر أيار عام 2020، تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، لتعمد إلى سلسلة من الإجراءات بغية تجاوز الأزمة، وكان قرار البنك المركزي العراقي بتخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار أواخر عام 2021، من 1190 دينار لكل دولار إلى 1470 دينار لكل دولار أحد أهم القرارات التي أصدرها البنك المركزي العراقي، بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية وعموم القوى السياسية لتجاوز الأزمة، قبل أن تنقلب أغلب القوى السياسية فيما بعد على حكومة الكاظمي، التي انتهت ولايتها يوم 26 تشرين الأول عام 2022، لتُحمّلها مسؤولية القرار وما ترتب عليه من تداعيات، في محاولة من تلك القوى للتنصّل من المسؤولية في مواجهة الشارع العراقي.  

بحلول عام 2023 شهدت الأسواق هزّة قوية إثر الإجراءات الرقابية الصارمة التي اعتمدها النظام الفيدرالي الأمريكي لمتابعة الحوالات الخارجية من العراق إلى مختلف دول العالم، بهدف القضاء على عمليات غسل الأموال، وتهريب العملة إلى خارج العراق من قبل مافيات الفساد وعصابات الجريمة المنظمة. 

واستمراراً لمسلسل التخبّط في إدارة شؤون الدولة عاد البنك المركزي العراقي، في عهد رئيس الحكومة العراقية الجديدة محمد شياع السوداني، ليصدر قراراً جديداً يوم 8 شباط 2023، يقضي بتخفيض قيمة الدولار أمام الدينار، ليصبح 1320 ديناراً لكل دولار بدلاً عن سعره السابق البالغ 1470 ديناراً لكل دولار، في محاولة من حكومة السوداني لدغدغة مشاعر الشارع العراقي وامتصاص غضبه، الذي اشتدت حدّته بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار السلع. 

ولكن هذا القرار لم يترك أي أثر إيجابي في الشارع العراقي، حيث بقيت الأسعار على حالها، بارتفاع مستمر، خاصة وأن أسعار الدولار في السوق الموازي بقيت تتراوح بين 1490 – 1520 ديناراً لكل دولار في الأسواق المحلية، بسبب الزيادة في الطلب على الدولار وقلة المعروض منه، على الرغم من محاولات الجهات الرسمية المعنية للسيطرة على أسعار صرف الدولار، ما أسفر عن حالة ركود في الأسواق، دفعت بالكثير من أصحاب المهن للبحث عن بدائل. 

وكان لسوء التخطيط والإدارة، وتفشي الفساد المالي والإداري، دور كبير في الإبقاء على اقتصاد العراق ريعياً، على الرغم من المقومات التي يمتلكها والتي يمكن استثمارها باتجاه تنويع مصادر الدخل. 

أي مصير؟ 

لم يتقدم العراق خلال آخر عشرين سنة، ولو لخطوة واحدة، باتجاه التحرر من قيود السوق النفطية، بسبب الاعتماد الكلي على إيرادات مبيعات النفط مورداً رئيسياً لتأمين النفقات التشغيلية والاستثمارية. 

وبسبب عدم استقرار أسعار النفط عالمياً، وتقلبها بين الارتفاع والهبوط تأثراً بمستجدات الأحداث في العالم، فإن العراق سيبقى على المدى المنظور يعيش حالة عدم الاستقرار الاقتصادي، لكون إيرادات مبيعات النفط اليوم، بالكاد تسدّ النفقات التشغيلية، وأيّ هبوط في أسعار النفط عالمياً ستكون له تداعيات كارثية على مجمل الأوضاع في العراق، خاصة إذا ما علمنا أن أيّاً من المؤسسات المالية الدولية لن تقدم في المستقبل قروضاً للعراق لغرض تأمين النفقات التشغيلية. 

وعلى الرغم من إصدار ما يقارب 105 ترليون دينار لغاية نهاية عام 2024، لكن العراق يعاني من فقدان أكثر من 70 بالمئة من الكتلة النقدية. لسببين؛ الأول منهما هو عدم ثقة المواطن بالمصارف العراقية سواء كانت حكومية أو أهلية، وتوجهه للاحتفاظ بمدخراته النقدية خارج المصارف. والثاني منهما هو عمليات تهريب الدينار العراقي إلى بعض دول الجوار. 

وبدلاً من العمل على معالجة هذه المشكلة بشكل جذريّ، ذهبت الجهات المعنية باتجاه حلول “ترقيعية” غير مجدية، في محاولة منها لذرّ الرماد في العيون، والتمويه على عمليات تهريب العملة وغسل الأموال التي تقوم بها أغلب المصارف الأهلية لصالح جهات وشخصيات متنفذة في العراق، وأخرى خارج الحدود.   

لذا، بات من الضروري أن يقبل العراق فكرة المضي باتجاه ثورة حقيقية للإصلاح الإداري والمالي، تشمل مختلف القطاعات دون أي استثناء.  

فتكون إعادة هيكلة القطاع العام وترشيد الإنفاق الحكومي، وتعزيز دور القطاع الخاص وتقديم الدعم اللازم له ليرتقي إلى مستوى الشريك الحقيقي للقطاع العام، وإصلاح النظام المصرفي العراقي بما يؤمن مواكبته للنظام المصرفي العالمي، وإعادة ثقة المواطن العراقي بالنظام المصرفي في العراق، تمثّل حلولاً جذرية لمشاكل العراق الاقتصادية، وبخلافه فإنه ماضٍ نحو المجهول.