حرب المصطلحات: تجريم السلطات العراقية لكلمة "مثلية" 

موسى الشديدي

04 شباط 2025

يتتبّع هذا المقال تاريخ نشأة وتكوّن كلمتي / مفهومي "مثلية" و"شذوذ جنسي" في اللغة العربية والمقارنة بينهما وبين ما تروجه أجهزة السلطة العراقية عنهما اليوم لتبرير تجريمهما وخلق ثنائية منهما...

ثمة حرب على الكلمات تدور رحاها في العراق. 

أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات عام 2023 أمراً بمنع استخدام كلمة “مثلية جنسية” واستبدالها بكلمة “شذوذ جنسي”، هذا على الرغم من أن رجال الأحزاب الدينية أنفسهم استخدموا كلمة مثلية في السابق. في محرم 2017 قال قيس الخزعلي، رئيس فصيل عصائب أهل الحق في خطبة له إن “أعداء الإمام الحسين (ع) رفعوا راية المثليين في أربيل تلبية لإرادة إسرائيلية”. واستخدم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الكلمة مراراً وتكراراً في تغريداته، التي كتب في واحدة منها “لقد حق القول على المثليين”، بدلاً من مصطلحي “الشواذ” أو “اللوطيين”.  

ما يثير السخرية في كل هذه السجال أن مصطلح “مثلية جنسية” الذي عدته هيئة الإعلام العراقية دخيلاً و”مخالفة للنظام العام والآداب العامة” هو مصطلح تشير المصادر إلى أن جذوره إسلامية سنية!  

وثيقة صادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات عام 2023، تمنع مفردة الجندر والمثلية 

كان سيد قطب (1903-1966)، أبرز مفكري الإخوان المسلمين (أعدمه جمال عبد الناصر بتهمة الإرهاب)، من أول مستخدمي كلمة “مثلية” في الإشارة للأشخاص الممارسين للجنس مع نفس الجنس في كتابه “النقد الأدبي: أصوله ومناهجه”، الذي صدرت طبعته الأولى في 1947، في مستهل تناوله لدراسة أجراها عالم النفس التحليلي سيجموند فرويد عن شهوات الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي، حيث قال “الحياة الجنسية لليوناردو تعطلت إلى حد بعيد (ومن العسير أن نعثر على اسم امرأة أحبها ليوناردو) مما أدى إلى انحرافه ناحية الجنسية المثلية”.1 لم تكن دراسة فرويد هذه قد ترجمت للعربية بعد، وحتى لو كان ذلك، فهذا لا يغير أن سيد قطب كان أحد أول مستخدمي كلمة “مثلية” في اللغة العربية كترجمة لـ Homosexuality الإنجليزية. 
فإن كان رجال الدين العراقيون يستخدمون هذا المصطلح طوال السنوات الماضية، وكان هذا المصطلح أصلاً من اختراع إسلامي، لماذا هاجمته هيئة الإعلام الآن وشجعت استخدام “الشذوذ الجنسي” بدلاً عنه، بحجة أنه “المصطلح الحقيقي” المحلي؟  

يتتبع المقال تاريخ نشأة وتكوُّن كلمتي/مفهومي “مثلية” و”شذوذ جنسي” في اللغة العربية والمقارنة بينهما وبين ما تروجه أجهزة السلطة العراقية عنهما اليوم في تبرير هذا التجريم وخلق ثنائية منهما.  
تاريخ كلمة/مفهوم “الشذوذ” 

البحث عن معنى كلمة “شذوذ” في “المعجم” الذي كتبه عالم اللغة محمد بن أبي بكر الرازي (توفي عام 1261) يقودنا إلى “شذَّ عن، أي انفرد عن الجمهور وندر”، وفق مختار الصحاح، دون العثور على أي معنى جنسي للكلمة. أما في “معجم التعريفات” للجرجاني الفلكي والفقيه والموسيقي واللغوي (توفي عام 1413) فـ”الشاذ” كلمة تستخدم في الحديث عن قواعد اللغة لتعني “ما يكون مخالفاً للقياس من غير نظر إلى قلة وجوده وكثرته”؛ بمعنى أن “الشذوذ” يتمثّل بوجود قاعدة مختلفة في اللغة وإن وردت بكثرة. أما في “شمس العلوم” لنشوان بن سعيد الحميري (توفي عام 1177) فـ”شذَّ عن، أي انفرد”. كما لُقّب البعض أو وصوفوا به، فكان لقب أحد المحدثين الذي نقل البخاري والنسائي عنه الحديث، شاذ بن فياض، وورد في لسان العرب لابن منظور الإفريقي (توفي سنة 1311) وصف “شذاذ الناس أي متفرقوهم” و”قوم شذاذ إذا لم يكونوا في منازلهم أو حيهم” و”شذ الرجل أي انفرد عن أصحابه”، دون أن يرد أي ربط بين كلمة شذوذ ومعناها الجنسي الحالي الذي يتداوله الناس.  

وفي حقب لاحقة ظل الوصف على مدلوله، فوصف والد طه حسين ابنه بأنه “شاذ” -كما ورد في كتابه “الأيام” (1929)- لأنه كان مراهقاً مشاكساً وعنيداً يظن أنه يعرف كل شيء.2  

كما وردت كلمة “شاذ” في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1960 ككلمة تعني “خلاف السوي”، فيما يرد معنى كلمة “لاط” فيه أنه “عمل قوم لوط، وهو ضرب من الشذوذ الجنسي”. وبعدها بأربعين عاماً ورد في المعجم الغني الصادر عام 2001 معنى شذوذ بأنه “في طبعه شذوذ جنسي، العزوف عن الممارسة الجنسية الطبيعية”، وكلمة “لاط” وردت بـ”أي مارس الشذوذ”، بينما ورد “اللواط” في معجم منتخب الصحاح لأبي نصر الجوهري (توفي عام 1003) -أي قبلهما بألف سنة تقريباً- بمعنى “لاط الرجل أي عمِل عَمل قوم لوط”، دون أن يورد كلمة “الشذوذ”. وفي لسان العرب لابن المنظور الإفريقي (توفي عام 1311) فعنت كذلك “أي عمِل عمل قوم لوط”؛ ما يعني أن كلمة “الشذوذ” لم تكن مستخدمة لتعني أمراً جنسياً في الماضي كما اليوم، وبأنها لم ترتبط بمعنى “اللواط” إلا حديثاً من خلال ربطها بالممارسات الجنسية بين الأفراد من الجنس نفسه، فكيف ولماذا حدث هذا الربط؟ 
إدخال “الشذوذ الجنسي” إلى اللغة العربية 

في خضم النهضة العربية عقب انهيار الخلافة العثمانية “انكب الباحثون العرب منذ مطلع القرن العشرين وحتى الخمسينيات، بنشاط محموم على التنقيب والتحقيق فيما اعتبروه الوثائق الحضارية للماضي التي شكلت تراث الحاضر والمستقبل. استعان هؤلاء الباحثون لتحقيق مساعيهم تلك بمفاهيم الحضارة، والثقافة، والانحلال، والانحطاط والتحلل، والتراث، والجنس، والشذوذ، وغيرها من المفاهيم الأوربية”3؛ وهكذا تم إدخال مفهوم “الشذوذ الجنسي” إلى بلادنا بحسب جوزيف مسعد في كتابه “اشتهاء العرب”. يشرح مسعد أن هذه كانت أفكاراً استعيرت “بالجملة من علم النفس وعلم التحليل النفسي الأوروبيين، حيث التصنيفات الاجتماعية العربية خلال القرون الوسطى لم تكن تلجأ بالضرورة إلى الطبيعة للحكم على الشهوات تجاه النساء والغلمان”.4  

يتقصى مسعد كيف تبنى علماء النفس السلوكيون العرب والمترجمون العرب ممن ترجموا كتب علم النفس في منتصف القرن [العشرين]، التعبير الأوروبي “sexual deviation” فترجموه حرفياً “إلى شذوذ جنسي وهو مصطلح منحوت… ولا يزال الأكثر تداولاً في الأبحاث والصحافة والصالونات الاجتماعية”.5 بمعنى أن هؤلاء استوردوا مفهوم “غير الطبيعي” أو “الشاذ عن الطبيعة الجنسية” من المعجم الطبي الغربي وأضافوا معناه إلى كلمة شذوذ في المعجم العربي التي لم يسبق لها أن تعنيه من قبل، كجزء من حركة التشبه بالغرب والاستنارة و”تطهير” العروبة من “الرجعية” في مشروع عصر النهضة، ونحتاج أن نتقصى تفاصيل عملية الانتقال وتغير المعنى لفهم سيرورة هذا التحول.   
بقي “الشذوذ الجنسي” يحمل معاني مختلفة بالنسبة لكل واحد من مثقفي عصر النهضة، فنجد العقاد في 1953 متعمقاً في نظريات نفسية أوروبية لتحليل ممارسات الشاعر العباسي أبي نواس الجنسية، بيد أنه لم يرَه “شاذاً” لأنه كان يشتهي النساء إلى جانب مغامراته الشهيرة مع الذكور؛6 يعني هذا أن العقاد اشترط حصرية أن يميل الرجل جنسياً للرجال فقط كي يعتبره “شاذاً جنسياً”. لكن نجد صلاح الدين المنجد، رغم ذكره اللواط والسحاق في صدر الإسلام والعصر الأموي، إلا أنه لم يصنفها كـ”شذوذ جنسي” إلا في العصر العباسي7؛ ويبدو أنه لم يستخدم مصطلح “الشذوذ الجنسي” في كتاباته حتى عام 1957، وكأنه يربط “الشذوذ” بزمان محدد انتشر فيه وصار أمراً عادياً بدلاً عن حصرية انجذاب أو ممارسة جنسية يقوم الفرد بممارستها. من الجدير بالذكر في سياق الحديث عن شعراء العصر العباسي أن علي الوردي، رمز العلمانية العراقية، كان قد أفرد فصلاً في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” المنشور عام 1957 عنوانه “الشعر والشذوذ الجنسي”، بإشارة إلى كل اللوطيين في العصر العباسي وما قبله، فمثلاً يقول عن أبي نواس بأن المؤرخين ذكروا بأنه “كان مصاباً بالشذوذ الجنسي إلى درجة كبيرة، وكان في صباه ذا شذوذ سلبي، ثم انقلب في كبره فأصبح ذا شذوذ إيجابي”؛8 ليهيمن هذا المفهوم على كل الأزمنة حتى على الماضي الذي لم يكن فيه هذا المفهوم قد اخترع بعد!  

ومع ذلك فإن مفردة “الشذوذ” لم تكن ذات معنى ذي ارتباط جنسي موحد في العالم العربي، فقد أورد نجيب محفوظ في روايته “زقاق المدق” الصادرة عام 1947، وهي أول رواية عربية تظهر فيها شخصية رئيسية لرجل يمارس الجنس مع نفس الجنس، مصطلح “الشذوذ” بأنه غير مقتصر على ممارسة الجنس بين الرجال بعضهم البعض فحسب، بل طال أي شكل من أشكال الإفراط في ممارسة الجنس حتى لو كان بين زوج وزوجته.9 في عام 1964 أخرج أحمد ضياء الدين فيلماً بعنوان “فتاة شاذة” يتناول قصة فتاة يتلخص “شذوذها” بمصاحبة الرجال الأغنياء وذوي المناصب الرفيعة من أجل المال والسهر والسكر والاحتفال واصطياد الشابات لهم، دون أي إشارة حتى لممارسة الجنس مع نفس الجنس في كل الفيلم.10 هذه الأمثلة وغيرها تدل إلى أنه على الرغم من بدء ارتباط الكلمة في ذلك الوقت بالجنس، إلا أنها لم تكن تعني بالضرورة الممارسات الجنسية مع أفراد من نفس الجنس فقط، بل شملت طيفاً واسعاً من الممارسات غير المعيارية، فنرى نبيل صبحي الطويل في “كتابه الأمراض الجنسية” الصادر عام 1986 يستخدمها في الإشارة إلى كل الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج.11  
ويتماشى هذا إلى حد ما، مع ما ساقه ميشيل فوكو حول أن هذا التقسيم الجنسي -أي “الطبيعة والشذوذ”- لم يتبلور إلا في عصر الحداثة وهيمنة الطب النفسي العنصري والاستعماري على أجساد المواطنين، وارثاً ومضخماً سلطة الكنيسة في تصنيفهم وإخضاعهم، لدرجة أن معنى “الغيرية الجنسية” (heterosexuality) وهي انجذاب الرجال للنساء جنسياً والعكس، كانت تعرّف “كشهوة غير طبيعية ومنحرفة تجاه الجنس الآخر” في قاموس دورلاند الطبي عام 1901، وكذا عرفها عالم النفس الأمريكي جيمس جي كيرنان عام 1892، إذا أن تعريف “الجنس الطبيعي” آنذاك اقتصر على ذلك الساعي إلى التكاثر داخل منظومة الزواج، من غير السعي إلى المتعة الجنسية. 

دلالات “الشذوذ” في أيامنا بين الإيجابي والسلبي 

لم تخلق القطبية في الدلالة بين كلمة “مثلي” كإيجابية مقابل “شذوذ” كسلبية إلا مؤخراً من قبل أفراد عرب متأثرين بالطرح الغربي. ومن أبرز المحرضين على هذا الطرح الكاتب والمستشرق براين ويتاكر (غير الناطق بالعربية) في كتابه “الحب المسكوت عنه” (2006)، الذي ذكر فيه أن “الإعلام العربي يستخدم كلمة “شاذ” الواصمة بشدة للحديث عن “gay” و”homosexual”، على الرغم من ذلك فإن بعض الجرائد الجدية تقبلت مصطلح “مثلي” كبديل محايد”.12  

هكذا بدأت تترسخ ملامح هذه الثنائية ما بين “شاذ” بشكل سلبي و”مثلي” بشكل إيجابي.  

بيد أن هذه الثنائية مفصولة عن الواقع الإقليمي المحلي، وقد شاعت بالأساس وسط المجتمع المدني غير الحكومي المحلي المموّل أجنبياً بالغالب. هذه المؤسسات باتت تعتمد هذه الثنائية دون وعي لأن هناك من تعرض للقتل والتهديد أو فقد أحباءه، في وقت استخدم القاتل كلمة “مثلي” وليس “شاذ”؛ بل أكثر – كلمة “مثلي” قد تكون محفزة لاسترجاع تجربة الصدمة (trauma trigger) التي مر بها البعض حسب السياق والتجربة التي مر بها. 
في 2009 نشرت هيومن رايتس ووتش تقريراً مفصلاً بعنوان “يريدون إبادتنا، القتل العمد والتعذيب والميول الجنسية والنوع الاجتماعي في العراق”، والذي أجرت لإعداده مقابلات مع 24 شخصاً ناجياً من الملاحقات بسبب ميلوهم/ن الجنسية في بغداد، مبينةً كيف منحت سلطات الاحتلال الأمريكية الفصائل المسلحة “الرضا والمساندة الصامتة” في ارتكاب هذه الملاحقات.  
بيد أن الناجين لم يعرّفوا أنفسهم “كمثليين” ولم يسمعوا بهذه الهوية من قبل، حيث أخبر أحدهم – وهو عامل في مستشفى – هيومن رايتس ووتش، “كلنا نستخدم كلمة “غاي” (Gay) بين بعضنا البعض، وليس “مثلياً” أبداً. وحتى الأطباء في حديثهم بين بعضهم البعض لا يستخدمون اللفظ العربي، بل أحيانا يقولون كلمة هوموسيكشوال الإنجليزية”. كما أخبرهم “جميع الناجين” من حملات القتل تلك “أنهم سمعوا كلمة “غاي” لأول مرة بتلك الدلالة بعد الغزو الأمريكي عام 2003″، فيما استخدموا قبل ذلك بالغالب كلمة “لوطي” لتعريف أنفسهم؛ وهي المفردة التي عرّف بها أبو نواس نفسه في بغداد العباسية (كما رفعها “المثليون” شعاراً لهم في الثورة اللبنانية عام 2019). 

من جهة أخرى، فقد تجلّت كلمة “مثلي” في بعض مواضع في التقرير كمصدر للقتل، مثلاً بتوثيق اكتشاف جثة لشخص حُفِر عليها كلمة “مثليين” ورميت في حاوية قمامة بالقرب من مدينة الصدر في بغداد، وكذلك بذكره “رغم ذلك -ويا للغرابة- اثنان ممن قابلناهم أخبرونا أن القتلة أنفسهم استخدموا ذلك اللفظ. ظهر مرة في مدينة الصدر بأحد الملصقات التي تنادي بالعقاب الإلهي على “المثليين”… ما أغرب ذلك إذ أن تلك هي الكلمة اللائقة اجتماعيا”.13  

بمعنى آخر، كلمة مثلية كانت مستخدمة من قبل الجماعات المسلحة، بينما لم يكن يُعرف من يمارس جنساً مع أفراد من الجنس نفسه بها في ذلك الوقت؛ أي أنها كانت كلمة الفصائل المسلحة في العراق عام 2009.  

تصريح الناطق الرسمي باسم الحشد الشعبي علي الحسيني في مطلع 2020 بأنه سيطرد “المثليين الوسخين” من العراق، وغيرها من التصريحات من شخصيات من الفصائل تظهر أن الحال لم يتغيّر منذ 2009 على الأقل.  

لا يختلف الحال كثيراً في سياق البلدان المجاورة، ففي لبنان اتهم المخرج شربل خليل المتظاهرين عام 2019 بأن هدف ثورتهم هو تقنين “المثلية الجنسية”، قائلاً “مثليتكم الجنسية وشياطينكم ما رح تمرق”. وفي السنة نفسها استخدم الناطق الرسمي باسم شرطة السلطة الفلسطينية مصطلح “المثليين الجنسيين” في بيانه المحرض ضد جمعية القوس الفلسطينية الكويرية والمندد بنشاطاتها. ووصل الأمر بوزير الداخلية الأردني غالب الزعبي، في كتاب رسمي له عام 2017، بأن استخدم لفظ مجتمع الميم (وهو اختصار لمجتمع المثليين والمثليات ومزدوجي ومزدوجات الميل الجنسي والعابرين والعابرات جنسياً) ليوضح أن الدولة الأردنية لن تعترف بالمثلية أبداً. 
بينما في 2010 في لبنان نظّم المثليون تظاهرة كبيرة تحت عنوان “أنا شاذ”14 ورسموا هذا الشعار على جدران بيروت، وكتب غسان مكارم، أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية حلم المثلية اللبنانية، وأنطوني رزق عنها قائلين “جوبهت باستياء شديد وردة فعل عنيفة من قبل جماعة الناشطين المثليين الذكور، الذين أمضوا عشر سنوات تقريباً في محاولة لدمج أنفسهم في المجتمع الغيري الأبوي.”.15 كما وأصدرت مجموعة في الجزائر مجلة اسمها “الشاذ” عام 2014 عن حقوق المثليين، كما نشر موقع الجمهورية مقالة بعنوان “أنا الشاذ” في 2018. 

الوقفة التي نظمتها حلم أمام مسرح المدينة في اليوم العالمي لمناهضة كراهية المثلية والتحول الجنسي تحت عنوان أنا شاذ / المصدر: جريدة الأخبار – تصوير مروان بو حيدر
عبارة “أنا شاذ” شعار الوقفة مرسومة على جدران بيروت / المصدر Hanibaael 

لماذا إذن “مثلي” وليس “شاذ”؟ 

إن كانت النظرية الكويرية وهي النظرية الأكاديمية الغربية التي يتخذها مجتمع الميم عين وسيلة لنيل تحرّره، تسعى بجوهرها لتدمير الثنائيات الاختزالية الثابتة كثنائية “رجل وامرأة” و”مثلي وغيري”، وتدعي أن الثنائيات بمجملها أبوية وغير واقعية، بل هي بنى اجتماعية تهدف إلى السيطرة والقمع، لماذا تتشبث بثنائية “مثلي وشاذ”؟ وإن توجب علينا تفادي استخدام الكلمات التي نعتقد أنها بطبيعتها مسيئة، لماذا يستخدم النشطاء كلمة كويرية منذ 2010 وهي التي تعني “شذوذ” -حرفياً- باللغة الإنجليزية، لا بل نجد العديد من أفراد الجيل الجديد يعرّفون أنفسهم بها؟  

إن الجمعيات غير الحكومية المحلية المموّلة من الحكومات الغربية – تحديداً المثليين الذكور الأغنياء المتأثرين بالطرح الغربي فيها- فرضت هذه الثنائية على مجتمع الميم عين المحلي، التي دفعت الحكومات المحلية نحو رد فعل على هذا التشويه اللغوي للمعاني، فالحكومة العراقية ترفض كلمة مثلي لأن الغرب وأذرعه يمجدونها، وتدافع عن كلمة شذوذ لأن الغرب يصنفها ككلمة سلبية بالنسبة له، بينما في الواقع اللغات لا تعمل بالطريقة التي تتعامل السلطات العراقية والغربية بها مع اللغة.  

بمعنى أن هذا النقاش كله لا جدوى منه، فلا فرق حقيقياً يذكر بين المعنى الذي تحمله وتمثله الكلمتان، بل السياق وكيفية طرح هذه الكلمات هو ما يحدد معناها. وهذا الهوس والهلع الذي تمارسه السلطات مثل منعها الجامعات من استخدام كلمتي “مثلية” و”جندر” في غير محله بشكل واضح جداً، لأنها هي نفسها وعلى مستوى إقليمي من يستخدم كلمة “مثلية”، كما أن التهم التي تقدمها ضد كلمة مثلية وجندر تنطبق نفسها على كلمة شذوذ أيضاً.  
هذه تصنيفات فرضت على ممارسي الجنس مع أفراد من نفس الجنس أو في أحسن الأحوال ألقى حمل اختراع هوية على عاتقهم وهو ليس إلا شكلاً من أشكال التمييز برأيي، فمن ينجذب للنساء غير مطالب بتعريف نفسه وفق هوية محددة والإفصاح عنها علناً سعياً في الحصول على قبول المجتمع، في النهاية سياسة الهويات الغربية تسعى إلى خلق نزاعات أزلية بين مجموعة من الأفراد ومجتمعاتهم وتسهيل استهدافهم كما بيّنا في الأمثلة. يبقى الطريق المحتمل للخروج من هذا النقاش العقيم هو التحرر من الهوية نفسها.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

ثمة حرب على الكلمات تدور رحاها في العراق. 

أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات عام 2023 أمراً بمنع استخدام كلمة “مثلية جنسية” واستبدالها بكلمة “شذوذ جنسي”، هذا على الرغم من أن رجال الأحزاب الدينية أنفسهم استخدموا كلمة مثلية في السابق. في محرم 2017 قال قيس الخزعلي، رئيس فصيل عصائب أهل الحق في خطبة له إن “أعداء الإمام الحسين (ع) رفعوا راية المثليين في أربيل تلبية لإرادة إسرائيلية”. واستخدم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الكلمة مراراً وتكراراً في تغريداته، التي كتب في واحدة منها “لقد حق القول على المثليين”، بدلاً من مصطلحي “الشواذ” أو “اللوطيين”.  

ما يثير السخرية في كل هذه السجال أن مصطلح “مثلية جنسية” الذي عدته هيئة الإعلام العراقية دخيلاً و”مخالفة للنظام العام والآداب العامة” هو مصطلح تشير المصادر إلى أن جذوره إسلامية سنية!  

وثيقة صادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات عام 2023، تمنع مفردة الجندر والمثلية 

كان سيد قطب (1903-1966)، أبرز مفكري الإخوان المسلمين (أعدمه جمال عبد الناصر بتهمة الإرهاب)، من أول مستخدمي كلمة “مثلية” في الإشارة للأشخاص الممارسين للجنس مع نفس الجنس في كتابه “النقد الأدبي: أصوله ومناهجه”، الذي صدرت طبعته الأولى في 1947، في مستهل تناوله لدراسة أجراها عالم النفس التحليلي سيجموند فرويد عن شهوات الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي، حيث قال “الحياة الجنسية لليوناردو تعطلت إلى حد بعيد (ومن العسير أن نعثر على اسم امرأة أحبها ليوناردو) مما أدى إلى انحرافه ناحية الجنسية المثلية”.1 لم تكن دراسة فرويد هذه قد ترجمت للعربية بعد، وحتى لو كان ذلك، فهذا لا يغير أن سيد قطب كان أحد أول مستخدمي كلمة “مثلية” في اللغة العربية كترجمة لـ Homosexuality الإنجليزية. 
فإن كان رجال الدين العراقيون يستخدمون هذا المصطلح طوال السنوات الماضية، وكان هذا المصطلح أصلاً من اختراع إسلامي، لماذا هاجمته هيئة الإعلام الآن وشجعت استخدام “الشذوذ الجنسي” بدلاً عنه، بحجة أنه “المصطلح الحقيقي” المحلي؟  

يتتبع المقال تاريخ نشأة وتكوُّن كلمتي/مفهومي “مثلية” و”شذوذ جنسي” في اللغة العربية والمقارنة بينهما وبين ما تروجه أجهزة السلطة العراقية عنهما اليوم في تبرير هذا التجريم وخلق ثنائية منهما.  
تاريخ كلمة/مفهوم “الشذوذ” 

البحث عن معنى كلمة “شذوذ” في “المعجم” الذي كتبه عالم اللغة محمد بن أبي بكر الرازي (توفي عام 1261) يقودنا إلى “شذَّ عن، أي انفرد عن الجمهور وندر”، وفق مختار الصحاح، دون العثور على أي معنى جنسي للكلمة. أما في “معجم التعريفات” للجرجاني الفلكي والفقيه والموسيقي واللغوي (توفي عام 1413) فـ”الشاذ” كلمة تستخدم في الحديث عن قواعد اللغة لتعني “ما يكون مخالفاً للقياس من غير نظر إلى قلة وجوده وكثرته”؛ بمعنى أن “الشذوذ” يتمثّل بوجود قاعدة مختلفة في اللغة وإن وردت بكثرة. أما في “شمس العلوم” لنشوان بن سعيد الحميري (توفي عام 1177) فـ”شذَّ عن، أي انفرد”. كما لُقّب البعض أو وصوفوا به، فكان لقب أحد المحدثين الذي نقل البخاري والنسائي عنه الحديث، شاذ بن فياض، وورد في لسان العرب لابن منظور الإفريقي (توفي سنة 1311) وصف “شذاذ الناس أي متفرقوهم” و”قوم شذاذ إذا لم يكونوا في منازلهم أو حيهم” و”شذ الرجل أي انفرد عن أصحابه”، دون أن يرد أي ربط بين كلمة شذوذ ومعناها الجنسي الحالي الذي يتداوله الناس.  

وفي حقب لاحقة ظل الوصف على مدلوله، فوصف والد طه حسين ابنه بأنه “شاذ” -كما ورد في كتابه “الأيام” (1929)- لأنه كان مراهقاً مشاكساً وعنيداً يظن أنه يعرف كل شيء.2  

كما وردت كلمة “شاذ” في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1960 ككلمة تعني “خلاف السوي”، فيما يرد معنى كلمة “لاط” فيه أنه “عمل قوم لوط، وهو ضرب من الشذوذ الجنسي”. وبعدها بأربعين عاماً ورد في المعجم الغني الصادر عام 2001 معنى شذوذ بأنه “في طبعه شذوذ جنسي، العزوف عن الممارسة الجنسية الطبيعية”، وكلمة “لاط” وردت بـ”أي مارس الشذوذ”، بينما ورد “اللواط” في معجم منتخب الصحاح لأبي نصر الجوهري (توفي عام 1003) -أي قبلهما بألف سنة تقريباً- بمعنى “لاط الرجل أي عمِل عَمل قوم لوط”، دون أن يورد كلمة “الشذوذ”. وفي لسان العرب لابن المنظور الإفريقي (توفي عام 1311) فعنت كذلك “أي عمِل عمل قوم لوط”؛ ما يعني أن كلمة “الشذوذ” لم تكن مستخدمة لتعني أمراً جنسياً في الماضي كما اليوم، وبأنها لم ترتبط بمعنى “اللواط” إلا حديثاً من خلال ربطها بالممارسات الجنسية بين الأفراد من الجنس نفسه، فكيف ولماذا حدث هذا الربط؟ 
إدخال “الشذوذ الجنسي” إلى اللغة العربية 

في خضم النهضة العربية عقب انهيار الخلافة العثمانية “انكب الباحثون العرب منذ مطلع القرن العشرين وحتى الخمسينيات، بنشاط محموم على التنقيب والتحقيق فيما اعتبروه الوثائق الحضارية للماضي التي شكلت تراث الحاضر والمستقبل. استعان هؤلاء الباحثون لتحقيق مساعيهم تلك بمفاهيم الحضارة، والثقافة، والانحلال، والانحطاط والتحلل، والتراث، والجنس، والشذوذ، وغيرها من المفاهيم الأوربية”3؛ وهكذا تم إدخال مفهوم “الشذوذ الجنسي” إلى بلادنا بحسب جوزيف مسعد في كتابه “اشتهاء العرب”. يشرح مسعد أن هذه كانت أفكاراً استعيرت “بالجملة من علم النفس وعلم التحليل النفسي الأوروبيين، حيث التصنيفات الاجتماعية العربية خلال القرون الوسطى لم تكن تلجأ بالضرورة إلى الطبيعة للحكم على الشهوات تجاه النساء والغلمان”.4  

يتقصى مسعد كيف تبنى علماء النفس السلوكيون العرب والمترجمون العرب ممن ترجموا كتب علم النفس في منتصف القرن [العشرين]، التعبير الأوروبي “sexual deviation” فترجموه حرفياً “إلى شذوذ جنسي وهو مصطلح منحوت… ولا يزال الأكثر تداولاً في الأبحاث والصحافة والصالونات الاجتماعية”.5 بمعنى أن هؤلاء استوردوا مفهوم “غير الطبيعي” أو “الشاذ عن الطبيعة الجنسية” من المعجم الطبي الغربي وأضافوا معناه إلى كلمة شذوذ في المعجم العربي التي لم يسبق لها أن تعنيه من قبل، كجزء من حركة التشبه بالغرب والاستنارة و”تطهير” العروبة من “الرجعية” في مشروع عصر النهضة، ونحتاج أن نتقصى تفاصيل عملية الانتقال وتغير المعنى لفهم سيرورة هذا التحول.   
بقي “الشذوذ الجنسي” يحمل معاني مختلفة بالنسبة لكل واحد من مثقفي عصر النهضة، فنجد العقاد في 1953 متعمقاً في نظريات نفسية أوروبية لتحليل ممارسات الشاعر العباسي أبي نواس الجنسية، بيد أنه لم يرَه “شاذاً” لأنه كان يشتهي النساء إلى جانب مغامراته الشهيرة مع الذكور؛6 يعني هذا أن العقاد اشترط حصرية أن يميل الرجل جنسياً للرجال فقط كي يعتبره “شاذاً جنسياً”. لكن نجد صلاح الدين المنجد، رغم ذكره اللواط والسحاق في صدر الإسلام والعصر الأموي، إلا أنه لم يصنفها كـ”شذوذ جنسي” إلا في العصر العباسي7؛ ويبدو أنه لم يستخدم مصطلح “الشذوذ الجنسي” في كتاباته حتى عام 1957، وكأنه يربط “الشذوذ” بزمان محدد انتشر فيه وصار أمراً عادياً بدلاً عن حصرية انجذاب أو ممارسة جنسية يقوم الفرد بممارستها. من الجدير بالذكر في سياق الحديث عن شعراء العصر العباسي أن علي الوردي، رمز العلمانية العراقية، كان قد أفرد فصلاً في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” المنشور عام 1957 عنوانه “الشعر والشذوذ الجنسي”، بإشارة إلى كل اللوطيين في العصر العباسي وما قبله، فمثلاً يقول عن أبي نواس بأن المؤرخين ذكروا بأنه “كان مصاباً بالشذوذ الجنسي إلى درجة كبيرة، وكان في صباه ذا شذوذ سلبي، ثم انقلب في كبره فأصبح ذا شذوذ إيجابي”؛8 ليهيمن هذا المفهوم على كل الأزمنة حتى على الماضي الذي لم يكن فيه هذا المفهوم قد اخترع بعد!  

ومع ذلك فإن مفردة “الشذوذ” لم تكن ذات معنى ذي ارتباط جنسي موحد في العالم العربي، فقد أورد نجيب محفوظ في روايته “زقاق المدق” الصادرة عام 1947، وهي أول رواية عربية تظهر فيها شخصية رئيسية لرجل يمارس الجنس مع نفس الجنس، مصطلح “الشذوذ” بأنه غير مقتصر على ممارسة الجنس بين الرجال بعضهم البعض فحسب، بل طال أي شكل من أشكال الإفراط في ممارسة الجنس حتى لو كان بين زوج وزوجته.9 في عام 1964 أخرج أحمد ضياء الدين فيلماً بعنوان “فتاة شاذة” يتناول قصة فتاة يتلخص “شذوذها” بمصاحبة الرجال الأغنياء وذوي المناصب الرفيعة من أجل المال والسهر والسكر والاحتفال واصطياد الشابات لهم، دون أي إشارة حتى لممارسة الجنس مع نفس الجنس في كل الفيلم.10 هذه الأمثلة وغيرها تدل إلى أنه على الرغم من بدء ارتباط الكلمة في ذلك الوقت بالجنس، إلا أنها لم تكن تعني بالضرورة الممارسات الجنسية مع أفراد من نفس الجنس فقط، بل شملت طيفاً واسعاً من الممارسات غير المعيارية، فنرى نبيل صبحي الطويل في “كتابه الأمراض الجنسية” الصادر عام 1986 يستخدمها في الإشارة إلى كل الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج.11  
ويتماشى هذا إلى حد ما، مع ما ساقه ميشيل فوكو حول أن هذا التقسيم الجنسي -أي “الطبيعة والشذوذ”- لم يتبلور إلا في عصر الحداثة وهيمنة الطب النفسي العنصري والاستعماري على أجساد المواطنين، وارثاً ومضخماً سلطة الكنيسة في تصنيفهم وإخضاعهم، لدرجة أن معنى “الغيرية الجنسية” (heterosexuality) وهي انجذاب الرجال للنساء جنسياً والعكس، كانت تعرّف “كشهوة غير طبيعية ومنحرفة تجاه الجنس الآخر” في قاموس دورلاند الطبي عام 1901، وكذا عرفها عالم النفس الأمريكي جيمس جي كيرنان عام 1892، إذا أن تعريف “الجنس الطبيعي” آنذاك اقتصر على ذلك الساعي إلى التكاثر داخل منظومة الزواج، من غير السعي إلى المتعة الجنسية. 

دلالات “الشذوذ” في أيامنا بين الإيجابي والسلبي 

لم تخلق القطبية في الدلالة بين كلمة “مثلي” كإيجابية مقابل “شذوذ” كسلبية إلا مؤخراً من قبل أفراد عرب متأثرين بالطرح الغربي. ومن أبرز المحرضين على هذا الطرح الكاتب والمستشرق براين ويتاكر (غير الناطق بالعربية) في كتابه “الحب المسكوت عنه” (2006)، الذي ذكر فيه أن “الإعلام العربي يستخدم كلمة “شاذ” الواصمة بشدة للحديث عن “gay” و”homosexual”، على الرغم من ذلك فإن بعض الجرائد الجدية تقبلت مصطلح “مثلي” كبديل محايد”.12  

هكذا بدأت تترسخ ملامح هذه الثنائية ما بين “شاذ” بشكل سلبي و”مثلي” بشكل إيجابي.  

بيد أن هذه الثنائية مفصولة عن الواقع الإقليمي المحلي، وقد شاعت بالأساس وسط المجتمع المدني غير الحكومي المحلي المموّل أجنبياً بالغالب. هذه المؤسسات باتت تعتمد هذه الثنائية دون وعي لأن هناك من تعرض للقتل والتهديد أو فقد أحباءه، في وقت استخدم القاتل كلمة “مثلي” وليس “شاذ”؛ بل أكثر – كلمة “مثلي” قد تكون محفزة لاسترجاع تجربة الصدمة (trauma trigger) التي مر بها البعض حسب السياق والتجربة التي مر بها. 
في 2009 نشرت هيومن رايتس ووتش تقريراً مفصلاً بعنوان “يريدون إبادتنا، القتل العمد والتعذيب والميول الجنسية والنوع الاجتماعي في العراق”، والذي أجرت لإعداده مقابلات مع 24 شخصاً ناجياً من الملاحقات بسبب ميلوهم/ن الجنسية في بغداد، مبينةً كيف منحت سلطات الاحتلال الأمريكية الفصائل المسلحة “الرضا والمساندة الصامتة” في ارتكاب هذه الملاحقات.  
بيد أن الناجين لم يعرّفوا أنفسهم “كمثليين” ولم يسمعوا بهذه الهوية من قبل، حيث أخبر أحدهم – وهو عامل في مستشفى – هيومن رايتس ووتش، “كلنا نستخدم كلمة “غاي” (Gay) بين بعضنا البعض، وليس “مثلياً” أبداً. وحتى الأطباء في حديثهم بين بعضهم البعض لا يستخدمون اللفظ العربي، بل أحيانا يقولون كلمة هوموسيكشوال الإنجليزية”. كما أخبرهم “جميع الناجين” من حملات القتل تلك “أنهم سمعوا كلمة “غاي” لأول مرة بتلك الدلالة بعد الغزو الأمريكي عام 2003″، فيما استخدموا قبل ذلك بالغالب كلمة “لوطي” لتعريف أنفسهم؛ وهي المفردة التي عرّف بها أبو نواس نفسه في بغداد العباسية (كما رفعها “المثليون” شعاراً لهم في الثورة اللبنانية عام 2019). 

من جهة أخرى، فقد تجلّت كلمة “مثلي” في بعض مواضع في التقرير كمصدر للقتل، مثلاً بتوثيق اكتشاف جثة لشخص حُفِر عليها كلمة “مثليين” ورميت في حاوية قمامة بالقرب من مدينة الصدر في بغداد، وكذلك بذكره “رغم ذلك -ويا للغرابة- اثنان ممن قابلناهم أخبرونا أن القتلة أنفسهم استخدموا ذلك اللفظ. ظهر مرة في مدينة الصدر بأحد الملصقات التي تنادي بالعقاب الإلهي على “المثليين”… ما أغرب ذلك إذ أن تلك هي الكلمة اللائقة اجتماعيا”.13  

بمعنى آخر، كلمة مثلية كانت مستخدمة من قبل الجماعات المسلحة، بينما لم يكن يُعرف من يمارس جنساً مع أفراد من الجنس نفسه بها في ذلك الوقت؛ أي أنها كانت كلمة الفصائل المسلحة في العراق عام 2009.  

تصريح الناطق الرسمي باسم الحشد الشعبي علي الحسيني في مطلع 2020 بأنه سيطرد “المثليين الوسخين” من العراق، وغيرها من التصريحات من شخصيات من الفصائل تظهر أن الحال لم يتغيّر منذ 2009 على الأقل.  

لا يختلف الحال كثيراً في سياق البلدان المجاورة، ففي لبنان اتهم المخرج شربل خليل المتظاهرين عام 2019 بأن هدف ثورتهم هو تقنين “المثلية الجنسية”، قائلاً “مثليتكم الجنسية وشياطينكم ما رح تمرق”. وفي السنة نفسها استخدم الناطق الرسمي باسم شرطة السلطة الفلسطينية مصطلح “المثليين الجنسيين” في بيانه المحرض ضد جمعية القوس الفلسطينية الكويرية والمندد بنشاطاتها. ووصل الأمر بوزير الداخلية الأردني غالب الزعبي، في كتاب رسمي له عام 2017، بأن استخدم لفظ مجتمع الميم (وهو اختصار لمجتمع المثليين والمثليات ومزدوجي ومزدوجات الميل الجنسي والعابرين والعابرات جنسياً) ليوضح أن الدولة الأردنية لن تعترف بالمثلية أبداً. 
بينما في 2010 في لبنان نظّم المثليون تظاهرة كبيرة تحت عنوان “أنا شاذ”14 ورسموا هذا الشعار على جدران بيروت، وكتب غسان مكارم، أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية حلم المثلية اللبنانية، وأنطوني رزق عنها قائلين “جوبهت باستياء شديد وردة فعل عنيفة من قبل جماعة الناشطين المثليين الذكور، الذين أمضوا عشر سنوات تقريباً في محاولة لدمج أنفسهم في المجتمع الغيري الأبوي.”.15 كما وأصدرت مجموعة في الجزائر مجلة اسمها “الشاذ” عام 2014 عن حقوق المثليين، كما نشر موقع الجمهورية مقالة بعنوان “أنا الشاذ” في 2018. 

الوقفة التي نظمتها حلم أمام مسرح المدينة في اليوم العالمي لمناهضة كراهية المثلية والتحول الجنسي تحت عنوان أنا شاذ / المصدر: جريدة الأخبار – تصوير مروان بو حيدر
عبارة “أنا شاذ” شعار الوقفة مرسومة على جدران بيروت / المصدر Hanibaael 

لماذا إذن “مثلي” وليس “شاذ”؟ 

إن كانت النظرية الكويرية وهي النظرية الأكاديمية الغربية التي يتخذها مجتمع الميم عين وسيلة لنيل تحرّره، تسعى بجوهرها لتدمير الثنائيات الاختزالية الثابتة كثنائية “رجل وامرأة” و”مثلي وغيري”، وتدعي أن الثنائيات بمجملها أبوية وغير واقعية، بل هي بنى اجتماعية تهدف إلى السيطرة والقمع، لماذا تتشبث بثنائية “مثلي وشاذ”؟ وإن توجب علينا تفادي استخدام الكلمات التي نعتقد أنها بطبيعتها مسيئة، لماذا يستخدم النشطاء كلمة كويرية منذ 2010 وهي التي تعني “شذوذ” -حرفياً- باللغة الإنجليزية، لا بل نجد العديد من أفراد الجيل الجديد يعرّفون أنفسهم بها؟  

إن الجمعيات غير الحكومية المحلية المموّلة من الحكومات الغربية – تحديداً المثليين الذكور الأغنياء المتأثرين بالطرح الغربي فيها- فرضت هذه الثنائية على مجتمع الميم عين المحلي، التي دفعت الحكومات المحلية نحو رد فعل على هذا التشويه اللغوي للمعاني، فالحكومة العراقية ترفض كلمة مثلي لأن الغرب وأذرعه يمجدونها، وتدافع عن كلمة شذوذ لأن الغرب يصنفها ككلمة سلبية بالنسبة له، بينما في الواقع اللغات لا تعمل بالطريقة التي تتعامل السلطات العراقية والغربية بها مع اللغة.  

بمعنى أن هذا النقاش كله لا جدوى منه، فلا فرق حقيقياً يذكر بين المعنى الذي تحمله وتمثله الكلمتان، بل السياق وكيفية طرح هذه الكلمات هو ما يحدد معناها. وهذا الهوس والهلع الذي تمارسه السلطات مثل منعها الجامعات من استخدام كلمتي “مثلية” و”جندر” في غير محله بشكل واضح جداً، لأنها هي نفسها وعلى مستوى إقليمي من يستخدم كلمة “مثلية”، كما أن التهم التي تقدمها ضد كلمة مثلية وجندر تنطبق نفسها على كلمة شذوذ أيضاً.  
هذه تصنيفات فرضت على ممارسي الجنس مع أفراد من نفس الجنس أو في أحسن الأحوال ألقى حمل اختراع هوية على عاتقهم وهو ليس إلا شكلاً من أشكال التمييز برأيي، فمن ينجذب للنساء غير مطالب بتعريف نفسه وفق هوية محددة والإفصاح عنها علناً سعياً في الحصول على قبول المجتمع، في النهاية سياسة الهويات الغربية تسعى إلى خلق نزاعات أزلية بين مجموعة من الأفراد ومجتمعاتهم وتسهيل استهدافهم كما بيّنا في الأمثلة. يبقى الطريق المحتمل للخروج من هذا النقاش العقيم هو التحرر من الهوية نفسها.