الجبل لم يعد رفيقاً للكردي.. كيف تعيش القرى الشمالية تحت قصف الجيش التركي؟
09 كانون الثاني 2025
الجبال والغابات وينابيع الماء تحوّلت إلى مناطق حرب، بعد أن كانت مناطق سياحية ومركزاً للمهرجانات الشعبية للاحتفال بالطبيعة. أغاني الفلاحين والرعاة سكتت بعد أن أصبح الصوت الأعلى، هو صوت الطائرات الحربية، المدافع، والرصاص.. عن القرى الكردية العراقية التي تتعرض للقصف التركي..
بينما كنّا نجمع شهادات السكان في المناطق المحتلّة من قبل الجيش التركي، لكتابة هذا التقرير، أخبرنا مدنيون محليّون أنّ شاباً قُتل للتوّ برصاص الجنود الأتراك، عندما كان يتجوّل مع أصدقائه في غابات جبل هرور القريبة من قريته “قمري”.
كان صباح عبد الستار، الشاب القتيل برصاص الجنود الأتراك، يتجوّل مع اثنين من أصدقائه في غابات الجبل التي تبعد كيلومتراً واحداً عن قريته “قمري”.
تسمّى قمة جبل هرور، “كفرسور”، وتعني بالعربية “الصخرة الحمراء”، يسيطر عليها الجيش التركي مثلما يسيطر على مساحات شاسعة من الغابات والجبال كانت قد احتلّتها تركيا منذ عام 2021، والمواقع العسكرية التركية الموجودة بعمق أكثر من سبعة كيلومترات من الشريط الحدودي العراقي التركي، مزودة بالأسلحة والمدفعية الثقيلة، كما يقول كاميران عثمان، مسؤول ملف حقوق الإنسان في منظمة السلام العالمي الأمريكية التي تعمل في تلك المناطق.
يؤكد عثمان لموقع جمّار، أنه منذ بداية عام 2024 قُتل 18 مدنياً وأصيب أربعة آخرون بجروح، خلال العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان.
في قرية أخرى، يواصل الشاب كارفان كوهرزي توثيق المعاناة اليومية التي تعيشها قريته في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة، لإيصال صوت سكان القرية إلى الرأي العام، “أعیش في قریتي كوهرز، وسط أجواء من القلق والمخاطر، ولا ضمان للعيش باطمئنان هنا، نحن أكثر من 300 عائلة، وحين يمر علينا يوم لا نسمع فيه أصوات المتفجرات والقصف المدفعي والجوي، نعتبرها حالة مدهشة وغريبة، لأن هذه الأصوات باتت جزءاً من حياتنا اليومية”.
كوهرزي، وفي حديث مع جمّار، قال إنّه وثّق سقوط أكثر من 35 قذيفة مدفعية داخل القرية، ألحقت خسائر بالمنازل والسيارات، فضلاً عن سقوط المئات من القذائف في محيط القرية، ومن أكثر المشاهد خطورة ومأساوية هي تلك المتعلقة بأطفال القرية وهم يلعبون بشظايا ومخلفات القنابل المنتشرة هناك.
“فقدنا أجواء العيش وسط الطبيعة، والتمتع بغاباتنا، وزقزقة الطيور وأصوات الحيوانات البريّة، وأغاني المزارعين العاملين في الحقول، وخرير المياه المتدفقة من الينابيع، وأصوات قطعان الأغنام والمواشي في المراعي، وصوت الجرارات وهي تحرث الأرض وتنقل المحاصيل”.
تلك الأصوات والمشاهد، تبدلّت إلى مشاهد الطائرات الحربية التي تحوم في الأجواء، وأصوات المدافع والقصف والانفجارات، “لكننا رغم ذلك، نحاول مواصلة حياتنا والاستمرار في العيش هنا قدر المستطاع”.
في قضاء العمادية، (70 كيلومتراً شمالي مركز محافظة دهوك)، وتحديداً في قرية برجي، أُغلقت المدرسة الوحيدة فيها، بعد سقوط طائرة مسيّرة عليها. تلاميذ المدرسة أصيبوا بالفزع، وقرر الأهالي -250 عائلة تسكن القرية- منع أبنائهم من الذهاب إلى المدرسة.
زرنا القرية، والتقينا لزكين برجي، أحد وجهائها، وصف لنا معاناة الأهالي من القصف العشوائي المتبادل بين الجيش التركي وحزب العمّال الكردستاني، “أبلغنا الجهات المعنية في قضاء العمادية بذلك، للتحرك ووضع حد لانتهاكات القوات التركية، ومسلحي حزب العمال الكردستاني بحقنا”.
يرى برجي أنه من الصعب مواصلة الحياة في ظل الظروف الحالية، “ممارسة الحياة الطبيعية باتت حذرة جداً، عندما نتجاوز أطراف قريتنا تفتح القوات التركية نيرانها علينا، وفي الليالي لا تنقطع أصوات المدافع التي تهزّ المباني والشبابيك، وترتفع صرخات الأطفال والنساء إلى السماء، كأن الجحيم فتح أبوابه بوجهنا”.
يشكو برجي كذلك من مسلحي حزب العمال الكردستاني، الذين يهاجمون الجيش التركي، “غالباً يحاولون التواجد بالقرب من قريتنا، التي تحوّلت إلى ساحة معركة بين الجانبين”، لم يستجب مسلحو حزب العمّال الكردستاني لكل محاولات الأهالي لإقناعهم بالابتعاد عن القرية ومنع تحويلها إلى ساحة معركة للجانبين.
يصف برجي لجمّار، كيف أثّرت الحرب على علاقاتهم الاجتماعية بمعارفهم من المناطق الأخرى “أقرباؤنا ومعارفنا في المناطق الأخرى يرفضون زيارتنا حتى في المناسبات الاجتماعية، مثل حفلات الزواج، والتعازي، والأعياد، خشية من تعرضهم للخطر”.
يفكر لزكين برجي كثيراً بهجر القرية، والانتقال إلى المدن، لكن إمكانياته المادية لا تحتمل مصاريف دفع إيجار المنزل وغيرها من تفاصيل الحياة خارج القرية.
بدأت المشكلات بالنسبة لسكان تلك القرى والمناطق الحدودية بين العراق وتركيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما أطلق حزب العمّال الكردستاني نشاطه المسلح ضد الجيش التركي، من أجل تحقيق حكم ذاتي للأكراد في تركيا.
أسفر هذا الصراع عن عشرات آلاف القتلى، وتدمير مئات القرى، وتهجير أعداد كبيرة من السكان المحليين هناك، وامتدّ هذا الصراع ليشمل المناطق الحدودية من جهة العراق، حيث البشر والجبال والغابات، تشكّل جغرافيا مشتركة بين العراق وتركيا.
حزب العمال الكردستاني تنظيم مسلح، تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مجموعة إرهابية، ونشاطاته المسلحة في شمال العراق خلقت حالة من الحرب الدائمة بينه وبين الجيش التركي، وأثّرت هذه الحرب على المواطنين العراقيين، الذين يعيشون في تلك المناطق.
يكشف كاميران عثمان، مسؤول ملف حقوق الإنسان في منظمة السلام العالمي الأمريكية، لجمّار، أن تركيا أقامت 74 موقعاً عسكرياً في إقليم كردستان، معظمها في محافظة دهوك، وهي تتواجد بعمق (5 – 35) كيلومتراً، داخل أراضي العراق، مبيناً أن جميع المواقع التركية ترتبط ببعضها عبر شبكة طرق عسكرية.
تقع قرية سركلي على سفوح جبل متين، بقضاء العمادية شمالي محافظة دهوك، وتبعد نحو 40 كيلومتراً عن الشريط الحدودي العراقي التركي، أقامت القوات التركية هناك، مؤخراً، مواقع عسكرية عدة على جبل متين، الذي يعتبر من الجبال الكبيرة في محافظة دهوك، ويرتفع 1900 متر عن سطح البحر، وشهد الجبل مواجهات مسلحة عدة بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، بعدما أقام الجيش التركي مواقعه العسكرية.
منذ بداية عام 2024، لم تصمت المدافع التركية، القصف والمعارك مستمرة في قرية سركلي ومحيطها، بحسب ما روى صبحي سركلي لجمّار، الرجل السبعيني الذي يشعر بالأسف على فقدان أهل القرية لمزارعهم وبساتينهم، “لم يبق لنا شيء هنا، دمروا بساتيننا وأضرموا النيران في الغابات، وقطعوا أشجار البلوط والجوز والقزوان، وجففوا الينابيع وجداول ري البساتين، وقطعوا المياه عنا، ومنعونا حتى من زيارة أمواتنا في مقبرة القرية”.
هذه الأوضاع تجعل الحياة أكثر صعوبة.
في القرية التي تضم 60 أسرة، يصعب على السكان ممارسة نشاطهم اليومي، والخروج إلى محيط قريتهم بات مجازفة، وتحوّلت سركلي الواقعة وسط الطبيعة الخلابة، الجبال والوديان والأشجار والينابيع والبساتين؛ إلى سجن مفتوح لسكانها، بعدما أقام الجيش التركي مؤخراً، موقعاً عسكرياً على جبل متين، المطل على القرية من الناحية الشرقية.
في الجهة الغربية المقابلة، اتخذ مسلحو حزب العمال الكردستاني في الوادي، وادي سركلي، مقراً لهم، وبين الحين والآخر، يهاجهم الطرفان بعضيهما بالمدافع والأسلحة الرشاشة والقنابل، التي تثير الهلع بين السكان المدنيين، وتسقط قذائف المدافع ورصاص الرشاشات على حظائر المواشي، وأزقة القرية، وجدران منازلها.
بالنسبة لسركفت محمد، الشاب الثلاثيني، من أهالي قرية سركلي، فإنّ “الخوف في كل مكان بالقرية”، ويضف لجمّار، “لا نعرف متى ستسقط قذيفة وسيصاب أحدنا بشظاياها، بسبب المواجهات بين مسلحي حزب العمال الكردستاني والقوات التركية، جعلوا من قريتنا ساحة لمعاركهم”.
لا يستطيع سركفت ممارسة العمل في الحقل، ولا رعي الأغنام خشية من استهداف، والاشتباكات العشوائية التي لا تنقطع ليلاً، ولا نهاراً، ويؤكد لجمّار، أنّ الجيش التركي في الفترة الماضية استهدف بالمدفعية أماكن عدة داخل القرية، منها المسجد والمدرسة، وحقل لتربية الدواجن، “نحن محاصرون وحين نتجاوز حدود قريتنا تعتبر مجازفة”.
بحسب كاميران عثمان، الذي يعمل مع منظمة السلام العالمي، التي تراقب الحدود، فإن عدد الضحايا المدنيين جراء العمليات العسكرية التركية وصل إلى 711 شخصاً بين قتيل وجريح خلال الأعوام الثلاثين الماضية، منهم 306 ضحايا ضمن محافظة دهوك، فضلاً عن إلحاق خسائر مادية وحرق وتدمير البساتين والمزارع والغابات الطبيعية، وتدمير الخدمات، كما أن هناك أكثر من 400 قرية، في محافظة دهوك، لم تستطع الجهات الحكومية إعمارها بسبب الوضع الأمني.
للحرب نتائج كارثية في أكثر من قطاع، والقطاع الثقافي والاجتماعي لهما نصيب من الدمار، فالجيش التركي يسيطر على العديد من المواقع الأثرية، أبرزها قلعة “قمري” الأثرية، التي يعود تاريخها لأكثر من 1900 سنة، كما اختفت الأعراف والتقاليد التي يتميز بها أهالي المنطقة، لاسيما في مجالات إقامة المهرجانات الشعبية السنوية التي كانت تعبّر عن ثقافة وتراث المجتمع، مثل الاحتفال بعيد نوروز، ذلك بات تقليداً من الماضي بسبب الأوضاع الأمنية، خصوصاً بعدما استهدفت المدفعية التركية إحدى هذه الفعاليات في ناحية بامرني بقضاء العمادية، قبل نحو ثلاثة أعوام، بحسب عثمان.
وفقا لإحصائيات محافظة دهوك، أُخليت 274 قرية في المحافظة، بسبب المعارك الدائرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، منها 250 قرية في قضاء العمادية، و24 قرية في قضاء عقرة، وإخلاء 47 قرية في زاخو، موضحة أن هذه المعارك تسببت بإعاقة إيصال التنمية والخدمات بشكل كامل إلى بعض القرى الحدودية في المحافظة، خصوصاَ في قضاء العمادية.
في آب 2024، وقع العراق وتركيا، مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب، وتتضمن المذكرة بنوداً، أهمها القضاء على التهديدات الأمنية التي تشكلها “الجماعات الإرهابية والمحظورة” ضد سيادة البلدين، وأمنهما وسلامتهما الإقليمية، كما تضمنت المذكرة إنهاء الوجود التركي على الأراضي العراقية.
يرى زیرفان برواري، مستشار مركز لندن للتدريب والدراسات الاستراتيجية، أن استمرار النزاع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا داخل الأراضي العراقية ناتج عن ضعف الدولة العراقية، وعدم قدرة العراق على فرض سيادته وحماية حدوده الدولية.
وبالنسبة لبرواري فإنّ استمرار العمليات التركية، داخل الأراضي العراقية، وتزايد قواعدها العسكرية، وتوغلها لمساحات جغرافية واسعة في العمق العراقي، سيؤدي الى اختلال التوازن والاستقرار السياسي في العراق وإقليم كردستان، وعلى الدولة العراقية فرض معادلات إقليمية وسياسية على الدولة التركية، وفرض سيادتها الوطنية من خلال استخدام الوسائل الدبلوماسية، ومن ناحية أخرى على الدولة العراقية التعاون الأمني الاستراتيجي مع حكومة إقليم كردستان للوصول إلى صيغة مشتركة تخدم المصالح العليا للعراق، لحماية أمن واستقرار إقليم كردستان، الذي سينعكس على عموم العراق.
ويضيف برواري في حديثه مع جمّار أنّ “للعراق الكثير من أوراق الضغط للحد من التوغل العسكري التركي، منها الورقة الاقتصادية إذ أن هناك حجماً كبيراً للتبادل الاقتصادي بين العراق وتركيا، وبإمكان العراق فرض أجندته الأمنية والسياسية على الدولة التركية من خلال استخدام هذه الورقة”.
تتواجد القواعد العسكرية التركية في إقليم كردستان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكانت هذه المواقع محدودة في بعض مناطق محافظة دهوك، لكن في السنوات الأخيرة بدأت تركيا بتوسيع قواعدها العسكرية، لتشمل عدداً من مناطق في محافظتي أربيل ودهوك، وشق شبكة من الطرق العسكرية لربط منظومتها العسكرية ببعضها.
يرى برواري أن ازدياد القواعد العسكرية التركية في إقليم كردستان يعبر عن سياسة إقليمية تركية قائمة على مطامع توسيع نفوذها الإقليمي في المجال السياسي والأمني، وأن تركيا لا تسحب قواتها العسكرية أو تقلل من نفوذ وقواعدها العسكرية داخل الأراضي العراقية في المرحلة القريبة المقبلة، لسببين، أولهما يتعلق بالنفوذ والمطامع التوسعية الموجودة في السياسة التركية، وثانيهما هو ضعف الموقف العراقي وعدم قدرته على فرض قراره في السياسة الخارجية وحماية حدوده.
الحرب بين الجيش التركي وحزب العمّال الكردستاني، قد تتوسع في حال سيطرت تركيا على جبل “كارة”، الذي يقع ضمن حدود قضاء العمادية، سيؤدي ذلك إلى نزوح سكان 39 قرية، تقع في سفوح الجبل، وستقع نحو 75 بالمئة من مناطق محافظة دهوك الاستراتيجية تحت سيطرة القوات التركية.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مقابر "المخطئات" بذريعة الشرف: إفلات الجناة من العقاب بسطوة العشيرة والتقاليد في العراق
23 يناير 2025
زيارة السوداني إلى إيران: الحقائب تخلو من "الأهم"!
21 يناير 2025
"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
19 يناير 2025
العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين
16 يناير 2025
بينما كنّا نجمع شهادات السكان في المناطق المحتلّة من قبل الجيش التركي، لكتابة هذا التقرير، أخبرنا مدنيون محليّون أنّ شاباً قُتل للتوّ برصاص الجنود الأتراك، عندما كان يتجوّل مع أصدقائه في غابات جبل هرور القريبة من قريته “قمري”.
كان صباح عبد الستار، الشاب القتيل برصاص الجنود الأتراك، يتجوّل مع اثنين من أصدقائه في غابات الجبل التي تبعد كيلومتراً واحداً عن قريته “قمري”.
تسمّى قمة جبل هرور، “كفرسور”، وتعني بالعربية “الصخرة الحمراء”، يسيطر عليها الجيش التركي مثلما يسيطر على مساحات شاسعة من الغابات والجبال كانت قد احتلّتها تركيا منذ عام 2021، والمواقع العسكرية التركية الموجودة بعمق أكثر من سبعة كيلومترات من الشريط الحدودي العراقي التركي، مزودة بالأسلحة والمدفعية الثقيلة، كما يقول كاميران عثمان، مسؤول ملف حقوق الإنسان في منظمة السلام العالمي الأمريكية التي تعمل في تلك المناطق.
يؤكد عثمان لموقع جمّار، أنه منذ بداية عام 2024 قُتل 18 مدنياً وأصيب أربعة آخرون بجروح، خلال العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان.
في قرية أخرى، يواصل الشاب كارفان كوهرزي توثيق المعاناة اليومية التي تعيشها قريته في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة، لإيصال صوت سكان القرية إلى الرأي العام، “أعیش في قریتي كوهرز، وسط أجواء من القلق والمخاطر، ولا ضمان للعيش باطمئنان هنا، نحن أكثر من 300 عائلة، وحين يمر علينا يوم لا نسمع فيه أصوات المتفجرات والقصف المدفعي والجوي، نعتبرها حالة مدهشة وغريبة، لأن هذه الأصوات باتت جزءاً من حياتنا اليومية”.
كوهرزي، وفي حديث مع جمّار، قال إنّه وثّق سقوط أكثر من 35 قذيفة مدفعية داخل القرية، ألحقت خسائر بالمنازل والسيارات، فضلاً عن سقوط المئات من القذائف في محيط القرية، ومن أكثر المشاهد خطورة ومأساوية هي تلك المتعلقة بأطفال القرية وهم يلعبون بشظايا ومخلفات القنابل المنتشرة هناك.
“فقدنا أجواء العيش وسط الطبيعة، والتمتع بغاباتنا، وزقزقة الطيور وأصوات الحيوانات البريّة، وأغاني المزارعين العاملين في الحقول، وخرير المياه المتدفقة من الينابيع، وأصوات قطعان الأغنام والمواشي في المراعي، وصوت الجرارات وهي تحرث الأرض وتنقل المحاصيل”.
تلك الأصوات والمشاهد، تبدلّت إلى مشاهد الطائرات الحربية التي تحوم في الأجواء، وأصوات المدافع والقصف والانفجارات، “لكننا رغم ذلك، نحاول مواصلة حياتنا والاستمرار في العيش هنا قدر المستطاع”.
في قضاء العمادية، (70 كيلومتراً شمالي مركز محافظة دهوك)، وتحديداً في قرية برجي، أُغلقت المدرسة الوحيدة فيها، بعد سقوط طائرة مسيّرة عليها. تلاميذ المدرسة أصيبوا بالفزع، وقرر الأهالي -250 عائلة تسكن القرية- منع أبنائهم من الذهاب إلى المدرسة.
زرنا القرية، والتقينا لزكين برجي، أحد وجهائها، وصف لنا معاناة الأهالي من القصف العشوائي المتبادل بين الجيش التركي وحزب العمّال الكردستاني، “أبلغنا الجهات المعنية في قضاء العمادية بذلك، للتحرك ووضع حد لانتهاكات القوات التركية، ومسلحي حزب العمال الكردستاني بحقنا”.
يرى برجي أنه من الصعب مواصلة الحياة في ظل الظروف الحالية، “ممارسة الحياة الطبيعية باتت حذرة جداً، عندما نتجاوز أطراف قريتنا تفتح القوات التركية نيرانها علينا، وفي الليالي لا تنقطع أصوات المدافع التي تهزّ المباني والشبابيك، وترتفع صرخات الأطفال والنساء إلى السماء، كأن الجحيم فتح أبوابه بوجهنا”.
يشكو برجي كذلك من مسلحي حزب العمال الكردستاني، الذين يهاجمون الجيش التركي، “غالباً يحاولون التواجد بالقرب من قريتنا، التي تحوّلت إلى ساحة معركة بين الجانبين”، لم يستجب مسلحو حزب العمّال الكردستاني لكل محاولات الأهالي لإقناعهم بالابتعاد عن القرية ومنع تحويلها إلى ساحة معركة للجانبين.
يصف برجي لجمّار، كيف أثّرت الحرب على علاقاتهم الاجتماعية بمعارفهم من المناطق الأخرى “أقرباؤنا ومعارفنا في المناطق الأخرى يرفضون زيارتنا حتى في المناسبات الاجتماعية، مثل حفلات الزواج، والتعازي، والأعياد، خشية من تعرضهم للخطر”.
يفكر لزكين برجي كثيراً بهجر القرية، والانتقال إلى المدن، لكن إمكانياته المادية لا تحتمل مصاريف دفع إيجار المنزل وغيرها من تفاصيل الحياة خارج القرية.
بدأت المشكلات بالنسبة لسكان تلك القرى والمناطق الحدودية بين العراق وتركيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما أطلق حزب العمّال الكردستاني نشاطه المسلح ضد الجيش التركي، من أجل تحقيق حكم ذاتي للأكراد في تركيا.
أسفر هذا الصراع عن عشرات آلاف القتلى، وتدمير مئات القرى، وتهجير أعداد كبيرة من السكان المحليين هناك، وامتدّ هذا الصراع ليشمل المناطق الحدودية من جهة العراق، حيث البشر والجبال والغابات، تشكّل جغرافيا مشتركة بين العراق وتركيا.
حزب العمال الكردستاني تنظيم مسلح، تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مجموعة إرهابية، ونشاطاته المسلحة في شمال العراق خلقت حالة من الحرب الدائمة بينه وبين الجيش التركي، وأثّرت هذه الحرب على المواطنين العراقيين، الذين يعيشون في تلك المناطق.
يكشف كاميران عثمان، مسؤول ملف حقوق الإنسان في منظمة السلام العالمي الأمريكية، لجمّار، أن تركيا أقامت 74 موقعاً عسكرياً في إقليم كردستان، معظمها في محافظة دهوك، وهي تتواجد بعمق (5 – 35) كيلومتراً، داخل أراضي العراق، مبيناً أن جميع المواقع التركية ترتبط ببعضها عبر شبكة طرق عسكرية.
تقع قرية سركلي على سفوح جبل متين، بقضاء العمادية شمالي محافظة دهوك، وتبعد نحو 40 كيلومتراً عن الشريط الحدودي العراقي التركي، أقامت القوات التركية هناك، مؤخراً، مواقع عسكرية عدة على جبل متين، الذي يعتبر من الجبال الكبيرة في محافظة دهوك، ويرتفع 1900 متر عن سطح البحر، وشهد الجبل مواجهات مسلحة عدة بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، بعدما أقام الجيش التركي مواقعه العسكرية.
منذ بداية عام 2024، لم تصمت المدافع التركية، القصف والمعارك مستمرة في قرية سركلي ومحيطها، بحسب ما روى صبحي سركلي لجمّار، الرجل السبعيني الذي يشعر بالأسف على فقدان أهل القرية لمزارعهم وبساتينهم، “لم يبق لنا شيء هنا، دمروا بساتيننا وأضرموا النيران في الغابات، وقطعوا أشجار البلوط والجوز والقزوان، وجففوا الينابيع وجداول ري البساتين، وقطعوا المياه عنا، ومنعونا حتى من زيارة أمواتنا في مقبرة القرية”.
هذه الأوضاع تجعل الحياة أكثر صعوبة.
في القرية التي تضم 60 أسرة، يصعب على السكان ممارسة نشاطهم اليومي، والخروج إلى محيط قريتهم بات مجازفة، وتحوّلت سركلي الواقعة وسط الطبيعة الخلابة، الجبال والوديان والأشجار والينابيع والبساتين؛ إلى سجن مفتوح لسكانها، بعدما أقام الجيش التركي مؤخراً، موقعاً عسكرياً على جبل متين، المطل على القرية من الناحية الشرقية.
في الجهة الغربية المقابلة، اتخذ مسلحو حزب العمال الكردستاني في الوادي، وادي سركلي، مقراً لهم، وبين الحين والآخر، يهاجهم الطرفان بعضيهما بالمدافع والأسلحة الرشاشة والقنابل، التي تثير الهلع بين السكان المدنيين، وتسقط قذائف المدافع ورصاص الرشاشات على حظائر المواشي، وأزقة القرية، وجدران منازلها.
بالنسبة لسركفت محمد، الشاب الثلاثيني، من أهالي قرية سركلي، فإنّ “الخوف في كل مكان بالقرية”، ويضف لجمّار، “لا نعرف متى ستسقط قذيفة وسيصاب أحدنا بشظاياها، بسبب المواجهات بين مسلحي حزب العمال الكردستاني والقوات التركية، جعلوا من قريتنا ساحة لمعاركهم”.
لا يستطيع سركفت ممارسة العمل في الحقل، ولا رعي الأغنام خشية من استهداف، والاشتباكات العشوائية التي لا تنقطع ليلاً، ولا نهاراً، ويؤكد لجمّار، أنّ الجيش التركي في الفترة الماضية استهدف بالمدفعية أماكن عدة داخل القرية، منها المسجد والمدرسة، وحقل لتربية الدواجن، “نحن محاصرون وحين نتجاوز حدود قريتنا تعتبر مجازفة”.
بحسب كاميران عثمان، الذي يعمل مع منظمة السلام العالمي، التي تراقب الحدود، فإن عدد الضحايا المدنيين جراء العمليات العسكرية التركية وصل إلى 711 شخصاً بين قتيل وجريح خلال الأعوام الثلاثين الماضية، منهم 306 ضحايا ضمن محافظة دهوك، فضلاً عن إلحاق خسائر مادية وحرق وتدمير البساتين والمزارع والغابات الطبيعية، وتدمير الخدمات، كما أن هناك أكثر من 400 قرية، في محافظة دهوك، لم تستطع الجهات الحكومية إعمارها بسبب الوضع الأمني.
للحرب نتائج كارثية في أكثر من قطاع، والقطاع الثقافي والاجتماعي لهما نصيب من الدمار، فالجيش التركي يسيطر على العديد من المواقع الأثرية، أبرزها قلعة “قمري” الأثرية، التي يعود تاريخها لأكثر من 1900 سنة، كما اختفت الأعراف والتقاليد التي يتميز بها أهالي المنطقة، لاسيما في مجالات إقامة المهرجانات الشعبية السنوية التي كانت تعبّر عن ثقافة وتراث المجتمع، مثل الاحتفال بعيد نوروز، ذلك بات تقليداً من الماضي بسبب الأوضاع الأمنية، خصوصاً بعدما استهدفت المدفعية التركية إحدى هذه الفعاليات في ناحية بامرني بقضاء العمادية، قبل نحو ثلاثة أعوام، بحسب عثمان.
وفقا لإحصائيات محافظة دهوك، أُخليت 274 قرية في المحافظة، بسبب المعارك الدائرة بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، منها 250 قرية في قضاء العمادية، و24 قرية في قضاء عقرة، وإخلاء 47 قرية في زاخو، موضحة أن هذه المعارك تسببت بإعاقة إيصال التنمية والخدمات بشكل كامل إلى بعض القرى الحدودية في المحافظة، خصوصاَ في قضاء العمادية.
في آب 2024، وقع العراق وتركيا، مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب، وتتضمن المذكرة بنوداً، أهمها القضاء على التهديدات الأمنية التي تشكلها “الجماعات الإرهابية والمحظورة” ضد سيادة البلدين، وأمنهما وسلامتهما الإقليمية، كما تضمنت المذكرة إنهاء الوجود التركي على الأراضي العراقية.
يرى زیرفان برواري، مستشار مركز لندن للتدريب والدراسات الاستراتيجية، أن استمرار النزاع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا داخل الأراضي العراقية ناتج عن ضعف الدولة العراقية، وعدم قدرة العراق على فرض سيادته وحماية حدوده الدولية.
وبالنسبة لبرواري فإنّ استمرار العمليات التركية، داخل الأراضي العراقية، وتزايد قواعدها العسكرية، وتوغلها لمساحات جغرافية واسعة في العمق العراقي، سيؤدي الى اختلال التوازن والاستقرار السياسي في العراق وإقليم كردستان، وعلى الدولة العراقية فرض معادلات إقليمية وسياسية على الدولة التركية، وفرض سيادتها الوطنية من خلال استخدام الوسائل الدبلوماسية، ومن ناحية أخرى على الدولة العراقية التعاون الأمني الاستراتيجي مع حكومة إقليم كردستان للوصول إلى صيغة مشتركة تخدم المصالح العليا للعراق، لحماية أمن واستقرار إقليم كردستان، الذي سينعكس على عموم العراق.
ويضيف برواري في حديثه مع جمّار أنّ “للعراق الكثير من أوراق الضغط للحد من التوغل العسكري التركي، منها الورقة الاقتصادية إذ أن هناك حجماً كبيراً للتبادل الاقتصادي بين العراق وتركيا، وبإمكان العراق فرض أجندته الأمنية والسياسية على الدولة التركية من خلال استخدام هذه الورقة”.
تتواجد القواعد العسكرية التركية في إقليم كردستان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكانت هذه المواقع محدودة في بعض مناطق محافظة دهوك، لكن في السنوات الأخيرة بدأت تركيا بتوسيع قواعدها العسكرية، لتشمل عدداً من مناطق في محافظتي أربيل ودهوك، وشق شبكة من الطرق العسكرية لربط منظومتها العسكرية ببعضها.
يرى برواري أن ازدياد القواعد العسكرية التركية في إقليم كردستان يعبر عن سياسة إقليمية تركية قائمة على مطامع توسيع نفوذها الإقليمي في المجال السياسي والأمني، وأن تركيا لا تسحب قواتها العسكرية أو تقلل من نفوذ وقواعدها العسكرية داخل الأراضي العراقية في المرحلة القريبة المقبلة، لسببين، أولهما يتعلق بالنفوذ والمطامع التوسعية الموجودة في السياسة التركية، وثانيهما هو ضعف الموقف العراقي وعدم قدرته على فرض قراره في السياسة الخارجية وحماية حدوده.
الحرب بين الجيش التركي وحزب العمّال الكردستاني، قد تتوسع في حال سيطرت تركيا على جبل “كارة”، الذي يقع ضمن حدود قضاء العمادية، سيؤدي ذلك إلى نزوح سكان 39 قرية، تقع في سفوح الجبل، وستقع نحو 75 بالمئة من مناطق محافظة دهوك الاستراتيجية تحت سيطرة القوات التركية.