أجسادٌ مُغلَّفة بالحياء.. عن أوجاع النساء التي لم يعرفها الرجال 

إيهاب شغيدل

22 كانون الأول 2024

عن أوجاع النساء التي لا يعرفها الرجل: كيف يمكن للرجل أن يفهم ما يستأصل من جسد المرأة؟ كيف يفهم ألمها أثناء التحوّلات الطبيعية لجسدها من البلوغ والحيض مروراً بالحمل والولادة؟

حينما أُخذت أمي للمشفى ذات مساءٍ بارد، ثم أعيدت في ظهيرة اليوم التالي وهي مغطاة ببطانية صفراء مخططة بالأبيض الناصع، ما زلت أذكرها، يومها ظللت اسأل عن مرض أمي التي لم تفارق فراشها لأيامٍ دون أن أحصل على إجابة. وكان السؤال الأكثر عدوانية هو هل ستموت أمي؟ عشت ذلك القلق كطفل في الثامنة من عمره خائف على أمه، لا يخفف من رعبه أحدٌ بإجابة شافية، إلا بعد عقد من الزمن.. سقط جنين أمي. 

بعد ربع قرن من ذلك المشهد، أستعيد الرعب والخوف كلاهما، وأتساءل لماذا لم يشرح أحد حالة أمي؟ لماذا لُفقت لنا قصص غير مقنعة وقتها؟ لِمَ أبقونا تحت هيمنة الرعب والخوف؟ 

أمي لا تتحدث كثيراً عن ذلك، وإن سألناها عن عاطفتها حيال ذاك الطفل، تكتفي بالحديث عنا نحن الأحياء. قد تكون تلك طريقتها للتعامل مع الفقدان، ولكن إجابتها عن سؤالي المُلحّ أظهرت واقعاً عاطفياً واجتماعياً معقداً أكثر “بس الطفل الأول إذا مات صعبة، بس  المرأة الي عدها جهال، إذا حمل ما يصير الها، وجود جهالها الباقين يواسيها، صح تحزن وتضوج هو ضناها، بس مو مثل من يكبر ويحلى بعينك.. اخذها قاعدة، الأم حتى لو طفلها عمره يوم ببطنها تحبه، وتضوج عليه، بس ورة فترة من تشوف جهالها الباقين يريدون ريوك وملابس ولازم يرحون للمدرسة، تلتهي وهذا يمكن يخفف حزنها”. 

حسبت وأنا طفل وحتى بعد بلوغي إن للكبار عالمهم ولا طاقة أو قدرة لي على فهمه، لكنني الآن وقد بت في عقدي الثالث، ما تزال العائلة تخفي عني وعن أخوتي تلك التفاصيل، مع أن الإناث في العائلة بتن عشراً الآن، ما بين أخت وابنة أخت وزوجة أخ؛ جميعهن يتألمن شهرياً وأحياناً أسبوعياً، ومع ذلك لا أعرف كيف أواسيهن، بل أحيانا لا أعرف ما يلمّ بهن حتى، في المقابل، حين أصاب بصداع خفيف لإسرافي في السجائر وبسبب ضغط الأخبار والعمل، فإن غالبيتهن يعرفن الخبر وسرعان ما تنهال عليّ رسائلهن بالاطمئنان.. لماذا يعرفن عني ما لا أعرف عنهن؟ 

تبقى الإجابة على هذا السؤال منقوصة، حيث تُخفى خلف جدران الحياء والعرف والدين والموروث الاجتماعي، ولا تتوانى حتى المؤسسات الرسمية، من المحاكم وحتى المدارس عن طمرها أيضاً.  

لماذا وكيف باتت شكوى الرجل من معدته أو رأسه في منزله (وخارجه) عادية، فيما الأوجاع ذاتها هي مصدر حياء للأم والابنة اللتين تخفيانها حتى عن أهل بيتهما لأنها مرتبطة ببساطة بالدورة الشهرية؟ 

فيما يكون جسد الرجل مكشوفاً بآلامه وخطاياه، يغيب جسد المرأة في كبسولة التحريم في الحياة اليومية، العامة منها والخاصة. إن للمخفي من جسد الرجل والمرتبط بالخصوبة والضعف الجنسي عادة دلالة على أن ما نعرفه أو لا نعرفه عن أجسادنا وأجسادهنّ، تحدده الذكورة والهيمنة والسلطة الرمزية للرجل.  

فجوة بين جسدين   

“آني ما عرفت زوجتي الا بعد الزواج رغم احنا نحب بعض قبلها بـ5 سنوات، مرة صار عدها بصدرها اوجاع، حاولت أواسيها أو أتخيل الالم بس ما كدرت، بعدين سوت عملية طلع عدها كيس دهني، عرفت بوقتها آني ما فاهم جسمها مثل ما جنت أتصور”، يعرف تقي أن الثدي لدى النساء ليس نفسه عند الرجال، وأن امكانية انتشار خلايا سرطانية فيه أعلى من الرجال، ومع أن هذا كان معلوماً لديه كجزء من معلوماته العامة الحياتية، ولم يكن يوليه اهتماماً خاصاً. إلا أن الشك الذي راوده وزوجته والأطباء حول احتمالية أن يكون الكيس في ثديها خبيثاً أدخله في رعب وهلع تجاه عضو بشري، كان بالنسبة له حتى تلك اللحظة “منطقة جمالية ومثيرة جنسيا.. ما توقعت يوم يصير سبب الرعب والخوف والقلق”. 

لم يفكر تقي طول فترة ارتباطه بحبيبته قبل الزواج بمثل هذا النوع من المشكلات والتحديات، ويعتبر أن ما مرا به جعلهما أقوى، “بس جان اختبار قوي”، يقول.  

يبرر تقي عدم الفهم لعمق التغيّرات التي تحدث للمرأة قبل وبعد الزواج وأثناء الولادة، هو قلة الاطلاع والثقافة، ومن جانب آخر العيب الذي يدفن كثيراً من المعلومات عن المرأة. يقول “لو كانت عندي معلومات عن الأشياء الي ممكن تمر بيها المرأة كان تعاملت بوعي مع حالة زوجتي، صراحة أول أيام ما عرفت شسوي، دخت”. 

محسن (٢٩ عاماً) أيضاً عاش في غموض معرفي حيال الإناث في حياته منذ صغره. 

“أول ما وصل عمر أختي 12 سنة بدأ الغموض يلف حياتها، كل شيء حولها صار محرماً وممنوعاً، صار الكتمان هو الشيء الواضح عليها، أول شيء انعزلت عن الولد في اللعب ​​​​والملابس الخارجية والداخلية بالكنتور المشترك”؛ عزل عدّه محسن قاسياً عليها وعليه إذ كتم الكثير من المعلومات عنها وعن أمه ولاحقاً حبيبته وزوجته. محسن كبر دون أي معلومات واضحة عن المرأة، ولا يعد ذلك مبالغة، لأنه يعتبر نفسه حتى وهو مقبل على الثلاثين ما يزال لا يفهم بديهيات كثيرة حول المرأة “وما أستحي أكول الموضوع”، يضيف.  

يذهب محسن إلى أن أسباب عدم التفاهم بين الرجل والمرأة هي هذا المجهول الذي يحيط بالأخيرة، من الجسد إلى الحاجات إلى الأمراض. بل أكثر؛ مجرد أن تصل البنت سن البلوغ حتى تصبح “محل شك”، وهذه التربية الخاطئة هي التي تدفع الجسد لأن يصبح منطقة محرمة.   

عاش ذلك بنفسه كطفل أيام العنف الطائفي في العراق (2005-2007)، حيث أوكلت له مهمة صعبة، هي مرافقة أخته وجدته إلى الطبيب؛ صعّبها قوله ببراءة الطفل الذي كان لصبيان الحي أن أخته مريضة، ما حوله وحولها إلى مادة للتنمر والسخرية. “بعضهم كان أكبر مني بشوية، وصرت وقتها منصبة، واحد كال خاف اختك حامل وتستحي تكول، رغم هي ما متزوجة.. وقتها عرفت انه كلش غلط اطلع اي شيء من البيت عن اخواتي للشارع، ولليوم آني ملتزم بهذا الشيء، طبيعة المجتمع تكول اي شيء عن المرأة عيب”.  

تعقد محاولات فهم الولد للبنت أو الرجل للمرأة مفاهيم العيب والحياء، والعوامل الثقافية والسياسية التي تحاول حجب الجسد بمختلف الوسائل. “انت مرة” لوحدها عيب، حتى من نبجي يكلولنا شنو أنت مرة؟، هاي الاشياء كلها تبعدك عن فهم المرة، هيج تربينا، ليش نجذب على نفسنا”، يقول محسن.   

توضع كثير من الحواجز بين الرجال والنساء في مرحلة البلوغ والزواج، بضمنها حواجز لغوية، منها تلك التي تغيّب المرأة خلف عبارات مثل: البيت/ اختك/ خادمتك، ولو أن هذا السياق آخذ بالانحسار، “أول شيء يغيب اسم المرأة، ومن يغيب اسمها اكيد تغيب وياه اهواي اشياء منها: عمرها/ أمراضها/ قصص الحب الي ممكن تمر بيها، فتصير المسافة جبيرة بينا”، يقول محسن. 

إخفاء الجسد الأنثوي في كل مكان   

باحتراس -وحتى باشمئزاز أحياناً- تتحدث المرأة حول حالتها الجسدية.  

بيد أن ذلك القناع الذي يُخفي ألم المرأة ويكبتها تحت طيات الحياء والعيب لا ينطبق على الرجال، إذ يتحدثون عن أوجاعهم بأريحية وحرية، باستثناء الحديث عن الأمراض المتعلقة بالخصوبة والجهاز التناسلي الذكري، فتلك هي منطقة محرمة حتى بين الرجال أنفسهم؛ “فضح” أمر يتعلق بصحة الذكر الجنسية قد يكون كفيلاً بأن يطرد من جنة الرجال. مزاح عارض في مقهى شعبي بين ثلاثة شبان يجسد ذلك بقول أحدهم للآخر “هو انت حتى ما تكوّم.. المفروض ما تمشي ويانا”. والــ”ما يكوّم” هذه وصم هو الأشرس بحق الرجل -وتعني ضعف الانتصاب أو انعدامه- ما يحيل الحديث عن هذه المواضيع موضع مزاح وليس فضفضة أو استشارة بينهم. 

تفرق الرجل حدود كثيرة عن جسد المرأة، حدود من شأنها أن تجعل الفهم أو محاولته شبه مستحيلة، ذلك الأداء الاجتماعي المتوارث في إخفاء الجسد وحذفه وتغييبه وجعله مادة غير مرئية هو السلطة التي تعيق عملية الفهم، سلطة تمنعه حتى من أن يعبر عن أوجاعه ومداواتها، فمرض المرأة ووجعها “عار” و”ضعف”، ولذلك ممنوع حتى أن يُحكى عنه في إطار الشرح العلمي؛ فمن “الطبيعي” أن تقفز مدرّسة الإحياء في الصف الثالث المتوسط عن فصل الجهاز التناسلي، وتقتطع صورة المهبل غالباً من الكتاب لـ”أسباب أخلاقية”، أو تصبح هذه المواضيع مادة للضحك والتغامز بين الطلاب. 

طوال سنوات الدراسة لم يكن الجسد البشري موضوعاً جوهرياً، في المناهج ليس هناك غير فصول هنا وهناك وعادة يتم تجاوزها، ما يجعل استبعاد الجسد من التعليم عائقا أمام فهمه.. لذا ليس من الغريب أن يخرج الطالب من المدرسة بمعلومات عن النبات والحيوان أكثر مما عن الإنسان! 

تمعن السلطة السياسية والقانونية في تغييب المرأة من الفضاء العام، ويصبح شرط الخروج من المنزل هو العزل القسري عبر سياسات وقوانين صريحة من الفصل بين الجنسين في المدارس والأماكن العامة والمولات ومدن الألعاب والترفيه. في المجمل تساق هذه التعليمات على أنها توفير حماية للمرأة وأنها إجراءات لمكافحة “البعابيص”، لكنها في الواقع تكريس للهيمنة الذكورية على الشارع والحياة، حبس مضاعف يمارس ضد المرأة عبر الأعراف والتعليمات وطرق التنشئة. كما يخفى جسد المرأة في الحيز العام بذريعة الحماية من أيادي المتحرشين، ما يفترض ضمناً أن المرأة الخارجة من المنزل هي بالضرورة عرضة للتحرش والاغتصاب، ما يدفع النساء لاعتماد سلوك دفاعي مستمر عن أجسادهن، وفي الوقت ذاته يسهم في انعدام فهم الرجال لهن. 

هذه الأسباب وغيرها تجعل محاولات الرجل لفهم جسد المرأة وتحولاته عسيرة، على الرغم من كونه جزءاً منها أو شاهداً عليها، من الحيض وانقطاعه إلى الحمل والولادة وما بعدها، وحتى استئصال الثدي أو الرحم وغيرها.  

ماذا نعرف حقاً عن الحيض؟   

“تعلمت منذ الصغر أن الحيض شيء مقزز ومقرف، وتصبح معه المرأة غير مرغوب بها” يقول​​​​ عصام (23 عاماً)، يدعم هذا التصور الاجتماعي السياق الديني الذي يبعدها حتى عن الصلاة، هذا ما يمنح الرجال عادة حسب عصام: “أفكاراً غير واضحة عن الحيض وعدم جدية في فهمه”، لم يكن عصام يعرف أن الحيض مصحوب بأوجاع وآلام قد تكون شديدة أحياناً، وحين حاول وهو صبي السؤال عن الأمر منع من قبل الكبار واعتبر سؤاله وقتها “عيباً”، قالت أم عصام له، “عيب الرجال يلتهي بذني السوالف، ابوك عمره ما تدخل انت عليمن طالع؟”. أخوه الأكبر يقول له هذه “سوالف نسوان، مالك علاقة بيها”، وبقيت تلك الأسئلة من دون إجابات حتى اللحظة، يقول “بالمتوسطة شفت مقطع على يوتيوب يشرح الدورة الشهرية للمرأة، ومن عرفت معلومات عن الموضوع بديت أحس بالنساء أكثر، قبلها كان تعاطفي قليل، وكنت اشوف الحائض مجرد امرأة نجسة تنزف”.  

عدم المعرفة جرّت هذه الحالة الفيسيولوجية الطبيعية إلى باب المزاح بين الشباب بدل أن تجرهم إلى طريق المعرفة. تسود بين الشباب عبارات شائعة عن الحيض تطلق على من يكون مزاجه غير مستقر، “نكول بينا للي ضايج او ماله خلك، شبيك طايحة عليك الدورة، لأنه كان عدنا فهم انه الموضوع متعب وسبب ضوجة، بس مو كلش واضح الموضوع”. 

يعود ذلك إلى انعدام الحديث بحرية في البيوت أو المدارس عن البلوغ والتغيرات الجسدية التي نعيشها بناتاً وأولاداً. لا نعرف وقت بلوغ البنت، بينما الولد حين يصل وقت بلوغه يحاصر باستمرار بالأسئلة، “بلغت؟”؛ سؤال وجه لعصام في عمر 16 أو 17 دون أي حياء أو تردد، ولما بلغ “عرف أبناء عمي وأخي الأكبر وأبي أيضاً، بينما النساء تستحي أحد يعرف انه هي حائض” يقول. ​​هذا الفارق بالجهر بالبلوغ لدى الأولاد والاستحياء منه لدى البنات، أدركه عصام مثل بقية الشبان من حوله، فصار يتجنب الحديث والانتباه حول كل ما يخص أسئلته عن النساء، بسبب القمع الذي كان يتعرض له حين يطرح أسئلته، التي تعتبر بعض الأحيان غير مقبولة اجتماعياً، يقول: “بعد القمع الي صار علي واني شاب، حقيقة صرت ما انتبه ولا اتدخل، بس يمكن هذا هو السبب الي خلاني لحد الآن ما عندي رغبة اكتشف النساء”. 

“انت مو أول حامل بالتاريخ” 

قبل حمل زوجته بطفلهما الأول عام 2021، لم يكن ​​​​صادق (31 عاماً) يعرف عن الحمل غير “بطن منتفخة وامرأة تمشي بصعوبة”. في الأيام الأولى كان يطرد من ذهنه صور أقدام زوجته المتورمة، ثم سرعان ما بدأ بالاطلاع على معلومات عن الحمل لتساعده على التعامل مع حمل زوجته، التي أصبحت سريعة البكاء، وتعاني من غثيان وقيء مستمرين. 

كشفت له قراءته تعقيدات وتفاصيل لم يفكر بها حتى، حيث هو ومن حوله يأخذون الحمل والولادة على أنها معطى، ولا يسعون حتى لفهم تحولات الجسد خلالها، لذا فوجئ صادق عندما عرف أن الحمل يصاحبه انحناء في العمود الفقري وضيق في التنفس، وأن الطفل في مرحلة ما يبدأ بالضغط على بعض أعضاء جسد أمه. 

لكن ثمة أشياء عصي عليه حتى تخيلها وهو الذي كان شاهداً على حمل زوجته وولادتها عدة مرات. رغم عمله كمحاسب لسنوات وتجاربه في السفر والحياة، إلا أنه شعر بالعجز الكامل عندما حملت زوجته وأنجبت، “إذ أني لم أكتسب في حياتي المهارات الكافية للتعامل مع الحالة”. يقول صادق الذي جعله اطلاعه يتعاطف ويتعامل بحنو ورقة أكثر مع زوجته ويساعدها في عمل المنزل خلال حملها، الذي بات خلاله حتى النوم عسيراً بالنسبة لها.  

لكن غالبية الرجال أو حتى كثر منهم لا يحاولون حتى أن يفهموا معنى الحمل ومعاناته في ظل بيئة تسودها مقولة “أنتِ مو اول حامل بالتاريخ” للتقليل من جهد ومتاعب الحمل، بل ولتحميلها مهام العمل في المنزل بالصيغة نفسها التي كانت عليها قبل الحمل، كما يقول صادق، الذي خلافاً له، فإن عدداً كبيراً من الرجال يتفادون حتى التجربة النفسية لحمل زوجاتهم أو أخواتهم، بل يسعون للبحث عن حلول سريعة للتخلص من “العبء”، مثل “رمي الزوجة في بيت أهلها”؛ فقط قلة من الرجال لديهم القدرة على التعامل مع الحمل وذلك “لقلة الوعي والبيئة التي تعزل هذه الموضوعات وتجعلها من المحظورات”، يؤكد صادق.   

المعرفة المحظورة تمتد إلى ما بعد الولادة، حيث تشعر أغلب النساء بألم نتيجة المخاض في الولادة الطبيعية والجراحة في حالة الولادة القيصرية، كما يمكن أن تشعر المرأة بتقلصات المهبل وآلام أسفل البطن وفي الثدي بسبب تدفق الحليب، وقد تشعر بانخفاض في الرغبة الجنسية، وقد تمر بحالة إعياء وتعب تستمر لعدة أسابيع أو أشهر… لا حصر لآثار الولادة على جسد المرأة، ولا التغيرات التي تمر بها. فكيف يتعامل أزواجهن مع كل هذا؟ 

“بعد الطفل الأول تغير شكل جسد زوجتي، ما أكدر أعدد التغيّرات، لكن أبرزها هو أثر الجراح الي في بطنها بسبب الولادة القيصرية” يقول تقي، لم يكن الأمر سهلا عليه في البدء، بعض الأحيان كان يعتبره تشوها، بمرور الوقت صار يعتبره علامة على طفلهما الأول، مع ذلك يعتبر التغيرات التي حصلت غير متوقعة بالنسبة له، لذلك “اعتبر نفسي جاهل في فهم جسد المرأة، كل التغيرات الي صارت بعد ولادة زوجتي ما كنت اعرفها، من خلال هذه التجربة راجعت كل ما مريت بي، وعرفت ان اسباب الجهل اجتماعية مو بس شخصية”؛ جهل قد يتحول الى عدم تقدير يسود المجتمع ويحول نساءه إلى غريبات عن أجسادهن وأجساد من يحببن.  

استئصال أعضاء أنثوية 

“من سوت امي عملية استئصال لثديها بـ 2017 تغيرت، صارت عصبية، وعلى أقل شيء تنفعل وتصيح”، ​​يقول أيمن (28 عاماً). لم يعِ أيمن وحتى والده معنى أن تفقد امرأة ثديها، وكيف أن “الموضوع ليس جمالياً فقط، انه جزء مقطوع من الجسد اعتادت عليه لم يعد موجودا.. ربما أختي فقط عرفت معنى ذلك”، يقول أيمن.  

يتذكر أيمن أمه مرحة ولطيفة قبل العملية، ثم كيف أصبحت شديدة العصبية والحساسية، أكثر هشاشة وأقل حيوية. “التحولات التي طرأت على شخصية أمي بفعل المرض، غيرت كل من في البيت”، كما يشرح أيمن “كان والدي عصبياً وصعباً، ويكبر الأشياء، بس من تدهورت حالة امي، صار أكثر مرونة، ويمكن هذا الشيء هو ما منتبه له، بس أمي جانت متدمرة، وعلى أقل شيء تصيح وتنفعل واحنا نداري عصبيتها، ولو هسة أقل”، مع ذلك لم يلجأ أي من أيمن ووالده إلى البحث عن طبيعة المرض والأعراض المرافقة له والحالة النفسية لأنهما حسب ما يقول: “عشنا التجربة المريرة مثل ما هي، لا قرينا ولا بحثنا، عشنا كلشي مثل الواقع، وتعاملنا وياه”. 

تجربة أخرى صعبة عاشتها ​​​​عائلة مفيد (48 عاماً)، حينما استأصل رحم زوجته عام 2011. 

“من سوينا العملية عرفت آني صعب أفهم جسمها”، يصف مفيد تجربته، مضيفاً أنه ما يزال حتى الآن يرى نفسه لا يفهم في جسد المرأة، وشكل ذلك الأمر صدمة غير متوقعة له، مضيفاً “احنا بسبب طبيعة المجتمع والخجل الي عدنا نعاني من جهل بجسد المرأة”. 

فهم مفيد بعد تلك التجربة أن غالبية الرجال لا يهتمون بأجساد شريكات حياتهم وأن توقعاتهم من أجسادهن غير واقعية وقد تسبب إرباكاً في العلاقات، لأن هذه الأجساد تصاب بالضعف والوهن والتعب والمرض، فيما الرجل يرغب بالصحة والمثالية الدائمة من جسد شريكته، حسب مفيد.  

مفيد الذي تخجل زوجته من الحديث عن التجربة، يقول إن عمليتها أثرت على العائلة ككل، حتى أولادهم، فبنتهم البكر تركت دراستها لمدة عام من أجل الاعتناء بوالدتها. ومع ذلك فهو يؤكد أنه على الرغم من أن “الموضوع مؤذٍ”، وأن “هذه التجربة تضوج، بس هي جزء من الحياة، ولازم نقرأ ونتعلم ونصبر ونثق بالآخر حتى نعبر مثل هيج لحظات”. إن هذا الأذى كان من الممكن تجنبه لو سمحت الحياة الاجتماعية بالتعامل الواضح مع الجسد، كان من الممكن تجنب اعتبار الأمر نقصاً أو عيباً.  

انطلاقاً من هذه التجارب، كيف يمكن للرجل أن يفهم ما يستأصل من جسد المرأة؟ كيف يفهم ألمها أثناء التحولات الطبيعية لجسدها من البلوغ والحيض مروراً بالحمل والولادة؟ تبقى تلك الأسئلة دون إجابات طالما بقيت السلطات المختلفة تغلف الجسد بالقيود، وتحجب الكلام حوله، وتضعه في دائرة المحظور.   

  

  • هذه المادة من ضمن ملّف أعدّه جُمّار عن صحة المرأة في العراق.  

المادة الأولى: خفر وبالمستشفى: من يعالج ظاهرة التحرُّش بموظفات القطاع الصحي؟ 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

حينما أُخذت أمي للمشفى ذات مساءٍ بارد، ثم أعيدت في ظهيرة اليوم التالي وهي مغطاة ببطانية صفراء مخططة بالأبيض الناصع، ما زلت أذكرها، يومها ظللت اسأل عن مرض أمي التي لم تفارق فراشها لأيامٍ دون أن أحصل على إجابة. وكان السؤال الأكثر عدوانية هو هل ستموت أمي؟ عشت ذلك القلق كطفل في الثامنة من عمره خائف على أمه، لا يخفف من رعبه أحدٌ بإجابة شافية، إلا بعد عقد من الزمن.. سقط جنين أمي. 

بعد ربع قرن من ذلك المشهد، أستعيد الرعب والخوف كلاهما، وأتساءل لماذا لم يشرح أحد حالة أمي؟ لماذا لُفقت لنا قصص غير مقنعة وقتها؟ لِمَ أبقونا تحت هيمنة الرعب والخوف؟ 

أمي لا تتحدث كثيراً عن ذلك، وإن سألناها عن عاطفتها حيال ذاك الطفل، تكتفي بالحديث عنا نحن الأحياء. قد تكون تلك طريقتها للتعامل مع الفقدان، ولكن إجابتها عن سؤالي المُلحّ أظهرت واقعاً عاطفياً واجتماعياً معقداً أكثر “بس الطفل الأول إذا مات صعبة، بس  المرأة الي عدها جهال، إذا حمل ما يصير الها، وجود جهالها الباقين يواسيها، صح تحزن وتضوج هو ضناها، بس مو مثل من يكبر ويحلى بعينك.. اخذها قاعدة، الأم حتى لو طفلها عمره يوم ببطنها تحبه، وتضوج عليه، بس ورة فترة من تشوف جهالها الباقين يريدون ريوك وملابس ولازم يرحون للمدرسة، تلتهي وهذا يمكن يخفف حزنها”. 

حسبت وأنا طفل وحتى بعد بلوغي إن للكبار عالمهم ولا طاقة أو قدرة لي على فهمه، لكنني الآن وقد بت في عقدي الثالث، ما تزال العائلة تخفي عني وعن أخوتي تلك التفاصيل، مع أن الإناث في العائلة بتن عشراً الآن، ما بين أخت وابنة أخت وزوجة أخ؛ جميعهن يتألمن شهرياً وأحياناً أسبوعياً، ومع ذلك لا أعرف كيف أواسيهن، بل أحيانا لا أعرف ما يلمّ بهن حتى، في المقابل، حين أصاب بصداع خفيف لإسرافي في السجائر وبسبب ضغط الأخبار والعمل، فإن غالبيتهن يعرفن الخبر وسرعان ما تنهال عليّ رسائلهن بالاطمئنان.. لماذا يعرفن عني ما لا أعرف عنهن؟ 

تبقى الإجابة على هذا السؤال منقوصة، حيث تُخفى خلف جدران الحياء والعرف والدين والموروث الاجتماعي، ولا تتوانى حتى المؤسسات الرسمية، من المحاكم وحتى المدارس عن طمرها أيضاً.  

لماذا وكيف باتت شكوى الرجل من معدته أو رأسه في منزله (وخارجه) عادية، فيما الأوجاع ذاتها هي مصدر حياء للأم والابنة اللتين تخفيانها حتى عن أهل بيتهما لأنها مرتبطة ببساطة بالدورة الشهرية؟ 

فيما يكون جسد الرجل مكشوفاً بآلامه وخطاياه، يغيب جسد المرأة في كبسولة التحريم في الحياة اليومية، العامة منها والخاصة. إن للمخفي من جسد الرجل والمرتبط بالخصوبة والضعف الجنسي عادة دلالة على أن ما نعرفه أو لا نعرفه عن أجسادنا وأجسادهنّ، تحدده الذكورة والهيمنة والسلطة الرمزية للرجل.  

فجوة بين جسدين   

“آني ما عرفت زوجتي الا بعد الزواج رغم احنا نحب بعض قبلها بـ5 سنوات، مرة صار عدها بصدرها اوجاع، حاولت أواسيها أو أتخيل الالم بس ما كدرت، بعدين سوت عملية طلع عدها كيس دهني، عرفت بوقتها آني ما فاهم جسمها مثل ما جنت أتصور”، يعرف تقي أن الثدي لدى النساء ليس نفسه عند الرجال، وأن امكانية انتشار خلايا سرطانية فيه أعلى من الرجال، ومع أن هذا كان معلوماً لديه كجزء من معلوماته العامة الحياتية، ولم يكن يوليه اهتماماً خاصاً. إلا أن الشك الذي راوده وزوجته والأطباء حول احتمالية أن يكون الكيس في ثديها خبيثاً أدخله في رعب وهلع تجاه عضو بشري، كان بالنسبة له حتى تلك اللحظة “منطقة جمالية ومثيرة جنسيا.. ما توقعت يوم يصير سبب الرعب والخوف والقلق”. 

لم يفكر تقي طول فترة ارتباطه بحبيبته قبل الزواج بمثل هذا النوع من المشكلات والتحديات، ويعتبر أن ما مرا به جعلهما أقوى، “بس جان اختبار قوي”، يقول.  

يبرر تقي عدم الفهم لعمق التغيّرات التي تحدث للمرأة قبل وبعد الزواج وأثناء الولادة، هو قلة الاطلاع والثقافة، ومن جانب آخر العيب الذي يدفن كثيراً من المعلومات عن المرأة. يقول “لو كانت عندي معلومات عن الأشياء الي ممكن تمر بيها المرأة كان تعاملت بوعي مع حالة زوجتي، صراحة أول أيام ما عرفت شسوي، دخت”. 

محسن (٢٩ عاماً) أيضاً عاش في غموض معرفي حيال الإناث في حياته منذ صغره. 

“أول ما وصل عمر أختي 12 سنة بدأ الغموض يلف حياتها، كل شيء حولها صار محرماً وممنوعاً، صار الكتمان هو الشيء الواضح عليها، أول شيء انعزلت عن الولد في اللعب ​​​​والملابس الخارجية والداخلية بالكنتور المشترك”؛ عزل عدّه محسن قاسياً عليها وعليه إذ كتم الكثير من المعلومات عنها وعن أمه ولاحقاً حبيبته وزوجته. محسن كبر دون أي معلومات واضحة عن المرأة، ولا يعد ذلك مبالغة، لأنه يعتبر نفسه حتى وهو مقبل على الثلاثين ما يزال لا يفهم بديهيات كثيرة حول المرأة “وما أستحي أكول الموضوع”، يضيف.  

يذهب محسن إلى أن أسباب عدم التفاهم بين الرجل والمرأة هي هذا المجهول الذي يحيط بالأخيرة، من الجسد إلى الحاجات إلى الأمراض. بل أكثر؛ مجرد أن تصل البنت سن البلوغ حتى تصبح “محل شك”، وهذه التربية الخاطئة هي التي تدفع الجسد لأن يصبح منطقة محرمة.   

عاش ذلك بنفسه كطفل أيام العنف الطائفي في العراق (2005-2007)، حيث أوكلت له مهمة صعبة، هي مرافقة أخته وجدته إلى الطبيب؛ صعّبها قوله ببراءة الطفل الذي كان لصبيان الحي أن أخته مريضة، ما حوله وحولها إلى مادة للتنمر والسخرية. “بعضهم كان أكبر مني بشوية، وصرت وقتها منصبة، واحد كال خاف اختك حامل وتستحي تكول، رغم هي ما متزوجة.. وقتها عرفت انه كلش غلط اطلع اي شيء من البيت عن اخواتي للشارع، ولليوم آني ملتزم بهذا الشيء، طبيعة المجتمع تكول اي شيء عن المرأة عيب”.  

تعقد محاولات فهم الولد للبنت أو الرجل للمرأة مفاهيم العيب والحياء، والعوامل الثقافية والسياسية التي تحاول حجب الجسد بمختلف الوسائل. “انت مرة” لوحدها عيب، حتى من نبجي يكلولنا شنو أنت مرة؟، هاي الاشياء كلها تبعدك عن فهم المرة، هيج تربينا، ليش نجذب على نفسنا”، يقول محسن.   

توضع كثير من الحواجز بين الرجال والنساء في مرحلة البلوغ والزواج، بضمنها حواجز لغوية، منها تلك التي تغيّب المرأة خلف عبارات مثل: البيت/ اختك/ خادمتك، ولو أن هذا السياق آخذ بالانحسار، “أول شيء يغيب اسم المرأة، ومن يغيب اسمها اكيد تغيب وياه اهواي اشياء منها: عمرها/ أمراضها/ قصص الحب الي ممكن تمر بيها، فتصير المسافة جبيرة بينا”، يقول محسن. 

إخفاء الجسد الأنثوي في كل مكان   

باحتراس -وحتى باشمئزاز أحياناً- تتحدث المرأة حول حالتها الجسدية.  

بيد أن ذلك القناع الذي يُخفي ألم المرأة ويكبتها تحت طيات الحياء والعيب لا ينطبق على الرجال، إذ يتحدثون عن أوجاعهم بأريحية وحرية، باستثناء الحديث عن الأمراض المتعلقة بالخصوبة والجهاز التناسلي الذكري، فتلك هي منطقة محرمة حتى بين الرجال أنفسهم؛ “فضح” أمر يتعلق بصحة الذكر الجنسية قد يكون كفيلاً بأن يطرد من جنة الرجال. مزاح عارض في مقهى شعبي بين ثلاثة شبان يجسد ذلك بقول أحدهم للآخر “هو انت حتى ما تكوّم.. المفروض ما تمشي ويانا”. والــ”ما يكوّم” هذه وصم هو الأشرس بحق الرجل -وتعني ضعف الانتصاب أو انعدامه- ما يحيل الحديث عن هذه المواضيع موضع مزاح وليس فضفضة أو استشارة بينهم. 

تفرق الرجل حدود كثيرة عن جسد المرأة، حدود من شأنها أن تجعل الفهم أو محاولته شبه مستحيلة، ذلك الأداء الاجتماعي المتوارث في إخفاء الجسد وحذفه وتغييبه وجعله مادة غير مرئية هو السلطة التي تعيق عملية الفهم، سلطة تمنعه حتى من أن يعبر عن أوجاعه ومداواتها، فمرض المرأة ووجعها “عار” و”ضعف”، ولذلك ممنوع حتى أن يُحكى عنه في إطار الشرح العلمي؛ فمن “الطبيعي” أن تقفز مدرّسة الإحياء في الصف الثالث المتوسط عن فصل الجهاز التناسلي، وتقتطع صورة المهبل غالباً من الكتاب لـ”أسباب أخلاقية”، أو تصبح هذه المواضيع مادة للضحك والتغامز بين الطلاب. 

طوال سنوات الدراسة لم يكن الجسد البشري موضوعاً جوهرياً، في المناهج ليس هناك غير فصول هنا وهناك وعادة يتم تجاوزها، ما يجعل استبعاد الجسد من التعليم عائقا أمام فهمه.. لذا ليس من الغريب أن يخرج الطالب من المدرسة بمعلومات عن النبات والحيوان أكثر مما عن الإنسان! 

تمعن السلطة السياسية والقانونية في تغييب المرأة من الفضاء العام، ويصبح شرط الخروج من المنزل هو العزل القسري عبر سياسات وقوانين صريحة من الفصل بين الجنسين في المدارس والأماكن العامة والمولات ومدن الألعاب والترفيه. في المجمل تساق هذه التعليمات على أنها توفير حماية للمرأة وأنها إجراءات لمكافحة “البعابيص”، لكنها في الواقع تكريس للهيمنة الذكورية على الشارع والحياة، حبس مضاعف يمارس ضد المرأة عبر الأعراف والتعليمات وطرق التنشئة. كما يخفى جسد المرأة في الحيز العام بذريعة الحماية من أيادي المتحرشين، ما يفترض ضمناً أن المرأة الخارجة من المنزل هي بالضرورة عرضة للتحرش والاغتصاب، ما يدفع النساء لاعتماد سلوك دفاعي مستمر عن أجسادهن، وفي الوقت ذاته يسهم في انعدام فهم الرجال لهن. 

هذه الأسباب وغيرها تجعل محاولات الرجل لفهم جسد المرأة وتحولاته عسيرة، على الرغم من كونه جزءاً منها أو شاهداً عليها، من الحيض وانقطاعه إلى الحمل والولادة وما بعدها، وحتى استئصال الثدي أو الرحم وغيرها.  

ماذا نعرف حقاً عن الحيض؟   

“تعلمت منذ الصغر أن الحيض شيء مقزز ومقرف، وتصبح معه المرأة غير مرغوب بها” يقول​​​​ عصام (23 عاماً)، يدعم هذا التصور الاجتماعي السياق الديني الذي يبعدها حتى عن الصلاة، هذا ما يمنح الرجال عادة حسب عصام: “أفكاراً غير واضحة عن الحيض وعدم جدية في فهمه”، لم يكن عصام يعرف أن الحيض مصحوب بأوجاع وآلام قد تكون شديدة أحياناً، وحين حاول وهو صبي السؤال عن الأمر منع من قبل الكبار واعتبر سؤاله وقتها “عيباً”، قالت أم عصام له، “عيب الرجال يلتهي بذني السوالف، ابوك عمره ما تدخل انت عليمن طالع؟”. أخوه الأكبر يقول له هذه “سوالف نسوان، مالك علاقة بيها”، وبقيت تلك الأسئلة من دون إجابات حتى اللحظة، يقول “بالمتوسطة شفت مقطع على يوتيوب يشرح الدورة الشهرية للمرأة، ومن عرفت معلومات عن الموضوع بديت أحس بالنساء أكثر، قبلها كان تعاطفي قليل، وكنت اشوف الحائض مجرد امرأة نجسة تنزف”.  

عدم المعرفة جرّت هذه الحالة الفيسيولوجية الطبيعية إلى باب المزاح بين الشباب بدل أن تجرهم إلى طريق المعرفة. تسود بين الشباب عبارات شائعة عن الحيض تطلق على من يكون مزاجه غير مستقر، “نكول بينا للي ضايج او ماله خلك، شبيك طايحة عليك الدورة، لأنه كان عدنا فهم انه الموضوع متعب وسبب ضوجة، بس مو كلش واضح الموضوع”. 

يعود ذلك إلى انعدام الحديث بحرية في البيوت أو المدارس عن البلوغ والتغيرات الجسدية التي نعيشها بناتاً وأولاداً. لا نعرف وقت بلوغ البنت، بينما الولد حين يصل وقت بلوغه يحاصر باستمرار بالأسئلة، “بلغت؟”؛ سؤال وجه لعصام في عمر 16 أو 17 دون أي حياء أو تردد، ولما بلغ “عرف أبناء عمي وأخي الأكبر وأبي أيضاً، بينما النساء تستحي أحد يعرف انه هي حائض” يقول. ​​هذا الفارق بالجهر بالبلوغ لدى الأولاد والاستحياء منه لدى البنات، أدركه عصام مثل بقية الشبان من حوله، فصار يتجنب الحديث والانتباه حول كل ما يخص أسئلته عن النساء، بسبب القمع الذي كان يتعرض له حين يطرح أسئلته، التي تعتبر بعض الأحيان غير مقبولة اجتماعياً، يقول: “بعد القمع الي صار علي واني شاب، حقيقة صرت ما انتبه ولا اتدخل، بس يمكن هذا هو السبب الي خلاني لحد الآن ما عندي رغبة اكتشف النساء”. 

“انت مو أول حامل بالتاريخ” 

قبل حمل زوجته بطفلهما الأول عام 2021، لم يكن ​​​​صادق (31 عاماً) يعرف عن الحمل غير “بطن منتفخة وامرأة تمشي بصعوبة”. في الأيام الأولى كان يطرد من ذهنه صور أقدام زوجته المتورمة، ثم سرعان ما بدأ بالاطلاع على معلومات عن الحمل لتساعده على التعامل مع حمل زوجته، التي أصبحت سريعة البكاء، وتعاني من غثيان وقيء مستمرين. 

كشفت له قراءته تعقيدات وتفاصيل لم يفكر بها حتى، حيث هو ومن حوله يأخذون الحمل والولادة على أنها معطى، ولا يسعون حتى لفهم تحولات الجسد خلالها، لذا فوجئ صادق عندما عرف أن الحمل يصاحبه انحناء في العمود الفقري وضيق في التنفس، وأن الطفل في مرحلة ما يبدأ بالضغط على بعض أعضاء جسد أمه. 

لكن ثمة أشياء عصي عليه حتى تخيلها وهو الذي كان شاهداً على حمل زوجته وولادتها عدة مرات. رغم عمله كمحاسب لسنوات وتجاربه في السفر والحياة، إلا أنه شعر بالعجز الكامل عندما حملت زوجته وأنجبت، “إذ أني لم أكتسب في حياتي المهارات الكافية للتعامل مع الحالة”. يقول صادق الذي جعله اطلاعه يتعاطف ويتعامل بحنو ورقة أكثر مع زوجته ويساعدها في عمل المنزل خلال حملها، الذي بات خلاله حتى النوم عسيراً بالنسبة لها.  

لكن غالبية الرجال أو حتى كثر منهم لا يحاولون حتى أن يفهموا معنى الحمل ومعاناته في ظل بيئة تسودها مقولة “أنتِ مو اول حامل بالتاريخ” للتقليل من جهد ومتاعب الحمل، بل ولتحميلها مهام العمل في المنزل بالصيغة نفسها التي كانت عليها قبل الحمل، كما يقول صادق، الذي خلافاً له، فإن عدداً كبيراً من الرجال يتفادون حتى التجربة النفسية لحمل زوجاتهم أو أخواتهم، بل يسعون للبحث عن حلول سريعة للتخلص من “العبء”، مثل “رمي الزوجة في بيت أهلها”؛ فقط قلة من الرجال لديهم القدرة على التعامل مع الحمل وذلك “لقلة الوعي والبيئة التي تعزل هذه الموضوعات وتجعلها من المحظورات”، يؤكد صادق.   

المعرفة المحظورة تمتد إلى ما بعد الولادة، حيث تشعر أغلب النساء بألم نتيجة المخاض في الولادة الطبيعية والجراحة في حالة الولادة القيصرية، كما يمكن أن تشعر المرأة بتقلصات المهبل وآلام أسفل البطن وفي الثدي بسبب تدفق الحليب، وقد تشعر بانخفاض في الرغبة الجنسية، وقد تمر بحالة إعياء وتعب تستمر لعدة أسابيع أو أشهر… لا حصر لآثار الولادة على جسد المرأة، ولا التغيرات التي تمر بها. فكيف يتعامل أزواجهن مع كل هذا؟ 

“بعد الطفل الأول تغير شكل جسد زوجتي، ما أكدر أعدد التغيّرات، لكن أبرزها هو أثر الجراح الي في بطنها بسبب الولادة القيصرية” يقول تقي، لم يكن الأمر سهلا عليه في البدء، بعض الأحيان كان يعتبره تشوها، بمرور الوقت صار يعتبره علامة على طفلهما الأول، مع ذلك يعتبر التغيرات التي حصلت غير متوقعة بالنسبة له، لذلك “اعتبر نفسي جاهل في فهم جسد المرأة، كل التغيرات الي صارت بعد ولادة زوجتي ما كنت اعرفها، من خلال هذه التجربة راجعت كل ما مريت بي، وعرفت ان اسباب الجهل اجتماعية مو بس شخصية”؛ جهل قد يتحول الى عدم تقدير يسود المجتمع ويحول نساءه إلى غريبات عن أجسادهن وأجساد من يحببن.  

استئصال أعضاء أنثوية 

“من سوت امي عملية استئصال لثديها بـ 2017 تغيرت، صارت عصبية، وعلى أقل شيء تنفعل وتصيح”، ​​يقول أيمن (28 عاماً). لم يعِ أيمن وحتى والده معنى أن تفقد امرأة ثديها، وكيف أن “الموضوع ليس جمالياً فقط، انه جزء مقطوع من الجسد اعتادت عليه لم يعد موجودا.. ربما أختي فقط عرفت معنى ذلك”، يقول أيمن.  

يتذكر أيمن أمه مرحة ولطيفة قبل العملية، ثم كيف أصبحت شديدة العصبية والحساسية، أكثر هشاشة وأقل حيوية. “التحولات التي طرأت على شخصية أمي بفعل المرض، غيرت كل من في البيت”، كما يشرح أيمن “كان والدي عصبياً وصعباً، ويكبر الأشياء، بس من تدهورت حالة امي، صار أكثر مرونة، ويمكن هذا الشيء هو ما منتبه له، بس أمي جانت متدمرة، وعلى أقل شيء تصيح وتنفعل واحنا نداري عصبيتها، ولو هسة أقل”، مع ذلك لم يلجأ أي من أيمن ووالده إلى البحث عن طبيعة المرض والأعراض المرافقة له والحالة النفسية لأنهما حسب ما يقول: “عشنا التجربة المريرة مثل ما هي، لا قرينا ولا بحثنا، عشنا كلشي مثل الواقع، وتعاملنا وياه”. 

تجربة أخرى صعبة عاشتها ​​​​عائلة مفيد (48 عاماً)، حينما استأصل رحم زوجته عام 2011. 

“من سوينا العملية عرفت آني صعب أفهم جسمها”، يصف مفيد تجربته، مضيفاً أنه ما يزال حتى الآن يرى نفسه لا يفهم في جسد المرأة، وشكل ذلك الأمر صدمة غير متوقعة له، مضيفاً “احنا بسبب طبيعة المجتمع والخجل الي عدنا نعاني من جهل بجسد المرأة”. 

فهم مفيد بعد تلك التجربة أن غالبية الرجال لا يهتمون بأجساد شريكات حياتهم وأن توقعاتهم من أجسادهن غير واقعية وقد تسبب إرباكاً في العلاقات، لأن هذه الأجساد تصاب بالضعف والوهن والتعب والمرض، فيما الرجل يرغب بالصحة والمثالية الدائمة من جسد شريكته، حسب مفيد.  

مفيد الذي تخجل زوجته من الحديث عن التجربة، يقول إن عمليتها أثرت على العائلة ككل، حتى أولادهم، فبنتهم البكر تركت دراستها لمدة عام من أجل الاعتناء بوالدتها. ومع ذلك فهو يؤكد أنه على الرغم من أن “الموضوع مؤذٍ”، وأن “هذه التجربة تضوج، بس هي جزء من الحياة، ولازم نقرأ ونتعلم ونصبر ونثق بالآخر حتى نعبر مثل هيج لحظات”. إن هذا الأذى كان من الممكن تجنبه لو سمحت الحياة الاجتماعية بالتعامل الواضح مع الجسد، كان من الممكن تجنب اعتبار الأمر نقصاً أو عيباً.  

انطلاقاً من هذه التجارب، كيف يمكن للرجل أن يفهم ما يستأصل من جسد المرأة؟ كيف يفهم ألمها أثناء التحولات الطبيعية لجسدها من البلوغ والحيض مروراً بالحمل والولادة؟ تبقى تلك الأسئلة دون إجابات طالما بقيت السلطات المختلفة تغلف الجسد بالقيود، وتحجب الكلام حوله، وتضعه في دائرة المحظور.   

  

  • هذه المادة من ضمن ملّف أعدّه جُمّار عن صحة المرأة في العراق.  

المادة الأولى: خفر وبالمستشفى: من يعالج ظاهرة التحرُّش بموظفات القطاع الصحي؟