الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 كانون الأول 2024
أشجار كثيفة كانت تدرُّ عشرات الآلاف من الدولارات على المزارعين في سنجار، لكن الأشجار والدولارات باتت مهدّدة بالزوال.. هل تنجو أشجار (خدر) و(تركو) من الهلاك؟
في قلب قرية طيرف شمال قضاء سنجار غربي محافظة نينوى، يواجه خدر رشو، أحد أبرز المزارعين في المنطقة، أزمة غير مسبوقة تهدد محاصيله وسبل عيشه.
كان رشو، الذي أمضى سنوات عديدة في زراعة أشجار التين والرمان، يرى في أرضه أكثر من مجرد مصدر رزق.
“الزراعة صارت الجزء الأكبر من حياتي ولا أستطيع الاستغناء عنها”.
لكن الجفاف المستمر الذي يعصف بالمنطقة قلب هذه الحياة رأساً على عقب، مهدداً بمحو جهد سنوات من العمل الشاق.
ولطالما كانت زراعة أشجار التين والرمان في قرية طيرف جزءاً لا يتجزأ من حياة رشو، إذ أمضى عقوداً طويلة يعتني بأرضه ويشاهد ثمار جهد سنوات تتجلى في تلك الأشجار الباسقة.
قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على نينوى في حزيران 2014، كانت شجرة التين الواحدة تنتج 30-40 كغم من الثمار، وهو ما كان يُعد محصولاً وفيراً، لكن الجفاف الذي بدأ يضرب أطنابه في الأرض منذ 2020 ألقى بظلاله الكئيبة على هذا المشهد الخصب.
اليوم، لم تعد الأشجار تنتج إلا 10-15 كغم من الثمار في أحسن الأحوال، بينما هناك العديد منها لم يعد يثمر على الإطلاق.
هذا التراجع الملموس في الإنتاجية تسبّب بخسائر كبيرة، غير أن رشو لم يستسلم، على الرغم من الظروف الصعبة، واستمر في عمله على أمل تحسُّن الأوضاع.
ولم يتوقف هو وأفراد عائلته عن البحث عن حلول، فذهبوا مرات عدة إلى مديرية الزراعة ومديرية المياه في شمال سنجار، ليعرضوا معاناتهم ويطلبوا المساعدة العاجلة.
كان مطلبهم واضحاً: توفير مصادر مياه كافية ومستدامة لإحياء أراضيهم.
وعدتهم الجهات المسؤولة برفع مطالبهم إلى السلطات العليا، ولم يتلقوا حتى الآن أي رد أو دعم ملموس.
تستمر معاناة رشو وزملائه المزارعين، ويواصلون ترقب المساعدة.
مع تزايد تأثير الجفاف على مواردهم، تبقى آمالهم معلقة على تدخل حكومي عاجل لتوفير المياه اللازمة.
وإذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة، قد يضطر رشو إلى التخلي عن أرضه، وهو أمر لا يرغب فيه.
300 متر على الأقل
بحسب فريق حماة البيئة في سنجار، وهو الجهة الوحيدة في المنطقة المعنية بالشؤون البيئية، يحتاج سكان قرية طيرف إلى حفر آبار جديدة وعميقة لتأمين كميات كافية من المياه لري بساتينهم.
أزمة المياه هذه أثّرت بشكل مباشر على الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة، إذ تراجع دخل العائلات بنسبة كبيرة.
يقول مشعل نواف، رئيس فريق حماة البيئة، إن شح المياه في قرية طيرف ناجم عن جفاف الآبار الارتوازية، وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى التغيُّرات المناخية العالمية التي أثرت بشكل كبير على الموارد المائية في العراق.
وفقاً للفريق البيئي، تحتوي قرية طيرف على أكثر من سبعة آلاف شجرة مثمرة، تشمل الرمان والتين والعنب وأنواعاً أخرى من الفواكه.
كانت هذه الأشجار تشكل مصدر دخل رئيسياً للعائلات في القرية، حيث كان الدخل السنوي من محاصيلها الزراعية يتجاوز 100 ألف دولار.
انخفض هذا الدخل بشكل حاد بنسبة 90 بالمئة أو أكثر، بسبب عجز المزارعين عن توفير المياه اللازمة لريّ بساتينهم.
جفاف هذه الأشجار وذبولها يعني عملياً قطع مصدر رزق عشرات العائلات، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها.
يشير نواف إلى أن بعض الآبار في المنطقة جفت تماماً، بينما توفر الآبار المتبقية كمّيات ضئيلة من المياه لا تكفي لري بستان واحد.
وتحتاج الآبار الارتوازية الحالية إلى حفر بعمق يزيد عن 300 متر للحصول على كميات كافية من المياه، في حين أن أعمق بئر في المنطقة لا يتجاوز 250 متراً.
وتلقى المزارعون هناك دعماً حكومياً مرة واحدة عام 2022 لحفر بئر ارتوازي، لكن عمقه بلغ 150 متراً فقط ولم يوفر سوى كمية قليلة من المياه.
نزحت بعض العائلات من قرية طيرف إلى مجمعات سكنية مجاورة بعد أن جفت الآبار، ما شكل أزمة اجتماعية.
ومن الناحية الاقتصادية، تعتمد القرية بالكامل على بساتينها، وإذا بقيت رهينة الجفاف، فإن اقتصاد القرية بأكمله سيتعرض للانهيار، حيث لا توجد بدائل عمل أخرى للمزارعين.
أدى الجفاف أيضاً إلى انخفاض أنواع عديدة من الحيوانات والطيور التي تعتمد على الأشجار كمأوى، وساهم في تدهور التربة، ورفع احتمالات نشوب الحرائق.
أجرى فريق حماة البيئة في سنجار جولة استطلاعية في بساتين قرية طيرف، ووثق حجم الجفاف الذي ضرب المنطقة.
“منظر البساتين كان مؤسفاً” يقول نواف لـ”جمّار”، بعض البساتين جفّ تماماً والبعض الآخر يوشك على ذلك.
نشر الفريق رسائل عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إيصال أصوات المزارعين إلى الجهات المعنية والمنظمات الدولية.
وقدم الفريق إرشادات إلى السكان لترشيد استهلاك المياه، على الرغم من أنه لم يرصد هدراً من قبل الأهالي.
“على الحكومة تحسين إدارة الموارد المائية في سنجار، من خلال توفير مشاريع مائية وحظر حفر الآبار بشكل عشوائي”، يوضح نواف.
مهلكة التين
تحتضن المناطق الجبلية في سنجار، مثل كرسي وواري خدري وكفري حنكالا وطيرف وگابارا ودريجي وجيل ميرا، نحو 20 ألف شجرة تين، معظمها زرعت بجهود ذاتية للأهالي.
لكن بركات عيسى، مدير زراعة ناحية الشمال، يلفت إلى أن الجهود الذاتية للمزارعين لم تكن كافية لمواجهة تحديات التغيُّرات المناخية والانبعاثات الغازية من معمل سمنت سنجار، ما يهدد مصدر العيش الرئيسي للعديد من العائلات في المنطقة.
ويقول عيسى لـ”جمّار” إن “إنتاج محصول التين انخفض بشكل كبير بسبب قلة الدعم الحكومي المقدم للمزارعين”.
ولم تكن الجهود الذاتية للأهالي كافية لإعادة إنتاج المحصول كما كان في السابق.
ولا يقتصر نقص الدعم على الموارد المائية، وإنما يشمل المساعدة الفنية والتقنيات الحديثة التي قد تسهم في تحسين الإنتاج.
وللتأثيرات البيئية الناجمة عن انبعاثات الغاز من معمل سمنت سنجار، صلة مباشرة بالتغيُّرات المناخية.
غير أن القائمين على المعمل يؤكدون أنه ملتزم بتعليمات الشركة العامة للسمنت العراقية، واتخذ الإجراءات اللازمة للحد من تأثير الدخان المنبعث على الأراضي الزراعية.
هذه الانبعاثات تساهم في تفاقم الظروف الجوية القاسية وتؤثر على الزراعة بشكل عام، ما يزيد من معاناة العائلات التي تعتمد على الزراعة.
وفي ظل كل هذه التحديات، تكافح المزارعة تركو مراد (45 عاماً) لتعيد الحياة إلى أرضها.
وتقول لجمار إن قريتها المعروفة بزراعة التين والعنب والرمان، تعاني منذ سنوات جراء شح المياه.
وكانت هذه الفواكه تغذي نازحين إيزيديين لجأوا إلى القرية عندما هاجمهم “داعش” عام 2014، وعندما كانت المواد الغذائية شحيحة بسبب الحصار الذي فرضه التنظيم والظروف الأمنية المعقدة.
ري الجزيرة
وضعت خطة لدرء التصحر عن سنجار عبر مشروع ري الجزيرة الذي يُنظر إليه على أنه حل محوري لأزمة المياه.
من المقرر أن يمتد المشروع من ناحية ربيعة إلى قضاء سنجار وقضاء البعاج، ويُنتظر أن يبدأ تنفيذه عام 2025.
نايف سيدو، الذي يشغل منصب قائممقام قضاء سنجار وكالة ومدير ناحية الشمال، يقول إن المشروع يهدف إلى تحسين الظروف الزراعية.
هذا المشروع الحكومي كان من المفترض تدشينه بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتنفيذه بواسطة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو).
يشمل المشروع صيانة مضخة رئيسية وإعادة تأهيل 11 جسراً و21 بوابة، وتأتيه المياه من سد الموصل ليوفر الري لأكثر من 200 ألف دونم زراعي.
وعند اكتمال الأقسام الثلاثة للمشروع، من المتوقع استصلاح مليون دونم من الأراضي الصحراوية، ما يسهم في تعزيز الاقتصاد الزراعي وتشغيل الأيدي العاملة المحلية.
“الحل الجذري لمشاكل الزراعة في قرية طيرف وعموم سنجار يكمن في مشروع ري الجزيرة” يقول سيدو لجمار.
إلا أنه يخلي مسؤولية الحكومة في توفير الآبار والمياه لأشجار طيرف، لأنها مملوكة للأهالي.
ويتحدث سيدو أيضاً عن مشروع إنشاء حزام أخضر حول قضاء سنجار ونواحيه، لكنه ما زال في طور الإحالة.
حنين وواقع
قضى فيصل حيدر، وهو أحد المزارعين في قرية طيرف، أكثر من 20 عاماً من حياته في زراعة أشجار التين والرمان.
بالنسبة له، لم يكن بستانه مجرد مصدر دخل، بل كان جزءاً من هويته وتاريخه، يعكس سنوات من العمل والاعتناء بالأرض التي أحبها.
لكن التحديات بدأت تتزايد بشكل غير مسبوق، بسبب التغيرات المناخية والجفاف المستمر.
“لم يكن هناك ما يكفي من الأمطار، ولم تعد المياه الجوفية تعوضنا عما خسرناه” يقول حيدر لجمار.
ومع أنه حفر آباراً ارتوازية على نفقته الخاصة، إلا أن الجفاف كان أكبر من أي مجهود فردي.
ومع مرور الوقت، كانت الأوضاع تتدهور.
كانت الأشجار التي اعتنى بها حيدر تفقد قوتها، حيث بدأت تذبل شجرة التين التي كانت تزهر وتثمر، وكذلك شجرة الرمان التي كانت مصدر فخر له ولعائلته.
مرت سنوات وهو يقاوم التدهور، لكنه اضطر في النهاية إلى الاستسلام ومغادرة الأرض بحثاً عن مكان بديل للعيش.
انتقل إلى مجمع اليرموك شمال قضاء سنجار، فتغير نمط حياته وحياة أفراد أسرته بالكامل.
بدأ العمل في محل لبيع المواد الغذائية، لكن المردود لم يغط احتياجات أسرته، ولا يقارن بما كان يحصل عليه من الزراعة.
يشعر يومياً بالحنين إلى طيرف وأشجارها، غير أن العودة ليست سهلة.
ينتظر تدخلاً حكومياً أو دعماً من المنظمات الإنسانية لحفر آبار ارتوازية جديدة وتوفير المياه اللازمة لإحياء الأرض.
“بدعم بسيط، يمكننا أن نعود إلى الزراعة، ونعيد الحياة إلى قرانا” يقول.
تهديد النظام البيئي
يلقي علي الياس، ناشط بيئي وخبير في مجال الزراعة، مزيداً من الضوء على الآثار البيئية للجفاف في سنجار.
يؤكد أن الجفاف يهدد النظام البيئي لتسببه في تدهور التربة وانخفاض الغطاء النباتي.
“نزوح المزارعين من المخلفات الواضحة للجفاف” يقول الياس لـ”جمّار”.
ويشير إلى أهمية استراتيجيات التكيف مع الجفاف وتحسين إدارة المياه في سنجار.
ويقدم اقتراحات عدة، مثل بناء سدود وخزانات مياه وتطبيق تقنيات حصاد المياه واستخدام تقنيات الري الحديثة وتشجيع زراعة الأشجار.
ويشدد الياس على أهمية تطوير أنظمة تحذير مبكر من الجفاف في سنجار، لتقليل الأضرار وزيادة استعداد المجتمع لمواجهة هذه الكوارث البيئية.
من جهتها، تشير لجنة الزراعة والموارد المائية في مجلس محافظة نينوى، إلى أن المحافظة كانت قبل عام 2014 معروفة بزراعة التين، وخصوصاً في سنجار.
وتقول اللجنة إن عدد أشجار التين في نينوى كان يقدر بـ20 إلى 30 ألف شجرة.
والبيئة المناخية في سنجار مثالية لزراعة التين، ما جعلها مشهورة على مستوى العراق.
ويقول أحمد الدوبرداني، رئيس لجنة الزراعة والموارد المائية في مجلس محافظة نينوى، إن النزوح الجماعي لأهالي سنجار نحو إقليم كردستان إبان احتلال “داعش”، ترك الأراضي الزراعية مهملة، ما أدى إلى تلف معظم أشجار التين.
ويتحدث الدوبرداني عن وجود مبادرات تقودها مديرية زراعة نينوى بالتعاون مع مجلس المحافظة ومحافظ نينوى، بالإضافة إلى دعم من منظمات دولية ومحلية، لاستعادة زراعة التين عبر حفر آبار جديدة لتوفير المياه اللازمة وتقديم الدعم الفني والمالي للفلاحين.
وبينما اختار حيدر الانتقال إلى حياة جديدة بعد يأسه من وصول يد العون، يواصل رشو صموده في أرضه، منتظراً التفات السلطات إلى واقع حال التين والرمان وبقية المحاصيل في سنجار.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مقابر "المخطئات" بذريعة الشرف: إفلات الجناة من العقاب بسطوة العشيرة والتقاليد في العراق
23 يناير 2025
زيارة السوداني إلى إيران: الحقائب تخلو من "الأهم"!
21 يناير 2025
"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
19 يناير 2025
العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين
16 يناير 2025
في قلب قرية طيرف شمال قضاء سنجار غربي محافظة نينوى، يواجه خدر رشو، أحد أبرز المزارعين في المنطقة، أزمة غير مسبوقة تهدد محاصيله وسبل عيشه.
كان رشو، الذي أمضى سنوات عديدة في زراعة أشجار التين والرمان، يرى في أرضه أكثر من مجرد مصدر رزق.
“الزراعة صارت الجزء الأكبر من حياتي ولا أستطيع الاستغناء عنها”.
لكن الجفاف المستمر الذي يعصف بالمنطقة قلب هذه الحياة رأساً على عقب، مهدداً بمحو جهد سنوات من العمل الشاق.
ولطالما كانت زراعة أشجار التين والرمان في قرية طيرف جزءاً لا يتجزأ من حياة رشو، إذ أمضى عقوداً طويلة يعتني بأرضه ويشاهد ثمار جهد سنوات تتجلى في تلك الأشجار الباسقة.
قبل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على نينوى في حزيران 2014، كانت شجرة التين الواحدة تنتج 30-40 كغم من الثمار، وهو ما كان يُعد محصولاً وفيراً، لكن الجفاف الذي بدأ يضرب أطنابه في الأرض منذ 2020 ألقى بظلاله الكئيبة على هذا المشهد الخصب.
اليوم، لم تعد الأشجار تنتج إلا 10-15 كغم من الثمار في أحسن الأحوال، بينما هناك العديد منها لم يعد يثمر على الإطلاق.
هذا التراجع الملموس في الإنتاجية تسبّب بخسائر كبيرة، غير أن رشو لم يستسلم، على الرغم من الظروف الصعبة، واستمر في عمله على أمل تحسُّن الأوضاع.
ولم يتوقف هو وأفراد عائلته عن البحث عن حلول، فذهبوا مرات عدة إلى مديرية الزراعة ومديرية المياه في شمال سنجار، ليعرضوا معاناتهم ويطلبوا المساعدة العاجلة.
كان مطلبهم واضحاً: توفير مصادر مياه كافية ومستدامة لإحياء أراضيهم.
وعدتهم الجهات المسؤولة برفع مطالبهم إلى السلطات العليا، ولم يتلقوا حتى الآن أي رد أو دعم ملموس.
تستمر معاناة رشو وزملائه المزارعين، ويواصلون ترقب المساعدة.
مع تزايد تأثير الجفاف على مواردهم، تبقى آمالهم معلقة على تدخل حكومي عاجل لتوفير المياه اللازمة.
وإذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة، قد يضطر رشو إلى التخلي عن أرضه، وهو أمر لا يرغب فيه.
300 متر على الأقل
بحسب فريق حماة البيئة في سنجار، وهو الجهة الوحيدة في المنطقة المعنية بالشؤون البيئية، يحتاج سكان قرية طيرف إلى حفر آبار جديدة وعميقة لتأمين كميات كافية من المياه لري بساتينهم.
أزمة المياه هذه أثّرت بشكل مباشر على الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة، إذ تراجع دخل العائلات بنسبة كبيرة.
يقول مشعل نواف، رئيس فريق حماة البيئة، إن شح المياه في قرية طيرف ناجم عن جفاف الآبار الارتوازية، وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى التغيُّرات المناخية العالمية التي أثرت بشكل كبير على الموارد المائية في العراق.
وفقاً للفريق البيئي، تحتوي قرية طيرف على أكثر من سبعة آلاف شجرة مثمرة، تشمل الرمان والتين والعنب وأنواعاً أخرى من الفواكه.
كانت هذه الأشجار تشكل مصدر دخل رئيسياً للعائلات في القرية، حيث كان الدخل السنوي من محاصيلها الزراعية يتجاوز 100 ألف دولار.
انخفض هذا الدخل بشكل حاد بنسبة 90 بالمئة أو أكثر، بسبب عجز المزارعين عن توفير المياه اللازمة لريّ بساتينهم.
جفاف هذه الأشجار وذبولها يعني عملياً قطع مصدر رزق عشرات العائلات، ما يفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها.
يشير نواف إلى أن بعض الآبار في المنطقة جفت تماماً، بينما توفر الآبار المتبقية كمّيات ضئيلة من المياه لا تكفي لري بستان واحد.
وتحتاج الآبار الارتوازية الحالية إلى حفر بعمق يزيد عن 300 متر للحصول على كميات كافية من المياه، في حين أن أعمق بئر في المنطقة لا يتجاوز 250 متراً.
وتلقى المزارعون هناك دعماً حكومياً مرة واحدة عام 2022 لحفر بئر ارتوازي، لكن عمقه بلغ 150 متراً فقط ولم يوفر سوى كمية قليلة من المياه.
نزحت بعض العائلات من قرية طيرف إلى مجمعات سكنية مجاورة بعد أن جفت الآبار، ما شكل أزمة اجتماعية.
ومن الناحية الاقتصادية، تعتمد القرية بالكامل على بساتينها، وإذا بقيت رهينة الجفاف، فإن اقتصاد القرية بأكمله سيتعرض للانهيار، حيث لا توجد بدائل عمل أخرى للمزارعين.
أدى الجفاف أيضاً إلى انخفاض أنواع عديدة من الحيوانات والطيور التي تعتمد على الأشجار كمأوى، وساهم في تدهور التربة، ورفع احتمالات نشوب الحرائق.
أجرى فريق حماة البيئة في سنجار جولة استطلاعية في بساتين قرية طيرف، ووثق حجم الجفاف الذي ضرب المنطقة.
“منظر البساتين كان مؤسفاً” يقول نواف لـ”جمّار”، بعض البساتين جفّ تماماً والبعض الآخر يوشك على ذلك.
نشر الفريق رسائل عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إيصال أصوات المزارعين إلى الجهات المعنية والمنظمات الدولية.
وقدم الفريق إرشادات إلى السكان لترشيد استهلاك المياه، على الرغم من أنه لم يرصد هدراً من قبل الأهالي.
“على الحكومة تحسين إدارة الموارد المائية في سنجار، من خلال توفير مشاريع مائية وحظر حفر الآبار بشكل عشوائي”، يوضح نواف.
مهلكة التين
تحتضن المناطق الجبلية في سنجار، مثل كرسي وواري خدري وكفري حنكالا وطيرف وگابارا ودريجي وجيل ميرا، نحو 20 ألف شجرة تين، معظمها زرعت بجهود ذاتية للأهالي.
لكن بركات عيسى، مدير زراعة ناحية الشمال، يلفت إلى أن الجهود الذاتية للمزارعين لم تكن كافية لمواجهة تحديات التغيُّرات المناخية والانبعاثات الغازية من معمل سمنت سنجار، ما يهدد مصدر العيش الرئيسي للعديد من العائلات في المنطقة.
ويقول عيسى لـ”جمّار” إن “إنتاج محصول التين انخفض بشكل كبير بسبب قلة الدعم الحكومي المقدم للمزارعين”.
ولم تكن الجهود الذاتية للأهالي كافية لإعادة إنتاج المحصول كما كان في السابق.
ولا يقتصر نقص الدعم على الموارد المائية، وإنما يشمل المساعدة الفنية والتقنيات الحديثة التي قد تسهم في تحسين الإنتاج.
وللتأثيرات البيئية الناجمة عن انبعاثات الغاز من معمل سمنت سنجار، صلة مباشرة بالتغيُّرات المناخية.
غير أن القائمين على المعمل يؤكدون أنه ملتزم بتعليمات الشركة العامة للسمنت العراقية، واتخذ الإجراءات اللازمة للحد من تأثير الدخان المنبعث على الأراضي الزراعية.
هذه الانبعاثات تساهم في تفاقم الظروف الجوية القاسية وتؤثر على الزراعة بشكل عام، ما يزيد من معاناة العائلات التي تعتمد على الزراعة.
وفي ظل كل هذه التحديات، تكافح المزارعة تركو مراد (45 عاماً) لتعيد الحياة إلى أرضها.
وتقول لجمار إن قريتها المعروفة بزراعة التين والعنب والرمان، تعاني منذ سنوات جراء شح المياه.
وكانت هذه الفواكه تغذي نازحين إيزيديين لجأوا إلى القرية عندما هاجمهم “داعش” عام 2014، وعندما كانت المواد الغذائية شحيحة بسبب الحصار الذي فرضه التنظيم والظروف الأمنية المعقدة.
ري الجزيرة
وضعت خطة لدرء التصحر عن سنجار عبر مشروع ري الجزيرة الذي يُنظر إليه على أنه حل محوري لأزمة المياه.
من المقرر أن يمتد المشروع من ناحية ربيعة إلى قضاء سنجار وقضاء البعاج، ويُنتظر أن يبدأ تنفيذه عام 2025.
نايف سيدو، الذي يشغل منصب قائممقام قضاء سنجار وكالة ومدير ناحية الشمال، يقول إن المشروع يهدف إلى تحسين الظروف الزراعية.
هذا المشروع الحكومي كان من المفترض تدشينه بتمويل من الاتحاد الأوروبي وتنفيذه بواسطة منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو).
يشمل المشروع صيانة مضخة رئيسية وإعادة تأهيل 11 جسراً و21 بوابة، وتأتيه المياه من سد الموصل ليوفر الري لأكثر من 200 ألف دونم زراعي.
وعند اكتمال الأقسام الثلاثة للمشروع، من المتوقع استصلاح مليون دونم من الأراضي الصحراوية، ما يسهم في تعزيز الاقتصاد الزراعي وتشغيل الأيدي العاملة المحلية.
“الحل الجذري لمشاكل الزراعة في قرية طيرف وعموم سنجار يكمن في مشروع ري الجزيرة” يقول سيدو لجمار.
إلا أنه يخلي مسؤولية الحكومة في توفير الآبار والمياه لأشجار طيرف، لأنها مملوكة للأهالي.
ويتحدث سيدو أيضاً عن مشروع إنشاء حزام أخضر حول قضاء سنجار ونواحيه، لكنه ما زال في طور الإحالة.
حنين وواقع
قضى فيصل حيدر، وهو أحد المزارعين في قرية طيرف، أكثر من 20 عاماً من حياته في زراعة أشجار التين والرمان.
بالنسبة له، لم يكن بستانه مجرد مصدر دخل، بل كان جزءاً من هويته وتاريخه، يعكس سنوات من العمل والاعتناء بالأرض التي أحبها.
لكن التحديات بدأت تتزايد بشكل غير مسبوق، بسبب التغيرات المناخية والجفاف المستمر.
“لم يكن هناك ما يكفي من الأمطار، ولم تعد المياه الجوفية تعوضنا عما خسرناه” يقول حيدر لجمار.
ومع أنه حفر آباراً ارتوازية على نفقته الخاصة، إلا أن الجفاف كان أكبر من أي مجهود فردي.
ومع مرور الوقت، كانت الأوضاع تتدهور.
كانت الأشجار التي اعتنى بها حيدر تفقد قوتها، حيث بدأت تذبل شجرة التين التي كانت تزهر وتثمر، وكذلك شجرة الرمان التي كانت مصدر فخر له ولعائلته.
مرت سنوات وهو يقاوم التدهور، لكنه اضطر في النهاية إلى الاستسلام ومغادرة الأرض بحثاً عن مكان بديل للعيش.
انتقل إلى مجمع اليرموك شمال قضاء سنجار، فتغير نمط حياته وحياة أفراد أسرته بالكامل.
بدأ العمل في محل لبيع المواد الغذائية، لكن المردود لم يغط احتياجات أسرته، ولا يقارن بما كان يحصل عليه من الزراعة.
يشعر يومياً بالحنين إلى طيرف وأشجارها، غير أن العودة ليست سهلة.
ينتظر تدخلاً حكومياً أو دعماً من المنظمات الإنسانية لحفر آبار ارتوازية جديدة وتوفير المياه اللازمة لإحياء الأرض.
“بدعم بسيط، يمكننا أن نعود إلى الزراعة، ونعيد الحياة إلى قرانا” يقول.
تهديد النظام البيئي
يلقي علي الياس، ناشط بيئي وخبير في مجال الزراعة، مزيداً من الضوء على الآثار البيئية للجفاف في سنجار.
يؤكد أن الجفاف يهدد النظام البيئي لتسببه في تدهور التربة وانخفاض الغطاء النباتي.
“نزوح المزارعين من المخلفات الواضحة للجفاف” يقول الياس لـ”جمّار”.
ويشير إلى أهمية استراتيجيات التكيف مع الجفاف وتحسين إدارة المياه في سنجار.
ويقدم اقتراحات عدة، مثل بناء سدود وخزانات مياه وتطبيق تقنيات حصاد المياه واستخدام تقنيات الري الحديثة وتشجيع زراعة الأشجار.
ويشدد الياس على أهمية تطوير أنظمة تحذير مبكر من الجفاف في سنجار، لتقليل الأضرار وزيادة استعداد المجتمع لمواجهة هذه الكوارث البيئية.
من جهتها، تشير لجنة الزراعة والموارد المائية في مجلس محافظة نينوى، إلى أن المحافظة كانت قبل عام 2014 معروفة بزراعة التين، وخصوصاً في سنجار.
وتقول اللجنة إن عدد أشجار التين في نينوى كان يقدر بـ20 إلى 30 ألف شجرة.
والبيئة المناخية في سنجار مثالية لزراعة التين، ما جعلها مشهورة على مستوى العراق.
ويقول أحمد الدوبرداني، رئيس لجنة الزراعة والموارد المائية في مجلس محافظة نينوى، إن النزوح الجماعي لأهالي سنجار نحو إقليم كردستان إبان احتلال “داعش”، ترك الأراضي الزراعية مهملة، ما أدى إلى تلف معظم أشجار التين.
ويتحدث الدوبرداني عن وجود مبادرات تقودها مديرية زراعة نينوى بالتعاون مع مجلس المحافظة ومحافظ نينوى، بالإضافة إلى دعم من منظمات دولية ومحلية، لاستعادة زراعة التين عبر حفر آبار جديدة لتوفير المياه اللازمة وتقديم الدعم الفني والمالي للفلاحين.
وبينما اختار حيدر الانتقال إلى حياة جديدة بعد يأسه من وصول يد العون، يواصل رشو صموده في أرضه، منتظراً التفات السلطات إلى واقع حال التين والرمان وبقية المحاصيل في سنجار.