ولادة قيصريّة متأخرة.. عن التعداد السُّكاني في العراق  

غزوان المنهلاوي

01 كانون الأول 2024

ماهي تجارب العراق في تنفيذ التعداد السكاني وما هو الأساس القانوني لإجرائه؟ ما هي جدوى التعداد السكاني وما هي الموضوعات الخلافية المرتبطة به؟ ولماذا تأخر العراق في إجراء تعداد لأكثر من 20 سنة؟ ماهي البيانات التي منحها المواطنون للدولة، وكيف سيتم توظيف النتائج؟

منذ حوالي أربعة عقود، لم يجرِ العراق تعداداً شاملاً لسكانه، وعلى الرغم من المحاولات العديدة بعد عام 2003، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من تنفيذ أيّ مسحٍ إحصائي شامل للسكان، فخضعت العديدُ من التقسيمات المتعلقة بالسياسة والاقتصاد لتقديرات وبيانات قديمة وغير مُحدثة. 

يُعاني العراق من مشكلة كبيرة في توفُّر ودقة وتنظيم البيانات وتوظيفها، حيث وضعت العديد من الخطط والسياسات بناءً على التقديرات الإحصائية غير الدقيقة والتصورات الشخصية المُعرّضة لخطر التحيُّز، فتزداد أهمية إجراء التعداد السكاني ليكون فرصة كبيرة لتوفير معلومات مهمة للاقتصاد والسياسة والاجتماع. 

تلعب السياسة دوراً بارزاً في معظم القضايا الاقتصادية والاجتماعية في العراق، وتتشابك التعقيدات مع وجود محافظات وإقليم ومكونات وأقليات دينية وقوميات متعددة ومناطق متنازع عليها -بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية-، ليأتي التعداد السكاني عنصرَ حسمٍ لما يترتب عليه من نتائج حساسة تلقي بظلالٍ على مفاصل عديدة مثل المقاعد النيابية وتخصيصات الحصص المالية للمحافظات والمناطق المتنازع عليها وحقوق الأقليات الدينية. 

فضلاً عن ذلك، تنتج عن التعداد السكاني مؤشرات إحصائية مهمة؛ توفر لصناع القرار والفاعلين القدرة على وضع التصورات والرؤى الموضوعية، فضلاً عن وضع القياسات الدقيقة للخطط التنموية المستقبلية، ويوفر التعداد قاعدة بيانات تلعب دوراً مهما في توقع المشاكل والأزمات التي قد تحدث ووضع السيناريوهات التي تحد منها. 

لكل هذه الأسباب وغيرها، دعت القيادات الدينية في البلد إلى المشاركة الفاعلة في التعداد، إذ أكد ممثل مرجع الشيعة الأعلى علي السيستاني، على أهمية المشاركة بالتعداد مذكّراً بدعوة المرجع الديني في 22 آب 2009 إلى اجراء التعداد السكاني وفق الضوابط القانونية، ودعا ديوانُ الوقف السني إلى المشاركة في التعداد السكاني باعتباره “واجباً وطنياً”. 

الخلفية التاريخية 

يعد العراق من الدول الرائدة في التعداد السكاني، حيث أجراه  9 مرات: نفذ أول تعداد في عام 1920 تحت إشراف الاحتلال البريطاني آنذاك، وكان مُركّزاً على أعداد السكان وتقسيمهم حسب الولايات والأديان والطوائف. 

أُجري ثاني تعداد عام 1927 ولكنّ نتائجَه لم تُعتَمَد، بسبب كثرة الأخطاء وغياب الدقّة في جمع البيانات، فأُجري عوضاً عنه تعداد 1934 وهو تعداد حضوريٌ من خلال استدعاء السكان عبر مختاري المحلات للتصريح بالبيانات، وكان يركز على الإحصاءات العامة. 

وفي عام 1947 أُجري التعداد الرابع للسكان، لكنّه لم يكن احصاءً كاملاً بسبب تخوّف الناس من التجنيد الإلزامي، وبعدها بعقد كامل، في عام 1957 أجري التعداد الخامس والذي شكّل قفزة نوعية في إجراء التعداد؛ كونه اعتمد الأساليب الإحصائية الحديثة. 

أما التعداد السادس فقد أُجري عام 1965 في ظلّ عمليات عسكرية في شمالي العراق، وأُجري في عام 1977 التعداد السابع والذي يُعد الأكثرَ دقة؛ كونه اعتمد على معايير الأمم المتحدة في الإحصاء السكاني. 

اقرأ أيضاً

“ما عدِنا معلومات”.. حوار عن أهمية التعداد السُّكاني للدولة والأفراد 

وأجري في عام 1987 ثامن تعداد في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ونفذ التعداد التاسع والأخير في عام 1997 لكنّه لم يشمل محافظات شمال العراق (أربيل، السليمانية، دهوك) التي كانت تشهد حرباً أهلية بين الحزبين الكرديين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، وتتمتع بحكم ذاتي نتيجة تشكُّل إقليم كردستان وعدم سيطرة الحكومة المركزية. 

الأساس القانوني  

 حدّد الدستور العراقي النافذ لعام 2005 في المادة (110) منه الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية وضمنها الفقرة (تاسعاً) التي تنص على الإحصاء والتعداد العام للسكان. 

وحسمت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها المرقم (73/اتحادية/2010) الجدل حول ما أشار إليه الدستور في المادة (140) بخصوص مهمة السلطة التنفيذية في استكمال إجراء تنفيذ متطلبات المادة (58/4/ج) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والتي تتعلق بتسوية الأراضي المتنازع عليها ومن ضمنها كركوك وإن كلمة الإحصاء الواردة فيها ليس لها علاقة بالتعداد السكاني الذي سيجري في كل أنحاء العراق وليس بديلاً عنه لاختلاف الآثار والهدف. 

وشرع البرلمان العراقي عام 2008 قانون التعداد العام للسكان والمساكن رقم (40) لسنة 2008 بهدف تنظيم عملية إجراء التعداد العام للسكان وتضمن القانون الإطار العام لعملية جمع البيانات في العراق عبر تشكيل الهيئة العليا للتعداد العام للسكان والمساكن. 

وكذلك صوت البرلمان مؤخراً على قانون هيئة الإحصاء ونُظُم المعلومات الجغرافية رقم (32) لسنة 2023 والذي تضمن أحكاماً قانونيةً تتعلق بالتعداد العام للسكان والمساكن وألْزمَ القانونُ مجلسَ الوزراء العراقي بإجراء التعداد مرة كلَّ (10) سنوات مع إمكانية إجراء التعداد بالعينة، باقتراح من الهيئة العليا للتعداد العام للسكان والمساكن. 

وتضمن قانون هيئة الإحصاء الجديد، التي حلّت محلّ الجهاز المركزي للإحصاء، الاطارَ العام للنظام الإحصائي الوطني في العراق وتهيئة أعمال التعداد العام للسكان والأنشطة الإحصائية بما فيها من إحصاءات رسمية ومسوح إحصائية عن مختلف القطاعات. 

ملصقات التوعية بإجراء التعداد السكاني – المصدر: وزارة الداخلية. 

محاولات ما بعد 2003  

جرت عدة محاولات بعد عام 2003 لتنفيذ التعداد السكاني الشامل في العراق، إلّا أنها واجهت تحديات سياسية كبيرة منعت تنفيذه. ففي عام 2009 أجرى الجهاز المركزي للإحصاء، التابع لوزارة التخطيط، عملية حصر السكان والمساكن في عموم العراق، نتجت عنها قاعدةُ بيانات مهمة غدت أساساً لكلّ التقديرات التي أجراها الجهاز المركزي للإحصاء حول الخصائص الأساسية للسكان. 

وألزم قانون الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2009 في المادة (20) منه، الحكومة الاتحادية بإجراء التعداد السكاني في جميع انحاء العراق في مدة لا تتجاوز 12 كانون الأول 2009، وكذلك اشترط قانون الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2010 في المادة (18) منه، مرة أُخرى على الحكومة الاتحادية إجراء التعداد السكاني في جميع انحاء العراق في مدة لا تتجاوز 31 كانون الأول 2010 واشترط إعادة النظر في حصة إقليم كردستان في الموازنة العامة للدولة، في ضوء نتائج التعداد السكاني وأن يكون التعداد أساساً لتحديد المبلغ الحقيقي لحصة الاقليم، إلّا أنه تم تأجيل التعداد بسبب الخلافات السياسية ووجود سؤال عن القومية، الذي رفض الكرد حذفه واعتبروا هذا القرار يهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي بالمدن المسماة بـالمناطق المتنازع عليها، وأهمها مدينة كركوك النفطية وأقضية في محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين. 

المثير للاستغراب هو تصويت وزير التخطيط عام 2010 في مجلس الوزراء على تأجيل التعداد حينها رغم الاستعداد الكامل الذي أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء بصفته الجهة المنفذة للتعداد. 

عام 2019 وضعت الحكومة ضمن النفقات الحاكمة في الموازنة العامة للدولة المبالغ المالية لتنفيذ التعداد لكنّ الأمرَ لم يتم؛ بسبب احتجاجات تشرين والاضطرابات السياسية التي رافقتها، وعلى الرغم من تعهد الحكومة في منهاجها الوزاري بإنجاز التعداد العام للسكان والمساكن في عام 2020 ولكن تم تأجيله بسبب جائحة كورونا. 

وفي عام 2021 رصدت الحكومة مرة أخرى المبالغ المالية لتنفيذ التعداد السكاني ضمن النفقات الحاكمة في الموازنة العامة للدولة، إلّا أنه لم يُنفذ لعدم وجود اتفاق سياسي على الحكومة وتحولها الى حكومة تصريف اعمال. 

أخيراً اعلنت الحكومة في منتصف تموز عام 2023 أن مجلس الوزراء وافق على متطلبات تنفيذ التعداد العام للسكان والمساكن بموجب التوصيات المقترحة من هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية التابعة لوزارة التخطيط التي أعلنت بأن يوم 20 تشرين الثاني 2024 موعد إجراء التعداد لعام 2024 في عموم العراق بما فيه محافظات إقليم كردستان. 

حظر التجوال في البصرة لغرض إجراء التعداد السكاني – المصدر وزارة الداخلية. 

مواطن الخلاف 

طالما تركزت الخلافات السياسية حول التعداد السكاني في ثلاث قضايا: تحديد حجم المكونات والأقليات الدينية في العراق، تحديد عدد المقاعد في مجلس النواب، وتحديد التخصيصات المالية للمحافظات. 

ولكلٍ من هذه الموضوعات تداعيات وآثار استراتيجية، فحجم المكونات العراقية له آثار كبيرة على حصص المكونات الدينية والقومية (الشيعة والسنة والكرد والتركمان والأقليات الدينية) وعلى الأُطر التي أُنشئ بموجبها نظام تقاسم السلطة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. ويؤثرُ عدد مقاعد مجلس النواب على وزن كلِّ محافظة في التمثيل النيابي المناطقي، قد يلعب دوراً في موازين “الأغلبية” وتمرير القوانين ذات الطابع المناطقي والديني.  

في حين توزع التخصيصات المالية لكل محافظة على ضوء النسب السكانية وخط الفقر، وطالما كان الخلاف دائراً بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول حصة الإقليم من الموازنة العامة للدولة والتي كانت تبلغ 17 بالمئة منذ عام 2004 لغاية عام 2017. 

وبعد إعلان حكومة إقليم كردستان بيع النفط بشكل مستقل عن الحكومة الاتحادية، وبالأخص بعد إجراء استفتاء الانفصال في عام 2017، حدث توتر كبير بين حكومتي الإقليم والمركز، مما أدى إلى تدخل الحكومة الاتحادية والسيطرة على محافظة كركوك والتي كانت تسيطر عليها قوات البيشمركة التابعة لحكومة الإقليم، ونتيجة لهذه المتغيرات انخفضت حصة إقليم كردستان من الموازنة إلى 12.6 بالمئة عام 2018. 

اقرأ أيضاً

على أبواب التعداد السكاني.. هل تتجاوز كركوك تاريخ “التعريب” و”التكريد”؟

أما الموضوعات الأخرى فهي تتعلق في وضع الخطط والسيناريوهات المناسبة كحاجة السكن والطاقة والرعاية الصحية والاجتماعية وسوق العمل والهجرة والبنى التحتية وغيرها، ولا تثير هذه الموضوعات جدلاً في العراق كما تفعل الموضوعات الثلاثة الأولى. 

أسئلة جدلية 

طالما شكّلت أسئلة القومية والديانة والمذهب جدلية في التعداد، وكانت محل خلاف سياسي يعطّل التعداد السكاني في العراق. 

كان سؤالا القومية والمذهب، أكثر الأسئلة حساسية؛ نظراً لطبيعة التركيبة القومية (عرب، كرد، تركمان) والمذهبية (الشيعة، السنة)، هذا الجدل انتهى إلى حذف أسئلة القومية والمذهب مما يعني تأجيل حلّ بعض الخلافات المتعلقة بهذه الموضوعات الحساسة، علماً أن المعايير القياسية لإجراء التعدادات دولياً لا تتضمن أسئلة حول العرقيات. 

بمقابل ذلك تضمنت استمارة التعداد سؤالاً عن الديانة (مسلم، مسيحي، صابئي، إيزيدي، ديانة اخرى) الأمر الذي سيبيّن حجم الأقليات الدينية من التركيبة السكانية في العراق. 

احتوت استمارة التعداد (6) محاور تشمل البيانات التعريفية ومعلومات عامة وخصائص أفراد الأسرة والصعوبات المرضية والتعليم والعمل والسكن ومصادر المياه والكهرباء والصرف الصحي والتخلص من النفايات، وملكية الأسرة للسلع المعمّرة. 

تعني كلُّ هذه الأسئلة أن هذا التعداد يركز على القضايا التنموية والاقتصادية بشكل أكبر من تلك السياسة، وهذا ما أعلنته الحكومة أكثر من مرة، وإن كانت هناك نتائج سياسية غير الفائدة التسويقية/ الانتخابية للحكومة ورئيسها، فستتمثل في حصص المحافظات من المقاعد النيابية في مجلس النواب وتخصيصات الموازنة السنوية. 

انتشار القوات الأمنية في المناطق السكنية لتنفيذ حظر التجوال لغرض إنهاء التعداد السكاني – المصدر وزارة الداخلية. 

نتائج التعداد السكاني 

بعد خمسة أيام من انطلاق أعمال التعداد السكاني، والذي أجري في ضوء فرض حظر شامل للتجوال في عموم العراق ليومي 20-21 تشرين الثاني 2024 أعلنت الحكومة العراقية عن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان، وعدّته إنجازاً كبيراً وخطوة مهمة في التخطيط للتنمية. 

بلغ العدد الكلي للسكان وفق النتائج الاولية 45,407,895 بضمنهم الأجانب واللاجئون علماً أن التعداد لم يشمل عراقيي الخارج، المثير للاهتمام هو اقتراب هذا الرقم من أعداد السكان التي أعلنتها وزارة التخطيط على وفق التقديرات الإحصائية التي تجريها والتي بلغت 44,414,800؛ ولو قاربنا هذا الرقم بعد استبعاد الأجانب واللاجئين سيكون الرقمان قريبين، ولا تختلف النتائج الأولية المعلنة للتعداد عن معظم المؤشرات العامة التي سبق وأن أعلنتها وزارة التخطيط وفقاً لتقديراتها الإحصائية المبنية على التنبؤ الإحصائي.  

أبرز المخرجات السياسية لهذا التعداد لو تم اعتمادها ستكون زيادة عدد مقاعد مجلس النواب العراقي من (329) مقعداً الى (454) كون الدستور العراقي النافذ حدد عدد المقاعد في مجلس النواب بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق، هذا إذا ما أوجدت المحكمة الاتحادية العليا تفسيراً آخر لمفهوم المئة الف نسمة وجعلته من نفوس العراقيين الذين يحق لهم الانتخاب، وسيتغير عدد المقاعد لكل محافظة وفقاً للنتائج التفصيلية لأعداد السكان في كل محافظة، وكذلك ستتغير حصة اقليم كردستان من الموازنة الى حوالي 14 بالمئة كون إقليم كردستان أعلن أن عدد السكان فيه وفق النتائج الأولية للتعداد يبلغ 6،370,000 نسمة، وكذلك ستتغير حصص المحافظات من الموازنة. 

ليس المهم في التعداد تنفيذه أو توظيف نتائجه في إعداد الخطط التنموية والسياسات العامة، وإنما المهم هو استثماره في تحسين حياة الناس، إذ سبق وأن اصدرت الحكومة العراقية بعد عام 2003 العديد من الخطط التنموية والاستراتيجية في مختلف القطاعات تجاوز عددها 35 استراتيجية على المستوى الوطني لكنها لم تحقق أهدافها التنموية. 

إن وجود الإرادة السياسية التي ستدعم نتائج التعداد وتحوله إلى واقع عملي تنفيذي ينعكس بشكل مباشر على حياة الناس بمختلف هوياتهم، وهو ما يمثل الترجمة الحقيقية للتعداد، ولا يمكن ذلك إلّا من خلال مكافحة الفساد في مختلف قطاعات الدولة وتقليل البيروقراطية وتعزيز سيادة القانون والعدالة في توزيع الموارد على المواطنين لتقليل الفجوة الطبقية بين الناس، والتي نتجت من الممارسات والسياسات الخاطئة في إدارة الموارد، وتوفير حياة كريمة لعامة المواطنين. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

منذ حوالي أربعة عقود، لم يجرِ العراق تعداداً شاملاً لسكانه، وعلى الرغم من المحاولات العديدة بعد عام 2003، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من تنفيذ أيّ مسحٍ إحصائي شامل للسكان، فخضعت العديدُ من التقسيمات المتعلقة بالسياسة والاقتصاد لتقديرات وبيانات قديمة وغير مُحدثة. 

يُعاني العراق من مشكلة كبيرة في توفُّر ودقة وتنظيم البيانات وتوظيفها، حيث وضعت العديد من الخطط والسياسات بناءً على التقديرات الإحصائية غير الدقيقة والتصورات الشخصية المُعرّضة لخطر التحيُّز، فتزداد أهمية إجراء التعداد السكاني ليكون فرصة كبيرة لتوفير معلومات مهمة للاقتصاد والسياسة والاجتماع. 

تلعب السياسة دوراً بارزاً في معظم القضايا الاقتصادية والاجتماعية في العراق، وتتشابك التعقيدات مع وجود محافظات وإقليم ومكونات وأقليات دينية وقوميات متعددة ومناطق متنازع عليها -بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية-، ليأتي التعداد السكاني عنصرَ حسمٍ لما يترتب عليه من نتائج حساسة تلقي بظلالٍ على مفاصل عديدة مثل المقاعد النيابية وتخصيصات الحصص المالية للمحافظات والمناطق المتنازع عليها وحقوق الأقليات الدينية. 

فضلاً عن ذلك، تنتج عن التعداد السكاني مؤشرات إحصائية مهمة؛ توفر لصناع القرار والفاعلين القدرة على وضع التصورات والرؤى الموضوعية، فضلاً عن وضع القياسات الدقيقة للخطط التنموية المستقبلية، ويوفر التعداد قاعدة بيانات تلعب دوراً مهما في توقع المشاكل والأزمات التي قد تحدث ووضع السيناريوهات التي تحد منها. 

لكل هذه الأسباب وغيرها، دعت القيادات الدينية في البلد إلى المشاركة الفاعلة في التعداد، إذ أكد ممثل مرجع الشيعة الأعلى علي السيستاني، على أهمية المشاركة بالتعداد مذكّراً بدعوة المرجع الديني في 22 آب 2009 إلى اجراء التعداد السكاني وفق الضوابط القانونية، ودعا ديوانُ الوقف السني إلى المشاركة في التعداد السكاني باعتباره “واجباً وطنياً”. 

الخلفية التاريخية 

يعد العراق من الدول الرائدة في التعداد السكاني، حيث أجراه  9 مرات: نفذ أول تعداد في عام 1920 تحت إشراف الاحتلال البريطاني آنذاك، وكان مُركّزاً على أعداد السكان وتقسيمهم حسب الولايات والأديان والطوائف. 

أُجري ثاني تعداد عام 1927 ولكنّ نتائجَه لم تُعتَمَد، بسبب كثرة الأخطاء وغياب الدقّة في جمع البيانات، فأُجري عوضاً عنه تعداد 1934 وهو تعداد حضوريٌ من خلال استدعاء السكان عبر مختاري المحلات للتصريح بالبيانات، وكان يركز على الإحصاءات العامة. 

وفي عام 1947 أُجري التعداد الرابع للسكان، لكنّه لم يكن احصاءً كاملاً بسبب تخوّف الناس من التجنيد الإلزامي، وبعدها بعقد كامل، في عام 1957 أجري التعداد الخامس والذي شكّل قفزة نوعية في إجراء التعداد؛ كونه اعتمد الأساليب الإحصائية الحديثة. 

أما التعداد السادس فقد أُجري عام 1965 في ظلّ عمليات عسكرية في شمالي العراق، وأُجري في عام 1977 التعداد السابع والذي يُعد الأكثرَ دقة؛ كونه اعتمد على معايير الأمم المتحدة في الإحصاء السكاني. 

اقرأ أيضاً

“ما عدِنا معلومات”.. حوار عن أهمية التعداد السُّكاني للدولة والأفراد 

وأجري في عام 1987 ثامن تعداد في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ونفذ التعداد التاسع والأخير في عام 1997 لكنّه لم يشمل محافظات شمال العراق (أربيل، السليمانية، دهوك) التي كانت تشهد حرباً أهلية بين الحزبين الكرديين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، وتتمتع بحكم ذاتي نتيجة تشكُّل إقليم كردستان وعدم سيطرة الحكومة المركزية. 

الأساس القانوني  

 حدّد الدستور العراقي النافذ لعام 2005 في المادة (110) منه الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية وضمنها الفقرة (تاسعاً) التي تنص على الإحصاء والتعداد العام للسكان. 

وحسمت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها المرقم (73/اتحادية/2010) الجدل حول ما أشار إليه الدستور في المادة (140) بخصوص مهمة السلطة التنفيذية في استكمال إجراء تنفيذ متطلبات المادة (58/4/ج) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والتي تتعلق بتسوية الأراضي المتنازع عليها ومن ضمنها كركوك وإن كلمة الإحصاء الواردة فيها ليس لها علاقة بالتعداد السكاني الذي سيجري في كل أنحاء العراق وليس بديلاً عنه لاختلاف الآثار والهدف. 

وشرع البرلمان العراقي عام 2008 قانون التعداد العام للسكان والمساكن رقم (40) لسنة 2008 بهدف تنظيم عملية إجراء التعداد العام للسكان وتضمن القانون الإطار العام لعملية جمع البيانات في العراق عبر تشكيل الهيئة العليا للتعداد العام للسكان والمساكن. 

وكذلك صوت البرلمان مؤخراً على قانون هيئة الإحصاء ونُظُم المعلومات الجغرافية رقم (32) لسنة 2023 والذي تضمن أحكاماً قانونيةً تتعلق بالتعداد العام للسكان والمساكن وألْزمَ القانونُ مجلسَ الوزراء العراقي بإجراء التعداد مرة كلَّ (10) سنوات مع إمكانية إجراء التعداد بالعينة، باقتراح من الهيئة العليا للتعداد العام للسكان والمساكن. 

وتضمن قانون هيئة الإحصاء الجديد، التي حلّت محلّ الجهاز المركزي للإحصاء، الاطارَ العام للنظام الإحصائي الوطني في العراق وتهيئة أعمال التعداد العام للسكان والأنشطة الإحصائية بما فيها من إحصاءات رسمية ومسوح إحصائية عن مختلف القطاعات. 

ملصقات التوعية بإجراء التعداد السكاني – المصدر: وزارة الداخلية. 

محاولات ما بعد 2003  

جرت عدة محاولات بعد عام 2003 لتنفيذ التعداد السكاني الشامل في العراق، إلّا أنها واجهت تحديات سياسية كبيرة منعت تنفيذه. ففي عام 2009 أجرى الجهاز المركزي للإحصاء، التابع لوزارة التخطيط، عملية حصر السكان والمساكن في عموم العراق، نتجت عنها قاعدةُ بيانات مهمة غدت أساساً لكلّ التقديرات التي أجراها الجهاز المركزي للإحصاء حول الخصائص الأساسية للسكان. 

وألزم قانون الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2009 في المادة (20) منه، الحكومة الاتحادية بإجراء التعداد السكاني في جميع انحاء العراق في مدة لا تتجاوز 12 كانون الأول 2009، وكذلك اشترط قانون الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2010 في المادة (18) منه، مرة أُخرى على الحكومة الاتحادية إجراء التعداد السكاني في جميع انحاء العراق في مدة لا تتجاوز 31 كانون الأول 2010 واشترط إعادة النظر في حصة إقليم كردستان في الموازنة العامة للدولة، في ضوء نتائج التعداد السكاني وأن يكون التعداد أساساً لتحديد المبلغ الحقيقي لحصة الاقليم، إلّا أنه تم تأجيل التعداد بسبب الخلافات السياسية ووجود سؤال عن القومية، الذي رفض الكرد حذفه واعتبروا هذا القرار يهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي بالمدن المسماة بـالمناطق المتنازع عليها، وأهمها مدينة كركوك النفطية وأقضية في محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين. 

المثير للاستغراب هو تصويت وزير التخطيط عام 2010 في مجلس الوزراء على تأجيل التعداد حينها رغم الاستعداد الكامل الذي أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء بصفته الجهة المنفذة للتعداد. 

عام 2019 وضعت الحكومة ضمن النفقات الحاكمة في الموازنة العامة للدولة المبالغ المالية لتنفيذ التعداد لكنّ الأمرَ لم يتم؛ بسبب احتجاجات تشرين والاضطرابات السياسية التي رافقتها، وعلى الرغم من تعهد الحكومة في منهاجها الوزاري بإنجاز التعداد العام للسكان والمساكن في عام 2020 ولكن تم تأجيله بسبب جائحة كورونا. 

وفي عام 2021 رصدت الحكومة مرة أخرى المبالغ المالية لتنفيذ التعداد السكاني ضمن النفقات الحاكمة في الموازنة العامة للدولة، إلّا أنه لم يُنفذ لعدم وجود اتفاق سياسي على الحكومة وتحولها الى حكومة تصريف اعمال. 

أخيراً اعلنت الحكومة في منتصف تموز عام 2023 أن مجلس الوزراء وافق على متطلبات تنفيذ التعداد العام للسكان والمساكن بموجب التوصيات المقترحة من هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية التابعة لوزارة التخطيط التي أعلنت بأن يوم 20 تشرين الثاني 2024 موعد إجراء التعداد لعام 2024 في عموم العراق بما فيه محافظات إقليم كردستان. 

حظر التجوال في البصرة لغرض إجراء التعداد السكاني – المصدر وزارة الداخلية. 

مواطن الخلاف 

طالما تركزت الخلافات السياسية حول التعداد السكاني في ثلاث قضايا: تحديد حجم المكونات والأقليات الدينية في العراق، تحديد عدد المقاعد في مجلس النواب، وتحديد التخصيصات المالية للمحافظات. 

ولكلٍ من هذه الموضوعات تداعيات وآثار استراتيجية، فحجم المكونات العراقية له آثار كبيرة على حصص المكونات الدينية والقومية (الشيعة والسنة والكرد والتركمان والأقليات الدينية) وعلى الأُطر التي أُنشئ بموجبها نظام تقاسم السلطة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. ويؤثرُ عدد مقاعد مجلس النواب على وزن كلِّ محافظة في التمثيل النيابي المناطقي، قد يلعب دوراً في موازين “الأغلبية” وتمرير القوانين ذات الطابع المناطقي والديني.  

في حين توزع التخصيصات المالية لكل محافظة على ضوء النسب السكانية وخط الفقر، وطالما كان الخلاف دائراً بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول حصة الإقليم من الموازنة العامة للدولة والتي كانت تبلغ 17 بالمئة منذ عام 2004 لغاية عام 2017. 

وبعد إعلان حكومة إقليم كردستان بيع النفط بشكل مستقل عن الحكومة الاتحادية، وبالأخص بعد إجراء استفتاء الانفصال في عام 2017، حدث توتر كبير بين حكومتي الإقليم والمركز، مما أدى إلى تدخل الحكومة الاتحادية والسيطرة على محافظة كركوك والتي كانت تسيطر عليها قوات البيشمركة التابعة لحكومة الإقليم، ونتيجة لهذه المتغيرات انخفضت حصة إقليم كردستان من الموازنة إلى 12.6 بالمئة عام 2018. 

اقرأ أيضاً

على أبواب التعداد السكاني.. هل تتجاوز كركوك تاريخ “التعريب” و”التكريد”؟

أما الموضوعات الأخرى فهي تتعلق في وضع الخطط والسيناريوهات المناسبة كحاجة السكن والطاقة والرعاية الصحية والاجتماعية وسوق العمل والهجرة والبنى التحتية وغيرها، ولا تثير هذه الموضوعات جدلاً في العراق كما تفعل الموضوعات الثلاثة الأولى. 

أسئلة جدلية 

طالما شكّلت أسئلة القومية والديانة والمذهب جدلية في التعداد، وكانت محل خلاف سياسي يعطّل التعداد السكاني في العراق. 

كان سؤالا القومية والمذهب، أكثر الأسئلة حساسية؛ نظراً لطبيعة التركيبة القومية (عرب، كرد، تركمان) والمذهبية (الشيعة، السنة)، هذا الجدل انتهى إلى حذف أسئلة القومية والمذهب مما يعني تأجيل حلّ بعض الخلافات المتعلقة بهذه الموضوعات الحساسة، علماً أن المعايير القياسية لإجراء التعدادات دولياً لا تتضمن أسئلة حول العرقيات. 

بمقابل ذلك تضمنت استمارة التعداد سؤالاً عن الديانة (مسلم، مسيحي، صابئي، إيزيدي، ديانة اخرى) الأمر الذي سيبيّن حجم الأقليات الدينية من التركيبة السكانية في العراق. 

احتوت استمارة التعداد (6) محاور تشمل البيانات التعريفية ومعلومات عامة وخصائص أفراد الأسرة والصعوبات المرضية والتعليم والعمل والسكن ومصادر المياه والكهرباء والصرف الصحي والتخلص من النفايات، وملكية الأسرة للسلع المعمّرة. 

تعني كلُّ هذه الأسئلة أن هذا التعداد يركز على القضايا التنموية والاقتصادية بشكل أكبر من تلك السياسة، وهذا ما أعلنته الحكومة أكثر من مرة، وإن كانت هناك نتائج سياسية غير الفائدة التسويقية/ الانتخابية للحكومة ورئيسها، فستتمثل في حصص المحافظات من المقاعد النيابية في مجلس النواب وتخصيصات الموازنة السنوية. 

انتشار القوات الأمنية في المناطق السكنية لتنفيذ حظر التجوال لغرض إنهاء التعداد السكاني – المصدر وزارة الداخلية. 

نتائج التعداد السكاني 

بعد خمسة أيام من انطلاق أعمال التعداد السكاني، والذي أجري في ضوء فرض حظر شامل للتجوال في عموم العراق ليومي 20-21 تشرين الثاني 2024 أعلنت الحكومة العراقية عن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان، وعدّته إنجازاً كبيراً وخطوة مهمة في التخطيط للتنمية. 

بلغ العدد الكلي للسكان وفق النتائج الاولية 45,407,895 بضمنهم الأجانب واللاجئون علماً أن التعداد لم يشمل عراقيي الخارج، المثير للاهتمام هو اقتراب هذا الرقم من أعداد السكان التي أعلنتها وزارة التخطيط على وفق التقديرات الإحصائية التي تجريها والتي بلغت 44,414,800؛ ولو قاربنا هذا الرقم بعد استبعاد الأجانب واللاجئين سيكون الرقمان قريبين، ولا تختلف النتائج الأولية المعلنة للتعداد عن معظم المؤشرات العامة التي سبق وأن أعلنتها وزارة التخطيط وفقاً لتقديراتها الإحصائية المبنية على التنبؤ الإحصائي.  

أبرز المخرجات السياسية لهذا التعداد لو تم اعتمادها ستكون زيادة عدد مقاعد مجلس النواب العراقي من (329) مقعداً الى (454) كون الدستور العراقي النافذ حدد عدد المقاعد في مجلس النواب بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق، هذا إذا ما أوجدت المحكمة الاتحادية العليا تفسيراً آخر لمفهوم المئة الف نسمة وجعلته من نفوس العراقيين الذين يحق لهم الانتخاب، وسيتغير عدد المقاعد لكل محافظة وفقاً للنتائج التفصيلية لأعداد السكان في كل محافظة، وكذلك ستتغير حصة اقليم كردستان من الموازنة الى حوالي 14 بالمئة كون إقليم كردستان أعلن أن عدد السكان فيه وفق النتائج الأولية للتعداد يبلغ 6،370,000 نسمة، وكذلك ستتغير حصص المحافظات من الموازنة. 

ليس المهم في التعداد تنفيذه أو توظيف نتائجه في إعداد الخطط التنموية والسياسات العامة، وإنما المهم هو استثماره في تحسين حياة الناس، إذ سبق وأن اصدرت الحكومة العراقية بعد عام 2003 العديد من الخطط التنموية والاستراتيجية في مختلف القطاعات تجاوز عددها 35 استراتيجية على المستوى الوطني لكنها لم تحقق أهدافها التنموية. 

إن وجود الإرادة السياسية التي ستدعم نتائج التعداد وتحوله إلى واقع عملي تنفيذي ينعكس بشكل مباشر على حياة الناس بمختلف هوياتهم، وهو ما يمثل الترجمة الحقيقية للتعداد، ولا يمكن ذلك إلّا من خلال مكافحة الفساد في مختلف قطاعات الدولة وتقليل البيروقراطية وتعزيز سيادة القانون والعدالة في توزيع الموارد على المواطنين لتقليل الفجوة الطبقية بين الناس، والتي نتجت من الممارسات والسياسات الخاطئة في إدارة الموارد، وتوفير حياة كريمة لعامة المواطنين.