هرهاموش مرماموش: نفوس حائرة تبحث وسط الطلاسم والرموز
19 تشرين الثاني 2024
دخل داود إلى مطبخ رجل في زاخو على أمل العلاج، وخرج مليئاً بالحروق، ومع ذلك لم تنتهِ معاناته.. عن السحر والطلاسم والسحّارة والباحثين عن معجزات لقضاء حاجاتهم...
كان داود علي (49 عاماً) جالساً في عيادة طبيب نفسي بمحافظة دهوك، متوتراً ينتظر بفارغ الصبر موعده لإطلاع الطبيب على معاناته، أملاً بعلاج حالته النفسیة التي تلازمه منذ أكثر من 25 سنة.
نوبات اضطرابات ترافق داود بين حين وآخر، على الرغم من محاولاته للتهرُّب منها بشتى الوسائل من دون جدوی. بقي ينتظر الإصابة بالجنون أو الموت في أي لحظة. ظن أنه واقع تحت تأثير السحر بعدما عثر على تميمة بين مقتنياته الشخصية كُتب اسمه عليها مع بعض الرموز والأشكال و لطلاسم غير المفهومة. من العبارات المكتوبة في التميمة “هرهاموش مرماموش ملك الجبال اجعل حامل هذه الورقة كالصبي بين أطفاله وأن تصبح نساء العالم سواداً في نظره.. قفل.. قفل.. قفل”.
ويشعر داود حالياً بعدم القدرة على التخلص من الهواجس والتفكير الزائد، كما أن القلق والمخاوف تلاحقه بلا هوادة. “أنا في حرب مع نفسي” يقول لجمار.
اضطر مرات عدة إلى ترك مكتب الصرافة الذي يملكه في إحدى أسواق دهوك، مفتوحاً في ذروة أوقات العمل والهرب من الأفكار والهواجس والمخاوف التي تلاحقه بشدة، ليجد نفسه في مكان منعزل من دون إرادة منه.
ذهب خلال سنوات ماضية إلى معالجين روحانيين ورجال دين داخل العراق وخارجه، وتواصل مع آخرين عبر الإنترنت ودفع لهم أموالاً على أمل أن يحظى بعلاج، لكن مساعيه باءت بالفشل. أخبروه بأنه مطوق بـ”السحر الأسود”، وقالوا له إن “عقدة هذا النوع من السحر لا تُحل بسهولة”. أنفق أكثر من عشرة آلاف دولار في رحلة البحث عن العلاج ولم يحصل على شيء.
“شيش كباب“
بعض من زارهم داود من أجل العلاج ينعتون أنفسهم بصفات دينية، ومارسوا أساليب عدة لـ”معالجته”، حتى وصل الأمر إلى كيّ مناطق في جسمه بـ”شيش كباب”.
واقعة “شيش الكباب” حدثت عندما ذهب إلى معالج روحي سوري الجنسية جاء إلى مدينة زاخو شمالي محافظة دهوك قبل نحو ثلاث سنوات.
كان المعالج يبدو في الأربعين من عمره، ويصفه داود بأنه “مهيب في شكله، قامته طويلة ووجهه أسمر بعينين كبيرتين وبطيء الكلام”. وبعدما شرح له معاناته، أخبره أنه يستطيع معالجته من خلال طرد الجن الساكن في جسمه عبر الكيّ بالنار. أدخله إلى مطبخ منزله البسيط، ووضع أربعة أسياخ على الطباخ حتى وصلت لدرجة الاحمرار، ومن ثم كوى جسمه بها تسع مرات في مناطق الكتفين ووسط الظهر وأسفله وعلى الفخذين والركبتين. بالتزامن مع هذه العملية كان يقرأ آيات قرآنية ويردد تعاويذ وكلمات أخرى غير مفهومة.
يقول داود إنه كان مجبراً على تحمل آلام الحروق الشديدة على أمل العودة لحياته الطبيعية. بقي جسده يعاني من آثار الحروق والتهاباتها أكثر من شهرين، لكن معاناته النفسية لم تنته.
ماء وثلاث شمعات
عاشت نسرين حسن (32 عاماً) في شك مفرط بكل من حولها، كانت تشك بزوجها وأقربائها وجيرانها وتشعر بأن جميع من تعرفهم يتحدثون عنها بسوء. تسمع أصواتاً أينما ذهبت، وتغضب غضباً شديداً لأبسط الأمور، وعلاقاتها سيئة مع الجميع. ظنت أنها بحاجة إلى علاج لا يقدمه الأطباء النفسيون.
سافرت من السليمانية (حيث تسكن) إلى كركوك برفقة شقيقتها، واستقبلهما هناك في منزل متواضع رجل في العقد الرابع من عمره، رفیع القامة طويل الوجه كبير الأنف والعينين يرتدي الزي الكردي وعمامة سوداء.
شاهدت امرأتين جالستين في المنزل تدعوانه بـ”الشيخ”. حدثته عن تفاصيل حالتها، فقال لها إنه سيعالج مشكلتها بـ”عقد لسان” كل من يكرهها، إضافة إلى جعل زوجها خاضعاً لها.
دخلت هي وشقيقتها و”الشيخ” إلى غرفة مجاورة جدرانها مزينة بآيات قرآنية وتفوح منها رائحة البخور. وفي زاوية من زوايا الغرفة شاهدت مكتبة صغيرة على رفوفها كتب ودفاتر وقوارير أعشاب. أحضر “الشيخ” إناء فيه ماء وأشعل ثلاث شمعات حمراء وزرقاء وبيضاء، وقام بتلاوة آيات من القرآن وتعويذات وكلمات أخرى غير مفهومة.
“صوته المهيب والقوي أشعرني بالخوف والرهبة” تقول نسرين لجمار. طلب منها أسماء الأشخاص الذين تشك بأنهم يكرهونها وأسماء أمهاتهم، ثم أعطاها الماء الذي تلا عليه القرآن والتعاويذ ووجّهها بأن تخلط شيئاً قليلاً منه مع الشاي أو المشروبات الأخرى وتقدمها للمستهدفين. وأعطاها أيضاً ورقتين طويلتين كتب فيهما رموز وأسماء غير مفهومة مثل “مازر، كمطم، قسورة، طيكل”، وطلب منها وضع خصلات صغيرة من شعر النسوة اللواتي تشك بكراهيتهن لها في الورقة الأولى وتغلّفها بمادة لاصقة قوية وتدفنها في مقبرة. كما أبلغها بوضع الورقة الثانية بعد تغليفها في وسادة زوجها أو بين ملابسه.
دفعت 150 ألف دينار مقابل هذه الأعمال، وكررت هذه الجلسات مرتين أخريين لكنها لم تشعر بفرق. في نهاية المطاف، قررت مراجعة طبيب نفسي. “تجاوزت معاناتي بعد أشهر من تلقي العلاج على يد الطبيب، وبمساعدة زوجي وعائلتي” تقول.
خدمة توصيل
يتقاضى “الشيخ خليفة” 600 دولار على الأقل مقابل إنجازه “سحراً” يحل مشاكل الأزواج أو “يعقد اللسان” أو “يُخضع الأشخاص” أو “يجلب الحبيب”. ويقول لجمار إنه ينفذ أعماله “السحرية” عن طريق “تسخير الجن” في جلسات تقام للزبونات والزبائن. ويشير إلى أن هناك “أعمالاً كبيرة” تصل أجورها إلى ألف دولار أو أكثر، ولم يوضح طبيعة هذه الأعمال، لكنه لفت إلى أنها قد تستغرق أياماً وجلسات عدة.
ولـ”الشيخ خليفة” منزل ورقم هاتف وصفحة تواصل اجتماعي لاستقبال الزبونات والزبائن. وإذا تعذر على الزبونة أو الزبون القدوم إلى منزل “الشيخ”، تُنجز الأعمال غيابياً، وتُرسل التمائم عبر بريد خاص، وتُدفع الأموال عن طريق البطاقات الإلكترونية.
ويستفيد -بشكل عرضي- من هذا العمل أصحاب محال بيع الأعشاب الطبية. يقول محمد كمال، صاحب محل أعشاب في دهوك، إن زبونات وزبائن عديدين يأتون حاملين ورقة مكتوب فيها اسم عشب معين طلبه “الشيخ” أو “الحكيم”. ويوضح أن أكثر الأعشاب المطلوبة هي السدر والحرمل ولبان الذكر والقرنفل والزعفران وورق الغار وإكليل الجبل (الروز ماري) والبيبون. ويلفت إلى أن هذه الأعشاب معروفة بأنها تسهم في إراحة وتهدئة الجسد والنفس. ويؤكد كمال أنه ليس على تواصل مع هؤلاء “الشيوخ”، وإنما يبيع بضاعته لمن تطلبها أو يطلبها.
وعلى الرغم من الإجراءات والقرارات الحكومية، ما زالت أعمال “السحر” تُمارس بكثرة في إقلیم كردستان.
ويقول هزار محمد مصطفى السندي، وهو متخصص في العلوم الإسلامية ومطلع على أعمال “السحرة”، إن بعضهم يروج للخدمات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وإيصال التمائم بطريقة “الدليفري”. وبحسب السندي، أغلب زبائن “المشعوذين” من النساء ممن يعانين مشاكل نفسية وعاطفية وعائلية، والباحثات عن الزواج أو الراغبات بإخضاع الآخرين لسلطتهن. كما يتعامل معه رجال يبحثون عن تحقيق الثراء أو اكتشاف سارقي أموالهم أو غايات أخرى. ويشير السندي إلى أن الجهات المعنية “غير جادة” في محاربة هذه الظاهرة “الخطيرة على المجتمع”. يقول كارزان صالح، المتحدث باسم شرطة أربيل، إن هذه الأعمال ممنوعة في قانون العقوبات العراقي.
كانت امرأة قد دفعت مبلغ 150 ألف دولار لأحد “السحرة” في أربيل مقابل جذب “فارس الأحلام” لها. لاحقاً، قدمت المرأة شكوى ضد “الساحر” بعدما فشل في تحقيق مرادها ورفض إعادة أموالها إليها. “اعتقل المشعوذ بناءً على الشكوى وأحيل إلى القضاء” يقول صالح لجمار. ويضيف أن الشرطة تتلقى باستمرار شكاوى تتعلق بقضايا السحر والشعوذة والاحتیال الذي يُمارس عبرهما.
مطلع العام الحالي، أصدرت وزارة الأوقاف في كردستان تعليمات مشددة لمناهضة السحر والشعوذة وانتحال الألقاب المزيفة واستغلال الكتب الدينية لتحقيق مكاسب مادية. وتعلن الأجهزة الأمنية في كردستان وعموم العراق بين مدة وأخرى القبض على متهمين بممارسة الشعوذة استناداً إلى المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 النافذ، لكن كثيرين منهم ما زالوا طلقاء يمارسون أعمالهم.
الرأي الطبي
يعرّف الطبيب النفسي سالم الحكيم، الحالات التي يعاني منها داود ونسرين وغيرهما، بأنها صدمات ناشئة عن الخوف المبكر وممارسة أساليب ترهيبية في تربية الأطفال. كما ترتبط الصدمات بالظروف القاسية الناتجة عن الحروب وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وينبه الحكيم إلى أن قلة الجرأة في مواجهة المخاوف والهواجس تؤدي إلى تفاقم القلق والهلع لدى المريضات والمرضى، وبمرور الزمن تظهر سلوكيات غريبة، وآلام جسدية، وأمراض عقلية وعصبية.
ويلفت إلى أن “بعض المشعوذين يستغلون المصابات والمصابين باضطرابات نفسية ويبلغونهم بأن أرواحاً شريرة تسكن نفوسهم، ويزعمون أنهم يستطيعون إخراجها بالتمائم والسحر”. ويستقبل الحكيم في عيادته حالات عديدة مرتبطة بالضغوط والصدمات النفسية، مثل اضطراب الهلع، والاضطراب التحويلي، والهيستيريا، والانفصام العقلي، واضطرابات الوسواس القهري والوهامي والاكتئابي. وبعض أسباب تلك الحالات وراثية وبايولوجية.
وينوه الطبيب إلى أن غياب ثقافة العلاج النفسي وقلة اللجوء للأطباء النفسيين يساهم في تفاقم المشكلات النفسية، ولعل ذلك ما أخّر تماثل داود ونسرين للشفاء على الرغم من إنفاقهما أموالاً في بيوت “السحرة” والمعالجين الروحيين.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
كان داود علي (49 عاماً) جالساً في عيادة طبيب نفسي بمحافظة دهوك، متوتراً ينتظر بفارغ الصبر موعده لإطلاع الطبيب على معاناته، أملاً بعلاج حالته النفسیة التي تلازمه منذ أكثر من 25 سنة.
نوبات اضطرابات ترافق داود بين حين وآخر، على الرغم من محاولاته للتهرُّب منها بشتى الوسائل من دون جدوی. بقي ينتظر الإصابة بالجنون أو الموت في أي لحظة. ظن أنه واقع تحت تأثير السحر بعدما عثر على تميمة بين مقتنياته الشخصية كُتب اسمه عليها مع بعض الرموز والأشكال و لطلاسم غير المفهومة. من العبارات المكتوبة في التميمة “هرهاموش مرماموش ملك الجبال اجعل حامل هذه الورقة كالصبي بين أطفاله وأن تصبح نساء العالم سواداً في نظره.. قفل.. قفل.. قفل”.
ويشعر داود حالياً بعدم القدرة على التخلص من الهواجس والتفكير الزائد، كما أن القلق والمخاوف تلاحقه بلا هوادة. “أنا في حرب مع نفسي” يقول لجمار.
اضطر مرات عدة إلى ترك مكتب الصرافة الذي يملكه في إحدى أسواق دهوك، مفتوحاً في ذروة أوقات العمل والهرب من الأفكار والهواجس والمخاوف التي تلاحقه بشدة، ليجد نفسه في مكان منعزل من دون إرادة منه.
ذهب خلال سنوات ماضية إلى معالجين روحانيين ورجال دين داخل العراق وخارجه، وتواصل مع آخرين عبر الإنترنت ودفع لهم أموالاً على أمل أن يحظى بعلاج، لكن مساعيه باءت بالفشل. أخبروه بأنه مطوق بـ”السحر الأسود”، وقالوا له إن “عقدة هذا النوع من السحر لا تُحل بسهولة”. أنفق أكثر من عشرة آلاف دولار في رحلة البحث عن العلاج ولم يحصل على شيء.
“شيش كباب“
بعض من زارهم داود من أجل العلاج ينعتون أنفسهم بصفات دينية، ومارسوا أساليب عدة لـ”معالجته”، حتى وصل الأمر إلى كيّ مناطق في جسمه بـ”شيش كباب”.
واقعة “شيش الكباب” حدثت عندما ذهب إلى معالج روحي سوري الجنسية جاء إلى مدينة زاخو شمالي محافظة دهوك قبل نحو ثلاث سنوات.
كان المعالج يبدو في الأربعين من عمره، ويصفه داود بأنه “مهيب في شكله، قامته طويلة ووجهه أسمر بعينين كبيرتين وبطيء الكلام”. وبعدما شرح له معاناته، أخبره أنه يستطيع معالجته من خلال طرد الجن الساكن في جسمه عبر الكيّ بالنار. أدخله إلى مطبخ منزله البسيط، ووضع أربعة أسياخ على الطباخ حتى وصلت لدرجة الاحمرار، ومن ثم كوى جسمه بها تسع مرات في مناطق الكتفين ووسط الظهر وأسفله وعلى الفخذين والركبتين. بالتزامن مع هذه العملية كان يقرأ آيات قرآنية ويردد تعاويذ وكلمات أخرى غير مفهومة.
يقول داود إنه كان مجبراً على تحمل آلام الحروق الشديدة على أمل العودة لحياته الطبيعية. بقي جسده يعاني من آثار الحروق والتهاباتها أكثر من شهرين، لكن معاناته النفسية لم تنته.
ماء وثلاث شمعات
عاشت نسرين حسن (32 عاماً) في شك مفرط بكل من حولها، كانت تشك بزوجها وأقربائها وجيرانها وتشعر بأن جميع من تعرفهم يتحدثون عنها بسوء. تسمع أصواتاً أينما ذهبت، وتغضب غضباً شديداً لأبسط الأمور، وعلاقاتها سيئة مع الجميع. ظنت أنها بحاجة إلى علاج لا يقدمه الأطباء النفسيون.
سافرت من السليمانية (حيث تسكن) إلى كركوك برفقة شقيقتها، واستقبلهما هناك في منزل متواضع رجل في العقد الرابع من عمره، رفیع القامة طويل الوجه كبير الأنف والعينين يرتدي الزي الكردي وعمامة سوداء.
شاهدت امرأتين جالستين في المنزل تدعوانه بـ”الشيخ”. حدثته عن تفاصيل حالتها، فقال لها إنه سيعالج مشكلتها بـ”عقد لسان” كل من يكرهها، إضافة إلى جعل زوجها خاضعاً لها.
دخلت هي وشقيقتها و”الشيخ” إلى غرفة مجاورة جدرانها مزينة بآيات قرآنية وتفوح منها رائحة البخور. وفي زاوية من زوايا الغرفة شاهدت مكتبة صغيرة على رفوفها كتب ودفاتر وقوارير أعشاب. أحضر “الشيخ” إناء فيه ماء وأشعل ثلاث شمعات حمراء وزرقاء وبيضاء، وقام بتلاوة آيات من القرآن وتعويذات وكلمات أخرى غير مفهومة.
“صوته المهيب والقوي أشعرني بالخوف والرهبة” تقول نسرين لجمار. طلب منها أسماء الأشخاص الذين تشك بأنهم يكرهونها وأسماء أمهاتهم، ثم أعطاها الماء الذي تلا عليه القرآن والتعاويذ ووجّهها بأن تخلط شيئاً قليلاً منه مع الشاي أو المشروبات الأخرى وتقدمها للمستهدفين. وأعطاها أيضاً ورقتين طويلتين كتب فيهما رموز وأسماء غير مفهومة مثل “مازر، كمطم، قسورة، طيكل”، وطلب منها وضع خصلات صغيرة من شعر النسوة اللواتي تشك بكراهيتهن لها في الورقة الأولى وتغلّفها بمادة لاصقة قوية وتدفنها في مقبرة. كما أبلغها بوضع الورقة الثانية بعد تغليفها في وسادة زوجها أو بين ملابسه.
دفعت 150 ألف دينار مقابل هذه الأعمال، وكررت هذه الجلسات مرتين أخريين لكنها لم تشعر بفرق. في نهاية المطاف، قررت مراجعة طبيب نفسي. “تجاوزت معاناتي بعد أشهر من تلقي العلاج على يد الطبيب، وبمساعدة زوجي وعائلتي” تقول.
خدمة توصيل
يتقاضى “الشيخ خليفة” 600 دولار على الأقل مقابل إنجازه “سحراً” يحل مشاكل الأزواج أو “يعقد اللسان” أو “يُخضع الأشخاص” أو “يجلب الحبيب”. ويقول لجمار إنه ينفذ أعماله “السحرية” عن طريق “تسخير الجن” في جلسات تقام للزبونات والزبائن. ويشير إلى أن هناك “أعمالاً كبيرة” تصل أجورها إلى ألف دولار أو أكثر، ولم يوضح طبيعة هذه الأعمال، لكنه لفت إلى أنها قد تستغرق أياماً وجلسات عدة.
ولـ”الشيخ خليفة” منزل ورقم هاتف وصفحة تواصل اجتماعي لاستقبال الزبونات والزبائن. وإذا تعذر على الزبونة أو الزبون القدوم إلى منزل “الشيخ”، تُنجز الأعمال غيابياً، وتُرسل التمائم عبر بريد خاص، وتُدفع الأموال عن طريق البطاقات الإلكترونية.
ويستفيد -بشكل عرضي- من هذا العمل أصحاب محال بيع الأعشاب الطبية. يقول محمد كمال، صاحب محل أعشاب في دهوك، إن زبونات وزبائن عديدين يأتون حاملين ورقة مكتوب فيها اسم عشب معين طلبه “الشيخ” أو “الحكيم”. ويوضح أن أكثر الأعشاب المطلوبة هي السدر والحرمل ولبان الذكر والقرنفل والزعفران وورق الغار وإكليل الجبل (الروز ماري) والبيبون. ويلفت إلى أن هذه الأعشاب معروفة بأنها تسهم في إراحة وتهدئة الجسد والنفس. ويؤكد كمال أنه ليس على تواصل مع هؤلاء “الشيوخ”، وإنما يبيع بضاعته لمن تطلبها أو يطلبها.
وعلى الرغم من الإجراءات والقرارات الحكومية، ما زالت أعمال “السحر” تُمارس بكثرة في إقلیم كردستان.
ويقول هزار محمد مصطفى السندي، وهو متخصص في العلوم الإسلامية ومطلع على أعمال “السحرة”، إن بعضهم يروج للخدمات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وإيصال التمائم بطريقة “الدليفري”. وبحسب السندي، أغلب زبائن “المشعوذين” من النساء ممن يعانين مشاكل نفسية وعاطفية وعائلية، والباحثات عن الزواج أو الراغبات بإخضاع الآخرين لسلطتهن. كما يتعامل معه رجال يبحثون عن تحقيق الثراء أو اكتشاف سارقي أموالهم أو غايات أخرى. ويشير السندي إلى أن الجهات المعنية “غير جادة” في محاربة هذه الظاهرة “الخطيرة على المجتمع”. يقول كارزان صالح، المتحدث باسم شرطة أربيل، إن هذه الأعمال ممنوعة في قانون العقوبات العراقي.
كانت امرأة قد دفعت مبلغ 150 ألف دولار لأحد “السحرة” في أربيل مقابل جذب “فارس الأحلام” لها. لاحقاً، قدمت المرأة شكوى ضد “الساحر” بعدما فشل في تحقيق مرادها ورفض إعادة أموالها إليها. “اعتقل المشعوذ بناءً على الشكوى وأحيل إلى القضاء” يقول صالح لجمار. ويضيف أن الشرطة تتلقى باستمرار شكاوى تتعلق بقضايا السحر والشعوذة والاحتیال الذي يُمارس عبرهما.
مطلع العام الحالي، أصدرت وزارة الأوقاف في كردستان تعليمات مشددة لمناهضة السحر والشعوذة وانتحال الألقاب المزيفة واستغلال الكتب الدينية لتحقيق مكاسب مادية. وتعلن الأجهزة الأمنية في كردستان وعموم العراق بين مدة وأخرى القبض على متهمين بممارسة الشعوذة استناداً إلى المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 النافذ، لكن كثيرين منهم ما زالوا طلقاء يمارسون أعمالهم.
الرأي الطبي
يعرّف الطبيب النفسي سالم الحكيم، الحالات التي يعاني منها داود ونسرين وغيرهما، بأنها صدمات ناشئة عن الخوف المبكر وممارسة أساليب ترهيبية في تربية الأطفال. كما ترتبط الصدمات بالظروف القاسية الناتجة عن الحروب وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وينبه الحكيم إلى أن قلة الجرأة في مواجهة المخاوف والهواجس تؤدي إلى تفاقم القلق والهلع لدى المريضات والمرضى، وبمرور الزمن تظهر سلوكيات غريبة، وآلام جسدية، وأمراض عقلية وعصبية.
ويلفت إلى أن “بعض المشعوذين يستغلون المصابات والمصابين باضطرابات نفسية ويبلغونهم بأن أرواحاً شريرة تسكن نفوسهم، ويزعمون أنهم يستطيعون إخراجها بالتمائم والسحر”. ويستقبل الحكيم في عيادته حالات عديدة مرتبطة بالضغوط والصدمات النفسية، مثل اضطراب الهلع، والاضطراب التحويلي، والهيستيريا، والانفصام العقلي، واضطرابات الوسواس القهري والوهامي والاكتئابي. وبعض أسباب تلك الحالات وراثية وبايولوجية.
وينوه الطبيب إلى أن غياب ثقافة العلاج النفسي وقلة اللجوء للأطباء النفسيين يساهم في تفاقم المشكلات النفسية، ولعل ذلك ما أخّر تماثل داود ونسرين للشفاء على الرغم من إنفاقهما أموالاً في بيوت “السحرة” والمعالجين الروحيين.