"صرنا نحك".. الحياة التي لا تُطاق في هور أم الودع وقرى ذي قار 

مرتضى الحدود

12 تشرين الثاني 2024

في واحدةٍ من أكثر المناطق العراقية تأثراً بالتغيُّرات المناخية، لا يجد الإنسان والحيوان على حد سواء، الماء الكافي لمواصلة العيش. الجفاف الذي يضرب ذي قار، وتمدُّد التصحّر، وتوسّع الكثبان الرملية، حوّل مناطق زراعية ومسطحات مائية شاسعة ومهمّة في ذي قار إلى مناطق مهجورة، لا يسكنها سوى من يواجه الموت.

في قرية آل ملال، ذي قار, لا وجود لغير سماء لاذعة شحيحة المطر، وأرض جافة تصدّعت لطول انتظار الماء. التغيُّر المناخي يبدو أكثر وضوحاً، بل هو أشد خطراً، حتّى تحوّل إلى يوميات قاتلة.  

اليأس يجعل الناس يحفرون في الأرض والجدران والجبال، وهذا ما فعله السكان في قرية آل ملال، شمال محافظة ذي قار، الذين حفروا جدولاً بعمق مترين، ليخرج الماء أو يمر، لكنّه لم يخرج، ولم يمرّ. واليأس الذي يدفع الإنسان للحفر، يدفع كذلك الحيوانات للمرور عليه بحثاً عن الارتواء، مثل تلك البقرة التي سقطت في الطين وهي تبحث عن مياه متبخرة من الجدول، أثناء ما كنا نعمل على هذا التقرير.  

تبعد القرية عن أقرب شارع رئيسي يربطها بأقرب وحدة إدارية قرابة 12 كيلومتراً، على امتداد هذه المسافة تتراءى أرض جرداء، وجدول ماء ضحل، بينما يطلق السكّان هناك صيحات إغاثة إلى الجهات الحكومية.  

في الطرف الآخر من القرية، يعيش ثامر جاسم، الرجل الخمسيني.  

يقف ثامر بنحوله ولحيته التي أطلقها عندما لم يعد الماء ينطلق في هذه القرية. “لا أحد يستطيع النجاة بلا ماء”. يحكي ثامر بمرارة عن معاناته اليومية في ظل الظروف الحالية، فقد ارتبطت حياته بالأرض والمواشي منذ ولد وكبر هنا.   

صراعات ثامر اليومية من أجل البقاء ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقطيعه من الأغنام والأبقار. كان القطيع يضم أكثر من 100 شاة وبقرة، لكنّ الجفاف تسبب له بخسائر فادحة، ولم يتبق من القطيع غير 20 نعجة هزيلة.  

اقرأ أيضاً

غزلان العراق يهدّدها الجوع: من يُنقذ “الريم” في علي الغربي؟ 

لا يبتعد ثامر كثيراً عن منزله عندما يرعى مواشيه، فأي مسافة يقطعها لا توصل إلى أرض خضراء، وحتى إذا صادف أرضاً خصبة، فهي غالباً ما تكون ملكاً لأشخاص آخرين، وليست متاحة للجميع.  

البقرة التي سقطت في الوحل في قرية ملال في ذي قار – تصوير الكاتب. 

  

مأساة هور أم الودع  

لا يسبب فقدان الماء معاناةً للحيوانات وحسب، البشر تضرروا بقسوة هناك، والحديث اليومي بين سكان القرية يدور حول توفير مياه الشرب والاستحمام، كما يقول ثامر، “هذا الماي يترك أملاح على الايد والجسم ويخلينه نحك ونروح مسافة بعيدة حتى نجيب الماي”.  

ليس الماء وحده مشكلةً في قرى ذي قار، التي كانت زراعية، العلف يرسم مأساة أخرى.  

أُجبر ثامر على شراء الأعلاف بأسعار مرتفعة، كالنخالة والشعير العلفي، كل كيلوغرام من العلف يشكل عبئاً إضافياً، فسعر الطن الواحد من النخالة يصل إلى 300 ألف دينار، في حين وصل سعر الشعير العلفي إلى 700 ألف دينار.  

هذه الأسعار تزيد الوضع السيئ سوءاً آخر.  

الجفاف الذي يضرب القرى، يضرب الأهوار كذلك، أجمل المسطحات المائية في العالم، كانت كذلك، التصحر بدأ منذ خمسة مواسم بالزحف نحو الأراضي الرطبة حتى حوّل 80 بالمئة من الأهوار إلى مساحات قاحلة، يضيع بها العمر والأحلام.  

أم حيدر، في منتصف خمسيناتها، تشكو بيأس من الظروف المناخية التي حولت حياتها وبيئتها إلى كابوس دائم، فهنا في أقصى جنوب الناصرية، حيث أحد أجمل الأهوار العراقية، هور أم الودع، أصبحت الحياة لا تُطاق، كأنها بلدة مهجورة بلا حياة. 

تجلس أم حيدر في باحة منزلها، لكن أفكارها تركض لإيجاد طريقة في العيش، والاستمرار به، بعد أن أصبح توفير الحصير مكلفاً، وهي الحرفة التي تتقنها، وتعيش من خلالها.  

ترتدي العباءة العربية، وتغطي جانباً من وجهها، وتشكو الضرر الذي لحق بها وصديقاتها من النساء اللاتي يعتمدن على نسج الحصير، وسيلةً لكسب الرزق، العمل في السابق سهل وغير مكلف، فالحصير يُعمل من القصب، والقصب وفير في تلك الأماكن، لكنّ الأمر لم يعد كما كان.  

أصبح هذا النبات نادراً في هور أم الودع، مما اضطر أم حيدر وصديقاتها إلى جلبه من أماكن بعيدة، وهذا التغيير فرض عليهن زيادة في تكاليف النقل، حتى أن نصف قيمة الحصيرة تذهب أجوراً للنقل، وهذا خفّض دخلهنَّ المنخفض بالأساس، فالحصير الذي كان يُباع بسعر زهيد، أصبح اليوم يباع بسعر يعادل 8 آلاف دينار، وهو مبلغ بسيط لا يُغطي تكاليف الحياة. 

أم حيدر لا تقتصر مشاكلها على الحصير فقط، بل تتجاوزها إلى مجالات أخرى، كانت تعيش منها في السابق، فهي صانعة لواحدة من أشهر أنواع الألبان في العراق، قيمر العرب، وكذلك كانت تبيع حليب الجاموس، عندما كانت تمتلك 20 رأس جاموس، لكنّ ذلك “العيش المريح” لم يعد كذلك. 

أدت موجات الجفاف العنيفة إلى خسارة أم حيدر 15 من جواميسها، وحتى دخلها الإضافي من صيد السمك، لم يعد يكفي ليسند حياتها.  

ام حيدر تنسج الحصير في هور أم الودع – تصوير الكاتب. 

الحاج أبو علي، أقلّ صبراً من ثامر وأم حيدر، فهو رجل ستيني، ولا يسعفه الوقت للمحاولة والمطاولة، ترك أرضه الزراعية التي تبلغ مساحتها 200 دونم، في قرية الحصونة، بقضاء سيد دخيل شرقي الناصرية منذ عام 2010، وانتقل إلى أطراف مركز المحافظة مع أولاده. كان قراره صعباً، كما يقول، فهو خسر الأرض التي كانت تنتج له عشرات الأطنان من الحنطة سنوياً، بعد أن فقدت خصوبتها وجفت مياهها ولم تعد تلك الجنة التي تؤمن له الحياة والموارد.  

يحاول الحاج أبو علي التأقلم مع الحياة الجديدة، لكنه لم يتمكن من التكيف الكامل مع الأعمال الحرة، مما دفعه إلى الاعتماد على أولاده في بيع الخضار. 

ورغم أنّه سكن المدينة، إلا أن طبائع القرية من الصعب الانسلاخ منها، بعد كل هذا العمر، وفق قوله.  

بنى أبو علي صالة استقبال كبيرة، كما هو الحال في القرية، لاستقبال الضيوف، ويقضي ساعات طويلة في صنع وتحضير القهوة العربية، مرتدياً العقال العربي، والشماغ، والثوب ناصع البياض. يستقبل الضيوف ويتجاذب معهم أطراف الحديث، عن السياسة والبلاد والجفاف، والذكريات التي صنعها في القرية.  

اقرأ أيضاً

الاسم: نهر العشار الحالة: غير مدعو

في القرية التي غادرها أبو علي، لم تتبق سوى تسع عوائل، بعد أن كانت تتشكل من 80 عائلة، لكنه مستمر بزيارة قريته التي تعرضت لواحدة من أقسى موجات النزوح القسري لسكان تلك المناطق.  

تمدد الجفاف في هور أم الودع – تصوير الكاتب. 

التقليص غير المفيد  

بحسب تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ووزارة الزراعة العراقية عام 2023، فإن الجفاف الحالي هو الأسوأ منذ 40 عاماً. والحياة البرية الغنية في المنطقة، بما في ذلك العديد من الطيور المهاجرة عرضة للخطر، كما يضطر مربو الجواميس والمزارعون إلى الهجرة في ظروف محفوفة بالمخاطر إلى المناطق الحضرية مثل البصرة والنجف وبغداد.  

حدد برنامج الأمم المتّحدة للبيئة، العراق من بين أكثر الدول عرضة للتأثّر بتغير المناخ بسبب مزيج من درجات الحرارة المرتفعة ونقص في الأمطار والجفاف وندرة المياه والعواصف الرملية والغبارية المتكررة.  

تحدث جمّار مع محمد عباس، مدير دائرة الزراعة في ذي قار، عن مستويات الجفاف وأثره على الخطط الزراعية الموسمية، فكشف لنا عن تقليص المساحات المزروعة في المحافظة إلى نسب شديدة الانخفاض، فمثلاً، الخطة الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية، الحنطة والشعير، في كل موسم كانت تقدم الدائرة مقترحاً بمساحة لا تقل عن 500 ألف دونم، أمّا الموسم الزراعي للعام 2023-2024، بلغت الخطة الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية فيه 120 ألف دونم.   

خلال ثلاث سنوات مضت، انخفضت الخطة بنسبة 24 بالمئة، بينما تعرضت 683 ألف دونم للتعرية، بفعل التغيرات المناخية، خلال مدة تراوحت بين 10 إلى 15 سنة الماضية.  

ليث دخيل، مدير هجرة ذي قار، بيّن لجمّار عدد العوائل التي نزحت جراء التغيرات المناخية من الاهوار والمناطق التي تصحرت منذ عام 2019 وحتى نهاية 2023، عندما كشف عن نزوح 10500 عائلة. 

الجفاف في قرية آل ملال – تصوير الكاتب. 

الكثبان الرملية  

قحطان الحسيني، مدير مشروع تثبيت الكثبان الرملية في ذي قار، قال في حوار مع جمّار إنّ المحافظة هي واحدة من أكثر المحافظات العراقية التي تعاني من مشاكل الكثبان الرملية، حيث إن 13 بالمئة من مساحة المحافظة هي كثبان رملية. وتتحرك هذه الرمال من شمال المحافظة حيث قضاء الفجر، وحتى قضاء النصر، ومن شمال غرب ذي قار، بمنطقة الكطيعة، وحتى حدود محافظة المثنى.  

بحسب الحسيني، بلغت المساحات التي تمت معالجتها بحسب مؤشر دائرة الغابات ومكافحة التصحر، أكثر من 799 ألف دونم، من خلال التغطية الطينية والتشجير بالنباتات المثبتة للتربة.  

دائرة الكثبان الرملية تعد واحدة من أهم الدوائر لمواجهة التغيرات المناخية، لحق بها الضرر جراء انعدام الموازنة عام 2014 و2015، ليتوقف مشروعهم عن العمل بعد محاولات للسيطرة على حركة الكثبان، وزراعة النباتات المقاومة للتصحر، واستمرت عملية تقليص الموازنة حتى 2022، لتنطلق مبادرة لمكافحة التصحر، وحتى الان بانتظار التخصيصات المالية للمباشرة بالعمل.  

الحسيني أشار إلى مشروع “تم تنفيذه في شتاء العام الماضي”، وبحسبه، فإن هذا المشروع “إذا نجح، سيكون له تأثير كبير في تثبيت الكثبان الرملية ومكافحة التصحر”. 

 يعتمد المشروع على تقنية حديثة تُعرف بصناديق المياه (Water Box)، وهي تجربة جديدة تهدف إلى الحفاظ على المياه داخل الصناديق لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر، ويمكن لكل صندوق استيعاب حوالي 20 لتراً من الماء، يشرح الحسيني المشروع. 

اقرأ أيضاً

“نهر سام” يحمل الموت لزراعة كركوك: “حوّل الفلاحين إلى أُجراء”!

مع ذلك، فإن المقياس الحقيقي لنجاح هذه التجربة سيكون خلال أشهر الصيف حتى نهاية أغسطس إذا أثبتت هذه الصناديق فعاليتها، فإنها قد تسهم في تقليص التصحر والكثبان الرملية بنسبة تصل إلى 70 بالمئة أو أكثر وتمت مخاطبة بغداد لأجل تشكيل لجنة مركزية تعمل على تقييم المشروع وحاليا بانتظار مجيء اللجنة لغرض الكشف فان نجح المشروع يمكن تعميمه على بقية الأمكنة في العراق. 

تكشف الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عن كارثة بيئية متفاقمة تعصف بمحافظة ذي قار، حيث تظهر البيانات أن المحافظة تواجه أزمة تصحر تهدد استدامة البيئة والحياة فيها.  

مناطق الكثبان الرملية في ذي قار – تصوير الكاتب. 

في تقريره لعام 2022، يبين الجهاز المركزي للإحصاء أن مساحة الأراضي الصحراوية والمتصحرة والمهددة بالتصحر، زادت بشكل مثير للقلق، بنسبة 18 بالمئة، مقارنة بالعام 2018، وقد وصلت هذه المساحة إلى رقم قياسي لم يسبق له مثيل، حيث بلغت 3,218,690 دونماً، وتعكس هذه الأرقام مدى تسارع وتيرة التصحر وتأثيرها المدمر على البيئة الزراعية. إضافة إلى ذلك، شهدت مساحة الكثبان الرملية ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 53 بالمئة.  

اقرأ أيضاً

“موتٌ بطيء”.. الأيام الشاقة للنساء في معامل طابوق النهروان 

يعزو الدكتور أحمد رزاق، مسؤول النظم الطبيعية في مديرية بيئة ذي قار، أسباب ظاهرة التصحر، وانخفاض المساحات الخضراء، إلى ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأمطار، “يؤديان إلى جفاف التربة، وقلة الإطلاقات المائية من دول المنبع، بالإضافة إلى عدم إدارة المياه بشكل صحيح في عموم البلاد، تسهم في تفاقم المشكلة واعتماد أساليب الري التقليدية التي تهدر المياه”، وكذلك يضيف على الأسباب، “عدم وجود دعم كاف للمزارعين، يدفعهم إلى عدم ترك أراضيهم”.  

رزاق يجد أيضاً، أنّ التوسع العمراني مع عدم وجود تخطيط مدني سليم يساهمان في تراجع المساحات الزراعية، فضلاً عن التجاوزات على الأراضي أيضاً. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في قرية آل ملال، ذي قار, لا وجود لغير سماء لاذعة شحيحة المطر، وأرض جافة تصدّعت لطول انتظار الماء. التغيُّر المناخي يبدو أكثر وضوحاً، بل هو أشد خطراً، حتّى تحوّل إلى يوميات قاتلة.  

اليأس يجعل الناس يحفرون في الأرض والجدران والجبال، وهذا ما فعله السكان في قرية آل ملال، شمال محافظة ذي قار، الذين حفروا جدولاً بعمق مترين، ليخرج الماء أو يمر، لكنّه لم يخرج، ولم يمرّ. واليأس الذي يدفع الإنسان للحفر، يدفع كذلك الحيوانات للمرور عليه بحثاً عن الارتواء، مثل تلك البقرة التي سقطت في الطين وهي تبحث عن مياه متبخرة من الجدول، أثناء ما كنا نعمل على هذا التقرير.  

تبعد القرية عن أقرب شارع رئيسي يربطها بأقرب وحدة إدارية قرابة 12 كيلومتراً، على امتداد هذه المسافة تتراءى أرض جرداء، وجدول ماء ضحل، بينما يطلق السكّان هناك صيحات إغاثة إلى الجهات الحكومية.  

في الطرف الآخر من القرية، يعيش ثامر جاسم، الرجل الخمسيني.  

يقف ثامر بنحوله ولحيته التي أطلقها عندما لم يعد الماء ينطلق في هذه القرية. “لا أحد يستطيع النجاة بلا ماء”. يحكي ثامر بمرارة عن معاناته اليومية في ظل الظروف الحالية، فقد ارتبطت حياته بالأرض والمواشي منذ ولد وكبر هنا.   

صراعات ثامر اليومية من أجل البقاء ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقطيعه من الأغنام والأبقار. كان القطيع يضم أكثر من 100 شاة وبقرة، لكنّ الجفاف تسبب له بخسائر فادحة، ولم يتبق من القطيع غير 20 نعجة هزيلة.  

اقرأ أيضاً

غزلان العراق يهدّدها الجوع: من يُنقذ “الريم” في علي الغربي؟ 

لا يبتعد ثامر كثيراً عن منزله عندما يرعى مواشيه، فأي مسافة يقطعها لا توصل إلى أرض خضراء، وحتى إذا صادف أرضاً خصبة، فهي غالباً ما تكون ملكاً لأشخاص آخرين، وليست متاحة للجميع.  

البقرة التي سقطت في الوحل في قرية ملال في ذي قار – تصوير الكاتب. 

  

مأساة هور أم الودع  

لا يسبب فقدان الماء معاناةً للحيوانات وحسب، البشر تضرروا بقسوة هناك، والحديث اليومي بين سكان القرية يدور حول توفير مياه الشرب والاستحمام، كما يقول ثامر، “هذا الماي يترك أملاح على الايد والجسم ويخلينه نحك ونروح مسافة بعيدة حتى نجيب الماي”.  

ليس الماء وحده مشكلةً في قرى ذي قار، التي كانت زراعية، العلف يرسم مأساة أخرى.  

أُجبر ثامر على شراء الأعلاف بأسعار مرتفعة، كالنخالة والشعير العلفي، كل كيلوغرام من العلف يشكل عبئاً إضافياً، فسعر الطن الواحد من النخالة يصل إلى 300 ألف دينار، في حين وصل سعر الشعير العلفي إلى 700 ألف دينار.  

هذه الأسعار تزيد الوضع السيئ سوءاً آخر.  

الجفاف الذي يضرب القرى، يضرب الأهوار كذلك، أجمل المسطحات المائية في العالم، كانت كذلك، التصحر بدأ منذ خمسة مواسم بالزحف نحو الأراضي الرطبة حتى حوّل 80 بالمئة من الأهوار إلى مساحات قاحلة، يضيع بها العمر والأحلام.  

أم حيدر، في منتصف خمسيناتها، تشكو بيأس من الظروف المناخية التي حولت حياتها وبيئتها إلى كابوس دائم، فهنا في أقصى جنوب الناصرية، حيث أحد أجمل الأهوار العراقية، هور أم الودع، أصبحت الحياة لا تُطاق، كأنها بلدة مهجورة بلا حياة. 

تجلس أم حيدر في باحة منزلها، لكن أفكارها تركض لإيجاد طريقة في العيش، والاستمرار به، بعد أن أصبح توفير الحصير مكلفاً، وهي الحرفة التي تتقنها، وتعيش من خلالها.  

ترتدي العباءة العربية، وتغطي جانباً من وجهها، وتشكو الضرر الذي لحق بها وصديقاتها من النساء اللاتي يعتمدن على نسج الحصير، وسيلةً لكسب الرزق، العمل في السابق سهل وغير مكلف، فالحصير يُعمل من القصب، والقصب وفير في تلك الأماكن، لكنّ الأمر لم يعد كما كان.  

أصبح هذا النبات نادراً في هور أم الودع، مما اضطر أم حيدر وصديقاتها إلى جلبه من أماكن بعيدة، وهذا التغيير فرض عليهن زيادة في تكاليف النقل، حتى أن نصف قيمة الحصيرة تذهب أجوراً للنقل، وهذا خفّض دخلهنَّ المنخفض بالأساس، فالحصير الذي كان يُباع بسعر زهيد، أصبح اليوم يباع بسعر يعادل 8 آلاف دينار، وهو مبلغ بسيط لا يُغطي تكاليف الحياة. 

أم حيدر لا تقتصر مشاكلها على الحصير فقط، بل تتجاوزها إلى مجالات أخرى، كانت تعيش منها في السابق، فهي صانعة لواحدة من أشهر أنواع الألبان في العراق، قيمر العرب، وكذلك كانت تبيع حليب الجاموس، عندما كانت تمتلك 20 رأس جاموس، لكنّ ذلك “العيش المريح” لم يعد كذلك. 

أدت موجات الجفاف العنيفة إلى خسارة أم حيدر 15 من جواميسها، وحتى دخلها الإضافي من صيد السمك، لم يعد يكفي ليسند حياتها.  

ام حيدر تنسج الحصير في هور أم الودع – تصوير الكاتب. 

الحاج أبو علي، أقلّ صبراً من ثامر وأم حيدر، فهو رجل ستيني، ولا يسعفه الوقت للمحاولة والمطاولة، ترك أرضه الزراعية التي تبلغ مساحتها 200 دونم، في قرية الحصونة، بقضاء سيد دخيل شرقي الناصرية منذ عام 2010، وانتقل إلى أطراف مركز المحافظة مع أولاده. كان قراره صعباً، كما يقول، فهو خسر الأرض التي كانت تنتج له عشرات الأطنان من الحنطة سنوياً، بعد أن فقدت خصوبتها وجفت مياهها ولم تعد تلك الجنة التي تؤمن له الحياة والموارد.  

يحاول الحاج أبو علي التأقلم مع الحياة الجديدة، لكنه لم يتمكن من التكيف الكامل مع الأعمال الحرة، مما دفعه إلى الاعتماد على أولاده في بيع الخضار. 

ورغم أنّه سكن المدينة، إلا أن طبائع القرية من الصعب الانسلاخ منها، بعد كل هذا العمر، وفق قوله.  

بنى أبو علي صالة استقبال كبيرة، كما هو الحال في القرية، لاستقبال الضيوف، ويقضي ساعات طويلة في صنع وتحضير القهوة العربية، مرتدياً العقال العربي، والشماغ، والثوب ناصع البياض. يستقبل الضيوف ويتجاذب معهم أطراف الحديث، عن السياسة والبلاد والجفاف، والذكريات التي صنعها في القرية.  

اقرأ أيضاً

الاسم: نهر العشار الحالة: غير مدعو

في القرية التي غادرها أبو علي، لم تتبق سوى تسع عوائل، بعد أن كانت تتشكل من 80 عائلة، لكنه مستمر بزيارة قريته التي تعرضت لواحدة من أقسى موجات النزوح القسري لسكان تلك المناطق.  

تمدد الجفاف في هور أم الودع – تصوير الكاتب. 

التقليص غير المفيد  

بحسب تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ووزارة الزراعة العراقية عام 2023، فإن الجفاف الحالي هو الأسوأ منذ 40 عاماً. والحياة البرية الغنية في المنطقة، بما في ذلك العديد من الطيور المهاجرة عرضة للخطر، كما يضطر مربو الجواميس والمزارعون إلى الهجرة في ظروف محفوفة بالمخاطر إلى المناطق الحضرية مثل البصرة والنجف وبغداد.  

حدد برنامج الأمم المتّحدة للبيئة، العراق من بين أكثر الدول عرضة للتأثّر بتغير المناخ بسبب مزيج من درجات الحرارة المرتفعة ونقص في الأمطار والجفاف وندرة المياه والعواصف الرملية والغبارية المتكررة.  

تحدث جمّار مع محمد عباس، مدير دائرة الزراعة في ذي قار، عن مستويات الجفاف وأثره على الخطط الزراعية الموسمية، فكشف لنا عن تقليص المساحات المزروعة في المحافظة إلى نسب شديدة الانخفاض، فمثلاً، الخطة الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية، الحنطة والشعير، في كل موسم كانت تقدم الدائرة مقترحاً بمساحة لا تقل عن 500 ألف دونم، أمّا الموسم الزراعي للعام 2023-2024، بلغت الخطة الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية فيه 120 ألف دونم.   

خلال ثلاث سنوات مضت، انخفضت الخطة بنسبة 24 بالمئة، بينما تعرضت 683 ألف دونم للتعرية، بفعل التغيرات المناخية، خلال مدة تراوحت بين 10 إلى 15 سنة الماضية.  

ليث دخيل، مدير هجرة ذي قار، بيّن لجمّار عدد العوائل التي نزحت جراء التغيرات المناخية من الاهوار والمناطق التي تصحرت منذ عام 2019 وحتى نهاية 2023، عندما كشف عن نزوح 10500 عائلة. 

الجفاف في قرية آل ملال – تصوير الكاتب. 

الكثبان الرملية  

قحطان الحسيني، مدير مشروع تثبيت الكثبان الرملية في ذي قار، قال في حوار مع جمّار إنّ المحافظة هي واحدة من أكثر المحافظات العراقية التي تعاني من مشاكل الكثبان الرملية، حيث إن 13 بالمئة من مساحة المحافظة هي كثبان رملية. وتتحرك هذه الرمال من شمال المحافظة حيث قضاء الفجر، وحتى قضاء النصر، ومن شمال غرب ذي قار، بمنطقة الكطيعة، وحتى حدود محافظة المثنى.  

بحسب الحسيني، بلغت المساحات التي تمت معالجتها بحسب مؤشر دائرة الغابات ومكافحة التصحر، أكثر من 799 ألف دونم، من خلال التغطية الطينية والتشجير بالنباتات المثبتة للتربة.  

دائرة الكثبان الرملية تعد واحدة من أهم الدوائر لمواجهة التغيرات المناخية، لحق بها الضرر جراء انعدام الموازنة عام 2014 و2015، ليتوقف مشروعهم عن العمل بعد محاولات للسيطرة على حركة الكثبان، وزراعة النباتات المقاومة للتصحر، واستمرت عملية تقليص الموازنة حتى 2022، لتنطلق مبادرة لمكافحة التصحر، وحتى الان بانتظار التخصيصات المالية للمباشرة بالعمل.  

الحسيني أشار إلى مشروع “تم تنفيذه في شتاء العام الماضي”، وبحسبه، فإن هذا المشروع “إذا نجح، سيكون له تأثير كبير في تثبيت الكثبان الرملية ومكافحة التصحر”. 

 يعتمد المشروع على تقنية حديثة تُعرف بصناديق المياه (Water Box)، وهي تجربة جديدة تهدف إلى الحفاظ على المياه داخل الصناديق لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر، ويمكن لكل صندوق استيعاب حوالي 20 لتراً من الماء، يشرح الحسيني المشروع. 

اقرأ أيضاً

“نهر سام” يحمل الموت لزراعة كركوك: “حوّل الفلاحين إلى أُجراء”!

مع ذلك، فإن المقياس الحقيقي لنجاح هذه التجربة سيكون خلال أشهر الصيف حتى نهاية أغسطس إذا أثبتت هذه الصناديق فعاليتها، فإنها قد تسهم في تقليص التصحر والكثبان الرملية بنسبة تصل إلى 70 بالمئة أو أكثر وتمت مخاطبة بغداد لأجل تشكيل لجنة مركزية تعمل على تقييم المشروع وحاليا بانتظار مجيء اللجنة لغرض الكشف فان نجح المشروع يمكن تعميمه على بقية الأمكنة في العراق. 

تكشف الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء عن كارثة بيئية متفاقمة تعصف بمحافظة ذي قار، حيث تظهر البيانات أن المحافظة تواجه أزمة تصحر تهدد استدامة البيئة والحياة فيها.  

مناطق الكثبان الرملية في ذي قار – تصوير الكاتب. 

في تقريره لعام 2022، يبين الجهاز المركزي للإحصاء أن مساحة الأراضي الصحراوية والمتصحرة والمهددة بالتصحر، زادت بشكل مثير للقلق، بنسبة 18 بالمئة، مقارنة بالعام 2018، وقد وصلت هذه المساحة إلى رقم قياسي لم يسبق له مثيل، حيث بلغت 3,218,690 دونماً، وتعكس هذه الأرقام مدى تسارع وتيرة التصحر وتأثيرها المدمر على البيئة الزراعية. إضافة إلى ذلك، شهدت مساحة الكثبان الرملية ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 53 بالمئة.  

اقرأ أيضاً

“موتٌ بطيء”.. الأيام الشاقة للنساء في معامل طابوق النهروان 

يعزو الدكتور أحمد رزاق، مسؤول النظم الطبيعية في مديرية بيئة ذي قار، أسباب ظاهرة التصحر، وانخفاض المساحات الخضراء، إلى ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات الأمطار، “يؤديان إلى جفاف التربة، وقلة الإطلاقات المائية من دول المنبع، بالإضافة إلى عدم إدارة المياه بشكل صحيح في عموم البلاد، تسهم في تفاقم المشكلة واعتماد أساليب الري التقليدية التي تهدر المياه”، وكذلك يضيف على الأسباب، “عدم وجود دعم كاف للمزارعين، يدفعهم إلى عدم ترك أراضيهم”.  

رزاق يجد أيضاً، أنّ التوسع العمراني مع عدم وجود تخطيط مدني سليم يساهمان في تراجع المساحات الزراعية، فضلاً عن التجاوزات على الأراضي أيضاً.