"البلديات" و"المعسكر": كيف تُبنى حياة اجتماعية من سوء الخدمات؟
05 تشرين الثاني 2024
يُمكن للمرء أن يخوض امتحاناً أخلاقياً وإنسانياً في شوارع البلديات والمعسكر شرق بغداد، فهنا وضع الناس أمام اختبارات صعبة للعيش تتعلق بإلغاء الفواصل والآراء المسبقة.. كيف إذاً تُبنى حياة اجتماعية من سوء الخدمات؟
من بيوت مزدحمة، من مدن أو أرياف أو قرى خالية من أبجديات العيش، من الفقر والفراغ وقسوة الأيام، من السكن في الإيجار، من أجل صنع “حياة في مكان آخر”، فر مئات الآلاف من العراقيين بعد 2003 ومن مختلف الأمكنة للسكن في ما باتت تعرف بالعشوائيات، والتي هي مساحات شاسعة بين المدن أو مؤسسات استوطنها الناس، فرار يمكن اعتباره إحدى أكبر موجات النزوح الداخلي اللانهائية في البلاد.
لم تسأل الدولة عن تلك المؤسسات والأراضي، ولم تجد حلولاً للحد من الهجرة وعدم تكافؤ الفرص في مقومات العيش بين المدن والقرى والأرياف، كما أنها لم تُقدِم على خطوات واضحة لإنهاء أزمة السكن في البلد على الرغم من مرور عقدين، ذلك ما جعل العشوائيات قائمة حتى الآن.
تُرك مئات الآلاف من العراقيين في مواجهة حياة غير منظمة ومصير مفخخ بالأزمات، وصارت رحلة الانتقال من حياة العشوائية إلى حياة “الطابو” شبه مستحيلة، خصوصاً في بغداد، التي تعد واحدة من أغلى مدن العالم من ناحية العقارات.
كيف يعيش سكان العشوائيات؟ هل ثمة تمييز يقع ضدهم؟ كيف يعيشون في المدن الجديدة ومع سكانها؟ ماذا يحبون؟ ماذا يأكلون؟ ما هي تفاصيل حياتهم الشخصية؟ كيف تقبل السكان جيرانهم الجدد المختلفين ثقافياً؟ كيف تجاورت قيم وأفكار كل هؤلاء معاً في مكان واحد؟ هل لنا أن نطرح أسئلة من القبيل هذا؟
ثلاثة أسماء لعشوائية واحدة
كان المكان معسكراً تابعاً لوزارة الدفاع وفيه قاعدة دفاع جوي، لكن بعد انتهاء حرب الكويت عام 1991 تحول جزء منه إلى “شركة تاج المعارك”.
للموقع شاسع المساحة ثلاثة أبواب، من الشمال يتجاور بابان واحد للشركة والآخر للمخلفات الحربية التي يمتد السكراب فيها إلى نهاية الأفق، والباب الثالث من الجهة الجنوبية حيث قاعدة مقاومة الطائرات.
لم يعرف السكان ما كان يدور داخل تلك المنطقة المحرمة، لا أحد يقترب من الجدار الفاصل بين السكان والمعسكر، يذكر بعض من عاشوا تلك الفترة أن عديداً من كراتهم التي كانت تركل إلى هناك لن تعود، مهما كان نوع الكرة، كأن الجدار القائم حتى اليوم هو جدار الصمت، لا تسأل أيها الصبي عن مصير ما تجاوز الجدار، وبالنسبة للكبار ليس ثمة قدرة على إلقاء التحية على حرس المعسكر حتى.
في نيسان 2003 وأثناء عمليات اقتحام المؤسسات، هبَّ الناس انتقاماً من النظام على المعسكر، الذي خرجت منه آلاف المعدات والآليات والعجلات بمختلف أنواعها، إضافة لأطنان من المواد الإنشائية كالمغاسل وأنابيب المياه ومواد حُرم العراقي من مشاهدتها حتى بالصدفة بسبب الحصار، إضافة لمعمل كبير من الخشب وغيرها من عجائب المعسكر التي بقيت حديث الناس تلك الفترة، لكن في جهة القاعدة العسكرية لم يجد الناس سوى الملاجئ العسكرية التي أصبحت في ما بعد منازل للسكان.
تعريف تطبيق خرائط غوغل لمنطقة المعسكر، “معسكر البلديات، حفر وطسات“
بحسب الشهود، استغرقت عملية إفراغ المعسكر من محتواه أشهراً، ثم بدأت عملية تفكيك الجملونات “المخازن”، بينما امتدت عملية بيع السكراب والمخلفات الحربية والحديد لسنوات، قبل أن تتحول هذه المؤسسة الضخمة إلى مساحة خالية، بنيت فوقها البيوت في ما بعد.
احتفظ المكان باسمه “المعسكر” عند الإشارة، لكن سرعان ما تراجعت التسمية قبالة تسمية “الحواسم” التي أطلقت بشكل عام على كل العشوائيات، ذلك لارتباط عملية السكن تلك بالمعركة المفترضة مع الأمريكان والتي سميت آنذاك بالحواسم، لكن حتى تلك التسمية لم تصمد طويلاً، وبمرور الزمن ذاب المعسكر وتغيّرت ملامحه واتخذ اسماً يناسب السردية السياسية الجديدة، اسم شبه رسمي غير معتمد بالوثائق، حيث قُسم إلى حيين: حي الزهراء وحي الحسين.
يقع المعسكر شرقي بغداد بين منطقتي البلديات والحبيبية وتصل حدوده إلى منطقة الشماعية، وتشتبك مع أراض زراعية وأخرى فارغة، قسم منها تابع لوزارة المالية شغلت من قبل الناس كأكبر عشوائية في بغداد، حيث بدأت عملية الاستيطان تلك نهاية نيسان 2003.
عند التجول في المكان الآن، يبدو المشهد غير مألوف لمن لم تتمرن عينه على العشوائية، ففي ولاية البلوك والجص تلك سيجد صخب الأطفال وهم يمرحون في درابين متعرجة وغير منتظمة، لا شوارع أو أرصفة للسير، عشرات الشبان يمرحون في التكتك بملابس رياضية فضفاضة وأغان صاخبة ووشوم غربية، دراجات نارية أسرع مما ينبغي، شعر طويل وعلامات عدم اكتراث تجاه كل شيء، حوادث مليئة بالشتائم، صخب وضجر ومقاطع تيك توك، ساحات للعب كرة القدم ومقاه للأركيلة، وشوارع طينية وبيوت تصطف بشكل غير محدد، لا رصيف ولا إسفلت ولا أعمدة إنارة، ولا أي مؤسسة رسمية خدمية داخل تلك الرقعة من العاصمة، على الرغم من تبرع السكان في بعض الرقع من أجل مد أنابيب مياه وصرف صحي وتبليط في أفضل الأحوال، حيث تقدر القيمة الكلية ثم تقسم على عدد البيوت المستفيدة.
هذه هي الصورة الانطباعية التي يمكن أن يشكلها زائر غريب عن شبان منطقة المعسكر وهيئة مدينتهم، سيجدهم يمضون من دون واجهة مثل حياتهم.
وهذه المنطقة مترامية الأطراف، لا حدود لها إلا عند بداية المناطق الطابو وكل ما عدا ذلك قابل للسكن، ملجأ كان أو أرضاً فحسب، وهذا ما جعل إهمالها لا حدود له أيضاً، لأن تنظيمها شبه مستحيل.
خلال السير في عجلة التكتك التي تمتاز بها غالبية مناطق شرق القناة لنحو أكثر من ساعة، ستكتشف أن هذه ليست الجولة المثالية التي تحكي قصة الناس هناك، ينبغي النزول والتحدث إليهم، وكلما ذهبت عمقاً في وسط البيوت والشوارع غير المنظمة ستجد حكاية هنا، وأخرى هناك، حكاية حب وحكاية انتقام وجريمة هنا وحفل زفاف هناك، لكن لنبقى في أطراف تلك المدن، لمعرفة الاختلاف الثقافي بين السكان الجدد وسكان المنطقة المقابلة لهم، ولمعرفة كيف ستكون صورة شاب انتقل من الكوت، أو مدينة الصدر، أو قرى في ميسان أو البصرة إلى بغداد/ البلديات تحديداً.
البلديات التي كانت واحدة من أكثر مناطق بغداد هدوءاً وتنظيماً، البلديات بشوارعها الواسعة، فكيف سينظر الجيران الجدد لبعضهم وسط هذا الاختلاف؟ كيف عاش أبناء المعسكر مع أبناء البلديات في المدارس وقاعات البلياردو والمقاهي؟ هل ثمة تمييز؟ هل ثمة فروق؟ كيف يفكر سكان المعسكر إزاء المدينة المجاورة؟ كيف تعيش المدن هكذا تحد من دون مقدمات؟
ابن المعسكر VS ابن البلديات
لم تكن لدى يونس رغبة في مواصلة الدراسة، ذلك لشعوره أنه عبءٌ على متوسطة العظماء للبنين في منطقة البلديات، كونه من سكنة “المعسكر”، دائماً ما يتعامل الطلاب مع يونس على أنه جسد غريب، فهو ليس من السكان الأصليين، ليس بيته سوى عشوائية تعتاش على جسد المدينة الأصلية “الطابو”.
يقول يونس “كنا في المدرسة قسمين، نحن أبناء المعسكر، وهم أبناء البلديات، هذا التمييز رافق السنوات الأولى لنزوحنا من الكوت إلى بغداد”.
ويعتقد أن الظروف الاقتصادية والسياسية هي التي جعلت والده يتخذ في العام 2004 قرار الهجرة إلى العشوائيات التي بدأت تتشكل في 2003.
لم تكن لديهم الأموال الكافية لشراء عقار أصولي في بغداد، وكذلك انعدمت فرص العمل في الكوت وتراجعت الزراعة، فيما أحاط الفقر بالعوائل منذ حصار التسعينيات.
كل تلك الظروف كانت حاسمة في انتقال عائلة يونس إلى بغداد.
“اتصل والدي بأحد معارفه في بغداد، وقررا معاً أن ننتقل إليها تاركين بيتنا والأصدقاء والمعارف والمدرسة، ذهب والدي مرتين، هيأ سكناً عشوائياً خلال أيام، ثم انتقلنا بسرعة”.
عانى يونس خلال سنواته من عدم انسجام، كان يعتقد دوماً أن وجودهم مهدد، ففي أي لحظة قد تأتي الدولة وتستعيد معسكرها وتعود العائلة إلى الكوت. لقد مر على هذا التفكير نحو عقدين، لم ينسجم يونس مع المدينة الجديدة ولم تصادر الدولة منزله، ولم توفر كذلك الظروف الملائمة للعيش.
“بالحقيقة كنت أشعر من الداخل بأننا غير منتمين للمكان، التقاليد، طريقة الكلام والملبس، بناية المدرسة، كل شيء في البلديات لا يشبه أي شيء سبق أن رأيته في الكوت، عيون الناس دائما تنادي خلفي أنت لست منا، أنت من الكوت، أنت لا تشبهنا”.
السنوات الأولى للانتقال كانت الأصعب في حياة يونس، كانت الفروق بين أولاد المعسكر وأولاد البلديات واضحة، لكن مع مرور الزمن بدأت تلك الفروق تذوب، الآن لا يمكن أن تفرق بين صبي من المعسكر وآخر من البلديات، صار لدى الجميع تقريباً مزاج متقارب بالملبس وطريقة الكلام، فبحسب يونس “قبل 2009 ولحد 2010 كنا نميز بين ابن المعسكر وابن البلديات، لأن الأمر مختلف، لا تجد فروقاً واضحة كما في السابق، ربما نحن اندمجنا بالمدينة، وربما ثقافتنا سيطرت على المدينة”.
أهالي البلديات: تقاليد جديدة وسوء خدمات
يسكن أبو ضياء البلديات منذ نحو 40 عاماً، ويرى أن المدينة أصبحت خربة وغير قابلة للعيش، يعتقد أن سوء الخدمات ليس بسبب سوء إدارة البلد، بل بسبب العشوائيات.
يقول أبو ضياء لـ”جمّار” إن “هناك عدداً محدداً من المدارس والمراكز الصحية في البلديات، وهو عدد يتناسب مع نسبة السكان، لكن لو أضفنا مئات الآلاف من البيوت العشوائية، بالتأكيد سوف تتراجع الخدمات. المدرسة بدلاً من أن يدرس فيها 300 طالب/ة صارت ملزمة باستيعاب أكثر من 800 طالب/ة، نتيجة لذلك تتراجع بالضرورة خدمات التعليم، وهكذا الأمر مع باقي الخدمات”.
ويرى أبو ضياء أن الحل يكمن في إيجاد سكن مناسب لهذه العوائل، وليس عقد صلح اجتماعي بين سكان المدينة وسكان العشوائيات، فالاختلاف الثقافي والاجتماعي طبيعي وفقاً لرأيه.
“كلنا نعرف الظروف القاسية التي دفعت الناس لاستيطان هذه العشوائيات. الحل ليس بقبولهم في مدننا، الحل في إيجاد بدائل حقيقية، مشاريع سكن بأسعار مناسبة، ملف السكن في العراق مهمل، وعمليات البناء بالعشوائيات وبهذا الشكل تشوه بغداد بالكامل”.
ويعتقد أبو ضياء أن مدينة البلديات كانت واضحة المعالم حتى بطريقة العيش، والآن وبعد 20 عاماً على تحوّل المعسكر إلى منطقة سكنية اختفت تلك الملامح.
ويضيف أبو ضياء “لا أحد يفكر بمدى صلاحية هذا المكان للسكن من ناحية البيئة، ربما المخلفات الحربية فيها مواد قد تؤثر على صحة الناس، لكن غالباً هذا الأمر غير مهم”.
مع ذلك يظن الرجل الذي قارب عمره 60 عاماً أن وجود سكان المعسكر كان أكبر امتحان ثقافي وإنساني، وأن ما حصل وقتها من مشكلات وتم تجاوزها قد أفاده لاحقا في حياته.
“مرة كنت أعتزم الذهاب إلى العمل صباحاً، فوجدت شابين يحفران الإسفلت مقابل منزلي، سألتهم: عمو ليش تحفرون بالتبليط؟ فأجابوا: عمو نريد نمد بوري ما عندنا مي، وهنا لم أعرف ماذا أفعل، فمن حقي الدفاع عن الشارع، ولكن في المقابل هناك عائلة عطشانة. هذا امتحان أخلاقي وإنساني”.
عودة الابن قسراً
صلاح وعائلته من سكنة مدينة البلديات، اضطرت العائلة منتصف التسعينيات للانتقال إلى مدينة الصدر واستئجار منزل فيها بسبب رغبة أحد أعمامه بالزواج، ولم يكن في منزل البلديات متسع للعريس الجديد، فأجبرت العائلة على تحمل مشقة الإيجار لقرابة عقد من الزمن من دون عمل ثابت ومريح للأب الذي اتخذ قرار العودة إلى البلديات في 2005، لكن هذه المرة في منطقة المعسكر.
عاد صلاح الطفل ثانية إلى مدينته الأم، لكنها لم تستقبله كما ينبغي، فهو هذه المرة من أبناء التجاوز أو الحواسم كما يشار لهم شعبياً، لم يتأقلم صلاح مع وضعه الجديد.
“فقط في فترة المدرسة كنت أبقى في المنطقة. في العطل الصيفية وعطل الجمع أذهب إلى مدينة الصدر. لم أشعر بوجودي في البلديات” يقول صلاح لـ”جمّار”.
كانت عائلة صلاح تعاني من فقر وعوز شديد، حتى أن الحال وصل بهم إلى الاعتماد على الخشب وما توفر من الطماطم من أجل صنع عشائهم الذهبي “طماطة شوي”، كما أنه تعرض للعديد من المواقف المحرجة بسبب ظرفهم المالي المتردي، فحين يحرجه الأصدقاء من أجل عشاء في منزله، كان يستدين من أجل شراء الصمون.
العامل الاقتصادي هو من جعل عائلة صلاح تلجأ للسكن في العشوائيات، فالإيجار “مهلك” كما يعبّر.
“كان أبي يشعر بالخجل كلما جاء صاحب المنزل من أجل الإيجار. تخلصنا من كابوس الإيجار بالسكن في المعسكر. مهما يقول الناس عنا، لكن المعسكر هو مدينة للفقراء ممن لم تلتفت لهم الجهات المتخصصة، وغير مهم بالنسبة للسكان فيما إذا كانت المنازل فوق مخلفات حربية أو فوق صخور، المهم منزل”.
وعلى الرغم من ذلك، كان صلاح يشعر بأن أقرانه من صبيان منطقة البلديات لديهم حياة ومستقبل أفضل، لديهم سكن مستقر وقدرة شرائية أعلى منه.
“في الأعياد يمكن بسهولة المجيء للمتنزه، تنظر من بعيد، ومن خلال الملابس يمكن أن تميز ابن البلديات عن ابن المعسكر”.
في تصور صلاح، هذه الفروق بالحياة هي السبب الأساس -بحسب قوله- التي جعلت من أبناء المعسكر عرضة للموت.
“العامل الاقتصادي هو الذي جعل دخول أبناء المعسكر في التشكيلات المسلحة والسياسية الجديدة أعلى بكثير من أبناء المدينة المجاورة والمستقرة، عدم وجود ضمانات مستقبلية تجعل من الراتب الذي يمكن أن يوفره الانتماء للجهات السياسية حلما لشباب المدن الفقيرة” يقول صلاح.
مدير من المعسكر
باستياء شديد تقبل طلاب البلديات مديرهم الجديد، أستاذ محمد.
يقول حسن الذي كان طالباً في تلك الفترة “كان الوضع مربكاً، لا أخفي أن لدينا نظرة معينة تجاه سكان المعسكر لا تخلو من الطبقية والشعور بالتفوق، فشكل تنصيب مدير للمدرسة من المعسكر صدمة نفسية لنا”.
بحسب حسن، لم تكن هيئة المدير الجديد تشبه النماذج التي اعتاد عليها، لم يكن مثل بقية المديرين ممن اعتاد عليهم، دخل حسن ومن معه في حيرة.
“في النهاية كنت في الداخل أتعامل معه كواحد من أبناء المعسكر، وكان واضحاً عليه أنه كان يميل بوضوح لأبناء مدينته”.
ويقر حسن بأن ثمة تمييزاً بسبب مكان السكن، كما يعترف بتنبيهات أهله عندما كان في المدرسة، بعدم مصاحبة أولاد المعسكر، لكن ذلك تلاشى بمرور الزمن.
“كانت هناك مخاوف لدى الأهل لسبب بسيط، لم نكن نعرف الجيران الجدد من سكنة المعسكر، لم تكن ثمة ثقة، وما عزز عدم الثقة في البداية هو حدوث أكثر من مشاجرة في السنوات الأولى بسبب مد أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه بشكل غير قانوني، ما جعل أهل البلديات يعترضون، بمقابل ذلك يجب أن يحصل سكان المعسكر على الكهرباء والماء، كانت وما تزال معادلة قاسية”.
من التوجّس إلى التعايش
العلاقة الملتبسة والتوجس المتبادل بين المدينتين المتجاورتين لم تستمر طويلاً، والمأساة المشتركة صنعت مشتركات لم يكن يفكر فيها سكان المدينتين.
دخلت العلاقة في أطوار متعددة، التعايش صنع علاقات وصداقات قوية بين الطرفين، انتهت بعض قصص الحب بين شبان وفتيات المدينتين بالزواج، بدأت الفروق تتلاشى خصوصاً بعد 2010، بعد الوظائف وفرص العمل والتحسن النسبي على المستوى الاقتصادي، ومما ساعد على ذلك هو مجيء أجيال جديدة لم تشعر بالفروق التي كانت واضحة.
بدأ السكان الجدد بالتأقلم مع المدينة، وفي المقابل فهم من سبقهم من سكان أن لا حل غير التعايش، فبدأت العلاقة بالدخول في مزاج جديد كلياً، مختلف عن ذلك المزاج الذي كان سائداً في السنوات الأولى، وهذا ما يؤكده “حسن بلديات” و”صلاح معسكر”. هذه ليست التسمية الشخصية لهما، لكنها تسمية شائعة للعديد من الشباب من سكنة المنطقتين.
في مدرسة المقدم الإعدادية، حيث تزاملا صلاح وحسن، كانت الفروق بدأت بالتلاشي وفقاً لهما، للعشرة تأثيرها، إضافة إلى تشارك الطرفين في سوء الخدمات والهواء الملوث وجلوسهما معاً في الصف ومقعد وسيلة النقل العامة.
يؤكد صلاح أنهم أفضل من أهالي البلديات في لعبة كرة القدم، وهذا ما يؤكده حسن، في المقابل يؤكد الاثنان أن الصداقة بينهما تجاوزت السياج الفاصل بين المعسكر والبلديات، وراحت لمناطق أرحب، ينشط الاثنان الآن في المجال ذاته تقريباً، الأول شاعر شعبي والثاني من محبي الشعر الشعبي، الثاني ناشط مدني والأول لديه نشاط مدني، وهذا ينطبق على علاقة التجاور بكل تفصيلاتها.
صنعت حياة كاملة تحت مظلة سوء الخدمات وغياب التوزيع العادل للثروات. عقدان من الالتباس والعشوائيات، سببا عديداً من المشكلات وما يزالان، بعضها تم تجاوزها وهو الجانب الاجتماعي، لكن غياب المشاريع وأزمة السكن والعشوائيات ما تزال شاخصة في مدينة غاب عنها التخطيط الحضري.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
من بيوت مزدحمة، من مدن أو أرياف أو قرى خالية من أبجديات العيش، من الفقر والفراغ وقسوة الأيام، من السكن في الإيجار، من أجل صنع “حياة في مكان آخر”، فر مئات الآلاف من العراقيين بعد 2003 ومن مختلف الأمكنة للسكن في ما باتت تعرف بالعشوائيات، والتي هي مساحات شاسعة بين المدن أو مؤسسات استوطنها الناس، فرار يمكن اعتباره إحدى أكبر موجات النزوح الداخلي اللانهائية في البلاد.
لم تسأل الدولة عن تلك المؤسسات والأراضي، ولم تجد حلولاً للحد من الهجرة وعدم تكافؤ الفرص في مقومات العيش بين المدن والقرى والأرياف، كما أنها لم تُقدِم على خطوات واضحة لإنهاء أزمة السكن في البلد على الرغم من مرور عقدين، ذلك ما جعل العشوائيات قائمة حتى الآن.
تُرك مئات الآلاف من العراقيين في مواجهة حياة غير منظمة ومصير مفخخ بالأزمات، وصارت رحلة الانتقال من حياة العشوائية إلى حياة “الطابو” شبه مستحيلة، خصوصاً في بغداد، التي تعد واحدة من أغلى مدن العالم من ناحية العقارات.
كيف يعيش سكان العشوائيات؟ هل ثمة تمييز يقع ضدهم؟ كيف يعيشون في المدن الجديدة ومع سكانها؟ ماذا يحبون؟ ماذا يأكلون؟ ما هي تفاصيل حياتهم الشخصية؟ كيف تقبل السكان جيرانهم الجدد المختلفين ثقافياً؟ كيف تجاورت قيم وأفكار كل هؤلاء معاً في مكان واحد؟ هل لنا أن نطرح أسئلة من القبيل هذا؟
ثلاثة أسماء لعشوائية واحدة
كان المكان معسكراً تابعاً لوزارة الدفاع وفيه قاعدة دفاع جوي، لكن بعد انتهاء حرب الكويت عام 1991 تحول جزء منه إلى “شركة تاج المعارك”.
للموقع شاسع المساحة ثلاثة أبواب، من الشمال يتجاور بابان واحد للشركة والآخر للمخلفات الحربية التي يمتد السكراب فيها إلى نهاية الأفق، والباب الثالث من الجهة الجنوبية حيث قاعدة مقاومة الطائرات.
لم يعرف السكان ما كان يدور داخل تلك المنطقة المحرمة، لا أحد يقترب من الجدار الفاصل بين السكان والمعسكر، يذكر بعض من عاشوا تلك الفترة أن عديداً من كراتهم التي كانت تركل إلى هناك لن تعود، مهما كان نوع الكرة، كأن الجدار القائم حتى اليوم هو جدار الصمت، لا تسأل أيها الصبي عن مصير ما تجاوز الجدار، وبالنسبة للكبار ليس ثمة قدرة على إلقاء التحية على حرس المعسكر حتى.
في نيسان 2003 وأثناء عمليات اقتحام المؤسسات، هبَّ الناس انتقاماً من النظام على المعسكر، الذي خرجت منه آلاف المعدات والآليات والعجلات بمختلف أنواعها، إضافة لأطنان من المواد الإنشائية كالمغاسل وأنابيب المياه ومواد حُرم العراقي من مشاهدتها حتى بالصدفة بسبب الحصار، إضافة لمعمل كبير من الخشب وغيرها من عجائب المعسكر التي بقيت حديث الناس تلك الفترة، لكن في جهة القاعدة العسكرية لم يجد الناس سوى الملاجئ العسكرية التي أصبحت في ما بعد منازل للسكان.
تعريف تطبيق خرائط غوغل لمنطقة المعسكر، “معسكر البلديات، حفر وطسات“
بحسب الشهود، استغرقت عملية إفراغ المعسكر من محتواه أشهراً، ثم بدأت عملية تفكيك الجملونات “المخازن”، بينما امتدت عملية بيع السكراب والمخلفات الحربية والحديد لسنوات، قبل أن تتحول هذه المؤسسة الضخمة إلى مساحة خالية، بنيت فوقها البيوت في ما بعد.
احتفظ المكان باسمه “المعسكر” عند الإشارة، لكن سرعان ما تراجعت التسمية قبالة تسمية “الحواسم” التي أطلقت بشكل عام على كل العشوائيات، ذلك لارتباط عملية السكن تلك بالمعركة المفترضة مع الأمريكان والتي سميت آنذاك بالحواسم، لكن حتى تلك التسمية لم تصمد طويلاً، وبمرور الزمن ذاب المعسكر وتغيّرت ملامحه واتخذ اسماً يناسب السردية السياسية الجديدة، اسم شبه رسمي غير معتمد بالوثائق، حيث قُسم إلى حيين: حي الزهراء وحي الحسين.
يقع المعسكر شرقي بغداد بين منطقتي البلديات والحبيبية وتصل حدوده إلى منطقة الشماعية، وتشتبك مع أراض زراعية وأخرى فارغة، قسم منها تابع لوزارة المالية شغلت من قبل الناس كأكبر عشوائية في بغداد، حيث بدأت عملية الاستيطان تلك نهاية نيسان 2003.
عند التجول في المكان الآن، يبدو المشهد غير مألوف لمن لم تتمرن عينه على العشوائية، ففي ولاية البلوك والجص تلك سيجد صخب الأطفال وهم يمرحون في درابين متعرجة وغير منتظمة، لا شوارع أو أرصفة للسير، عشرات الشبان يمرحون في التكتك بملابس رياضية فضفاضة وأغان صاخبة ووشوم غربية، دراجات نارية أسرع مما ينبغي، شعر طويل وعلامات عدم اكتراث تجاه كل شيء، حوادث مليئة بالشتائم، صخب وضجر ومقاطع تيك توك، ساحات للعب كرة القدم ومقاه للأركيلة، وشوارع طينية وبيوت تصطف بشكل غير محدد، لا رصيف ولا إسفلت ولا أعمدة إنارة، ولا أي مؤسسة رسمية خدمية داخل تلك الرقعة من العاصمة، على الرغم من تبرع السكان في بعض الرقع من أجل مد أنابيب مياه وصرف صحي وتبليط في أفضل الأحوال، حيث تقدر القيمة الكلية ثم تقسم على عدد البيوت المستفيدة.
هذه هي الصورة الانطباعية التي يمكن أن يشكلها زائر غريب عن شبان منطقة المعسكر وهيئة مدينتهم، سيجدهم يمضون من دون واجهة مثل حياتهم.
وهذه المنطقة مترامية الأطراف، لا حدود لها إلا عند بداية المناطق الطابو وكل ما عدا ذلك قابل للسكن، ملجأ كان أو أرضاً فحسب، وهذا ما جعل إهمالها لا حدود له أيضاً، لأن تنظيمها شبه مستحيل.
خلال السير في عجلة التكتك التي تمتاز بها غالبية مناطق شرق القناة لنحو أكثر من ساعة، ستكتشف أن هذه ليست الجولة المثالية التي تحكي قصة الناس هناك، ينبغي النزول والتحدث إليهم، وكلما ذهبت عمقاً في وسط البيوت والشوارع غير المنظمة ستجد حكاية هنا، وأخرى هناك، حكاية حب وحكاية انتقام وجريمة هنا وحفل زفاف هناك، لكن لنبقى في أطراف تلك المدن، لمعرفة الاختلاف الثقافي بين السكان الجدد وسكان المنطقة المقابلة لهم، ولمعرفة كيف ستكون صورة شاب انتقل من الكوت، أو مدينة الصدر، أو قرى في ميسان أو البصرة إلى بغداد/ البلديات تحديداً.
البلديات التي كانت واحدة من أكثر مناطق بغداد هدوءاً وتنظيماً، البلديات بشوارعها الواسعة، فكيف سينظر الجيران الجدد لبعضهم وسط هذا الاختلاف؟ كيف عاش أبناء المعسكر مع أبناء البلديات في المدارس وقاعات البلياردو والمقاهي؟ هل ثمة تمييز؟ هل ثمة فروق؟ كيف يفكر سكان المعسكر إزاء المدينة المجاورة؟ كيف تعيش المدن هكذا تحد من دون مقدمات؟
ابن المعسكر VS ابن البلديات
لم تكن لدى يونس رغبة في مواصلة الدراسة، ذلك لشعوره أنه عبءٌ على متوسطة العظماء للبنين في منطقة البلديات، كونه من سكنة “المعسكر”، دائماً ما يتعامل الطلاب مع يونس على أنه جسد غريب، فهو ليس من السكان الأصليين، ليس بيته سوى عشوائية تعتاش على جسد المدينة الأصلية “الطابو”.
يقول يونس “كنا في المدرسة قسمين، نحن أبناء المعسكر، وهم أبناء البلديات، هذا التمييز رافق السنوات الأولى لنزوحنا من الكوت إلى بغداد”.
ويعتقد أن الظروف الاقتصادية والسياسية هي التي جعلت والده يتخذ في العام 2004 قرار الهجرة إلى العشوائيات التي بدأت تتشكل في 2003.
لم تكن لديهم الأموال الكافية لشراء عقار أصولي في بغداد، وكذلك انعدمت فرص العمل في الكوت وتراجعت الزراعة، فيما أحاط الفقر بالعوائل منذ حصار التسعينيات.
كل تلك الظروف كانت حاسمة في انتقال عائلة يونس إلى بغداد.
“اتصل والدي بأحد معارفه في بغداد، وقررا معاً أن ننتقل إليها تاركين بيتنا والأصدقاء والمعارف والمدرسة، ذهب والدي مرتين، هيأ سكناً عشوائياً خلال أيام، ثم انتقلنا بسرعة”.
عانى يونس خلال سنواته من عدم انسجام، كان يعتقد دوماً أن وجودهم مهدد، ففي أي لحظة قد تأتي الدولة وتستعيد معسكرها وتعود العائلة إلى الكوت. لقد مر على هذا التفكير نحو عقدين، لم ينسجم يونس مع المدينة الجديدة ولم تصادر الدولة منزله، ولم توفر كذلك الظروف الملائمة للعيش.
“بالحقيقة كنت أشعر من الداخل بأننا غير منتمين للمكان، التقاليد، طريقة الكلام والملبس، بناية المدرسة، كل شيء في البلديات لا يشبه أي شيء سبق أن رأيته في الكوت، عيون الناس دائما تنادي خلفي أنت لست منا، أنت من الكوت، أنت لا تشبهنا”.
السنوات الأولى للانتقال كانت الأصعب في حياة يونس، كانت الفروق بين أولاد المعسكر وأولاد البلديات واضحة، لكن مع مرور الزمن بدأت تلك الفروق تذوب، الآن لا يمكن أن تفرق بين صبي من المعسكر وآخر من البلديات، صار لدى الجميع تقريباً مزاج متقارب بالملبس وطريقة الكلام، فبحسب يونس “قبل 2009 ولحد 2010 كنا نميز بين ابن المعسكر وابن البلديات، لأن الأمر مختلف، لا تجد فروقاً واضحة كما في السابق، ربما نحن اندمجنا بالمدينة، وربما ثقافتنا سيطرت على المدينة”.
أهالي البلديات: تقاليد جديدة وسوء خدمات
يسكن أبو ضياء البلديات منذ نحو 40 عاماً، ويرى أن المدينة أصبحت خربة وغير قابلة للعيش، يعتقد أن سوء الخدمات ليس بسبب سوء إدارة البلد، بل بسبب العشوائيات.
يقول أبو ضياء لـ”جمّار” إن “هناك عدداً محدداً من المدارس والمراكز الصحية في البلديات، وهو عدد يتناسب مع نسبة السكان، لكن لو أضفنا مئات الآلاف من البيوت العشوائية، بالتأكيد سوف تتراجع الخدمات. المدرسة بدلاً من أن يدرس فيها 300 طالب/ة صارت ملزمة باستيعاب أكثر من 800 طالب/ة، نتيجة لذلك تتراجع بالضرورة خدمات التعليم، وهكذا الأمر مع باقي الخدمات”.
ويرى أبو ضياء أن الحل يكمن في إيجاد سكن مناسب لهذه العوائل، وليس عقد صلح اجتماعي بين سكان المدينة وسكان العشوائيات، فالاختلاف الثقافي والاجتماعي طبيعي وفقاً لرأيه.
“كلنا نعرف الظروف القاسية التي دفعت الناس لاستيطان هذه العشوائيات. الحل ليس بقبولهم في مدننا، الحل في إيجاد بدائل حقيقية، مشاريع سكن بأسعار مناسبة، ملف السكن في العراق مهمل، وعمليات البناء بالعشوائيات وبهذا الشكل تشوه بغداد بالكامل”.
ويعتقد أبو ضياء أن مدينة البلديات كانت واضحة المعالم حتى بطريقة العيش، والآن وبعد 20 عاماً على تحوّل المعسكر إلى منطقة سكنية اختفت تلك الملامح.
ويضيف أبو ضياء “لا أحد يفكر بمدى صلاحية هذا المكان للسكن من ناحية البيئة، ربما المخلفات الحربية فيها مواد قد تؤثر على صحة الناس، لكن غالباً هذا الأمر غير مهم”.
مع ذلك يظن الرجل الذي قارب عمره 60 عاماً أن وجود سكان المعسكر كان أكبر امتحان ثقافي وإنساني، وأن ما حصل وقتها من مشكلات وتم تجاوزها قد أفاده لاحقا في حياته.
“مرة كنت أعتزم الذهاب إلى العمل صباحاً، فوجدت شابين يحفران الإسفلت مقابل منزلي، سألتهم: عمو ليش تحفرون بالتبليط؟ فأجابوا: عمو نريد نمد بوري ما عندنا مي، وهنا لم أعرف ماذا أفعل، فمن حقي الدفاع عن الشارع، ولكن في المقابل هناك عائلة عطشانة. هذا امتحان أخلاقي وإنساني”.
عودة الابن قسراً
صلاح وعائلته من سكنة مدينة البلديات، اضطرت العائلة منتصف التسعينيات للانتقال إلى مدينة الصدر واستئجار منزل فيها بسبب رغبة أحد أعمامه بالزواج، ولم يكن في منزل البلديات متسع للعريس الجديد، فأجبرت العائلة على تحمل مشقة الإيجار لقرابة عقد من الزمن من دون عمل ثابت ومريح للأب الذي اتخذ قرار العودة إلى البلديات في 2005، لكن هذه المرة في منطقة المعسكر.
عاد صلاح الطفل ثانية إلى مدينته الأم، لكنها لم تستقبله كما ينبغي، فهو هذه المرة من أبناء التجاوز أو الحواسم كما يشار لهم شعبياً، لم يتأقلم صلاح مع وضعه الجديد.
“فقط في فترة المدرسة كنت أبقى في المنطقة. في العطل الصيفية وعطل الجمع أذهب إلى مدينة الصدر. لم أشعر بوجودي في البلديات” يقول صلاح لـ”جمّار”.
كانت عائلة صلاح تعاني من فقر وعوز شديد، حتى أن الحال وصل بهم إلى الاعتماد على الخشب وما توفر من الطماطم من أجل صنع عشائهم الذهبي “طماطة شوي”، كما أنه تعرض للعديد من المواقف المحرجة بسبب ظرفهم المالي المتردي، فحين يحرجه الأصدقاء من أجل عشاء في منزله، كان يستدين من أجل شراء الصمون.
العامل الاقتصادي هو من جعل عائلة صلاح تلجأ للسكن في العشوائيات، فالإيجار “مهلك” كما يعبّر.
“كان أبي يشعر بالخجل كلما جاء صاحب المنزل من أجل الإيجار. تخلصنا من كابوس الإيجار بالسكن في المعسكر. مهما يقول الناس عنا، لكن المعسكر هو مدينة للفقراء ممن لم تلتفت لهم الجهات المتخصصة، وغير مهم بالنسبة للسكان فيما إذا كانت المنازل فوق مخلفات حربية أو فوق صخور، المهم منزل”.
وعلى الرغم من ذلك، كان صلاح يشعر بأن أقرانه من صبيان منطقة البلديات لديهم حياة ومستقبل أفضل، لديهم سكن مستقر وقدرة شرائية أعلى منه.
“في الأعياد يمكن بسهولة المجيء للمتنزه، تنظر من بعيد، ومن خلال الملابس يمكن أن تميز ابن البلديات عن ابن المعسكر”.
في تصور صلاح، هذه الفروق بالحياة هي السبب الأساس -بحسب قوله- التي جعلت من أبناء المعسكر عرضة للموت.
“العامل الاقتصادي هو الذي جعل دخول أبناء المعسكر في التشكيلات المسلحة والسياسية الجديدة أعلى بكثير من أبناء المدينة المجاورة والمستقرة، عدم وجود ضمانات مستقبلية تجعل من الراتب الذي يمكن أن يوفره الانتماء للجهات السياسية حلما لشباب المدن الفقيرة” يقول صلاح.
مدير من المعسكر
باستياء شديد تقبل طلاب البلديات مديرهم الجديد، أستاذ محمد.
يقول حسن الذي كان طالباً في تلك الفترة “كان الوضع مربكاً، لا أخفي أن لدينا نظرة معينة تجاه سكان المعسكر لا تخلو من الطبقية والشعور بالتفوق، فشكل تنصيب مدير للمدرسة من المعسكر صدمة نفسية لنا”.
بحسب حسن، لم تكن هيئة المدير الجديد تشبه النماذج التي اعتاد عليها، لم يكن مثل بقية المديرين ممن اعتاد عليهم، دخل حسن ومن معه في حيرة.
“في النهاية كنت في الداخل أتعامل معه كواحد من أبناء المعسكر، وكان واضحاً عليه أنه كان يميل بوضوح لأبناء مدينته”.
ويقر حسن بأن ثمة تمييزاً بسبب مكان السكن، كما يعترف بتنبيهات أهله عندما كان في المدرسة، بعدم مصاحبة أولاد المعسكر، لكن ذلك تلاشى بمرور الزمن.
“كانت هناك مخاوف لدى الأهل لسبب بسيط، لم نكن نعرف الجيران الجدد من سكنة المعسكر، لم تكن ثمة ثقة، وما عزز عدم الثقة في البداية هو حدوث أكثر من مشاجرة في السنوات الأولى بسبب مد أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه بشكل غير قانوني، ما جعل أهل البلديات يعترضون، بمقابل ذلك يجب أن يحصل سكان المعسكر على الكهرباء والماء، كانت وما تزال معادلة قاسية”.
من التوجّس إلى التعايش
العلاقة الملتبسة والتوجس المتبادل بين المدينتين المتجاورتين لم تستمر طويلاً، والمأساة المشتركة صنعت مشتركات لم يكن يفكر فيها سكان المدينتين.
دخلت العلاقة في أطوار متعددة، التعايش صنع علاقات وصداقات قوية بين الطرفين، انتهت بعض قصص الحب بين شبان وفتيات المدينتين بالزواج، بدأت الفروق تتلاشى خصوصاً بعد 2010، بعد الوظائف وفرص العمل والتحسن النسبي على المستوى الاقتصادي، ومما ساعد على ذلك هو مجيء أجيال جديدة لم تشعر بالفروق التي كانت واضحة.
بدأ السكان الجدد بالتأقلم مع المدينة، وفي المقابل فهم من سبقهم من سكان أن لا حل غير التعايش، فبدأت العلاقة بالدخول في مزاج جديد كلياً، مختلف عن ذلك المزاج الذي كان سائداً في السنوات الأولى، وهذا ما يؤكده “حسن بلديات” و”صلاح معسكر”. هذه ليست التسمية الشخصية لهما، لكنها تسمية شائعة للعديد من الشباب من سكنة المنطقتين.
في مدرسة المقدم الإعدادية، حيث تزاملا صلاح وحسن، كانت الفروق بدأت بالتلاشي وفقاً لهما، للعشرة تأثيرها، إضافة إلى تشارك الطرفين في سوء الخدمات والهواء الملوث وجلوسهما معاً في الصف ومقعد وسيلة النقل العامة.
يؤكد صلاح أنهم أفضل من أهالي البلديات في لعبة كرة القدم، وهذا ما يؤكده حسن، في المقابل يؤكد الاثنان أن الصداقة بينهما تجاوزت السياج الفاصل بين المعسكر والبلديات، وراحت لمناطق أرحب، ينشط الاثنان الآن في المجال ذاته تقريباً، الأول شاعر شعبي والثاني من محبي الشعر الشعبي، الثاني ناشط مدني والأول لديه نشاط مدني، وهذا ينطبق على علاقة التجاور بكل تفصيلاتها.
صنعت حياة كاملة تحت مظلة سوء الخدمات وغياب التوزيع العادل للثروات. عقدان من الالتباس والعشوائيات، سببا عديداً من المشكلات وما يزالان، بعضها تم تجاوزها وهو الجانب الاجتماعي، لكن غياب المشاريع وأزمة السكن والعشوائيات ما تزال شاخصة في مدينة غاب عنها التخطيط الحضري.