العلاقات العراقية السعودية: الدبلوماسيّة الحذرة
22 تشرين الأول 2024
ما هو تاريخ العلاقات بين العراق والسعودية؟ كيف كانت هذه العلاقة متداخلة، ولماذا أخذت تتعقد؟ متى ابتعدت سياسات البلدين عن بعضهما، ومتى اقتربت ولماذا وما علاقة الحرب؟ ما دور بغداد والرياض في تحسّن هذه العلاقة وتدهورها؟ وإلى أين ستفضي التفاهمات والعلاقات اليوم؟
على مرّ تاريخهما المشترك، كانت العلاقة بين العراق والسعودية مزيجاً من عناصر كالدين والاقتصاد والجغرافيا والروابط الاجتماعية والثقافية، تتفاعل كلها، بين حدَّيْ الصراع والتكامل، ودائماً ما يتعدّى استقرارها حدودهما إلى الشرق الأوسط كلّه.
مع الوجود البريطاني وتفجُّر النفط ودخوله كعامل أساس في التفاعلات السياسية، صار الاستقرار ضرورةً في المنطقة، وبالقدر الذي فرضه النفط من استقرار، فإنه جلب المنافسة التي جعلت العلاقة بين البلدين في حالِ شدٍّ وجذب، حتى نشوب الحرب العراقية الإيرانية، لتدخل المملكة بحلف قوي مع العراق وتدعمه، كي يكون جداراً عازلاً أمام التمدّد الإيراني، الذي لاحت نُُذُرُه بعد الثورة الإسلامية التي جاءت بنظام إسلامي شيعي يقوده روح الله الخميني في طهران والمجاهرة بـ”تصدير الثورة”.
عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، سرعان ما تغيّرت الحال، حين ذهب النظام السياسي الحاكم في العراق وقتها، وبعد خلافات على النفط وتصديره وأسعاره العالمية، نحو اجتياح الكويت في آب 1990، الأمر الذي وضع السعودية في خط المواجهة مرة أخرى مع العراق، لينتهي ربيع العلاقة الذي فرضته الحرب الإيرانية.
وعلى الرغم من الموقف الملتبس للمملكة من غزو العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة، إلّا أنها وجدت الإطاحة بنظام صدام حسين لحظة فاصلة تركت فراغاً في توازنات المنطقة والإقليم، لتبدأ السعي إلى ملئه، مع وجود إيران كمنافس ومصدر قلق دائم، لابدّ من التعامل معه وتحجيمه، بل ازدادت قلقاً بهيمنة الشيعة وبشكل خاص من أصدقاء إيران، على الحكم في بغداد، مما يعني أن سقوط نظام صدام حسين لم يترك فراغاً أمام إيران فحسب، بل حوّل العراق إلى مساحة تهديد إيرانية بشكل مباشر بنظر المملكة.
وعلى الرغم من هذا الإدراك، إلا أن السعودية تخبطت في التعامل معه على المستوى العراقي، وتضاءل دورها في العراق، ساحبةً معها المجموعة العربية الخاضعة للنفوذ السعودي، لتترك فراغاً سياسياً أوغلت إيران باستثماره، وحرصت من خلاله على ترسيخ دورها إلى درجة عدم ترك أيّةِ فسحة للسعودية حتى في مناطق حلفائها التقليديين في العراق، ناهيك عن استغلال الخطاب الطائفي وإلقاء اللوم على السعودية في حقبة العنف الطائفي في العراق التي استمرت حتى عام 2010 تقريباً، لتدرك المملكة متأخرة أنها كانت مخطئة في انسحابها من العراق، فحاولت العودة بكل ثقلها بالتزامن مع إنهاء احتلال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمساحة كبيرة من الأراضي العراقية، وانتهاج حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لسياسة توفيقية غير متوترة تهدف إلى الانفتاح على المحيط الجغرافي وبدء صفحة جديدة من المصالحة، لتستأنف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسمياً إبان حكومة العبادي عام 2015، ويتنامى الحوار وصولاً إلى حكومة مصطفى الكاظمي التي أخذت العلاقة مع السعودية إلى مرحلة متقدمة.
بكل الأحوال، تتميّز ديناميات العلاقات العراقية السعودية في الوقت الحاضر بوجود تفاؤل حذر في إطار من التعاون البراغماتي، عبر وجود تبادل دبلوماسي رفيع المستوى، ومجاملات سعودية للعراق حتى في مواسم الحج والعمرة، ومحاولات لبناء شراكات اقتصادية وترسيخ التعاون الأمني بين البلدين، إدراكاً من الطرفين لأهميتهما الاستراتيجية في المنطقة، ليس لمصلحتيهما الوطنيتين فقط، بل لاستقرار المنطقة، وتدفق الاستثمارات واستقرار حركة الطاقة.
سبقَت كلَ ذلك، عوامل تاريخية شكّلت نمط العلاقة بين البلدين، وأوصلتها لما هي عليه اليوم، وستكون حاضرة في أيّ تغيّر مستقبلي.
لمحة تاريخية
تتشابك العناصر الدينية والاقتصادية والقوميّة في العلاقات بين العراق والسعودية، فالعوامل العشائرية الممتدة فوق جغرافيا البلدين، كانت تطغى في أحيان كثيرة على العوامل الدينية، وكذا الحال مع العوامل الاقتصادية.
عشائرياً، هناك امتدادٌ للقبائل بين البلدين إلى درجة بالغة التشابُك، على سبيل المثال، فإن الأسرة الحاكمة آل سعود ينحدرون من قبيلة عنزة التي يقع مقر مشيختها العام في العراق في بيت فهد الهذّال، وكذا الحال مع قبائل شمّر المترامية الأطراف التي يتمركز شيوخها آل الجربة في العراق، ولا يختلف الأمر كثيراً في وسط العراق وجنوبيه.
أما بالنسبة للتجارة، فالعلاقات التجارية بين البدو وبعض الحواضر العراقية عريقة وراسخة، كانت النجف بكّل ما تمثله من ثقل ديني شيعي، نقطة تبادل تجاري بين القبائل النجدية والعراق، ولا يزال في مدينة حائل السعودية، حتى اليوم، سوق يسمى (سوق المشاهدة) والمقصود أهل النجف، وهو موجود منذ القرن السابع عشر أو قبله، على أيام حكم آل رشيد لمدينة حائل ولا تزال الأُسر النجفية حاضرة فيه بقوة.
ومؤخراً، اتّضح إدراك السعودية لنمط العلاقات دون الدولة، فأبدت رغبتها بفتح قنصلية لها في النجف، وزار السفير السعودي في العراق المدينةَ متجوّلاً في أسواقها الشعبية رفقة المسؤولين في المحافظة، الأمر الذي يشير إلى إدراك السعودية لحضورها الاجتماعي عبر العلاقات التجارية بين تجار النجف وأسرها القديمة وبين المجتمع السعودي، حيث كان تُجّارُ النجف يتمتعون برعاية خاصة في المملكة خلال القرن الماضي، إلى درجة تخصيص يوم لهم لمقابلة الملك كلّ عام في موسم الحج، وتفقده للتجار النجفيين بالاسم، وقد دوّن رئيس غرف التجارة العراقية السابق عبود الطفيلي الكثير من أمثلة هذه العلاقات ودور التجار في كتابه “لوحة الشرف للتجار الأوائل في النجف”.
كان للتفاعلات القديمة التي سبقت القرن العشرين بكل نسيجها المعقّد، دور مهم في بناء روابط تاريخية ألقت بظلالها على العلاقة بين العراق والسعودية في العصر الحديث، سلباً أو إيجاباً، وكانت تمثلاتُها تتفاعل بطرق مختلفة.
في العصر الحديث، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في وقت مبكر من عمر الدولتين، وخلال العقد الأول من القرن الماضي اعترفت الدولتان ببعضها، وتبادلتا السفراء والزيارات من قبل مسؤولين كبار، وصولاً الى الملكين، فيصل الأول وعبد العزيز آل سعود، وإبان الحرب العالمية الثانية أصبحت العلاقات أكثر تعاوناً بالتزامن مع اكتشاف النفط، وضرورة الارتباط بين مصدِّريه، خصوصاً مع اشتراك منابع الدولتين بمهيمنٍ واحد وهو بريطانيا، مما أضاف للبلدين أهمية على المستوى الاستراتيجي، وتضافر مزيج معقّد من الرغبة بالتنافس، والحاجة إلى التحالفات المتغيرة، والتكيف مع التبدلات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
ووفقاً لفهم كلّ حكومة لمصالح بلدها، اتخذ الطرفان خيارات في الاصطفافات الدولية، كان العراق في العهد الملكي ضمن المحور الغربي الذي تحالفت السعودية معه مبكراً، وتحوّل العراق، عقب قيام النظام الجمهوري بعد انقلاب عام 1958 إلى المعسكر الشرقي السوفيتي، فتولّد تعقيد جديد في العلاقة بين العراق والسعودية.
إن التغيّر العاصف في العراق الجمهوري أضاف للمشكلة بين البلدين أبعاداً جعلت التناقضات بين النظامين تناقضات بنيوية، فبغداد صارت تحت حكم نظام جمهوري، خليط من الحكم العسكري، والتصادمات الأيديولوجية – بشكل خاص الشيوعيين والقوميين – والتي كانت تتعامل مع المملكة بوصفها “نظام حكم رجعياً تحتكره أسرة واحدة” ويتهم “بالعمالة”، لا أحزاب ولا تنظيمات في المملكة، ولا ايديولوجيات تتوافق مع هوى “الزعيم” الجديد للعراق عبد الكريم قاسم، فجاهر بعدم احترامه للدول الخليجية وصولاً إلى مطالبته بضم الكويت، فاستنهض القلق لدى المملكة السعودية، وعلى الرغم من تبني عبد السلام عارف، عقب انقلاب 1963، خطاباً قومياً اشتراكياً فإن الحال لم يتبدل كثيراً، خصوصاً مع تماهي عارف وسياساتِ جمال عبد الناصر، والتي ألقت حرب اليمن بظلالها عليها، ووصلت مستويات الصراع بين مصر والسعودية حدّاً بالغ الحرج، ففي حزيران 1966 صرّح الملك فيصل، من الولايات المتحدة، بأن “الخطر الحقيقي بالنسبة للسعودية يتمثل بحركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر”، في وقت كان عارف قومياً وصديقاً لرأس حربة الحركة عبد الناصر ومتوافقاً مع سياساته في حرب اليمن بدرجات متفاوتة.
وفوق هذا التعقيد البنيوي، ظلت العلاقات بين العراق والسعودية رهنا للتغيُّرات الإقليمية والدولية، وكانت الصراعات التي تطال الإقليم تلقي بظلالها على العلاقة بين البلدين بشكل كامل، على الرغم من وجود تفاهمات على الهامش أساسها العلاقات التي رسّختها روابطُ ما قبل الدولة، مثل العلاقات العشائرية والتجارية التي كانت في أحيان كثيرة تلعب دور الوسيط بين البلدين حتى في الخلافات الحدودية، لتظل حالة السلام الحذر تسود نمط العلاقات العراقية السعودية لعقود، وصولاً الى المتغيّر الأكبر، الحرب العراقية الإيرانية.
لقد كان للحرب العراقية الإيرانية دور في تبدُّل نمط العلاقات بين العراق والسعودية، وفي ظل خوف المملكة من التمدّد الإيراني، تغاضت عن الخلافات البنيوية واصطفت مع العراق في الحرب، ومن خلفها محورها الخليجي، لأسباب متعدّدة سياسية ودينية/ مذهبية واستراتيجية.
خلاصة الحرب كانت إرهاق العراق، واعتماده بشكل كبير على المملكة وحلفائها الخليجيين للحصول على المساعدات الاقتصادية والعسكرية، كنتيجة للمخاوف الأمنية المشتركة بين البلدين والتي تكفّل العراق بدرئها عن السعودية، ولكن هذا النمو في العلاقات، والاعتماد المتبادل بين الطرفين، كلٍ حسب دوره؛ لم يلغِيا الخلافات الكامنة بين البلدين، وكان مقدّراً لها أن تظهر مرة أخرى بمجرد انتهاء الحرب، وانتقال التهديد الإيراني إلى مستوى منخفض لا يشكل خطراً وجودياً على المملكة ودول الخليج، الأمر الذي تبيّن بشكل واضح باجتياح صدام حسين للكويت في آب 1990، والكوارث التي اعقبته، وانغمار المملكة بكل ثقلها في التحالف الذي أخرج القوات العراقية من الكويت ودمّر بنية العراق التحتية وقيّده بشكل تام.
ديناميات العلاقة وعناصر الصراع
يتطلب فهم دور المملكة، نظرةً أوسع على رؤية دول مجلس التعاون الخليجي عموما للعراق، الذي تلعب فيه السعودية الدور المحوري.
يمكن القول إن الوهن الجيوسياسي الذي يتميز به العراق، لضيق إطلالته البحرية جعلته يطرح نفسه إيديولوجياً بوصفه حامياً لبوابة العرب الشرقية بوجه تطلعات طهران.
ومن زاوية مختلفة، خلخل اجتياح الكويت توازنات الخليج، لا لأنه اجتياح لإحدى دوله فقط، بل لأنه أزاح العراق من معادلة التوازن الخليجي لصالح إيران، التي رأت بدورها ان الدول الخليجية سوف تتطلع لها كموازن مقابل العراق. وصارت الرؤية الخليجية تجاه العراق، خصوصا بعد عام (1990) تتلخص بما جاء به د. منعم العمار بثلاث نقاط أساس:
- أولاً: رؤية العراق كبلد عربي بالدرجة الاساس لا خليجي حصراً.
- ثانياً: ارتباط نوايا وأفعال الخليجيين بما يمتلكه العراق من قوة عسكرية يحسبونها تهديداً موصوفاً.
- ثالثاً: الإصرار الخليجي في ظل التحول الذي أصاب المصلحة القومية على بناء المقدمات المقصودة لاستيعاب الايديولوجية القومية وبما يحقق ملياً في فصل أمن الخليج العربي عن الأمن القومي العربي، الأمر الذي يوضح التناقض البنيوي بين الرؤية السعودية فالخليجية ورؤية العراق.
إن التناقض الايديولوجي الذي ورد في النقطة (ثالثا) خصوصاً شكّل علامة فارقة بين النظم التقليدية في الخليج العربي، وبين النظام في بغداد، الذي احتكم منذ عام 1968 إلى الإيديولوجية في سياسته الخارجية، ولم يخفف حدّة هذا التناقض حتى السياسة العروبية نوعا ما التي انتهجتها الكويت في دبلوماسيتها.
وبالقدر الذي “روّجت” السياسة العراقية فيه رغبتَها ببناءِ قدرة ذاتية لحفظ الأمن الخليجي، فإن دول الخليج، على النقيض، آمنت بعجزها عن حماية نفسها، وضرورة الاتّكال على قوة تقع خارج قوى المنطقة، وقد عزز هذا الخوف الكثيرُ من الرؤى الاستراتيجية التي تشير إلى أن أقوى دولتين في منطقة الخليج، وبكل المقاييس ــ عدا الاقتصادي منها ــ هما العراق وإيران، بالاستناد إلى عوامل التاريخ، والسكان، والمساحة الجغرافية، مما شكّل في روع الدول الخليجية قناعة أكيدة بأنهما التهديد الأكبر لها.
يدخل البعدُ الطائفي، بدرجة كبيرة، في الحسابات السعودية، ويتركز أكثر تجاه وجود إيران ذات الأغلبية والحكم الشيعيَين، على الضفة المقابلة لدول المجلس، التي ينضوي تحت سلطتها مواطنون يتّسقون مذهبياً مع إيران، مما سبّب قلقاً دائماً للسعودية ولحكومات الخليج، وعزز ذلك التقاربُ العراقي ــ الإيراني في أعقاب عام 2003.
بالتأسيس على ما سبق، فإن المتغيرات الأساسية في العلاقات السعودية أو الخليجية مع العراق، تتحدد بمسارات معينة، أولها التاريخ؛ والفجوة التي سببتها حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق، الثاني هو البعد الطائفي، أما الثالث فيتمثل بالخوف من استعادة العراق لقوته فتأثيره في المنطقة، حالما تستقر أوضاعه الداخلية.
تخضع المواقف الخليجية، بدرجة كبيرة، لرؤية الحاكم الخليجي إلى مصالح بلده مع العراق، ففي الوقت الذي كان موقف السعودية والكويت شديد التشنّج إبان حقبة الحصار الاقتصادي على العراق، كانت دول أخرى وفي مقدمتها عُمان وقطر – التي تغيَّر موقفها من العراق كثيراً بعد عام 2003 – وبشكل أقلّ، الإمارات والبحرين، من المبادرين بمحاولات الصُلح مع العراق عقِب العام 1990، فعُمان هي الدولة الأولى التي أعادت فتح سفارتها في بغداد عقب الحرب، وتلتها قطر التي تُعد الوحيدة التي استقبلت وفوداً عراقية رسمية، تتوجت بزيارة وزير الخارجية العراقي السابق محمد سعيد الصحاف عام 1994، انفتاحٌ لا يخلو من تأثيرات النزاع السعودي القطري على الحدود.
وانطلقت أول طلبات رفع الحصار، والصلح مع العراق من الإمارات العربية المتحدة، التي دعا رئيسها الراحل الشيخ زايد بن سلطان إلى رفع الحصار والمعاناة عن الشعب العراقي، وأردفه وزير الدفاع آنذاك محمد بن راشد آل مكتوم عام 1995 بدعوة الكويت إلى مدّ جسور المحبة مع الشعب العراقي، الذي قُدِر أن يكون جار الكويت، إضافة لذلك، اتخذت البحرين مواقف مقاربة للموقف الإماراتي.
على النقيض تماما فإن المملكة العربية السعودية والكويت وقفتا إبان تسعينات القرن الماضي بوجه أيّ اتجاه دولي أو إقليمي نحو تخفيف العقوبات على العراق، وحمّلتا النظامَ السياسيَ العراقي مسؤولية المعاناة التي تضرب العراقيين، لأن النظام سوَّف تنفيذ قرارات مجلس الأمن، كما ذكر وزير الخارجية السعودي في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995، التي تناغمت معها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد عام 2003 واحتلال العراق، تأخرت المملكة كثيراً بإعادة التمثيل الدبلوماسي السعودي إلى العراق.
وإبان سنوات الاقتتال الطائفي في العراق، ونشاط تنظيم القاعدة واستهدافه للمدنيين في الأسواق والقتل على الهوية، كانت هناك دعاية شديدة ضد السعودية في العراق، تتهمها بدعم الإرهاب، وتصدير المقاتلين الى العراق، بمقابل إيران – مثلاً – التي تصوّرها الدعاية على أنها لم ترسل انتحاريين، الأمر الذي عزّزه الخطاب المتشنج للسعودية تجاه شكل النظام السياسي الجديد، وعدم انخراطها سريعاً في علاقات.
ولا يمكن نكران أن جزءاً من هذه الدعاية كان يقع على عاتق السعودية، في الأقل على فئة معينة من المجتمع السعودي، وهم المرتبطون بأئمة الصحوة وسواهم، الذين كانوا يهاجمون العراقيين حكومة وشعباً، ويهدرون دم المدنيين عبر فتاواهم، ناهيك عن دعمهم المالي والتبرعات التي كانت تصب في صالح التنظيمات المتطرفة الناشطة في العراق.
وإذا كان جزء من الإعلام المرتبط بالسعودية يندد بالإرهاب وقتها، ويبدي نوعاً من الدعم والتفهُّم لشكل النظام الجديد – على سبيل المثال جريدة الشرق الأوسط في الحقبة التي كان عبد الرحمن الراشد رئيساً لتحريرها -– فإن إعلاماً آخر كان متبنياً لخطاب آخر على النقيض من الأول، ناهيك عن القنوات ذات التوجّه الطائفي المعلن، والتي خلقت مبرّراً للدعاية المتطرّفة المضادة للسعودية.
وعلى الرغم من تبني الملك عبد الله خطاباً غير متشنج تجاه العراق، لكن مفاصل أخرى من السياسات السعودية لم تكن على المستوى نفسه من التعقّل الذي امتاز به الملك الراحل.
لم تأخذ الأمور منحىً جديداً إلّا مع وصول الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولاية العهد، وتبنيه خطاباً وتوجّهاً مدنياً، ضيَّقَ فيه الكثير من مساحة الخطاب المتشدّد في السعودية، وتعامل بشدة مع أئمة الصحوة الذين لا يزال بعضهم في السجون، فتغيّر الخطابُ بشكلٍ تام تجاه الشيعة، الأمر الذي عزّز موقف السعودية في تغيير سياساتها مع العراق سعياً لإعادة تموضعها في الداخل العراقي بشكل إيجابي.
بشكل تدريجي، سعت المملكة، وبمساعدة ومباركةٍ أمريكيتين، إلى إعادة التعامل مع العراق على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية، مع إدراك الحاجة الى موازنة نفوذ إيران الذي بلغ مستويات متقدمة في السياسة العراقية، ومع ذلك، فإن الانقسامات الطائفية، والتنافس الجيوسياسي لا يزالان يسهمان في تعقيد علاقة البلدين، ويضعانهما في توازن هش قوامه التعاون والمنافسة والحذر، وسط التحولات السريعة بموازين القوة في الإقليم.
الديناميات المتناقضة في السياسة الخارجية للبلدين
يذهب الكثيرون إلى أن الأوضاع الداخلية التي تصنع ديناميات السلطة هي التي تتحكّم بشكل السياسة الخارجية للبلد، إلى حدّ القول إن الدبلوماسية العامة هي عملية تسويق السياسات العاملة الداخلية على المستوى الخارجي.
على هذا الأساس، فإن الاختلافات بين الداخلَين، العراقي والسعودي، تؤثر على العلاقة بين البلدين قليلاً.
على المستوى العراقي، يُمكن تمييز معضلة الخلافات والانقسامات الداخلية على المستوى الإثني والطائفي، والاصطفافات السياسية الهادفة إلى تحقيق المصالح الخاصة لكل مجموعة، بل لكل زعيم أو حزب ضمن المجموعة الإثنية ذاتها، الأمر الذي ينعكس كتناقضات في بنية السلطة ذاتها، واصطفافات محاصصاتية على أساس الإثنيات، تقوم بتوجيه ومواءمة حصتها من مؤسسات الدولة مع توجهاتها الإثنية وعلاقاتها البينية المتناقضة.
وليست السياسة الخارجية العراقية بمعزل، حيث تخضع هي الأخرى للديناميات الداخلية المتناقضة، وفي طليعة تلك التناقضات التي تؤثر على العلاقات العراقية السعودية هو الموقف من إيران، وانخراطها في النزاعات الإقليمية التي غالباً ما تكون السعودية طرفاً فيها، مما يعني تأثّر العلاقات بين البلدين، خصوصاً بملاحظة التناقض الطائفي بين إيران والسعودية، وترجمته إلى صراع إقليمي يكون العراق ساحة مهمة من ساحات الاستقطاب فيه.
أما على مستوى السعودية، فإن الاستقرار السياسي الداخلي، وتمتع المملكة بنظام قوي يسيطر على التوجهات السياسية الداخلية والخارجية في مسار واحد، ضمن رؤى العائلة الحاكمة أو من يرأسها بشكل أدق، قادا إلى استقرار السياسات العامة داخلياً، ومنح القدرة للسعودية على رسم سياسات خارجية موحّدة دون تناقضات داخلية، على الرغم من وجود الشيعة في المنطقة الشرقية، والذين تسربت لبعض مجاميعهم فكرة الاصطفاف مع ولاية الفقيه، إلا أن العنف القوي الذي قوبلت به الأطراف المصطفة مع ولاية الفقيه حيّد مشاكل داخلية كان من الممكن لها أن تنعكس على السياسات الخارجية السعودية.
في السياق ذاته، تطمح السعودية إلى تأكيد وجودها كقائد إقليمي، وبرهنة قدرتها على موازنة النفوذ الإيراني، وقيادتها للعالم الإسلامي، مرة بوصفها زعيمة سنية، ومرة بمحاولة الاحتواء للشيعة وغيرهم من الأقليات الإسلامية الأخرى.
ولو تفحصنا هذا التناقض في ضوء الديناميات الإقليمية فسنجد أن العراق جزء من اللعبة وليس لاعباً أساس.
كلا اللاعبين الأهم – إيران والسعودية – منخرطان في لعبة تنافسية بعض تجلياتها تظهر بشكل صراع بالوكالة، ضمن المحيط الجيوسياسي الإقليمي والدولي، وكلا الطرفين يدعمان فصائل متصارعة في العراق وسوريا واليمن، الأمر الذي يولد تعقيدات إقليمية بالغة الدقة، وفي الوقت ذاته يظهر أن العراق واحد من ساحات الصراع التي يحرص البلدان على تجنب امتداد تداعياتها الى أراضيهما.
لهذا الصراع أشكال متعددة، تبدو ضمن تكتلات إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي، وحلف محور المقاومة الذي تمتد فصائله المسلحة عبر بلدان متعددة وتعمل باتجاه واحد يناقض الأهداف السعودية في المنطقة، الأمر الذي يعني أن متغير العلاقات الإيرانية السعودية سيكون حاضراً بشكل كبير في صياغة شكل العلاقات بين العراق والسعودية.
مع كل هذه التعقيدات، لن يكون هناك يقين تجاه مبدأ المبادرة الاستراتيجية الذي اتخذه العراق لتعزيز علاقاته مع السعودية، على الرغم من تفاؤل رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي صرح مرة أنه من الممكن بسهولة، مع السعودية، “تكوين محور سياسي اقتصادي، يؤسس لنظام إقليمي مستقر”، وهو تصريح لا يلقى القبول من بعض شركاء السوداني في الإطار التنسيقي، الذين لن يكون قادراً على كبح ردود أفعالهم تجاه السعودية في حال حصول خلاف بينها وبين صديقتهم إيران.
التقارب
بدأت معالم عودة العلاقات بين البلدين تتضح إبان حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، حيث عاد التمثيل الدبلوماسي السعودي في بغداد، وأخذت العلاقات منحى أكثر وضوحاً إبان ولاية مصطفى الكاظمي، الذي زار الرياض عام 2020، فتوسّع الحوار بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية، ثم دخل العراق كوسيط بين إيران والمملكة وعقدت عدة اجتماعات لمجموعة الخمسة زائد واحد في بغداد ابتداء من عام 2021 والتي كان من ثمارها نجاح الوساطة الصينية الكافلة التي أعادت العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية عام 2023.
وعلى الرغم من التحولات الكبيرة والسريعة بطبيعة العلاقات في هذه الحقبة، إلّا أنها بقيت أسيرة لثلاثة متغيرات:
- الأمن
- التعاون التجاري
- العلاقات الإيرانية السعودية
سَعَت السعودية إلى تعزيز المتغيّرين الأولين لصالحها بوسائل متعددة، فأمنياً، تقوم السعودية بشكل فعال بتأمين الحدود مع العراق، وبحسب شهادات قادة أمنيين حصل عليها الكاتب، فإن حرس الحدود السعودي على تنسيق تام مع نظيره العراقي، ناهيك عن التعاون مع جامعة نايف ضمن أعمال مجلس وزراء الداخلية العرب.
وبحكم الخبرة التي اكتسبها العراقيون من قتال تنظيم الدولة داعش، والأعداد الغفيرة من الأسرى الأجانب من مقاتلي التنظيم، ومنهم سعوديون، فإن المراكز السعودية المتخصصة بشؤون مكافحة الإرهاب حاولت بناء جسور من التواصل والتعاون للاطلاع على نتائج التحقيقات مع المعتقلين، مثل مركز (اعتدال) الذي قام أمينه العام منصور الشمري بزيارة رسمية للعراق وعدد من المراكز والمؤسسات الأمنية فيه.
على الرغم من تعامل السعودية مع الجيش وحرس الحدود ووزارة الداخلية في العراق، إلا أنها تشعر بالتهديد من وجود الحشد الشعبي، وبشكل أكثر تحديداً من فصائل منضوية تحت مظلة الحشد، والتي اشتركت بشكل مباشر في عدد من التهديدات التي واجهتها المملكة، مثل قصف المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو في خريص وبقيق عام 2019 وأشارت أصابع الاتهام إلى ضلوع فصائل عراقية في تنفيذه على الرغم من تبني الحوثيين للهجوم، لكن الحكومة السعودية تغاضت عن اتهام العراق لكيلا تحرج الحكومة العراقية وتسبب توتراً يلقي بظلاله على العلاقات بين البلدين، والتي تطمح السعودية لأخذها إلى مستويات أعلى.
أما على المستوى الآخر، فقد حاولت السعودية دعم العراق في العديد من المواقف، منها إقامة بطولة كأس الخليج 25 لكرة القدم في البصرة، ناهيك عن استمرار العروض التجارية للاستثمار وضم العراق إلى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وسواها.
كما أطلقت السعودية مبادرة للمنح الدراسية للطلاب العراقيين، ولكن ملابسات بيروقراطية وشبهات فساد وزّعت هذه المنح عبر المحاصصة الحزبية وليس وفق التنافس الحُر عبر قناة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية.
تجارياً، بدأ الحضور السعودي في العراق يتطور بشكل كبير، وقد شرعت السعودية أول الأمر بالاستثمار في المناطق التي لا تتعرض فيها للضغوط، كقطاع الأغذية والألبان والقطاع العقاري في إقليم كردستان العراق.
ودخلت السعودية في الأسواق العراقية خارج إقليم كردستان بطرق متعددة، إذ اشتركت في الدورة 47 من معرض بغداد الدولي عام 2024، وأدرجت هيئة الصادرات السعودية، وبحسب الإعلام السعودي، (564) منتجاً سعودياً في الأسواق العراقية، وربطت 20 شركة سعودية مع الموزعين والوكلاء في العراق.
سبق هذا الإعلان السعودي تعثرٌ كبير، فقد أبدت المملكة رغبتها في الاستثمار في بادية السماوة عام 2020، ولكن حملة قادتها الفصائل العراقية المناوئة للسعودية أفشلت هذه الرغبة على الرغم من الميل الحكومي للاستجابة وقتها، وتقدمت تلك الفصائل عبر شركاتها للاستثمار البديل في المدينة التي تصنف الأكثر فقراً في العراق، الأمر الذي قاد وزير الزراعة وقتها إلى الإعلان عن خطة لتوفير أراض أخرى في محافظات مختلفة لتكون جاهزة للاستثمار السعودي في قطاع الزراعة العراقي، مثل النجف، مرة أخرى.
يلقي نقص البيانات الحكومية الرسمية بالكثير من الغموض على حجم الوجود السعودي التجاري في العراق، فالحديث الإعلامي عن الاستثمار السعودي في القطاع العقاري في مدينة الرفيل غرب بغداد لا يزال دون أرقام رسمية او أدلة ملموسة، ولو بحثنا عن حجم التبادل التجاري بين البلدين فلن نجد أكثر من عناوين للأخبار عن بلوغه “أكثر من مليار دولار” سنوياً حتى منتصف عام 2024.
مع ذلك، سنجد أن الاقتصاد هو طليعة ما يتم الحديث عنه في أي سياق خبري بين البلدين، سواء كانت علاقات دبلوماسية طبيعية، أو إبان الزيارات الرسمية، مثل زيارة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني إلى السعودية في نيسان 2024 ولقائه بولي العهد، حيث كان الحديث عن “تطلع العراق الى تعاون اقتصادي أوسع مع المملكة” هو في طليعة البيان الذي أصدره مكتبه عن الزيارة.
تبرهن إعادة افتتاح المنفذ البرّي الأهم بين البلدين، منفذ عَرعَر، رغبة السعودية بالوجود في العراق عبر التجارة والاقتصاد. ويعزز فتحُ المجال أمام المعتمرين العراقيين والسواح برّاً، أواصرَ الفهم الاجتماعي، ويبدو أن القيادة السعودية أدركت أن الطريق إلى بغداد لا يمرّ أول الأمر عبر القنوات الرسمية، لتتخذ سبيلا يبرهن رغبتها بالجيرة الحسنة مع المجتمع العراقي، وهو الشعار الذي رفعه الجناح السعودي في معرض بغداد الدولي (جيرة وديرة).
من جانب آخر، لا يزال النفط عاملاً مهما في التعامل بين البلدين، يتداخل فيه الاقتصاد مع السياسة بين البلدين، وهو أمر سبقت الإشارة له، فالبلدان يتحملان مسؤولية مشتركة في أوبك، وكلاهما يتنافسان في أسواق متشابهة، دون أن نغفل أن النفط كسلعة عالمية لا يترك لهوى المنتجين، فالولايات المتحدة حريصة في النهاية على إيجاد تفاهمات بين المنتجين لا تؤثر على السوق العالمي بما يضرها، لتقود التفاهمات الجانبية بين الدول المنتجة التي تتمتع بنفوذ كبيرها فيها، وأهمها السعودية.
ليس على هذا المستوى وحسب، فعملاق النفط السعودي شركة أرامكو، بتشعباتها الأمريكية المعقدة، لها حضور في العراق بأشكال متعددة، مثل اتفاقها مع الحكومة العراقية في 2023 على المساهمة في تطوير حقل عكاز النفطي، ناهيك عن الاتفاق المبدئي على الاشتراك في مشروع نبراس الذي يعد من بين أهم المشاريع الاستراتيجية العراقية في قطاع البتروكيمياويات.
إيران: المتغيّر الحرج
بمقابل المتغيّرات الإيجابية، هنالك المتغير الأكثر حرجاً في العلاقات العراقية السعودية، والمتعلق بالعلاقات السعودية الإيرانية، الأمر الذي لا يزال يخضع لتحوّلات متسارعة لا تبتعد كثيراً عن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
على الرغم من التفاهم بين إيران والسعودية وعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لا تزال عناصر الصراع فعالة، وتلقي بظلالها بشكل أكيد على العراق، إذ لا تتردد الإدارة الأمريكية في الحديث عن صفقة واسعة بين واشنطن والرياض وإسرائيل، عبر حزمة من الاتفاقيات على صعيد الأمن والتسليح والتعاون النووي، مع موافقة الرياض على التطبيع مع إسرائيل شرط إيجاد مسار لحل الدولتين.
والهدف السعودي الأساس في هذه الصفقات هو مواجهة النفوذ الإيراني وأذرعه في المنطقة، تماشياً مع الهوى الأمريكي في الشرق الأوسط، والذي سيكون أكثر شدّة مع عودة ترامب الى المكتب البيضاوي، ما يعني المزيد من الضغط على إيران، فالمزيد من التوترات الإيرانية في مناطق نفوذها، ومنها العراق، وبشكل مباشر أو غير مباشر ستتأثر العلاقة بين العراق والسعودية.
سيجد العراق نفسه ضمن معادلات هذه الصفقة -لو تحققت- قد اصطف تلقائياً مع المحور الإيراني، بحكم مركزية دول الهلال الخصيب في المواجهة مع إسرائيل (العراق، سوريا، لبنان، فلسطين)، الأمر الذي سيزيد تعقيد وصعوبة اندماج العراق في المحور الخليجي، فمسألة التطبيع لا تزال من القضايا بالغة الحساسية عراقياً، والتي ستثير الشارع العراقي قبل الفصائل الصديقة مع إيران حتى.
فضلا عن ذلك، فإن مثل هذا الاتفاق سيلقي بظلاله على قضية الطاقة وتصديرها، خصوصاً مع احتمال وصول ترامب إلى السلطة، الذي سيعمل باتجاه خفض أسعار النفط كما فعل في ولايته الأولى، الأمر الذي سيلقي بظلال ثقيلة على العراق، ذي الاقتصاد الريعي المعتمد بشكل كامل على النفط.
ستكون هذه المعادلة الصفرية بين إيران والسعودية، معضلة دائمة أمام العراق في مسار تحديد علاقته بالمملكة ومحورها الخليجي، وبظل السيولة السياسية وعدم وجود قرار مركزي عراقي موحد، وعجز الحكومات عن ضبط الفصائل، التي ستظل مصدر الخطر الأكبر على العلاقات بين البلدين، ولا يمكن الجزم بأن السعودية ستبقى متمسكة بتمتين العلاقة مع العراق، على الرغم من الارتباك في سياساته الداخلية، وليس مؤكداً إلى أي حدّ ستحافظ على خطابها الذي جسّده وزير خارجيتها فيصل بن فرحان حين زيارته للعراق بالتأكيد على التزام بلده باستقرار العراق والإقليم، وأن أي خلل في علاقات العراق العربية سوف تكون له آثار سلبية على الخليج العربي، ليوضح بعدها أن هذا الخلل سوف يضعف الحكومة المركزية، مما يعني زيادة نفوذ “الميليشيات” المسلحة، وتحوّل البلاد الى ساحة للخلايا الإرهابية التي تهدد أمن السعودية والعراق معاً، وهذا التصريح يوضح بشكل مكثف رؤية السعودية في علاقاتها مع العراق، والمتغيّر الذي يمكن أن يهدد هذه العلاقة، أي الفصائل.
ومن البديهي أن تمتلك السعودية المستقرة من المرونة في خيارات التعامل مع العراق ما لا تملكه بغداد المضطربة، وإذا كانت المملكة قد تخلت عن خيارات دعم المتشددين بحكم احتمال ارتدادهم الأمني عليها، فإن قدرتها على التحكم بأسعار النفط، ناهيك عن قدرتها على دعم الأقاليم – وهو ما اتهمت به بغداد الرياض قبل سنوات – في العراق ستظل وسيلة فعّالة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، والذي تراه تهديدا قائماً مستداماً.
إن أي أفق مستقبلي لتطور العلاقات بين البلدين مرهون بتعديلات استراتيجية طويلة الأمد، يغير البلدان في غضونها أساليب التعامل بينهما، ويُنحّيان عناصر الخلاف، مع ضرورة بلورة توافقات إقليمية تشمل استقرار المنطقة برمتها، وضرورة أن تفهم دول الاقليم أن الاستقرار ينفع الجميع، والاضطرابات توهن الكل.
وفي ظل الوضع الحاضر في العراق، وعدم استقرار الحكومات الائتلافية، وسخط الأطراف السياسية الشريكة، فإن قدرة العراق على بناء سياسة خارجية تسير نحو الاستقرار مع السعودية ومحورها تبدو أمراً بالغ الهشاشة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
19 يناير 2025
العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين
16 يناير 2025
استقطاعات رواتب موظفي العراق.. عن مليارات الدولارات مجهولة المصير
14 يناير 2025
"جسم رجال لو بنت بيوت".. ماذا نعرف عن متلازمة التكيُّس وعوارضها؟
12 يناير 2025
على مرّ تاريخهما المشترك، كانت العلاقة بين العراق والسعودية مزيجاً من عناصر كالدين والاقتصاد والجغرافيا والروابط الاجتماعية والثقافية، تتفاعل كلها، بين حدَّيْ الصراع والتكامل، ودائماً ما يتعدّى استقرارها حدودهما إلى الشرق الأوسط كلّه.
مع الوجود البريطاني وتفجُّر النفط ودخوله كعامل أساس في التفاعلات السياسية، صار الاستقرار ضرورةً في المنطقة، وبالقدر الذي فرضه النفط من استقرار، فإنه جلب المنافسة التي جعلت العلاقة بين البلدين في حالِ شدٍّ وجذب، حتى نشوب الحرب العراقية الإيرانية، لتدخل المملكة بحلف قوي مع العراق وتدعمه، كي يكون جداراً عازلاً أمام التمدّد الإيراني، الذي لاحت نُُذُرُه بعد الثورة الإسلامية التي جاءت بنظام إسلامي شيعي يقوده روح الله الخميني في طهران والمجاهرة بـ”تصدير الثورة”.
عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، سرعان ما تغيّرت الحال، حين ذهب النظام السياسي الحاكم في العراق وقتها، وبعد خلافات على النفط وتصديره وأسعاره العالمية، نحو اجتياح الكويت في آب 1990، الأمر الذي وضع السعودية في خط المواجهة مرة أخرى مع العراق، لينتهي ربيع العلاقة الذي فرضته الحرب الإيرانية.
وعلى الرغم من الموقف الملتبس للمملكة من غزو العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة، إلّا أنها وجدت الإطاحة بنظام صدام حسين لحظة فاصلة تركت فراغاً في توازنات المنطقة والإقليم، لتبدأ السعي إلى ملئه، مع وجود إيران كمنافس ومصدر قلق دائم، لابدّ من التعامل معه وتحجيمه، بل ازدادت قلقاً بهيمنة الشيعة وبشكل خاص من أصدقاء إيران، على الحكم في بغداد، مما يعني أن سقوط نظام صدام حسين لم يترك فراغاً أمام إيران فحسب، بل حوّل العراق إلى مساحة تهديد إيرانية بشكل مباشر بنظر المملكة.
وعلى الرغم من هذا الإدراك، إلا أن السعودية تخبطت في التعامل معه على المستوى العراقي، وتضاءل دورها في العراق، ساحبةً معها المجموعة العربية الخاضعة للنفوذ السعودي، لتترك فراغاً سياسياً أوغلت إيران باستثماره، وحرصت من خلاله على ترسيخ دورها إلى درجة عدم ترك أيّةِ فسحة للسعودية حتى في مناطق حلفائها التقليديين في العراق، ناهيك عن استغلال الخطاب الطائفي وإلقاء اللوم على السعودية في حقبة العنف الطائفي في العراق التي استمرت حتى عام 2010 تقريباً، لتدرك المملكة متأخرة أنها كانت مخطئة في انسحابها من العراق، فحاولت العودة بكل ثقلها بالتزامن مع إنهاء احتلال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمساحة كبيرة من الأراضي العراقية، وانتهاج حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لسياسة توفيقية غير متوترة تهدف إلى الانفتاح على المحيط الجغرافي وبدء صفحة جديدة من المصالحة، لتستأنف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسمياً إبان حكومة العبادي عام 2015، ويتنامى الحوار وصولاً إلى حكومة مصطفى الكاظمي التي أخذت العلاقة مع السعودية إلى مرحلة متقدمة.
بكل الأحوال، تتميّز ديناميات العلاقات العراقية السعودية في الوقت الحاضر بوجود تفاؤل حذر في إطار من التعاون البراغماتي، عبر وجود تبادل دبلوماسي رفيع المستوى، ومجاملات سعودية للعراق حتى في مواسم الحج والعمرة، ومحاولات لبناء شراكات اقتصادية وترسيخ التعاون الأمني بين البلدين، إدراكاً من الطرفين لأهميتهما الاستراتيجية في المنطقة، ليس لمصلحتيهما الوطنيتين فقط، بل لاستقرار المنطقة، وتدفق الاستثمارات واستقرار حركة الطاقة.
سبقَت كلَ ذلك، عوامل تاريخية شكّلت نمط العلاقة بين البلدين، وأوصلتها لما هي عليه اليوم، وستكون حاضرة في أيّ تغيّر مستقبلي.
لمحة تاريخية
تتشابك العناصر الدينية والاقتصادية والقوميّة في العلاقات بين العراق والسعودية، فالعوامل العشائرية الممتدة فوق جغرافيا البلدين، كانت تطغى في أحيان كثيرة على العوامل الدينية، وكذا الحال مع العوامل الاقتصادية.
عشائرياً، هناك امتدادٌ للقبائل بين البلدين إلى درجة بالغة التشابُك، على سبيل المثال، فإن الأسرة الحاكمة آل سعود ينحدرون من قبيلة عنزة التي يقع مقر مشيختها العام في العراق في بيت فهد الهذّال، وكذا الحال مع قبائل شمّر المترامية الأطراف التي يتمركز شيوخها آل الجربة في العراق، ولا يختلف الأمر كثيراً في وسط العراق وجنوبيه.
أما بالنسبة للتجارة، فالعلاقات التجارية بين البدو وبعض الحواضر العراقية عريقة وراسخة، كانت النجف بكّل ما تمثله من ثقل ديني شيعي، نقطة تبادل تجاري بين القبائل النجدية والعراق، ولا يزال في مدينة حائل السعودية، حتى اليوم، سوق يسمى (سوق المشاهدة) والمقصود أهل النجف، وهو موجود منذ القرن السابع عشر أو قبله، على أيام حكم آل رشيد لمدينة حائل ولا تزال الأُسر النجفية حاضرة فيه بقوة.
ومؤخراً، اتّضح إدراك السعودية لنمط العلاقات دون الدولة، فأبدت رغبتها بفتح قنصلية لها في النجف، وزار السفير السعودي في العراق المدينةَ متجوّلاً في أسواقها الشعبية رفقة المسؤولين في المحافظة، الأمر الذي يشير إلى إدراك السعودية لحضورها الاجتماعي عبر العلاقات التجارية بين تجار النجف وأسرها القديمة وبين المجتمع السعودي، حيث كان تُجّارُ النجف يتمتعون برعاية خاصة في المملكة خلال القرن الماضي، إلى درجة تخصيص يوم لهم لمقابلة الملك كلّ عام في موسم الحج، وتفقده للتجار النجفيين بالاسم، وقد دوّن رئيس غرف التجارة العراقية السابق عبود الطفيلي الكثير من أمثلة هذه العلاقات ودور التجار في كتابه “لوحة الشرف للتجار الأوائل في النجف”.
كان للتفاعلات القديمة التي سبقت القرن العشرين بكل نسيجها المعقّد، دور مهم في بناء روابط تاريخية ألقت بظلالها على العلاقة بين العراق والسعودية في العصر الحديث، سلباً أو إيجاباً، وكانت تمثلاتُها تتفاعل بطرق مختلفة.
في العصر الحديث، بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في وقت مبكر من عمر الدولتين، وخلال العقد الأول من القرن الماضي اعترفت الدولتان ببعضها، وتبادلتا السفراء والزيارات من قبل مسؤولين كبار، وصولاً الى الملكين، فيصل الأول وعبد العزيز آل سعود، وإبان الحرب العالمية الثانية أصبحت العلاقات أكثر تعاوناً بالتزامن مع اكتشاف النفط، وضرورة الارتباط بين مصدِّريه، خصوصاً مع اشتراك منابع الدولتين بمهيمنٍ واحد وهو بريطانيا، مما أضاف للبلدين أهمية على المستوى الاستراتيجي، وتضافر مزيج معقّد من الرغبة بالتنافس، والحاجة إلى التحالفات المتغيرة، والتكيف مع التبدلات الدولية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
ووفقاً لفهم كلّ حكومة لمصالح بلدها، اتخذ الطرفان خيارات في الاصطفافات الدولية، كان العراق في العهد الملكي ضمن المحور الغربي الذي تحالفت السعودية معه مبكراً، وتحوّل العراق، عقب قيام النظام الجمهوري بعد انقلاب عام 1958 إلى المعسكر الشرقي السوفيتي، فتولّد تعقيد جديد في العلاقة بين العراق والسعودية.
إن التغيّر العاصف في العراق الجمهوري أضاف للمشكلة بين البلدين أبعاداً جعلت التناقضات بين النظامين تناقضات بنيوية، فبغداد صارت تحت حكم نظام جمهوري، خليط من الحكم العسكري، والتصادمات الأيديولوجية – بشكل خاص الشيوعيين والقوميين – والتي كانت تتعامل مع المملكة بوصفها “نظام حكم رجعياً تحتكره أسرة واحدة” ويتهم “بالعمالة”، لا أحزاب ولا تنظيمات في المملكة، ولا ايديولوجيات تتوافق مع هوى “الزعيم” الجديد للعراق عبد الكريم قاسم، فجاهر بعدم احترامه للدول الخليجية وصولاً إلى مطالبته بضم الكويت، فاستنهض القلق لدى المملكة السعودية، وعلى الرغم من تبني عبد السلام عارف، عقب انقلاب 1963، خطاباً قومياً اشتراكياً فإن الحال لم يتبدل كثيراً، خصوصاً مع تماهي عارف وسياساتِ جمال عبد الناصر، والتي ألقت حرب اليمن بظلالها عليها، ووصلت مستويات الصراع بين مصر والسعودية حدّاً بالغ الحرج، ففي حزيران 1966 صرّح الملك فيصل، من الولايات المتحدة، بأن “الخطر الحقيقي بالنسبة للسعودية يتمثل بحركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر”، في وقت كان عارف قومياً وصديقاً لرأس حربة الحركة عبد الناصر ومتوافقاً مع سياساته في حرب اليمن بدرجات متفاوتة.
وفوق هذا التعقيد البنيوي، ظلت العلاقات بين العراق والسعودية رهنا للتغيُّرات الإقليمية والدولية، وكانت الصراعات التي تطال الإقليم تلقي بظلالها على العلاقة بين البلدين بشكل كامل، على الرغم من وجود تفاهمات على الهامش أساسها العلاقات التي رسّختها روابطُ ما قبل الدولة، مثل العلاقات العشائرية والتجارية التي كانت في أحيان كثيرة تلعب دور الوسيط بين البلدين حتى في الخلافات الحدودية، لتظل حالة السلام الحذر تسود نمط العلاقات العراقية السعودية لعقود، وصولاً الى المتغيّر الأكبر، الحرب العراقية الإيرانية.
لقد كان للحرب العراقية الإيرانية دور في تبدُّل نمط العلاقات بين العراق والسعودية، وفي ظل خوف المملكة من التمدّد الإيراني، تغاضت عن الخلافات البنيوية واصطفت مع العراق في الحرب، ومن خلفها محورها الخليجي، لأسباب متعدّدة سياسية ودينية/ مذهبية واستراتيجية.
خلاصة الحرب كانت إرهاق العراق، واعتماده بشكل كبير على المملكة وحلفائها الخليجيين للحصول على المساعدات الاقتصادية والعسكرية، كنتيجة للمخاوف الأمنية المشتركة بين البلدين والتي تكفّل العراق بدرئها عن السعودية، ولكن هذا النمو في العلاقات، والاعتماد المتبادل بين الطرفين، كلٍ حسب دوره؛ لم يلغِيا الخلافات الكامنة بين البلدين، وكان مقدّراً لها أن تظهر مرة أخرى بمجرد انتهاء الحرب، وانتقال التهديد الإيراني إلى مستوى منخفض لا يشكل خطراً وجودياً على المملكة ودول الخليج، الأمر الذي تبيّن بشكل واضح باجتياح صدام حسين للكويت في آب 1990، والكوارث التي اعقبته، وانغمار المملكة بكل ثقلها في التحالف الذي أخرج القوات العراقية من الكويت ودمّر بنية العراق التحتية وقيّده بشكل تام.
ديناميات العلاقة وعناصر الصراع
يتطلب فهم دور المملكة، نظرةً أوسع على رؤية دول مجلس التعاون الخليجي عموما للعراق، الذي تلعب فيه السعودية الدور المحوري.
يمكن القول إن الوهن الجيوسياسي الذي يتميز به العراق، لضيق إطلالته البحرية جعلته يطرح نفسه إيديولوجياً بوصفه حامياً لبوابة العرب الشرقية بوجه تطلعات طهران.
ومن زاوية مختلفة، خلخل اجتياح الكويت توازنات الخليج، لا لأنه اجتياح لإحدى دوله فقط، بل لأنه أزاح العراق من معادلة التوازن الخليجي لصالح إيران، التي رأت بدورها ان الدول الخليجية سوف تتطلع لها كموازن مقابل العراق. وصارت الرؤية الخليجية تجاه العراق، خصوصا بعد عام (1990) تتلخص بما جاء به د. منعم العمار بثلاث نقاط أساس:
- أولاً: رؤية العراق كبلد عربي بالدرجة الاساس لا خليجي حصراً.
- ثانياً: ارتباط نوايا وأفعال الخليجيين بما يمتلكه العراق من قوة عسكرية يحسبونها تهديداً موصوفاً.
- ثالثاً: الإصرار الخليجي في ظل التحول الذي أصاب المصلحة القومية على بناء المقدمات المقصودة لاستيعاب الايديولوجية القومية وبما يحقق ملياً في فصل أمن الخليج العربي عن الأمن القومي العربي، الأمر الذي يوضح التناقض البنيوي بين الرؤية السعودية فالخليجية ورؤية العراق.
إن التناقض الايديولوجي الذي ورد في النقطة (ثالثا) خصوصاً شكّل علامة فارقة بين النظم التقليدية في الخليج العربي، وبين النظام في بغداد، الذي احتكم منذ عام 1968 إلى الإيديولوجية في سياسته الخارجية، ولم يخفف حدّة هذا التناقض حتى السياسة العروبية نوعا ما التي انتهجتها الكويت في دبلوماسيتها.
وبالقدر الذي “روّجت” السياسة العراقية فيه رغبتَها ببناءِ قدرة ذاتية لحفظ الأمن الخليجي، فإن دول الخليج، على النقيض، آمنت بعجزها عن حماية نفسها، وضرورة الاتّكال على قوة تقع خارج قوى المنطقة، وقد عزز هذا الخوف الكثيرُ من الرؤى الاستراتيجية التي تشير إلى أن أقوى دولتين في منطقة الخليج، وبكل المقاييس ــ عدا الاقتصادي منها ــ هما العراق وإيران، بالاستناد إلى عوامل التاريخ، والسكان، والمساحة الجغرافية، مما شكّل في روع الدول الخليجية قناعة أكيدة بأنهما التهديد الأكبر لها.
يدخل البعدُ الطائفي، بدرجة كبيرة، في الحسابات السعودية، ويتركز أكثر تجاه وجود إيران ذات الأغلبية والحكم الشيعيَين، على الضفة المقابلة لدول المجلس، التي ينضوي تحت سلطتها مواطنون يتّسقون مذهبياً مع إيران، مما سبّب قلقاً دائماً للسعودية ولحكومات الخليج، وعزز ذلك التقاربُ العراقي ــ الإيراني في أعقاب عام 2003.
بالتأسيس على ما سبق، فإن المتغيرات الأساسية في العلاقات السعودية أو الخليجية مع العراق، تتحدد بمسارات معينة، أولها التاريخ؛ والفجوة التي سببتها حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق، الثاني هو البعد الطائفي، أما الثالث فيتمثل بالخوف من استعادة العراق لقوته فتأثيره في المنطقة، حالما تستقر أوضاعه الداخلية.
تخضع المواقف الخليجية، بدرجة كبيرة، لرؤية الحاكم الخليجي إلى مصالح بلده مع العراق، ففي الوقت الذي كان موقف السعودية والكويت شديد التشنّج إبان حقبة الحصار الاقتصادي على العراق، كانت دول أخرى وفي مقدمتها عُمان وقطر – التي تغيَّر موقفها من العراق كثيراً بعد عام 2003 – وبشكل أقلّ، الإمارات والبحرين، من المبادرين بمحاولات الصُلح مع العراق عقِب العام 1990، فعُمان هي الدولة الأولى التي أعادت فتح سفارتها في بغداد عقب الحرب، وتلتها قطر التي تُعد الوحيدة التي استقبلت وفوداً عراقية رسمية، تتوجت بزيارة وزير الخارجية العراقي السابق محمد سعيد الصحاف عام 1994، انفتاحٌ لا يخلو من تأثيرات النزاع السعودي القطري على الحدود.
وانطلقت أول طلبات رفع الحصار، والصلح مع العراق من الإمارات العربية المتحدة، التي دعا رئيسها الراحل الشيخ زايد بن سلطان إلى رفع الحصار والمعاناة عن الشعب العراقي، وأردفه وزير الدفاع آنذاك محمد بن راشد آل مكتوم عام 1995 بدعوة الكويت إلى مدّ جسور المحبة مع الشعب العراقي، الذي قُدِر أن يكون جار الكويت، إضافة لذلك، اتخذت البحرين مواقف مقاربة للموقف الإماراتي.
على النقيض تماما فإن المملكة العربية السعودية والكويت وقفتا إبان تسعينات القرن الماضي بوجه أيّ اتجاه دولي أو إقليمي نحو تخفيف العقوبات على العراق، وحمّلتا النظامَ السياسيَ العراقي مسؤولية المعاناة التي تضرب العراقيين، لأن النظام سوَّف تنفيذ قرارات مجلس الأمن، كما ذكر وزير الخارجية السعودي في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995، التي تناغمت معها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد عام 2003 واحتلال العراق، تأخرت المملكة كثيراً بإعادة التمثيل الدبلوماسي السعودي إلى العراق.
وإبان سنوات الاقتتال الطائفي في العراق، ونشاط تنظيم القاعدة واستهدافه للمدنيين في الأسواق والقتل على الهوية، كانت هناك دعاية شديدة ضد السعودية في العراق، تتهمها بدعم الإرهاب، وتصدير المقاتلين الى العراق، بمقابل إيران – مثلاً – التي تصوّرها الدعاية على أنها لم ترسل انتحاريين، الأمر الذي عزّزه الخطاب المتشنج للسعودية تجاه شكل النظام السياسي الجديد، وعدم انخراطها سريعاً في علاقات.
ولا يمكن نكران أن جزءاً من هذه الدعاية كان يقع على عاتق السعودية، في الأقل على فئة معينة من المجتمع السعودي، وهم المرتبطون بأئمة الصحوة وسواهم، الذين كانوا يهاجمون العراقيين حكومة وشعباً، ويهدرون دم المدنيين عبر فتاواهم، ناهيك عن دعمهم المالي والتبرعات التي كانت تصب في صالح التنظيمات المتطرفة الناشطة في العراق.
وإذا كان جزء من الإعلام المرتبط بالسعودية يندد بالإرهاب وقتها، ويبدي نوعاً من الدعم والتفهُّم لشكل النظام الجديد – على سبيل المثال جريدة الشرق الأوسط في الحقبة التي كان عبد الرحمن الراشد رئيساً لتحريرها -– فإن إعلاماً آخر كان متبنياً لخطاب آخر على النقيض من الأول، ناهيك عن القنوات ذات التوجّه الطائفي المعلن، والتي خلقت مبرّراً للدعاية المتطرّفة المضادة للسعودية.
وعلى الرغم من تبني الملك عبد الله خطاباً غير متشنج تجاه العراق، لكن مفاصل أخرى من السياسات السعودية لم تكن على المستوى نفسه من التعقّل الذي امتاز به الملك الراحل.
لم تأخذ الأمور منحىً جديداً إلّا مع وصول الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولاية العهد، وتبنيه خطاباً وتوجّهاً مدنياً، ضيَّقَ فيه الكثير من مساحة الخطاب المتشدّد في السعودية، وتعامل بشدة مع أئمة الصحوة الذين لا يزال بعضهم في السجون، فتغيّر الخطابُ بشكلٍ تام تجاه الشيعة، الأمر الذي عزّز موقف السعودية في تغيير سياساتها مع العراق سعياً لإعادة تموضعها في الداخل العراقي بشكل إيجابي.
بشكل تدريجي، سعت المملكة، وبمساعدة ومباركةٍ أمريكيتين، إلى إعادة التعامل مع العراق على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية، مع إدراك الحاجة الى موازنة نفوذ إيران الذي بلغ مستويات متقدمة في السياسة العراقية، ومع ذلك، فإن الانقسامات الطائفية، والتنافس الجيوسياسي لا يزالان يسهمان في تعقيد علاقة البلدين، ويضعانهما في توازن هش قوامه التعاون والمنافسة والحذر، وسط التحولات السريعة بموازين القوة في الإقليم.
الديناميات المتناقضة في السياسة الخارجية للبلدين
يذهب الكثيرون إلى أن الأوضاع الداخلية التي تصنع ديناميات السلطة هي التي تتحكّم بشكل السياسة الخارجية للبلد، إلى حدّ القول إن الدبلوماسية العامة هي عملية تسويق السياسات العاملة الداخلية على المستوى الخارجي.
على هذا الأساس، فإن الاختلافات بين الداخلَين، العراقي والسعودي، تؤثر على العلاقة بين البلدين قليلاً.
على المستوى العراقي، يُمكن تمييز معضلة الخلافات والانقسامات الداخلية على المستوى الإثني والطائفي، والاصطفافات السياسية الهادفة إلى تحقيق المصالح الخاصة لكل مجموعة، بل لكل زعيم أو حزب ضمن المجموعة الإثنية ذاتها، الأمر الذي ينعكس كتناقضات في بنية السلطة ذاتها، واصطفافات محاصصاتية على أساس الإثنيات، تقوم بتوجيه ومواءمة حصتها من مؤسسات الدولة مع توجهاتها الإثنية وعلاقاتها البينية المتناقضة.
وليست السياسة الخارجية العراقية بمعزل، حيث تخضع هي الأخرى للديناميات الداخلية المتناقضة، وفي طليعة تلك التناقضات التي تؤثر على العلاقات العراقية السعودية هو الموقف من إيران، وانخراطها في النزاعات الإقليمية التي غالباً ما تكون السعودية طرفاً فيها، مما يعني تأثّر العلاقات بين البلدين، خصوصاً بملاحظة التناقض الطائفي بين إيران والسعودية، وترجمته إلى صراع إقليمي يكون العراق ساحة مهمة من ساحات الاستقطاب فيه.
أما على مستوى السعودية، فإن الاستقرار السياسي الداخلي، وتمتع المملكة بنظام قوي يسيطر على التوجهات السياسية الداخلية والخارجية في مسار واحد، ضمن رؤى العائلة الحاكمة أو من يرأسها بشكل أدق، قادا إلى استقرار السياسات العامة داخلياً، ومنح القدرة للسعودية على رسم سياسات خارجية موحّدة دون تناقضات داخلية، على الرغم من وجود الشيعة في المنطقة الشرقية، والذين تسربت لبعض مجاميعهم فكرة الاصطفاف مع ولاية الفقيه، إلا أن العنف القوي الذي قوبلت به الأطراف المصطفة مع ولاية الفقيه حيّد مشاكل داخلية كان من الممكن لها أن تنعكس على السياسات الخارجية السعودية.
في السياق ذاته، تطمح السعودية إلى تأكيد وجودها كقائد إقليمي، وبرهنة قدرتها على موازنة النفوذ الإيراني، وقيادتها للعالم الإسلامي، مرة بوصفها زعيمة سنية، ومرة بمحاولة الاحتواء للشيعة وغيرهم من الأقليات الإسلامية الأخرى.
ولو تفحصنا هذا التناقض في ضوء الديناميات الإقليمية فسنجد أن العراق جزء من اللعبة وليس لاعباً أساس.
كلا اللاعبين الأهم – إيران والسعودية – منخرطان في لعبة تنافسية بعض تجلياتها تظهر بشكل صراع بالوكالة، ضمن المحيط الجيوسياسي الإقليمي والدولي، وكلا الطرفين يدعمان فصائل متصارعة في العراق وسوريا واليمن، الأمر الذي يولد تعقيدات إقليمية بالغة الدقة، وفي الوقت ذاته يظهر أن العراق واحد من ساحات الصراع التي يحرص البلدان على تجنب امتداد تداعياتها الى أراضيهما.
لهذا الصراع أشكال متعددة، تبدو ضمن تكتلات إقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي، وحلف محور المقاومة الذي تمتد فصائله المسلحة عبر بلدان متعددة وتعمل باتجاه واحد يناقض الأهداف السعودية في المنطقة، الأمر الذي يعني أن متغير العلاقات الإيرانية السعودية سيكون حاضراً بشكل كبير في صياغة شكل العلاقات بين العراق والسعودية.
مع كل هذه التعقيدات، لن يكون هناك يقين تجاه مبدأ المبادرة الاستراتيجية الذي اتخذه العراق لتعزيز علاقاته مع السعودية، على الرغم من تفاؤل رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي صرح مرة أنه من الممكن بسهولة، مع السعودية، “تكوين محور سياسي اقتصادي، يؤسس لنظام إقليمي مستقر”، وهو تصريح لا يلقى القبول من بعض شركاء السوداني في الإطار التنسيقي، الذين لن يكون قادراً على كبح ردود أفعالهم تجاه السعودية في حال حصول خلاف بينها وبين صديقتهم إيران.
التقارب
بدأت معالم عودة العلاقات بين البلدين تتضح إبان حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، حيث عاد التمثيل الدبلوماسي السعودي في بغداد، وأخذت العلاقات منحى أكثر وضوحاً إبان ولاية مصطفى الكاظمي، الذي زار الرياض عام 2020، فتوسّع الحوار بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية، ثم دخل العراق كوسيط بين إيران والمملكة وعقدت عدة اجتماعات لمجموعة الخمسة زائد واحد في بغداد ابتداء من عام 2021 والتي كان من ثمارها نجاح الوساطة الصينية الكافلة التي أعادت العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية عام 2023.
وعلى الرغم من التحولات الكبيرة والسريعة بطبيعة العلاقات في هذه الحقبة، إلّا أنها بقيت أسيرة لثلاثة متغيرات:
- الأمن
- التعاون التجاري
- العلاقات الإيرانية السعودية
سَعَت السعودية إلى تعزيز المتغيّرين الأولين لصالحها بوسائل متعددة، فأمنياً، تقوم السعودية بشكل فعال بتأمين الحدود مع العراق، وبحسب شهادات قادة أمنيين حصل عليها الكاتب، فإن حرس الحدود السعودي على تنسيق تام مع نظيره العراقي، ناهيك عن التعاون مع جامعة نايف ضمن أعمال مجلس وزراء الداخلية العرب.
وبحكم الخبرة التي اكتسبها العراقيون من قتال تنظيم الدولة داعش، والأعداد الغفيرة من الأسرى الأجانب من مقاتلي التنظيم، ومنهم سعوديون، فإن المراكز السعودية المتخصصة بشؤون مكافحة الإرهاب حاولت بناء جسور من التواصل والتعاون للاطلاع على نتائج التحقيقات مع المعتقلين، مثل مركز (اعتدال) الذي قام أمينه العام منصور الشمري بزيارة رسمية للعراق وعدد من المراكز والمؤسسات الأمنية فيه.
على الرغم من تعامل السعودية مع الجيش وحرس الحدود ووزارة الداخلية في العراق، إلا أنها تشعر بالتهديد من وجود الحشد الشعبي، وبشكل أكثر تحديداً من فصائل منضوية تحت مظلة الحشد، والتي اشتركت بشكل مباشر في عدد من التهديدات التي واجهتها المملكة، مثل قصف المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو في خريص وبقيق عام 2019 وأشارت أصابع الاتهام إلى ضلوع فصائل عراقية في تنفيذه على الرغم من تبني الحوثيين للهجوم، لكن الحكومة السعودية تغاضت عن اتهام العراق لكيلا تحرج الحكومة العراقية وتسبب توتراً يلقي بظلاله على العلاقات بين البلدين، والتي تطمح السعودية لأخذها إلى مستويات أعلى.
أما على المستوى الآخر، فقد حاولت السعودية دعم العراق في العديد من المواقف، منها إقامة بطولة كأس الخليج 25 لكرة القدم في البصرة، ناهيك عن استمرار العروض التجارية للاستثمار وضم العراق إلى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وسواها.
كما أطلقت السعودية مبادرة للمنح الدراسية للطلاب العراقيين، ولكن ملابسات بيروقراطية وشبهات فساد وزّعت هذه المنح عبر المحاصصة الحزبية وليس وفق التنافس الحُر عبر قناة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية.
تجارياً، بدأ الحضور السعودي في العراق يتطور بشكل كبير، وقد شرعت السعودية أول الأمر بالاستثمار في المناطق التي لا تتعرض فيها للضغوط، كقطاع الأغذية والألبان والقطاع العقاري في إقليم كردستان العراق.
ودخلت السعودية في الأسواق العراقية خارج إقليم كردستان بطرق متعددة، إذ اشتركت في الدورة 47 من معرض بغداد الدولي عام 2024، وأدرجت هيئة الصادرات السعودية، وبحسب الإعلام السعودي، (564) منتجاً سعودياً في الأسواق العراقية، وربطت 20 شركة سعودية مع الموزعين والوكلاء في العراق.
سبق هذا الإعلان السعودي تعثرٌ كبير، فقد أبدت المملكة رغبتها في الاستثمار في بادية السماوة عام 2020، ولكن حملة قادتها الفصائل العراقية المناوئة للسعودية أفشلت هذه الرغبة على الرغم من الميل الحكومي للاستجابة وقتها، وتقدمت تلك الفصائل عبر شركاتها للاستثمار البديل في المدينة التي تصنف الأكثر فقراً في العراق، الأمر الذي قاد وزير الزراعة وقتها إلى الإعلان عن خطة لتوفير أراض أخرى في محافظات مختلفة لتكون جاهزة للاستثمار السعودي في قطاع الزراعة العراقي، مثل النجف، مرة أخرى.
يلقي نقص البيانات الحكومية الرسمية بالكثير من الغموض على حجم الوجود السعودي التجاري في العراق، فالحديث الإعلامي عن الاستثمار السعودي في القطاع العقاري في مدينة الرفيل غرب بغداد لا يزال دون أرقام رسمية او أدلة ملموسة، ولو بحثنا عن حجم التبادل التجاري بين البلدين فلن نجد أكثر من عناوين للأخبار عن بلوغه “أكثر من مليار دولار” سنوياً حتى منتصف عام 2024.
مع ذلك، سنجد أن الاقتصاد هو طليعة ما يتم الحديث عنه في أي سياق خبري بين البلدين، سواء كانت علاقات دبلوماسية طبيعية، أو إبان الزيارات الرسمية، مثل زيارة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني إلى السعودية في نيسان 2024 ولقائه بولي العهد، حيث كان الحديث عن “تطلع العراق الى تعاون اقتصادي أوسع مع المملكة” هو في طليعة البيان الذي أصدره مكتبه عن الزيارة.
تبرهن إعادة افتتاح المنفذ البرّي الأهم بين البلدين، منفذ عَرعَر، رغبة السعودية بالوجود في العراق عبر التجارة والاقتصاد. ويعزز فتحُ المجال أمام المعتمرين العراقيين والسواح برّاً، أواصرَ الفهم الاجتماعي، ويبدو أن القيادة السعودية أدركت أن الطريق إلى بغداد لا يمرّ أول الأمر عبر القنوات الرسمية، لتتخذ سبيلا يبرهن رغبتها بالجيرة الحسنة مع المجتمع العراقي، وهو الشعار الذي رفعه الجناح السعودي في معرض بغداد الدولي (جيرة وديرة).
من جانب آخر، لا يزال النفط عاملاً مهما في التعامل بين البلدين، يتداخل فيه الاقتصاد مع السياسة بين البلدين، وهو أمر سبقت الإشارة له، فالبلدان يتحملان مسؤولية مشتركة في أوبك، وكلاهما يتنافسان في أسواق متشابهة، دون أن نغفل أن النفط كسلعة عالمية لا يترك لهوى المنتجين، فالولايات المتحدة حريصة في النهاية على إيجاد تفاهمات بين المنتجين لا تؤثر على السوق العالمي بما يضرها، لتقود التفاهمات الجانبية بين الدول المنتجة التي تتمتع بنفوذ كبيرها فيها، وأهمها السعودية.
ليس على هذا المستوى وحسب، فعملاق النفط السعودي شركة أرامكو، بتشعباتها الأمريكية المعقدة، لها حضور في العراق بأشكال متعددة، مثل اتفاقها مع الحكومة العراقية في 2023 على المساهمة في تطوير حقل عكاز النفطي، ناهيك عن الاتفاق المبدئي على الاشتراك في مشروع نبراس الذي يعد من بين أهم المشاريع الاستراتيجية العراقية في قطاع البتروكيمياويات.
إيران: المتغيّر الحرج
بمقابل المتغيّرات الإيجابية، هنالك المتغير الأكثر حرجاً في العلاقات العراقية السعودية، والمتعلق بالعلاقات السعودية الإيرانية، الأمر الذي لا يزال يخضع لتحوّلات متسارعة لا تبتعد كثيراً عن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
على الرغم من التفاهم بين إيران والسعودية وعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لا تزال عناصر الصراع فعالة، وتلقي بظلالها بشكل أكيد على العراق، إذ لا تتردد الإدارة الأمريكية في الحديث عن صفقة واسعة بين واشنطن والرياض وإسرائيل، عبر حزمة من الاتفاقيات على صعيد الأمن والتسليح والتعاون النووي، مع موافقة الرياض على التطبيع مع إسرائيل شرط إيجاد مسار لحل الدولتين.
والهدف السعودي الأساس في هذه الصفقات هو مواجهة النفوذ الإيراني وأذرعه في المنطقة، تماشياً مع الهوى الأمريكي في الشرق الأوسط، والذي سيكون أكثر شدّة مع عودة ترامب الى المكتب البيضاوي، ما يعني المزيد من الضغط على إيران، فالمزيد من التوترات الإيرانية في مناطق نفوذها، ومنها العراق، وبشكل مباشر أو غير مباشر ستتأثر العلاقة بين العراق والسعودية.
سيجد العراق نفسه ضمن معادلات هذه الصفقة -لو تحققت- قد اصطف تلقائياً مع المحور الإيراني، بحكم مركزية دول الهلال الخصيب في المواجهة مع إسرائيل (العراق، سوريا، لبنان، فلسطين)، الأمر الذي سيزيد تعقيد وصعوبة اندماج العراق في المحور الخليجي، فمسألة التطبيع لا تزال من القضايا بالغة الحساسية عراقياً، والتي ستثير الشارع العراقي قبل الفصائل الصديقة مع إيران حتى.
فضلا عن ذلك، فإن مثل هذا الاتفاق سيلقي بظلاله على قضية الطاقة وتصديرها، خصوصاً مع احتمال وصول ترامب إلى السلطة، الذي سيعمل باتجاه خفض أسعار النفط كما فعل في ولايته الأولى، الأمر الذي سيلقي بظلال ثقيلة على العراق، ذي الاقتصاد الريعي المعتمد بشكل كامل على النفط.
ستكون هذه المعادلة الصفرية بين إيران والسعودية، معضلة دائمة أمام العراق في مسار تحديد علاقته بالمملكة ومحورها الخليجي، وبظل السيولة السياسية وعدم وجود قرار مركزي عراقي موحد، وعجز الحكومات عن ضبط الفصائل، التي ستظل مصدر الخطر الأكبر على العلاقات بين البلدين، ولا يمكن الجزم بأن السعودية ستبقى متمسكة بتمتين العلاقة مع العراق، على الرغم من الارتباك في سياساته الداخلية، وليس مؤكداً إلى أي حدّ ستحافظ على خطابها الذي جسّده وزير خارجيتها فيصل بن فرحان حين زيارته للعراق بالتأكيد على التزام بلده باستقرار العراق والإقليم، وأن أي خلل في علاقات العراق العربية سوف تكون له آثار سلبية على الخليج العربي، ليوضح بعدها أن هذا الخلل سوف يضعف الحكومة المركزية، مما يعني زيادة نفوذ “الميليشيات” المسلحة، وتحوّل البلاد الى ساحة للخلايا الإرهابية التي تهدد أمن السعودية والعراق معاً، وهذا التصريح يوضح بشكل مكثف رؤية السعودية في علاقاتها مع العراق، والمتغيّر الذي يمكن أن يهدد هذه العلاقة، أي الفصائل.
ومن البديهي أن تمتلك السعودية المستقرة من المرونة في خيارات التعامل مع العراق ما لا تملكه بغداد المضطربة، وإذا كانت المملكة قد تخلت عن خيارات دعم المتشددين بحكم احتمال ارتدادهم الأمني عليها، فإن قدرتها على التحكم بأسعار النفط، ناهيك عن قدرتها على دعم الأقاليم – وهو ما اتهمت به بغداد الرياض قبل سنوات – في العراق ستظل وسيلة فعّالة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، والذي تراه تهديدا قائماً مستداماً.
إن أي أفق مستقبلي لتطور العلاقات بين البلدين مرهون بتعديلات استراتيجية طويلة الأمد، يغير البلدان في غضونها أساليب التعامل بينهما، ويُنحّيان عناصر الخلاف، مع ضرورة بلورة توافقات إقليمية تشمل استقرار المنطقة برمتها، وضرورة أن تفهم دول الاقليم أن الاستقرار ينفع الجميع، والاضطرابات توهن الكل.
وفي ظل الوضع الحاضر في العراق، وعدم استقرار الحكومات الائتلافية، وسخط الأطراف السياسية الشريكة، فإن قدرة العراق على بناء سياسة خارجية تسير نحو الاستقرار مع السعودية ومحورها تبدو أمراً بالغ الهشاشة.