قراءة لانتقالات الزعامة تاريخياً
المرجع الأعلى: تأمُّل في مرحلة ما بعد السيستاني
21 أيلول 2024
من سيخلف السيستاني؟ من هُم المرشّحون؟ هل جميعهم يعيشون في النجف؟ كيف سيتم اختيار المرجع الأعلى أصلاً؟ وما الذي يحتاجه رجل الدين ليكون مرجعاً أعلى؟ هل سيستقرّ الأمر على مرجع طاعن في السن، تبدأ مرحلته بالتحضير لمن سيخلفه؟ تأمُّلٌ في مرحلة ما بعد السيستاني
دخول
سيكون يوماً صعباً واستثنائياً، بكل المقاييس، على العراق أولاً وملايين الشيعة “الاثنَي عشرية” في العالم أجمع ثانياً، يوم رحيل المرجع الديني علي السيستاني عن الحياة، ليس لأنه رجل الدين الوحيد في حياة الشيعة، بل لأنه أبرزهم على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، ويتّبعه العدد الأكبر من الأتباع-المقلّدين- قياساً بغيره من رجال الدين.
في ذلك اليوم، سوف ينحسر، بالضرورة، أثرُه الشخصي على الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط والعراق على وجه الخصوص، ويضع هذه الطائفة الدينية، بأكملها، أمام قراءة جديدة للواقع من قبل رجل دين واحد (أو أكثر) ستترك بصمتها في حياة الكثيرين لسنوات أو عقود مقبلة، كما حدث مع أسلافه وبمقدمتهم السيستاني الذي التصق به وصف (زعيم الشيعة في العالم) الأمر الذي عزّزته زيارة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، له في داره البسيطة بزقاق متفرّع من شارع الرسول بمدينة النجف في العراق.
مع بلوغه الـ 94 من العمر، لن يكون غريباً، التأمّل بمشهد ما بعد السيستاني، و محاولة حصر وتبسيط المفاهيم الشيعية الأساسية التي تؤثر في اختيار خليفة زعيم الشيعة، ومعرفة دور الظروف الدينية والسياسية في اختياره.
السيستاني، من هو؟
على الرغم من نسبته إلى إيران وإلى مدينة سيستان تحديداً (كانت تسمى سجستان في المدونات التاريخية) لكنْ علي بن محمد باقر بن علي الحسيني من مواليد مدينة مشهد عام 1930 م، ويبدو أن سرّ هذا الانتساب إلى المدينة الإيرانية ذات الغالبية السنية من عرقية البلوش، هو تولّي أحد أجداد السيستاني مسؤولية القضاء فيها إبان العهد الصفوي، إلّا أنّ الغالب على حياة أسرته هو التنقل بين العراق وإيران، وبين مدن مشهد والنجف وسامراء بشكل أساسي، ولم تغب الأسرة عن العراق طويلاً، فبعد عودة جد السيستاني المباشر عام 1900 م إلى إيران، مُنهياً عقوداً من الدراسة الدينية، رجع الحفيدُ إلى العراق عام 1950 م ليقضي فيه بقية عمره.
بالإضافة إلى أنه ينحدر من سلالة أشراف، تتصل بنبيّ الإسلام وأئمة التشيُّع، فإن غالبية أجداده كانوا من رجال الدين، حيث يتصل نسبه بـ أبي عبد الله الحسين الأصغر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان لأجداده حكم منطقتي طبرستان وقزوين بين عامي 1460 و1473 م، كما أن من بين أجداده محمّد باقر المير داماد أحد أبرز فلاسفة ومراجع الشيعة في القرن السادس عشر.
كان يبدو أن علي السيستاني الشاب كان عبقريا في مجال الدراسات الدينية الشيعية داخل مدارس هذه الطائفة التي تسمى الواحدة منها بـ الحوزة، إذ يشي تتبعُ بداياته بالكثير من المحطات الاستثنائية داخل هذا العالم.
قبل مغادرته مدينة مشهد، حين كان في العقد الثاني من عمره، حضر السيستاني عدداً من بحوث الخارج (المستوى الأعلى من الدراسات الدينية الشيعية)، عند أسماء مهمة في الاعتبارات الشيعية الدينية، مثل الميرزا مهدي الآشتياني والميرزا هاشم القزويني، وحينما ذهب الى مدينة قم حضر البحث الخارج لدى مرجع الطائفة وزعيمها في ذلك الوقت حسين البروجردي بالإضافة الى أستاذ مهم آخر هو محمد حجت الكوهكمري.
وسرعان ما التحق السيستاني، بُعيد وصوله إلى العراق عام 1950، بدرس البحث الخارج عند أربعة من أهم فقهاء الشيعة هم محسن الحكيم (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقد) وأبو القاسم الخوئي (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقدين) وحسين الحلي أحد أبرز أساتذة الحوزة النجفية عبر التاريخ.
بعد أن حطّ رحاله في العراق بعقد بالضبط، حلّ عليه عامٌ مميز، 1960، حين حصل على شهادة الاجتهاد المطلق من أُستاذَيه الخوئي والحلّي، في وقت لم يصل أقرانه لتلك العتبة، بعدها بعام، وفي عام 1961، بدأ السيستاني درسه الخاص على مستوى البحث الخارج والذي سيستمر ما يقارب أربعة عقود لاحقاً، وخلال عقود الستينيات والثمانينيات ذهب الى الحج ثلاث مرات، أولاها كان في عام 1966 م وثانيها في عام 1985 والثالثة في عام 1987، وكانت هذه الرحلات، بالإضافة لرحلة علاجية عام 2004، هي المرات الوحيدة التي غادر فيها العراق على مدى أكثر من سبعين عاماً.
في السنوات الأخيرة لحياة أستاذه الخوئي (زعيم الشيعة من 1970 وحتى 1992) كان السيستاني قريباً منه – وإن لم يتولَّ مسؤولية في مكتبه الذي يرتبط بوكلاء المرجع المنتشرين جغرافيا في عموم العالم ويصطلح عادة على هذا التكوين بمسمى (جهاز المرجعية) – وبحكم هذه العلاقة الخاصة بين الأستاذ وتلميذه فقد طلب منه عام 1989 الصلاة بالناس جماعة بدلا عنه بسبب مرضه وشيخوخته – بلغ الخوئي حينها 89 عاما – في جامع الخضراء بالنجف حيث درّس وصلّى لأكثر من 50 عاماً، وكانت هذه الإنابة اشارة فهمها الشيعة المتدينون على أن السيستاني هو الخليفة المحتمل للخوئي، وبرغم زلزال غزو الكويت وانتفاضة 1991 وما تعرضت له مرجعية الخوئي والقريبون منها من اعتقالات ونقل الى بغداد، بقي أثر هذه الإشارة، وأصبح أشد وقعاً حينما صلّى التلميذ على جثمان أستاذه بعد وفاته عام 1992 ليدخل الشيعة، بعدها بفترة، في مرحلة زعامة السيستاني المستمرة حتى الآن.
ولأن أوان السؤال عمّن يخلفه آن، بحكم حتمية الموت وكِبر السن، لا بد من استدعاء أسئلة أخرى، أسئلة ضمنية أو لصيقة بعضها، فمع الاستفهام عن طريقة انتقال الزعامة هذه، وإذا ما كانت هنالك معطيات لمتنافسين مستقبليين، لا بُدّ من توضيح مفاهيم أساسية مثل (الاجتهاد، التقليد، الأعلمية، أهل الخبرة) وقراءتها ضمن أفقها الزماني والمكاني والتأثير الاجتماعي والسياسي لها وعليها، وعبر تكثيف واعٍ يتجاوز التفريعات غير ذات الصلة.
الاجتهاد
كان المسلمون عامةً يأخذون أحكامهم الدينية والحياتية في المسائل كافة كـ(الصلاة والصيام والحج والزكاة والزواج والبيع والإرث والديات والحدود وغيرها) من النبي محمد في حياته، ثم من صحابته ومن تبعهم بعد وفاته.
لكنّ عدداً من صحابة النبي، اضطُرّوا لإنتاج أحكام جديدة حينما واجهتهم مسائل لم تكن موجودة في حياة نبيّهم اعتماداً على العقل وهذه هي بداية الاجتهاد، الذي تعددت تعريفاته بين المذاهب، لكنّ المتفق عليه بينهم هو أن المقصود بعملية الاجتهاد بذل الجهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، غير أن كِلا المذهبين يختلفان في أسلوب الاجتهاد وأدواته ومساحة نفوذه الشرعية.
بالنسبة لأهل السنة والجماعة، فقد استمر الاجتهاد طيلة حياة الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم حتى وقت قريب بعد وفاة آخر الأئمة الاربعة لأهل السنة وهو الإمام أحمد بن حنبل في عام 855 م.
أما الشيعة فلم يستعملوا مصطلح “الاجتهاد” إلّا متأخراً في القرن السابع الهجري، وكانوا قبل ذلك يستعملون مصطلح “التفقُّه”، ذي الدلالة الأضيق، إذ لم يؤمّن الشيعة بذلك منذ حياة النبي في القرن السادس الميلادي وحتى غياب إمامهم الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي في القرن التاسع الميلادي، حيث اعتبروا أئمَتهم امتداداً للنبوة ولم يكن لديهم سبب يدعوهم للبحث عن دليل يدعمون به الأحكام الشرعية التي يحتاجونها أمام المسائل الجديدة التي تمرّ بهم والتي يأخذونها من أئمتهم مباشرة.
وبسبب الحاجة إثر غياب الإمام الثاني عشر للشيعة، ومنذ العياشي المتوفى في القرن التاسع الميلادي، بدأ الاجتهاد عند الشيعة يتبلور ويتحول إلى قطب الرحى في عملية إنتاج الفتوى الدينية، وخلال القرون العشرة اللاحقة أصبحت للمفهوم قواعد ومراحل ومحددات وضوابط تؤثر في اختيار زعيم الشيعة ضمناً.
التقليد
على الجانب الآخر من الاجتهاد يقع التقليد، فكما أن علماء الدين الإسلامي من السنة والشيعة مطلوب منهم الاجتهاد، بغض النظر عن أسلوبه وحدوده، فكذلك على الناس عموما ممّن لم يدرسوا الدراسات الدينية، أن يتبعوا رأي عالِمٍ ما، وهو ما يُصطلح عليه بـ(التقليد)، وفي ما يخص الشيعة الإثني عشرية فإن عمل الإنسان لا يُقبل إن لم يكن مُقلداً لرجل دين محدد يصطلح عليه بـ(المرجع).
وعلى هذا الأساس ينقسم المجتمع الشيعي في كلّ مكان إلى مراجع ومقلدين والقِسم الثاني يعود إلى الأول بكل شيء، ما عدا العقائد أو أصول الدين كـ (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) التي لا تقليد فيها، وقد تطورت هذه العلاقة بين رجل الدين الشيعي ومقلديه من الناس إلى آصرة مهمة في ديمومة المذهب عبر القرون، ولأهميتها فقد وضعت قواعد دقيقة يسير عليها الإنسان العاديّ كي يصل إلى رجل الدين المناسب من أجل تقليده.
والعادة الجارية أن يطرح المُقلِد سؤاله على المرجع في إطار ما يُصطلح عليه بـ(الاستفتاء) ليجيب المرجعُ بما يُصطلح عليه بـ(الفتوى)، وتتنوع مستويات الفتاوى بحسب مضامينها، فيمكن أن تتناول مسائل تتعلق بطهارة الإنسان مثلاً، وتصل أحياناً إلى كيفية اختيار رئيس أو مواجهة قوى خارجية.
وغالباً، لا يطرح المرجع رأيه دون سؤال، لكنْ بعض المراجع لجؤوا إلى افتراض الأسئلة الأكثر احتمالاً، وأجابوا عنها في كتب أصدروها، يُصطلح على الواحد منها بـ(الرسالة العملية) من أجل تسهيل المهمة على مقلديهم في كل مكان وزمان.
الأعلمية وأهل الخبرة
كما أشرنا سابقاً، فإن للتقليد عند الشيعة شروطاً واضحة، وأهمها أن يقلّد الانسان العاديُ الأعلمَ من بين المراجع الأحياء الحائزين على مرتبة الاجتهاد، ولصعوبة إدراك البسطاء من هو الأعلم من بين الفقهاء فعليه حينها سؤال طائفة من رجال الدين يُصطلح عليهم بـ(أهل الخبرة)، ولهؤلاء ميزات محددة، أهمها حضورهم واطّلاعهم على دروس الفقهاء المشاهير وقدرتهم على تحديد من هو الأعلم من بينهم على ضوء الإمكانات العلمية في حقلي الفقه والأُصول وهما فرعا الدراسات الدينية الشيعية الأهم، ومن صفاتهم الغالبة كونهم أساتذة في الحوزة أو رجال دين بلغوا الاجتهاد لكنهم لا يتصدون لمهام الإفتاء وليس لهم مقلدون، وأحياناً يكون أهل الخبرة طلبة متقدمين في درس البحث الخارج وقضوا فيه سنوات طويلة وإن لم يكملوه بعد.
وفي العادة يلجأ عوام الشيعة إلى وكلاء المرجع الأعلى المتوفى حديثا لسؤالهم عن أهل الخبرة، حيث يتركز أفراد هذه الفئة في النجف بالعراق وقم بإيران -موقعَي الدراسة الأبرز حالياً عند الاثني عشرية- وخلال 100 عام خلت، كان أهل الخبرة يميلون بغالبيتهم إلى مرجع ديني أعلى بعينه وينصحون الناس بتقليده، بل ربما اتفقوا عليه في أواخر حياة المرجع الأعلى استباقاً لموته وخشية تفرّق الناس وعدم استقرار الأمور.
يتّفقُ عدد كبير من مراجع الشيعة على أن موقع “الأعلمية” أو منصب المرجع الأعلى أو زعامة الشيعة الدينية بشكل عام، تحتاج الى ما هو أكثر وأكبر من التفوّق العلمي، فمن الدلائل على ذلك جواب الفقيه المعروف محمد الفشاركي الأصفهاني المتوفّى في النجف سنة 1899، حينما عرض عليه عدد من الشخصيات الشيعية البارزة تولي الزعامة بعد وفاة استاذه الميرزا الشيرازي الكبير عام 1895 م حيث صدمهم حينما قال: “أنا أعلم أنّي لست أهلاً لذلك؛ لأن الرئاسة تحتاج إلى أمور غير العلم بالفقه والأحكام من السياسات، ومعرفة مواقع الأمور”، حسبما ورد في كتاب «تكملة أمل الآمل» للمؤلف حسن الصدر .
يضاف إلى ذلك المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتق زعيم الشيعة، من قبيل التصرف في ما يعرف بـ(سهم الإمام) أو (الخُمس) ويُصطلح عليه أحياناً بشكل شامل بـ (الأموال الشرعية) وهي الأموال التي يقدمها الشيعة له ضمن سياق تعبُّديّ ديني، حيث يجب عليه إنفاقه في إدامة مؤسسات المذهب الشيعي الدينية ورعاية الفقراء وغيرها من الأمور، وهذه المسؤولية تتطلب وَرَعَاً وزهداً ونزاهة، بالنظر لحجم هذه الأموال الكبير واستمرارية تدفقها منذ زمن الإمام الكاظم سابع أئمة الشيعة الاثني عشرية وحتى الآن.
التجارب السابقة لاختيار المرجع الأعلى
يبلغ عُمر الزعامة الدينية الشيعية بوصفها موقعاً للإفتاء والتأثير في الجماهير قروناً عديدة، وقد تفاوتت مساحة تأثير هذا الموقع بتفاوت الشخصيات التي تصدت له، فمن جانب كان الزعماء الأوائل كـ(المفيد، الشريف المرتضى، والطوسي) أصحاب نفوذ كبير في الدولة العباسية إبان هيمنة السلاطين البويهييين، لكنّ خلفاءهم، لقرون لاحقة، فقدوا هذا التأثير، حتى جاءت الدولة الصفوية وظهر نفوذ مرجعيات مثل (الكركي، البهائي، المجلسي)، وعاد النفوذ ليضعف فترة وجيزة حتى ظهر جعفر الكبير كاشف الغطاء وابنُه موسى (سُمّي مصلح الدولتين) ممن امتلكوا نفوذا إبان الحقبة القاجارية والعثمانية، ومع بداية النفوذ الغربي في العراق وإيران ظهرت مرجعيات كبيرة امتلكت نفوذاً مؤثراً لكنه كان موجهاً نحو مواجهة الاستعمار بالدرجة الأساس والمطالبة بحكومات إسلامية دستورية كـ(الشيرازي الكبير، الميرزا الخليلي، الآخوند الخراساني، النائيني، الشيرازي الصغير، شيخ الشريعة)، في مقابل مرجعيات أقل نفوذا وجماهيرية لم تدعم المواجهة مع التغلغل الغربي والسلطنات الدكتاتورية كـ(اليزدي) ضمن صراع المشروطة والمستبدة، وقد استمر هذا الحال حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وظهور مفهوم الدول الوطنية بشكل راسخ لتبدأ مرحلة جديدة.
مرجعية أبو الحسن الأصفهاني (1936-1946)
عاشت الزعامة الدينية للشيعة الاثني عشرية، فترة انعدام وزن بعد سقوط الدولة القاجارية في إيران وإلغاء الخلافة العثمانية وحتى منتصف العقد الثالث من القرن الماضي، وبقي المقلدون في العراق وإيران منقسمين بين عدد من المراجع أهمهم (عبد الكريم الحائري، الميرزا النائيني، ابو الحسن الأصفهاني)، وبعد وفاة طبيعية للأول والثاني من المتنافسين ذهبت الزعامة المطلقة إلى الأصفهاني، ومن اللافت أن المرجع الأعلى المطلق السابق محمد تقي الشيرازي (صاحب فتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطاني عام 1920 م) كان قد نقل أسئلة دينية يرى فيها (الاحتياط) من بعض الطلبة والناس إلى الأصفهاني كي يجيب عنها، ما اعتُبِر إشارة لأولويته في المنافسة على الزعامة، يضاف إلى ذلك التأثير السياسي الذي تجسّد في ما نقله الفقيه محمد حرز الدين بكتابه معارف الرجال “إن السيّدَ أبو الحسن الأصفهاني وعددا من المراجع اجتمعوا في عام 1925 م في النجف مع “رضا خان البهلوي” وزير الحربيّة في الدولة القاجاريّة آنذاكَ (ورئيسِ مجلسِ الوزراءِ قبلَ أن يصبحَ مَلِكاً لإيران)، وتداولوا الحديثَ معه في شؤونِ إيرانَ، وكان المنويُّ -النيّة- إن رضا شاه هو الذي يكون سلطاناً، وبعد أن أخذوا عليهِ العهودَ والمواثيقَ والأيمانَ رجعَ البهلويّ إلى إيرانَ، وبعد رجوعهِ خُلعَ أحمد شاه القاجاري“.
غير أن تأثيره السياسي في العراق كان ضعيفاً، حيث كان الأصفهاني رافضاً للغزو البريطاني عام 1941 بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني لكن الحكومة الملكية بقيادة الوصي عبد الإله ونوري السعيد قامت بنفيه إلى إيران دون خوف من ردة فعل الشارع، بل أن حكومة العراق أعادته بعد عام ووضعته تحت قيد الإقامة الجبرية في بغداد حتى مات.
وبالمجمل فقد أسس الأصفهاني لمرجعية كبيرة عبر أكثر من أربعة آلاف وكيل يمثلونه في كل مكان به شيعة اثنا عشرية عبر العالم وقام ببناء مدارس ومساجد وحسينيات وأنفق أموالاً كبيرة على طلبة العلم الديني مما جعله أحد أكثر المراجع الشيعة سلطة ونفوذا في التاريخ.
مرجعية حسين البروجردي (1946-1960)
تمثل زعامة البروجردي للشيعة حالة استثنائية، فهو آخر مرجع أعلى للطائفة مارس بشكل عملي مسؤولياته من إيران وليس من العراق، ومن الواضح لمن يتتبع سيرته أنه كان ممثلاً للزعيم السابق أبو الحسن الأصفهاني في قم ومشهد وطهران، بل من المعروف حمله رسائل خطيرة من النجف إلى رضا شاه بهلوي اعتراضاً على سياسته العلمانية وتمكين البهائيين من تولي مواقع في السلطة ومحاولة إلغاء الحجاب وغيرها من الأمور التي شهدتها إيران قُبيل الحرب العالمية الثانية، وقد تسبب حراكه باعتقاله وإبعاده إلى مشهد مما أعطاه بُعداً سياسياً واضحاً حظي على إثره بالاهتمام الكبير من الفقهاء والبسطاء، غير أن البروجردي لم يكن مؤثراً في الحياة السياسية والاجتماعية بالعراق، وإن كان ينفق على طلبة الحوزة من موقعه، بحكم مسؤوليته، وقد ساهمت أجواء الحرب العالمية الثانية وتنحية رضا شاه بهلوي وتولي نجله الحكمَ تحت وصاية بريطانية وسوفيتية، في إعطاء البروجردي الفسحة للتحرُّك الجاد في بناء مؤسسات دينية في إيران، الأمر الذي كان سبباً من أسباب توليه الزعامة لاحقاً.
مرجعية محسن الحكيم (1960-1970)
نشأ الحكيم علمياً في حضرة كبار الفقهاء الشيعة ودروسهم، ممن عاصروا أزمة المشروطة والمستبدة في إيران وكذلك تأسيس الحكم الملكي في العراق بعد ثورة العشرين التي شارك بها شاباً، وتركت هذه المنعطفات الكبيرة أثرها في شخصيته، حيث لازمه دائماً الإحساس بأن الدولة الوطنية سواء في العراق أو إيران يجب أن تمنح رجال الدين مساحة في صناعة القرار، ولأنه تلميذ بارز للنائيني منافس أبي الحسن الأصفهاني على الزعامة، فقد ذهب بعض مقلدي النائيني لتقليد الحكيم منذ الأربعينيات، الأمر الذي جعله منافساً لزعامة البروجردي في وقت لاحق وإن لم يمتلك العدد الأكبر من المقلدين.
لقد كان تأليف الحكيم لكتاب (المستمسك) بوصفه شرحاً لأحد أهم الكتب الشيعية في التاريخ وهو كتاب (العروة الوثقى) لمحمد كاظم اليزدي، حدثاً مهماً من الناحية العلمية، ساهم في نيله موقعاً مرموقاً داخل الحوزة، وبعد وفاة البروجردي ومنافسة بسيطة مع عبد الهادي الشيرازي حُسمت الزعامة للحكيم، حيث جاءت برقية من الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي مُعزِّزةً ذلك، فيروي غلام علي رجائي مستشار الرئيس الإيراني الراحل رفسنجاني في كتابه (قبسات من سيرة الإمام الخميني) ما نصه: نشطت بعض الأيدي المشبوهة بعد وفاة آية الله البروجردي لمنع ذكر اسم أيّ من مراجع قم في المجالس التأبينية التي أقيمت على روحه، وبعد (18) يوماً من وفاته أرسل نظام الشاه برقية تعزية بهذه المناسبة إلى حوزة النجف على أمل نقل المرجعية من قم إلى النجف كمقدمة لانحلال الحوزة العلمية في قم.
ويمكن القول إن مرجعية الحكيم هي التي أسّست للتأثير السياسي الكبير والملموس الذي يمكن أن تمارسه المرجعية الشيعية في العراق، حيث لم يترك الرجل محطة سياسية دون أن يبادر فيها إلى تذكير الدولة العراقية بوجوده وأهميته وقدرته على تحريك الجماهير، وقد انزعج الحكيم من عدم اهتمام الملكية الهاشمية بوفاة ابو الحسن الأصفهاني بل عدم التعزية برحيله، مما قادها للاعتذار عن ذلك، كما أنه دخل في مواجهة مع عبد الكريم قاسم، ويمكن اعتبار مرجعيته أحد أقوى خصوم انقلاب 14 تموز في عام 1958 بسبب قانوني الأحوال الشخصية والإصلاح الزراعي ونفوذ الحزب الشيوعي.
وبقي الحكيم خصماً لحكم الضباط في حقبة عبد السلام عارف الذي رفض استقباله مراراً واتهمه بالانحياز الطائفي للسنة على حساب الشيعة، الأمر الذي تراجع قليلاً في حقبة عبد الرحمن عارف، ليعود أشدّ واوضح في حقبة حزب البعث بعد عام 1968.
ولا يمكن نزع استهداف حزب البعث الحاكم عام 1969 لنجل الحكيم (محمد مهدي) واتهامه بالتآمر والجاسوسية، من كونه استهدافاً لشخصه ومرجعيته ومكانة الزعامة الشيعية. حينها، جسدت الأحداث الدرامية التي رافقتها احتجاجاتٌ واسعة، أثرَ التصعيد الذي مارسه الحكيم طيلة عقود ضد الدولة مع تغيّر الأنظمة، أُضيف إلى ذلك أن مرجعيته كانت مظلة لحزب الدعوة، أول تشكيل سياسي إسلامي شيعي في العصر الحديث، لهذا، وأكثر، فإن الحكيم بحق، هو من وضع أساس المكانة التي نلمسها اليوم في شخصية السيستاني ونفوذه وأثره البالغ.
مرجعية أبو القاسم الخوئي (1970-1992)
لم يحظ زعيم للشيعة بالإجماع الذي ناله أبو القاسم الخوئي بعد وفاة محسن الحكيم عام 1970، وسبب ذلك الأشهر هو وصف الخوئي بالعبقري من قبل العشرات من مجايليه في المضمار نفسه أولاً، وأنه دَرَّسَ البحثَ الخارج منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتخرج على يديه المئات من المجتهدين ثانياً (شهدوا بأعلميته في اللحظة الفاصلة) وهو ما لم يتوفر لغيره زمنياً، وبعد وفاة الحكيم كان هناك منافسون للخوئي مثل محمود الحسيني الشاهرودي وعبدالله الشيرازي ومحمد كاظم شريعتمداري وروح الله الخميني إلا أنهم لم يمتلكوا السيرة العلمية التي امتلكها.
لكن هذا الاجماع لم يؤدِّ إلى استقرار في البيت الحوزوي سواء في إيران أم في العراق، إذْ تزامنت مرجعية الخوئي مع الحراك الإسلامي الذي قاده الخميني في إيران ومحمد باقر الصدر في العراق، وكان موقف الخوئي من الحراكين غاية في الوهن والضعف، إذْ لازم الحياد تجاه تزلزل عرش الشاه إن لم يكن داعماً لرضا شاه بهلوي وإن كان البعض يشكك بذلك، كما إنه لم يعترض على تصفية الاسلاميين الحركيين الشيعة في العراق طيلة العقد الأول من مرجعيته، وحينما وصل نظام البعث إلى إعدام محمد باقر الصدر أحد أبرز طلبة الخوئي، لم يكن له موقف مهم، بل كان موقف أبنائه وأصهاره سلبياً، وحينما استعرت الحرب بين البلدين اللذين يحتضنان حوزتي الشيعة الأساسيتين في النجف وقم لم يظهر للخوئي موقف شديد تجاه تلك الحرب، ومع اندلاع انتفاضة 1991 ووصول نارها إلى النجف تحركت مرجعية الخوئي قليلاً لترتيب أمور المحافظة ومع انهيار الحركة عادت المرجعية الى خضوعها الذي استمرّ حتى وفاة زعيمها عام 1992.
مرجعية السيستاني (1992-….)
كان عام 1989 مؤثراً في صياغة المكانة الكبيرة التي نعرفها اليوم لموقع زعيم الشيعة ومرجعهم الأعلى، حيث شهد ذلك العام وفاة روح الله الخميني زعيم الثورة الإسلامية في إيران وأحد أهم رجال الدين الشيعة في التاريخ عموماً، بالإضافة إلى قيام مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في العام ذاته، والتي أصبحت بعد ذلك مظلة كبرى لنفوذ مؤسّسها وأسرته والمقربين من طلبته وممارسته دور جماعة الضغط سياسياً ودينياً، وخلال العام نفسه، بدأ الخوئي يستشعر دنوَّ أجله وطلب من السيستاني أن يَؤمَّ الجماعة محلَّه بمسجد الخضراء.
ومع وفاة الخوئي عام 1992 كان منافسو السيستاني كباراً في السن، حيث توفي عبد الأعلى السبزواري ومحمد رضا الكلبيكاني بعد عام، فيما تأخرت وفاة محمد الروحاني حتى عام 1997.
وخلال تلك السنوات ظهرت مرجعية محمد محمد صادق الصدر (والد مقتدى الصدر) ودخلت، شيئاً فشيئاً، في دائرة المنافسة، خصوصاً بعد انتقاد الصّدر المرجعياتِ الأخرى واتهامها بالخنوع، فاتّسعت شعبيته بوتيرة أسرع، غير أن اصطدامه بنظام صدام حسين ومقتله عام 1999 أنهى محاولته اختراق النمط الكلاسيكي لاختيار المرجع الأعلى.
ومع سقوط نظام حزب البعث عام 2003 جرى الحديث بشكل موسع عن مرجعية جماعية ضمت (السيستاني، محمد سعيد الحكيم، محمد إسحاق الفياض، وبشير النجفي)، وتزامن ذلك مع عودة محمد باقر الحكيم إلى العراق بصفته مجتهداً قاد المعارضة الشيعية لعقود، بالإضافة إلى اتساع دائرة أتباع ولاية الفقيه المتمثلة بمرجعية علي خامنئي ممتدّةً إلى العراق عبر قوى دينية وسياسية واجتماعية، ومن جانبه فقد قاد مقتدى الصدر حراكاً مستمراً لدعم استمرار مرجعية والده (محمد محمد صادق الصدر) عبر دوائر متعددة، لكنّ السيستاني وخلال سنوات قلائل استطاع استيعاب الجميع في العراق ضمن مرجعيته العُليا ودون صِدام كبير داخل الحوزة.
امتاز السيستاني بما لم يظهر في غيره مذ نشأت الحوزة، فقد تجاوز المئات من طلبة استاذه الخوئي الأقوياء علمياً ليتصدر مشهد خلافته، واستطاع تحاشي الاصطدام بمرجعية محمد محمد صادق الصدر متسارعة النمو والعبور من فوق موجتها بسلام، كما أنه نجا بمرجعيته من أهوال غزو 2003 وما تبعه من احتراب داخلي وأقام علاقة متوازنة مع إيران ونظامها ووليّها الحاكم.
وفي لحظة فارقة، لعب السيستاني دوراً محورياً عبر إصراره على كتابة دستور من خلال برلمان منتخب، كان من بين أعضائه من يمثل مرجعيته، ولم يكتف بالدستور الذي كُتب على عجالة وحمل بين دفّتيه نصوصاً خلافية. حيث دعم، بإصرار، الانتخابات على أنها الطريقة الوحيدة لتداول السلطة في “العراق الجديد”.
وعلى مدى سنوات تلت الغزو، استغلت منظومة مرجعية السيستاني فسحة زوال صدام حسين وأجهزته والحصار، وطوّرت “العتبات المقدسة” -أضرحة أئمة الشيعة المدفونين في العراق، وخصوصاً الحسين والعباس في كربلاء- فتحوّلت من مجرد مقاصد للسياحة الدينية الى مؤسسات هائلة تمتلك استثمارات كبيرة يمكنها أن تصنع فارقاً في حياة الشيعة وطبيعة القرارات التي تحدد مصيرهم، لقد شعر السيستاني أن هذا النظام الذي تشكّل بعد 2003 قابل للتطوير، فدافع عنه بقوة في لحظة 2014 وسيطرة تنظيم الدولة داعش على مساحة شاسعة من العراق، عبر الإفتاء بـ”الجهاد الكفائي”، الفتوى التي حشدت مقاتلين وسلاحاً ولعبت دوراً في هزيمة التنظيم واستعادة المدن من سيطرته، لكنها في الوقت نفسه، فتحت مجالاً لظهور فصائل مسلحة جديدة، أو توسع نفوذ وهيمنة أخرى قديمة خارج جسد الدولة، حتى زاحمته وصارت جزءاً منه. وفي عام 2019 عاد السيستاني ليدعم الإجراءات الاصلاحية تحت ضغط التظاهرات الشعبية.
المرشحون لخلافة السيستاني
بموجب ما تقدم، ليس تعويض مرجع بآخر أمراً هيناً، وبالنظر لاستثنائية السيستاني في تاريخ “الحوزة” و “المرجعية” وحتى الشيعة التابعين، سيمثل أمر خلافته تحدياً مضاعفاً.
ينقسم مرشحو خلافة السيستاني في موقع المرجع الأعلى للطائفة الشيعية إلى ثلاثة أقسام، ويقوم هذا التصنيف على أساس فرص تحقق الخلافة من عدمها حيث لا يعني الترتيب شيئاً بعينه، ولا يمكن هنا إغفال النظر في الطريقة التي سيتم التفكير بها حيال الموقع والتزاماته ومدى تأثير الحجم الكبير للمسؤولية على حرف الأنظار تجاه مرجع بعينه، والأقسام هي:
أولاً: المراجع المزامنون
والمقصود هنا، المراجع الذين بلغوا “الاجتهاد” قبل عقود، وعاصروا أكثر من مرجع أعلى قبل السيستاني، حيث يتميز هؤلاء بالشهرة الواسعة وامتلاكهم عدداً من المقلدين منذ زمن طويل، كما أنهم يمتلكون معطيات قريبة من معطيات المرجع الأعلى الحالي سواء في طبيعة السيرة العلمية أو التجربة السياسية والعملية، ولأننا نتحدث عمّن يمتلكون الفرصة في المنافسة على الموقع الأهم عند الشيعة، فلن نذكر من تعترض طريقهم مطبات لا يمكنهم تجاوزها علمياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ومن الواضح أن أعمارهم بالمجمل كبيرة ومنهم من هو أكبر من السيستاني سناً وأقل فاعلية على مستوى الدرس وصلاة الجماعة والظهور العام، ويمكن حصر هذا التصنيف بالأسماء الآتية:
- محمد إسحاق الفياض (أفغاني الجنسية يبلغ من العمر اليوم 94 عاماً، وهو يسكن النجف ومن المعروف بين الحوزويين أن من يريد العدول في رأي فقهي للسيد السيستاني يرى فيه الاحتياط إلى مرجع آخر فإن أقرب الخيارات له هو الفياض وهذه من الدلائل القوية على الأعلمية، لديه مقلدون في العراق وأفغانستان).
- الوحيد الخراساني (إيراني الجنسية، وهو كبير مراجع قم وغير مؤيد لولاية الفقيه وقد تجاوز عمره المئة، له ميل واضح لتأييد الشعائر الحسينية غير المتفق عليها والتي يدعمها التدين الشعبوي، مقلدوه في إيران غالباً).
- ناصر مكارم الشيرازي (إيراني الجنسية وهو الاسم الثاني الأبرز في قم من المرجعيات، وعمره 97 عاماً، وهو مؤمن بولاية الفقيه، مقلدوه في إيران غالباً).
- موسى الشبيري الزنجاني (إيراني الجنسية، وهو من مراجع قم المهمين، وعمره 96 عاماً، ومن معطياته المهمة بحسب البعض أنه المرجع الأقرب للتيار الإصلاحي في إيران بعد وفاة المرجع يوسف صانعي، مقلدوه في إيران غالباً).
- جعفر السبحاني (إيراني الجنسية، وهو من مراجع قم المهمين، وعمره 95 عاماً، وهو من مؤيدي ولاية الفقيه والنظام في إيران، مقلدوه في إيران غالباً).
- علي خامنئي (إيراني الجنسية، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران ومتولي منصب “الولي الفقيه” وفق الدستور الإيراني، ويبلغ من العمر 83 عاما، له مقلدون في إيران والعراق ودول عديدة أخرى)
ثانياً: المجتهدون الصاعدون
والمقصود هنا هم المجتهدون الذين عاصروا درس السيستاني وأقرانه وتقدموا فيها ونالوا الاجتهاد في مرحلة السبعينيات وما تلاها، وهم لم يتصدوا في غالبهم للإفتاء بوجود أساتذتهم الكبار وبعضهم لم يطرح كتاب (الرسالة العملية) حتى الآن، لكنهم معدودون ضمن أساتذة البحث الخارج المهمين في العراق وإيران، وضمن سياق ما كتبناه فإن الأسماء التي نوردها هي من تمتلك حظوظاً وفق الملموس من الوقائع، ويمكن حصر هذا التصنيف بالأسماء الآتية:
- محمد هادي آل راضي (عراقي الجنسية، وهو من أبرز أساتذة البحث الخارج في النجف، يبلغ من العمر 74 عاماً، نال الاجتهاد في الثمانينيات، وأشار له محمد حسين الصغير في كتابه “المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، مسيرة ألف عام” بما نصّه “المؤمل للمرجعية في مستقبل الأيام إن شاء الله”، له علاقة جيدة مع جهاز مرجعية السيد السيستاني)
- محمد باقر الإيرواني (عراقي الجنسية، ودرسه يحظى بالعدد الأكبر من الطلبة حالياً في النجف وله عدد أكبر من الطلبة خلال مسيرته التعليمية، يبلغ من العمر 75 عاماً، وافتتح مقرا له، بالقرب من منزل ومكتب السيستاني، وهو ما تم اعتباره إشارة إلى دعمه من قبل جهاز المرجع الأعلى، وإن لم يتفق مع هذا الرأي بعض آخر، وهو الوحيد من المرشحين الذي درس على يد المرجع الأعلى الحالي)
- علي السبزواري (عراقي الجنسية، وهو من أساتذة البحث الخارج المهمين في النجف، ويبلغ من العمر 76 عاماً، كان والده عبد الأعلى السبزواري الذي نافس على زعامة الشيعة بعد وفاة الخوئي لكنه توفي مبكراً).
ثالثاً: المراجع والمجتهدون الأقل حظاً
ويندرج في هذا التصنيف رجال دين شيعة، إما بلغوا الاجتهاد، بل وتصدوا للإفتاء وطبعوا رسائلهم العملية منذ سنوات، أو أنهم أساتذة بحث خارج مجتهدون غير متصدين، وفي الحالتين يفتقر هؤلاء لمميزات من سبقوهم أو يقف في طريقهم توجههم السياسي أو الفكري، ولو أردنا إحصاء كل من هم بهذه المواصفات لطال بنا الحديث، لكن من لهم ترجيح نحو الأعلمية ولو بنسبة بسيطة هم الذين يمكننا إيرادهم، ومن ينطبق عليهم هذا الكلام هم:
- حسن الجواهري (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 75 عاماً، وهو أستاذ بارز للبحث الخارج في النجف، وكان جده محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر أحد أهم زعماء الحوزة العملية عبر تاريخها)
- رياض الحكيم (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 65 عاماً، استاذ بحث خارج معروف ومهم وله نشاط كبير في النجف وخارجها، وهو من أسرة الحكيم الشهيرة التي قدمت العشرات من المرجعيات والزعامات السياسية، أبرزهم المرجع الاعلى محسن الحكيم، ومن جانب آخر هو نجل محمد سعيد الحكيم أحد المنافسين الكبار على زعامة الحوزة قبل وفاته)
- علي أكبر الحائري (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 70 عاماً، مرجع متصد وله سلسلة من المكاتب والوكلاء، وله درس مهم وكبير في النجف الأشرف للبحث الخارج، وهو شقيق كاظم الحائري المرجع الشهير الذي أعلن اعتزاله التصدي للعمل المرجعي 2022، ويعمل الحائري على استقطاب مقلدي شقيقه ومن بينهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وأتباعه)
- محمد السند (بحريني الجنسية، ويبلغ من العمر 62 عاما، وهو مرجع متصد وله شبكة وكلاء ومكاتب، بالإضافة إلى أن درسه من أهم دروس البحث الخارج في النجف، كما أنه من مؤيدي ولاية الفقيه ونظام الجمهورية الاسلامية في إيران)
من المهم أن نشير الى أن هذه المقالة استثنت مرجعيات فاعلة دينيا وسياسيا واجتماعيا ومجتهدين معروفين أيضا، لكن حظوظهم في نيل موقع زعيم الحوزة العلمية ليست متوفرة لأسباب يحتاج تفصيلها أطناباً أكبر وأشمل وأوسع، ومن هذه الاسماء (صادق الشيرازي، بشير النجفي، حسين نوري الهمداني، عبد الله جوادي الآملي، كمال الحيدري، محمد تقي المدرسي، هادي المدرسي، محمد اليعقوبي، علاء الدين الغريفي، عيسى أحمد قاسم) وبالطبع (محمد رضا السيستاني) نجل علي السيستاني، على الرغم من أنه أحد أساتذة البحث الخارج المهمين في النجف، وكان، كوالده، واحداً من طلبة الخوئي، ويلعب دوراً محورياً في منظومة مرجعية أبيه، لكنْ سيحول بينه وبين التفكير بالتصدي للأمر أنه ابن المرجع، وجرى العُرف، على طول تاريخ المرجعية، أنها لا تُوَرَّث.
خروج
وفي النهاية، لا بد من إدراك أن طبيعة اتفاق غالبية المقلدين الشيعة على مرجع محدّد بعينه ليس أمراً يمكن أن يُحسم خلال أيام أو أشهر، فقد احتاج محسن الحكيم ثلاثة أعوام قبل حسم منافسته مع عبد الهادي الشيرازي، واحتاج الخوئي أربعة أعوام من التنافس مع محمود الحسيني الشاهرودي، واحتاج السيستاني ستة أعوام قبل أن تنحسم منافسته مع الكلبيكاني وروحاني والصدر، ولن يتغير الكثير في المرة المقبلة، حيث ستستغرق مراحل الاستدلال، من قبل الجماهير، على “الأعلم” وقتاً، وربما تؤدي حدّة التنافس إلى تأخير أطول هذه المرة نظراً لتعقُّد الظروف، أو سيستقر الأمر على مرجع طاعن في السن، تبدأ مرحلته بالتحضير لمن سيخلفه.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
دخول
سيكون يوماً صعباً واستثنائياً، بكل المقاييس، على العراق أولاً وملايين الشيعة “الاثنَي عشرية” في العالم أجمع ثانياً، يوم رحيل المرجع الديني علي السيستاني عن الحياة، ليس لأنه رجل الدين الوحيد في حياة الشيعة، بل لأنه أبرزهم على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، ويتّبعه العدد الأكبر من الأتباع-المقلّدين- قياساً بغيره من رجال الدين.
في ذلك اليوم، سوف ينحسر، بالضرورة، أثرُه الشخصي على الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط والعراق على وجه الخصوص، ويضع هذه الطائفة الدينية، بأكملها، أمام قراءة جديدة للواقع من قبل رجل دين واحد (أو أكثر) ستترك بصمتها في حياة الكثيرين لسنوات أو عقود مقبلة، كما حدث مع أسلافه وبمقدمتهم السيستاني الذي التصق به وصف (زعيم الشيعة في العالم) الأمر الذي عزّزته زيارة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، له في داره البسيطة بزقاق متفرّع من شارع الرسول بمدينة النجف في العراق.
مع بلوغه الـ 94 من العمر، لن يكون غريباً، التأمّل بمشهد ما بعد السيستاني، و محاولة حصر وتبسيط المفاهيم الشيعية الأساسية التي تؤثر في اختيار خليفة زعيم الشيعة، ومعرفة دور الظروف الدينية والسياسية في اختياره.
السيستاني، من هو؟
على الرغم من نسبته إلى إيران وإلى مدينة سيستان تحديداً (كانت تسمى سجستان في المدونات التاريخية) لكنْ علي بن محمد باقر بن علي الحسيني من مواليد مدينة مشهد عام 1930 م، ويبدو أن سرّ هذا الانتساب إلى المدينة الإيرانية ذات الغالبية السنية من عرقية البلوش، هو تولّي أحد أجداد السيستاني مسؤولية القضاء فيها إبان العهد الصفوي، إلّا أنّ الغالب على حياة أسرته هو التنقل بين العراق وإيران، وبين مدن مشهد والنجف وسامراء بشكل أساسي، ولم تغب الأسرة عن العراق طويلاً، فبعد عودة جد السيستاني المباشر عام 1900 م إلى إيران، مُنهياً عقوداً من الدراسة الدينية، رجع الحفيدُ إلى العراق عام 1950 م ليقضي فيه بقية عمره.
بالإضافة إلى أنه ينحدر من سلالة أشراف، تتصل بنبيّ الإسلام وأئمة التشيُّع، فإن غالبية أجداده كانوا من رجال الدين، حيث يتصل نسبه بـ أبي عبد الله الحسين الأصغر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان لأجداده حكم منطقتي طبرستان وقزوين بين عامي 1460 و1473 م، كما أن من بين أجداده محمّد باقر المير داماد أحد أبرز فلاسفة ومراجع الشيعة في القرن السادس عشر.
كان يبدو أن علي السيستاني الشاب كان عبقريا في مجال الدراسات الدينية الشيعية داخل مدارس هذه الطائفة التي تسمى الواحدة منها بـ الحوزة، إذ يشي تتبعُ بداياته بالكثير من المحطات الاستثنائية داخل هذا العالم.
قبل مغادرته مدينة مشهد، حين كان في العقد الثاني من عمره، حضر السيستاني عدداً من بحوث الخارج (المستوى الأعلى من الدراسات الدينية الشيعية)، عند أسماء مهمة في الاعتبارات الشيعية الدينية، مثل الميرزا مهدي الآشتياني والميرزا هاشم القزويني، وحينما ذهب الى مدينة قم حضر البحث الخارج لدى مرجع الطائفة وزعيمها في ذلك الوقت حسين البروجردي بالإضافة الى أستاذ مهم آخر هو محمد حجت الكوهكمري.
وسرعان ما التحق السيستاني، بُعيد وصوله إلى العراق عام 1950، بدرس البحث الخارج عند أربعة من أهم فقهاء الشيعة هم محسن الحكيم (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقد) وأبو القاسم الخوئي (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقدين) وحسين الحلي أحد أبرز أساتذة الحوزة النجفية عبر التاريخ.
بعد أن حطّ رحاله في العراق بعقد بالضبط، حلّ عليه عامٌ مميز، 1960، حين حصل على شهادة الاجتهاد المطلق من أُستاذَيه الخوئي والحلّي، في وقت لم يصل أقرانه لتلك العتبة، بعدها بعام، وفي عام 1961، بدأ السيستاني درسه الخاص على مستوى البحث الخارج والذي سيستمر ما يقارب أربعة عقود لاحقاً، وخلال عقود الستينيات والثمانينيات ذهب الى الحج ثلاث مرات، أولاها كان في عام 1966 م وثانيها في عام 1985 والثالثة في عام 1987، وكانت هذه الرحلات، بالإضافة لرحلة علاجية عام 2004، هي المرات الوحيدة التي غادر فيها العراق على مدى أكثر من سبعين عاماً.
في السنوات الأخيرة لحياة أستاذه الخوئي (زعيم الشيعة من 1970 وحتى 1992) كان السيستاني قريباً منه – وإن لم يتولَّ مسؤولية في مكتبه الذي يرتبط بوكلاء المرجع المنتشرين جغرافيا في عموم العالم ويصطلح عادة على هذا التكوين بمسمى (جهاز المرجعية) – وبحكم هذه العلاقة الخاصة بين الأستاذ وتلميذه فقد طلب منه عام 1989 الصلاة بالناس جماعة بدلا عنه بسبب مرضه وشيخوخته – بلغ الخوئي حينها 89 عاما – في جامع الخضراء بالنجف حيث درّس وصلّى لأكثر من 50 عاماً، وكانت هذه الإنابة اشارة فهمها الشيعة المتدينون على أن السيستاني هو الخليفة المحتمل للخوئي، وبرغم زلزال غزو الكويت وانتفاضة 1991 وما تعرضت له مرجعية الخوئي والقريبون منها من اعتقالات ونقل الى بغداد، بقي أثر هذه الإشارة، وأصبح أشد وقعاً حينما صلّى التلميذ على جثمان أستاذه بعد وفاته عام 1992 ليدخل الشيعة، بعدها بفترة، في مرحلة زعامة السيستاني المستمرة حتى الآن.
ولأن أوان السؤال عمّن يخلفه آن، بحكم حتمية الموت وكِبر السن، لا بد من استدعاء أسئلة أخرى، أسئلة ضمنية أو لصيقة بعضها، فمع الاستفهام عن طريقة انتقال الزعامة هذه، وإذا ما كانت هنالك معطيات لمتنافسين مستقبليين، لا بُدّ من توضيح مفاهيم أساسية مثل (الاجتهاد، التقليد، الأعلمية، أهل الخبرة) وقراءتها ضمن أفقها الزماني والمكاني والتأثير الاجتماعي والسياسي لها وعليها، وعبر تكثيف واعٍ يتجاوز التفريعات غير ذات الصلة.
الاجتهاد
كان المسلمون عامةً يأخذون أحكامهم الدينية والحياتية في المسائل كافة كـ(الصلاة والصيام والحج والزكاة والزواج والبيع والإرث والديات والحدود وغيرها) من النبي محمد في حياته، ثم من صحابته ومن تبعهم بعد وفاته.
لكنّ عدداً من صحابة النبي، اضطُرّوا لإنتاج أحكام جديدة حينما واجهتهم مسائل لم تكن موجودة في حياة نبيّهم اعتماداً على العقل وهذه هي بداية الاجتهاد، الذي تعددت تعريفاته بين المذاهب، لكنّ المتفق عليه بينهم هو أن المقصود بعملية الاجتهاد بذل الجهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، غير أن كِلا المذهبين يختلفان في أسلوب الاجتهاد وأدواته ومساحة نفوذه الشرعية.
بالنسبة لأهل السنة والجماعة، فقد استمر الاجتهاد طيلة حياة الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم حتى وقت قريب بعد وفاة آخر الأئمة الاربعة لأهل السنة وهو الإمام أحمد بن حنبل في عام 855 م.
أما الشيعة فلم يستعملوا مصطلح “الاجتهاد” إلّا متأخراً في القرن السابع الهجري، وكانوا قبل ذلك يستعملون مصطلح “التفقُّه”، ذي الدلالة الأضيق، إذ لم يؤمّن الشيعة بذلك منذ حياة النبي في القرن السادس الميلادي وحتى غياب إمامهم الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي في القرن التاسع الميلادي، حيث اعتبروا أئمَتهم امتداداً للنبوة ولم يكن لديهم سبب يدعوهم للبحث عن دليل يدعمون به الأحكام الشرعية التي يحتاجونها أمام المسائل الجديدة التي تمرّ بهم والتي يأخذونها من أئمتهم مباشرة.
وبسبب الحاجة إثر غياب الإمام الثاني عشر للشيعة، ومنذ العياشي المتوفى في القرن التاسع الميلادي، بدأ الاجتهاد عند الشيعة يتبلور ويتحول إلى قطب الرحى في عملية إنتاج الفتوى الدينية، وخلال القرون العشرة اللاحقة أصبحت للمفهوم قواعد ومراحل ومحددات وضوابط تؤثر في اختيار زعيم الشيعة ضمناً.
التقليد
على الجانب الآخر من الاجتهاد يقع التقليد، فكما أن علماء الدين الإسلامي من السنة والشيعة مطلوب منهم الاجتهاد، بغض النظر عن أسلوبه وحدوده، فكذلك على الناس عموما ممّن لم يدرسوا الدراسات الدينية، أن يتبعوا رأي عالِمٍ ما، وهو ما يُصطلح عليه بـ(التقليد)، وفي ما يخص الشيعة الإثني عشرية فإن عمل الإنسان لا يُقبل إن لم يكن مُقلداً لرجل دين محدد يصطلح عليه بـ(المرجع).
وعلى هذا الأساس ينقسم المجتمع الشيعي في كلّ مكان إلى مراجع ومقلدين والقِسم الثاني يعود إلى الأول بكل شيء، ما عدا العقائد أو أصول الدين كـ (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) التي لا تقليد فيها، وقد تطورت هذه العلاقة بين رجل الدين الشيعي ومقلديه من الناس إلى آصرة مهمة في ديمومة المذهب عبر القرون، ولأهميتها فقد وضعت قواعد دقيقة يسير عليها الإنسان العاديّ كي يصل إلى رجل الدين المناسب من أجل تقليده.
والعادة الجارية أن يطرح المُقلِد سؤاله على المرجع في إطار ما يُصطلح عليه بـ(الاستفتاء) ليجيب المرجعُ بما يُصطلح عليه بـ(الفتوى)، وتتنوع مستويات الفتاوى بحسب مضامينها، فيمكن أن تتناول مسائل تتعلق بطهارة الإنسان مثلاً، وتصل أحياناً إلى كيفية اختيار رئيس أو مواجهة قوى خارجية.
وغالباً، لا يطرح المرجع رأيه دون سؤال، لكنْ بعض المراجع لجؤوا إلى افتراض الأسئلة الأكثر احتمالاً، وأجابوا عنها في كتب أصدروها، يُصطلح على الواحد منها بـ(الرسالة العملية) من أجل تسهيل المهمة على مقلديهم في كل مكان وزمان.
الأعلمية وأهل الخبرة
كما أشرنا سابقاً، فإن للتقليد عند الشيعة شروطاً واضحة، وأهمها أن يقلّد الانسان العاديُ الأعلمَ من بين المراجع الأحياء الحائزين على مرتبة الاجتهاد، ولصعوبة إدراك البسطاء من هو الأعلم من بين الفقهاء فعليه حينها سؤال طائفة من رجال الدين يُصطلح عليهم بـ(أهل الخبرة)، ولهؤلاء ميزات محددة، أهمها حضورهم واطّلاعهم على دروس الفقهاء المشاهير وقدرتهم على تحديد من هو الأعلم من بينهم على ضوء الإمكانات العلمية في حقلي الفقه والأُصول وهما فرعا الدراسات الدينية الشيعية الأهم، ومن صفاتهم الغالبة كونهم أساتذة في الحوزة أو رجال دين بلغوا الاجتهاد لكنهم لا يتصدون لمهام الإفتاء وليس لهم مقلدون، وأحياناً يكون أهل الخبرة طلبة متقدمين في درس البحث الخارج وقضوا فيه سنوات طويلة وإن لم يكملوه بعد.
وفي العادة يلجأ عوام الشيعة إلى وكلاء المرجع الأعلى المتوفى حديثا لسؤالهم عن أهل الخبرة، حيث يتركز أفراد هذه الفئة في النجف بالعراق وقم بإيران -موقعَي الدراسة الأبرز حالياً عند الاثني عشرية- وخلال 100 عام خلت، كان أهل الخبرة يميلون بغالبيتهم إلى مرجع ديني أعلى بعينه وينصحون الناس بتقليده، بل ربما اتفقوا عليه في أواخر حياة المرجع الأعلى استباقاً لموته وخشية تفرّق الناس وعدم استقرار الأمور.
يتّفقُ عدد كبير من مراجع الشيعة على أن موقع “الأعلمية” أو منصب المرجع الأعلى أو زعامة الشيعة الدينية بشكل عام، تحتاج الى ما هو أكثر وأكبر من التفوّق العلمي، فمن الدلائل على ذلك جواب الفقيه المعروف محمد الفشاركي الأصفهاني المتوفّى في النجف سنة 1899، حينما عرض عليه عدد من الشخصيات الشيعية البارزة تولي الزعامة بعد وفاة استاذه الميرزا الشيرازي الكبير عام 1895 م حيث صدمهم حينما قال: “أنا أعلم أنّي لست أهلاً لذلك؛ لأن الرئاسة تحتاج إلى أمور غير العلم بالفقه والأحكام من السياسات، ومعرفة مواقع الأمور”، حسبما ورد في كتاب «تكملة أمل الآمل» للمؤلف حسن الصدر .
يضاف إلى ذلك المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتق زعيم الشيعة، من قبيل التصرف في ما يعرف بـ(سهم الإمام) أو (الخُمس) ويُصطلح عليه أحياناً بشكل شامل بـ (الأموال الشرعية) وهي الأموال التي يقدمها الشيعة له ضمن سياق تعبُّديّ ديني، حيث يجب عليه إنفاقه في إدامة مؤسسات المذهب الشيعي الدينية ورعاية الفقراء وغيرها من الأمور، وهذه المسؤولية تتطلب وَرَعَاً وزهداً ونزاهة، بالنظر لحجم هذه الأموال الكبير واستمرارية تدفقها منذ زمن الإمام الكاظم سابع أئمة الشيعة الاثني عشرية وحتى الآن.
التجارب السابقة لاختيار المرجع الأعلى
يبلغ عُمر الزعامة الدينية الشيعية بوصفها موقعاً للإفتاء والتأثير في الجماهير قروناً عديدة، وقد تفاوتت مساحة تأثير هذا الموقع بتفاوت الشخصيات التي تصدت له، فمن جانب كان الزعماء الأوائل كـ(المفيد، الشريف المرتضى، والطوسي) أصحاب نفوذ كبير في الدولة العباسية إبان هيمنة السلاطين البويهييين، لكنّ خلفاءهم، لقرون لاحقة، فقدوا هذا التأثير، حتى جاءت الدولة الصفوية وظهر نفوذ مرجعيات مثل (الكركي، البهائي، المجلسي)، وعاد النفوذ ليضعف فترة وجيزة حتى ظهر جعفر الكبير كاشف الغطاء وابنُه موسى (سُمّي مصلح الدولتين) ممن امتلكوا نفوذا إبان الحقبة القاجارية والعثمانية، ومع بداية النفوذ الغربي في العراق وإيران ظهرت مرجعيات كبيرة امتلكت نفوذاً مؤثراً لكنه كان موجهاً نحو مواجهة الاستعمار بالدرجة الأساس والمطالبة بحكومات إسلامية دستورية كـ(الشيرازي الكبير، الميرزا الخليلي، الآخوند الخراساني، النائيني، الشيرازي الصغير، شيخ الشريعة)، في مقابل مرجعيات أقل نفوذا وجماهيرية لم تدعم المواجهة مع التغلغل الغربي والسلطنات الدكتاتورية كـ(اليزدي) ضمن صراع المشروطة والمستبدة، وقد استمر هذا الحال حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم وظهور مفهوم الدول الوطنية بشكل راسخ لتبدأ مرحلة جديدة.
مرجعية أبو الحسن الأصفهاني (1936-1946)
عاشت الزعامة الدينية للشيعة الاثني عشرية، فترة انعدام وزن بعد سقوط الدولة القاجارية في إيران وإلغاء الخلافة العثمانية وحتى منتصف العقد الثالث من القرن الماضي، وبقي المقلدون في العراق وإيران منقسمين بين عدد من المراجع أهمهم (عبد الكريم الحائري، الميرزا النائيني، ابو الحسن الأصفهاني)، وبعد وفاة طبيعية للأول والثاني من المتنافسين ذهبت الزعامة المطلقة إلى الأصفهاني، ومن اللافت أن المرجع الأعلى المطلق السابق محمد تقي الشيرازي (صاحب فتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطاني عام 1920 م) كان قد نقل أسئلة دينية يرى فيها (الاحتياط) من بعض الطلبة والناس إلى الأصفهاني كي يجيب عنها، ما اعتُبِر إشارة لأولويته في المنافسة على الزعامة، يضاف إلى ذلك التأثير السياسي الذي تجسّد في ما نقله الفقيه محمد حرز الدين بكتابه معارف الرجال “إن السيّدَ أبو الحسن الأصفهاني وعددا من المراجع اجتمعوا في عام 1925 م في النجف مع “رضا خان البهلوي” وزير الحربيّة في الدولة القاجاريّة آنذاكَ (ورئيسِ مجلسِ الوزراءِ قبلَ أن يصبحَ مَلِكاً لإيران)، وتداولوا الحديثَ معه في شؤونِ إيرانَ، وكان المنويُّ -النيّة- إن رضا شاه هو الذي يكون سلطاناً، وبعد أن أخذوا عليهِ العهودَ والمواثيقَ والأيمانَ رجعَ البهلويّ إلى إيرانَ، وبعد رجوعهِ خُلعَ أحمد شاه القاجاري“.
غير أن تأثيره السياسي في العراق كان ضعيفاً، حيث كان الأصفهاني رافضاً للغزو البريطاني عام 1941 بعد انقلاب رشيد عالي الكيلاني لكن الحكومة الملكية بقيادة الوصي عبد الإله ونوري السعيد قامت بنفيه إلى إيران دون خوف من ردة فعل الشارع، بل أن حكومة العراق أعادته بعد عام ووضعته تحت قيد الإقامة الجبرية في بغداد حتى مات.
وبالمجمل فقد أسس الأصفهاني لمرجعية كبيرة عبر أكثر من أربعة آلاف وكيل يمثلونه في كل مكان به شيعة اثنا عشرية عبر العالم وقام ببناء مدارس ومساجد وحسينيات وأنفق أموالاً كبيرة على طلبة العلم الديني مما جعله أحد أكثر المراجع الشيعة سلطة ونفوذا في التاريخ.
مرجعية حسين البروجردي (1946-1960)
تمثل زعامة البروجردي للشيعة حالة استثنائية، فهو آخر مرجع أعلى للطائفة مارس بشكل عملي مسؤولياته من إيران وليس من العراق، ومن الواضح لمن يتتبع سيرته أنه كان ممثلاً للزعيم السابق أبو الحسن الأصفهاني في قم ومشهد وطهران، بل من المعروف حمله رسائل خطيرة من النجف إلى رضا شاه بهلوي اعتراضاً على سياسته العلمانية وتمكين البهائيين من تولي مواقع في السلطة ومحاولة إلغاء الحجاب وغيرها من الأمور التي شهدتها إيران قُبيل الحرب العالمية الثانية، وقد تسبب حراكه باعتقاله وإبعاده إلى مشهد مما أعطاه بُعداً سياسياً واضحاً حظي على إثره بالاهتمام الكبير من الفقهاء والبسطاء، غير أن البروجردي لم يكن مؤثراً في الحياة السياسية والاجتماعية بالعراق، وإن كان ينفق على طلبة الحوزة من موقعه، بحكم مسؤوليته، وقد ساهمت أجواء الحرب العالمية الثانية وتنحية رضا شاه بهلوي وتولي نجله الحكمَ تحت وصاية بريطانية وسوفيتية، في إعطاء البروجردي الفسحة للتحرُّك الجاد في بناء مؤسسات دينية في إيران، الأمر الذي كان سبباً من أسباب توليه الزعامة لاحقاً.
مرجعية محسن الحكيم (1960-1970)
نشأ الحكيم علمياً في حضرة كبار الفقهاء الشيعة ودروسهم، ممن عاصروا أزمة المشروطة والمستبدة في إيران وكذلك تأسيس الحكم الملكي في العراق بعد ثورة العشرين التي شارك بها شاباً، وتركت هذه المنعطفات الكبيرة أثرها في شخصيته، حيث لازمه دائماً الإحساس بأن الدولة الوطنية سواء في العراق أو إيران يجب أن تمنح رجال الدين مساحة في صناعة القرار، ولأنه تلميذ بارز للنائيني منافس أبي الحسن الأصفهاني على الزعامة، فقد ذهب بعض مقلدي النائيني لتقليد الحكيم منذ الأربعينيات، الأمر الذي جعله منافساً لزعامة البروجردي في وقت لاحق وإن لم يمتلك العدد الأكبر من المقلدين.
لقد كان تأليف الحكيم لكتاب (المستمسك) بوصفه شرحاً لأحد أهم الكتب الشيعية في التاريخ وهو كتاب (العروة الوثقى) لمحمد كاظم اليزدي، حدثاً مهماً من الناحية العلمية، ساهم في نيله موقعاً مرموقاً داخل الحوزة، وبعد وفاة البروجردي ومنافسة بسيطة مع عبد الهادي الشيرازي حُسمت الزعامة للحكيم، حيث جاءت برقية من الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي مُعزِّزةً ذلك، فيروي غلام علي رجائي مستشار الرئيس الإيراني الراحل رفسنجاني في كتابه (قبسات من سيرة الإمام الخميني) ما نصه: نشطت بعض الأيدي المشبوهة بعد وفاة آية الله البروجردي لمنع ذكر اسم أيّ من مراجع قم في المجالس التأبينية التي أقيمت على روحه، وبعد (18) يوماً من وفاته أرسل نظام الشاه برقية تعزية بهذه المناسبة إلى حوزة النجف على أمل نقل المرجعية من قم إلى النجف كمقدمة لانحلال الحوزة العلمية في قم.
ويمكن القول إن مرجعية الحكيم هي التي أسّست للتأثير السياسي الكبير والملموس الذي يمكن أن تمارسه المرجعية الشيعية في العراق، حيث لم يترك الرجل محطة سياسية دون أن يبادر فيها إلى تذكير الدولة العراقية بوجوده وأهميته وقدرته على تحريك الجماهير، وقد انزعج الحكيم من عدم اهتمام الملكية الهاشمية بوفاة ابو الحسن الأصفهاني بل عدم التعزية برحيله، مما قادها للاعتذار عن ذلك، كما أنه دخل في مواجهة مع عبد الكريم قاسم، ويمكن اعتبار مرجعيته أحد أقوى خصوم انقلاب 14 تموز في عام 1958 بسبب قانوني الأحوال الشخصية والإصلاح الزراعي ونفوذ الحزب الشيوعي.
وبقي الحكيم خصماً لحكم الضباط في حقبة عبد السلام عارف الذي رفض استقباله مراراً واتهمه بالانحياز الطائفي للسنة على حساب الشيعة، الأمر الذي تراجع قليلاً في حقبة عبد الرحمن عارف، ليعود أشدّ واوضح في حقبة حزب البعث بعد عام 1968.
ولا يمكن نزع استهداف حزب البعث الحاكم عام 1969 لنجل الحكيم (محمد مهدي) واتهامه بالتآمر والجاسوسية، من كونه استهدافاً لشخصه ومرجعيته ومكانة الزعامة الشيعية. حينها، جسدت الأحداث الدرامية التي رافقتها احتجاجاتٌ واسعة، أثرَ التصعيد الذي مارسه الحكيم طيلة عقود ضد الدولة مع تغيّر الأنظمة، أُضيف إلى ذلك أن مرجعيته كانت مظلة لحزب الدعوة، أول تشكيل سياسي إسلامي شيعي في العصر الحديث، لهذا، وأكثر، فإن الحكيم بحق، هو من وضع أساس المكانة التي نلمسها اليوم في شخصية السيستاني ونفوذه وأثره البالغ.
مرجعية أبو القاسم الخوئي (1970-1992)
لم يحظ زعيم للشيعة بالإجماع الذي ناله أبو القاسم الخوئي بعد وفاة محسن الحكيم عام 1970، وسبب ذلك الأشهر هو وصف الخوئي بالعبقري من قبل العشرات من مجايليه في المضمار نفسه أولاً، وأنه دَرَّسَ البحثَ الخارج منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتخرج على يديه المئات من المجتهدين ثانياً (شهدوا بأعلميته في اللحظة الفاصلة) وهو ما لم يتوفر لغيره زمنياً، وبعد وفاة الحكيم كان هناك منافسون للخوئي مثل محمود الحسيني الشاهرودي وعبدالله الشيرازي ومحمد كاظم شريعتمداري وروح الله الخميني إلا أنهم لم يمتلكوا السيرة العلمية التي امتلكها.
لكن هذا الاجماع لم يؤدِّ إلى استقرار في البيت الحوزوي سواء في إيران أم في العراق، إذْ تزامنت مرجعية الخوئي مع الحراك الإسلامي الذي قاده الخميني في إيران ومحمد باقر الصدر في العراق، وكان موقف الخوئي من الحراكين غاية في الوهن والضعف، إذْ لازم الحياد تجاه تزلزل عرش الشاه إن لم يكن داعماً لرضا شاه بهلوي وإن كان البعض يشكك بذلك، كما إنه لم يعترض على تصفية الاسلاميين الحركيين الشيعة في العراق طيلة العقد الأول من مرجعيته، وحينما وصل نظام البعث إلى إعدام محمد باقر الصدر أحد أبرز طلبة الخوئي، لم يكن له موقف مهم، بل كان موقف أبنائه وأصهاره سلبياً، وحينما استعرت الحرب بين البلدين اللذين يحتضنان حوزتي الشيعة الأساسيتين في النجف وقم لم يظهر للخوئي موقف شديد تجاه تلك الحرب، ومع اندلاع انتفاضة 1991 ووصول نارها إلى النجف تحركت مرجعية الخوئي قليلاً لترتيب أمور المحافظة ومع انهيار الحركة عادت المرجعية الى خضوعها الذي استمرّ حتى وفاة زعيمها عام 1992.
مرجعية السيستاني (1992-….)
كان عام 1989 مؤثراً في صياغة المكانة الكبيرة التي نعرفها اليوم لموقع زعيم الشيعة ومرجعهم الأعلى، حيث شهد ذلك العام وفاة روح الله الخميني زعيم الثورة الإسلامية في إيران وأحد أهم رجال الدين الشيعة في التاريخ عموماً، بالإضافة إلى قيام مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في العام ذاته، والتي أصبحت بعد ذلك مظلة كبرى لنفوذ مؤسّسها وأسرته والمقربين من طلبته وممارسته دور جماعة الضغط سياسياً ودينياً، وخلال العام نفسه، بدأ الخوئي يستشعر دنوَّ أجله وطلب من السيستاني أن يَؤمَّ الجماعة محلَّه بمسجد الخضراء.
ومع وفاة الخوئي عام 1992 كان منافسو السيستاني كباراً في السن، حيث توفي عبد الأعلى السبزواري ومحمد رضا الكلبيكاني بعد عام، فيما تأخرت وفاة محمد الروحاني حتى عام 1997.
وخلال تلك السنوات ظهرت مرجعية محمد محمد صادق الصدر (والد مقتدى الصدر) ودخلت، شيئاً فشيئاً، في دائرة المنافسة، خصوصاً بعد انتقاد الصّدر المرجعياتِ الأخرى واتهامها بالخنوع، فاتّسعت شعبيته بوتيرة أسرع، غير أن اصطدامه بنظام صدام حسين ومقتله عام 1999 أنهى محاولته اختراق النمط الكلاسيكي لاختيار المرجع الأعلى.
ومع سقوط نظام حزب البعث عام 2003 جرى الحديث بشكل موسع عن مرجعية جماعية ضمت (السيستاني، محمد سعيد الحكيم، محمد إسحاق الفياض، وبشير النجفي)، وتزامن ذلك مع عودة محمد باقر الحكيم إلى العراق بصفته مجتهداً قاد المعارضة الشيعية لعقود، بالإضافة إلى اتساع دائرة أتباع ولاية الفقيه المتمثلة بمرجعية علي خامنئي ممتدّةً إلى العراق عبر قوى دينية وسياسية واجتماعية، ومن جانبه فقد قاد مقتدى الصدر حراكاً مستمراً لدعم استمرار مرجعية والده (محمد محمد صادق الصدر) عبر دوائر متعددة، لكنّ السيستاني وخلال سنوات قلائل استطاع استيعاب الجميع في العراق ضمن مرجعيته العُليا ودون صِدام كبير داخل الحوزة.
امتاز السيستاني بما لم يظهر في غيره مذ نشأت الحوزة، فقد تجاوز المئات من طلبة استاذه الخوئي الأقوياء علمياً ليتصدر مشهد خلافته، واستطاع تحاشي الاصطدام بمرجعية محمد محمد صادق الصدر متسارعة النمو والعبور من فوق موجتها بسلام، كما أنه نجا بمرجعيته من أهوال غزو 2003 وما تبعه من احتراب داخلي وأقام علاقة متوازنة مع إيران ونظامها ووليّها الحاكم.
وفي لحظة فارقة، لعب السيستاني دوراً محورياً عبر إصراره على كتابة دستور من خلال برلمان منتخب، كان من بين أعضائه من يمثل مرجعيته، ولم يكتف بالدستور الذي كُتب على عجالة وحمل بين دفّتيه نصوصاً خلافية. حيث دعم، بإصرار، الانتخابات على أنها الطريقة الوحيدة لتداول السلطة في “العراق الجديد”.
وعلى مدى سنوات تلت الغزو، استغلت منظومة مرجعية السيستاني فسحة زوال صدام حسين وأجهزته والحصار، وطوّرت “العتبات المقدسة” -أضرحة أئمة الشيعة المدفونين في العراق، وخصوصاً الحسين والعباس في كربلاء- فتحوّلت من مجرد مقاصد للسياحة الدينية الى مؤسسات هائلة تمتلك استثمارات كبيرة يمكنها أن تصنع فارقاً في حياة الشيعة وطبيعة القرارات التي تحدد مصيرهم، لقد شعر السيستاني أن هذا النظام الذي تشكّل بعد 2003 قابل للتطوير، فدافع عنه بقوة في لحظة 2014 وسيطرة تنظيم الدولة داعش على مساحة شاسعة من العراق، عبر الإفتاء بـ”الجهاد الكفائي”، الفتوى التي حشدت مقاتلين وسلاحاً ولعبت دوراً في هزيمة التنظيم واستعادة المدن من سيطرته، لكنها في الوقت نفسه، فتحت مجالاً لظهور فصائل مسلحة جديدة، أو توسع نفوذ وهيمنة أخرى قديمة خارج جسد الدولة، حتى زاحمته وصارت جزءاً منه. وفي عام 2019 عاد السيستاني ليدعم الإجراءات الاصلاحية تحت ضغط التظاهرات الشعبية.
المرشحون لخلافة السيستاني
بموجب ما تقدم، ليس تعويض مرجع بآخر أمراً هيناً، وبالنظر لاستثنائية السيستاني في تاريخ “الحوزة” و “المرجعية” وحتى الشيعة التابعين، سيمثل أمر خلافته تحدياً مضاعفاً.
ينقسم مرشحو خلافة السيستاني في موقع المرجع الأعلى للطائفة الشيعية إلى ثلاثة أقسام، ويقوم هذا التصنيف على أساس فرص تحقق الخلافة من عدمها حيث لا يعني الترتيب شيئاً بعينه، ولا يمكن هنا إغفال النظر في الطريقة التي سيتم التفكير بها حيال الموقع والتزاماته ومدى تأثير الحجم الكبير للمسؤولية على حرف الأنظار تجاه مرجع بعينه، والأقسام هي:
أولاً: المراجع المزامنون
والمقصود هنا، المراجع الذين بلغوا “الاجتهاد” قبل عقود، وعاصروا أكثر من مرجع أعلى قبل السيستاني، حيث يتميز هؤلاء بالشهرة الواسعة وامتلاكهم عدداً من المقلدين منذ زمن طويل، كما أنهم يمتلكون معطيات قريبة من معطيات المرجع الأعلى الحالي سواء في طبيعة السيرة العلمية أو التجربة السياسية والعملية، ولأننا نتحدث عمّن يمتلكون الفرصة في المنافسة على الموقع الأهم عند الشيعة، فلن نذكر من تعترض طريقهم مطبات لا يمكنهم تجاوزها علمياً أو سياسياً أو اجتماعياً، ومن الواضح أن أعمارهم بالمجمل كبيرة ومنهم من هو أكبر من السيستاني سناً وأقل فاعلية على مستوى الدرس وصلاة الجماعة والظهور العام، ويمكن حصر هذا التصنيف بالأسماء الآتية:
- محمد إسحاق الفياض (أفغاني الجنسية يبلغ من العمر اليوم 94 عاماً، وهو يسكن النجف ومن المعروف بين الحوزويين أن من يريد العدول في رأي فقهي للسيد السيستاني يرى فيه الاحتياط إلى مرجع آخر فإن أقرب الخيارات له هو الفياض وهذه من الدلائل القوية على الأعلمية، لديه مقلدون في العراق وأفغانستان).
- الوحيد الخراساني (إيراني الجنسية، وهو كبير مراجع قم وغير مؤيد لولاية الفقيه وقد تجاوز عمره المئة، له ميل واضح لتأييد الشعائر الحسينية غير المتفق عليها والتي يدعمها التدين الشعبوي، مقلدوه في إيران غالباً).
- ناصر مكارم الشيرازي (إيراني الجنسية وهو الاسم الثاني الأبرز في قم من المرجعيات، وعمره 97 عاماً، وهو مؤمن بولاية الفقيه، مقلدوه في إيران غالباً).
- موسى الشبيري الزنجاني (إيراني الجنسية، وهو من مراجع قم المهمين، وعمره 96 عاماً، ومن معطياته المهمة بحسب البعض أنه المرجع الأقرب للتيار الإصلاحي في إيران بعد وفاة المرجع يوسف صانعي، مقلدوه في إيران غالباً).
- جعفر السبحاني (إيراني الجنسية، وهو من مراجع قم المهمين، وعمره 95 عاماً، وهو من مؤيدي ولاية الفقيه والنظام في إيران، مقلدوه في إيران غالباً).
- علي خامنئي (إيراني الجنسية، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران ومتولي منصب “الولي الفقيه” وفق الدستور الإيراني، ويبلغ من العمر 83 عاما، له مقلدون في إيران والعراق ودول عديدة أخرى)
ثانياً: المجتهدون الصاعدون
والمقصود هنا هم المجتهدون الذين عاصروا درس السيستاني وأقرانه وتقدموا فيها ونالوا الاجتهاد في مرحلة السبعينيات وما تلاها، وهم لم يتصدوا في غالبهم للإفتاء بوجود أساتذتهم الكبار وبعضهم لم يطرح كتاب (الرسالة العملية) حتى الآن، لكنهم معدودون ضمن أساتذة البحث الخارج المهمين في العراق وإيران، وضمن سياق ما كتبناه فإن الأسماء التي نوردها هي من تمتلك حظوظاً وفق الملموس من الوقائع، ويمكن حصر هذا التصنيف بالأسماء الآتية:
- محمد هادي آل راضي (عراقي الجنسية، وهو من أبرز أساتذة البحث الخارج في النجف، يبلغ من العمر 74 عاماً، نال الاجتهاد في الثمانينيات، وأشار له محمد حسين الصغير في كتابه “المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، مسيرة ألف عام” بما نصّه “المؤمل للمرجعية في مستقبل الأيام إن شاء الله”، له علاقة جيدة مع جهاز مرجعية السيد السيستاني)
- محمد باقر الإيرواني (عراقي الجنسية، ودرسه يحظى بالعدد الأكبر من الطلبة حالياً في النجف وله عدد أكبر من الطلبة خلال مسيرته التعليمية، يبلغ من العمر 75 عاماً، وافتتح مقرا له، بالقرب من منزل ومكتب السيستاني، وهو ما تم اعتباره إشارة إلى دعمه من قبل جهاز المرجع الأعلى، وإن لم يتفق مع هذا الرأي بعض آخر، وهو الوحيد من المرشحين الذي درس على يد المرجع الأعلى الحالي)
- علي السبزواري (عراقي الجنسية، وهو من أساتذة البحث الخارج المهمين في النجف، ويبلغ من العمر 76 عاماً، كان والده عبد الأعلى السبزواري الذي نافس على زعامة الشيعة بعد وفاة الخوئي لكنه توفي مبكراً).
ثالثاً: المراجع والمجتهدون الأقل حظاً
ويندرج في هذا التصنيف رجال دين شيعة، إما بلغوا الاجتهاد، بل وتصدوا للإفتاء وطبعوا رسائلهم العملية منذ سنوات، أو أنهم أساتذة بحث خارج مجتهدون غير متصدين، وفي الحالتين يفتقر هؤلاء لمميزات من سبقوهم أو يقف في طريقهم توجههم السياسي أو الفكري، ولو أردنا إحصاء كل من هم بهذه المواصفات لطال بنا الحديث، لكن من لهم ترجيح نحو الأعلمية ولو بنسبة بسيطة هم الذين يمكننا إيرادهم، ومن ينطبق عليهم هذا الكلام هم:
- حسن الجواهري (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 75 عاماً، وهو أستاذ بارز للبحث الخارج في النجف، وكان جده محمد حسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر أحد أهم زعماء الحوزة العملية عبر تاريخها)
- رياض الحكيم (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 65 عاماً، استاذ بحث خارج معروف ومهم وله نشاط كبير في النجف وخارجها، وهو من أسرة الحكيم الشهيرة التي قدمت العشرات من المرجعيات والزعامات السياسية، أبرزهم المرجع الاعلى محسن الحكيم، ومن جانب آخر هو نجل محمد سعيد الحكيم أحد المنافسين الكبار على زعامة الحوزة قبل وفاته)
- علي أكبر الحائري (عراقي الجنسية، ويبلغ من العمر 70 عاماً، مرجع متصد وله سلسلة من المكاتب والوكلاء، وله درس مهم وكبير في النجف الأشرف للبحث الخارج، وهو شقيق كاظم الحائري المرجع الشهير الذي أعلن اعتزاله التصدي للعمل المرجعي 2022، ويعمل الحائري على استقطاب مقلدي شقيقه ومن بينهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وأتباعه)
- محمد السند (بحريني الجنسية، ويبلغ من العمر 62 عاما، وهو مرجع متصد وله شبكة وكلاء ومكاتب، بالإضافة إلى أن درسه من أهم دروس البحث الخارج في النجف، كما أنه من مؤيدي ولاية الفقيه ونظام الجمهورية الاسلامية في إيران)
من المهم أن نشير الى أن هذه المقالة استثنت مرجعيات فاعلة دينيا وسياسيا واجتماعيا ومجتهدين معروفين أيضا، لكن حظوظهم في نيل موقع زعيم الحوزة العلمية ليست متوفرة لأسباب يحتاج تفصيلها أطناباً أكبر وأشمل وأوسع، ومن هذه الاسماء (صادق الشيرازي، بشير النجفي، حسين نوري الهمداني، عبد الله جوادي الآملي، كمال الحيدري، محمد تقي المدرسي، هادي المدرسي، محمد اليعقوبي، علاء الدين الغريفي، عيسى أحمد قاسم) وبالطبع (محمد رضا السيستاني) نجل علي السيستاني، على الرغم من أنه أحد أساتذة البحث الخارج المهمين في النجف، وكان، كوالده، واحداً من طلبة الخوئي، ويلعب دوراً محورياً في منظومة مرجعية أبيه، لكنْ سيحول بينه وبين التفكير بالتصدي للأمر أنه ابن المرجع، وجرى العُرف، على طول تاريخ المرجعية، أنها لا تُوَرَّث.
خروج
وفي النهاية، لا بد من إدراك أن طبيعة اتفاق غالبية المقلدين الشيعة على مرجع محدّد بعينه ليس أمراً يمكن أن يُحسم خلال أيام أو أشهر، فقد احتاج محسن الحكيم ثلاثة أعوام قبل حسم منافسته مع عبد الهادي الشيرازي، واحتاج الخوئي أربعة أعوام من التنافس مع محمود الحسيني الشاهرودي، واحتاج السيستاني ستة أعوام قبل أن تنحسم منافسته مع الكلبيكاني وروحاني والصدر، ولن يتغير الكثير في المرة المقبلة، حيث ستستغرق مراحل الاستدلال، من قبل الجماهير، على “الأعلم” وقتاً، وربما تؤدي حدّة التنافس إلى تأخير أطول هذه المرة نظراً لتعقُّد الظروف، أو سيستقر الأمر على مرجع طاعن في السن، تبدأ مرحلته بالتحضير لمن سيخلفه.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.