ماذا كان يقول الآخرون؟ عن جرائم "داعش" في الترجمة والتغطية الإعلامية
17 أيلول 2024
لا يُمكن التصدّي للتطرُّف الدينيّ من دون وجود ثقافةٍ نقديةٍ حقيقيّة، واعترافٍ كاملٍ بالآخر، وأحقيّته في الوجود والحياة؛ فالهدف ليس استبدال داعش بنسخٍ أخرى.. عن جرائم "داعش" في الترجمة والتغطيّة الإعلامية.. وبالتأكيد على الأرض..
في كتابه الصادر عام 2015، “عالم داعش: من النشأة الى إعلان الخلافة“، شددّ هشام الهاشمي، الباحث الراحل، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية والجهادية، على أن مجابهة تلك الجماعات يبدأ من تحدي وتفكيك أفكارها وأيدولوجياتها الإقصائية، مما يقتضي مراجعة لنصوصها وخطابها وسردياتها.
بالنسبة للهاشمي، الأفكار القائمة على الإقصاء والنبذ ورفض الآخر، تتشارك فيها أقطاب سياسية ودينية مختلفة، تشمل الجماعات الإسلامية المتطرفة، والجماعات المنضوية تحت مظلة أقصى اليمين، وتفوق العرق الأبيض، وما سواها. الهاشمي نفسه قُتل على يد إحدى هذه الجماعات.
ولأن مثل هذه المراجعة لا تكتمل من دون قراءة في دور الجهات الإعلامية والسياسية والدينية وغيرها، في التعامل مع مثل تلك الأيدولوجيات ومتبنيها، يقدّم هذا المقال تحليلاً لترجمة نصوص داعش في عددٍ من الوسائل الإعلامية المحلية والعربية والإيرانية والغربية، وتغطيتها لأربع جرائم ارتكبها التنظيم قبل عشر سنوات، بعد اجتياحه لشمال العراق وفرض سيطرته على مدينة الموصل.
يستند هذا التحليل إلى كتابي الصادر عام 2022 بعنوان: “الدولة الإسلامية” في الترجمة: أربع فظائع، سرديات متعددة، والمعتمد بدوره على أطروحة الدكتوراه الخاصة بالموضوع ذاته. أستخدم الترجمة فيه بمعناها الواسع لا الدقيق، المتداخل مع الكتابة الصحفية والتحرير.i
صحيح أن عبارة “التاريخ يُعيد نفسه” ليست دقيقة دائماً، لاختلاف السياقات والظروف والتجارب، إلا أنه لا بد أن تكون هناك بعض الدروس والعبر التي تُساعدنا على الأقل في أن نفهم حاضرنا، ونُقَيم وندرس مواقفنا بعينٍ نقدية تُفكك الأخطاء وتحاول تصويبها مستقبلاً، خصوصاً وأن التاريخ المعني في هذه الحالة هو تاريخ قريب، ولا يعود إلى الماضي السحيق، وأن تهديد داعش كتنظيم لا يزال قائماً محلياً وعالمياً سواء بشكل عملياتٍ متفرقة أو أيديولوجيات عابرة للجماعات والحدود، ولا يُمكن اختزاله بمسك الأرض.
سبايكر
كانت جريمة سبايكر من أولى الفظائع التي ارتكبها تنظيم “الدولة الإسلامية”، ضد ما يقرب من 1700 طالب شيعي مجندين حديثاً في الجيش العراقي، وذك في 12 حزيران 2014.
على الرغم من أن تنظيم داعش كان قد استخدم نصوصاً متعددة الوسائط: صور مزودة بتعليقات وعناوين وتغريدات، إلا أن القصة كانت مجزأة ومبعثرة؛ فعلى الرغم من أن الستين صورة التي نشرها التنظيم عبر تطبيق تويتر (أكس حالياً)، رُتّبت في تسلسل معين، وهو ما يمكن تفسيره على أنه محاولة لإنتاج سردية متماسكة لما حدث للمتدربين العراقيين، إلا أن هذه السلسلة سرعان ما تم تفتيتها بعد إغلاق الحساب الذي نشر تلك الصور على الفور. نتيجة لذلك، تُركنا مع قطعٍ متناثرة وعائمة بشكلٍ عشوائي على الإنترنت.
أخذ العراقيون ممن شاهد الصور في مواقع التواصل المختلفة يحاولون ربط خيوطها حتى يفهموا ما حصل. ما زلت أتذكر تساؤلاتهم حول هوية الجناة والضحايا وأسباب القتل الجماعي. بمعنى آخر، كانوا يتكهنون بالتفاصيل عن طريق التعامل مع الصور والتغريدات ومقاطع الفيديو التي نشرها مؤيدو داعش أو المتعاطفون معه على موقع يوتيوب، كما لو أنها كانت مقاطع لغز تحتاج إلى تجميعها معا لتُكوِن رواية منطقية.
على الرغم من أن النصوص المتنوعة من صورٍ وتعليقاتٍ وغيرها احتفظت ببعض الملامح السردية: دينية وطائفية وعرقية، إلا أنّها لم ترتق لتقدم سرداً متماسكاً. ولم يكن حينها ممكناً تفسيرها وقراءتها إلا في ضوء المقالات اللاحقة المنشورة في دابق، مجلة التنظيم الرسمية.
يمكن القول إن محلية جريمة سبايكر، وتشتت سرديتها، ساهما جزئياً في غيابها أو ربما تغييبها عن عناوين الأخبار، خاصةً في وسائل الإعلام العربية والإيرانية، حيث اختفت تقريباً في تلك المرحلة الأولى.
من جهة أخرى، ربما ساهم إنكار القادة السياسيين في العراق في بادئ الأمر، لتلك الصور والقتل الجماعي في غياب المجزرة عن التغطية الإعلامية. بالإضافة إلى تلك الأسباب، أزعم أن وسائل الإعلام العربية، على وجه الخصوص، ربما أرادت تجنب تسليط الضوء على المجزرة بسبب دوافعها الدينية والمذهبية.
لم تتشكل بعد سردية دينية مناهضة لداعش، وهذا ربما أيضاً أثّر في إهمال الإعلام العربي لها. في تلك المرحلة المبكرة، كان يُنظر إلى تنظيم الدولة الإسلامية بشكلٍ أساسي من خلال عدسة سياسية، كجزء من صراع سياسي بين الحكومة والمسلحين السنة.
أما في وسائل الإعلام الغربية، فقد كانت هناك تغطية محدودة، خاصة بالمقارنة مع الفظائع اللاحقة التي ارتكبها التنظيم الإرهابي. وفيما يخص صورها، فقد بُعثرت في التقارير الإعلامية ولم تكن مضللّة في جميعها.
كما لم تكن هناك محاولة في هذه المرحلة للتفكير في طرق لزعزعة سردية داعش الطائفية، من خلال الترجمة إلى وسائل الإعلام الغربية؛ بل على العكس من ذلك، استحضرت وسائل الإعلام الغربية السردية الطائفية نفسها التي سعى التنظيم إلى إبرازها وتعميمها. فعلى سبيل المثال، في مقالٍ نشرته صحيفة الإندبندنت وحذفته لاحقاً، تصدّرت عبارة “حرب طائفية” في عنوانها، كتحذير من الخطر المحدق بالبلد بعد جريمة القتل الجماعي. وبسبب المعلومات المتضاربة حينها، وصفت البي بي سي الضحايا على أنهم متطوعون من ميليشياتٍ شيعية أو من الفرقة الذهبية.
فتوقعت بعض الصحف، أن تكون الحرب الأهلية الطائفية هي النتيجة الحتمية للقتل الجماعي، وهو ما لم يحدث في الواقع.ii من ناحية أخرى، تعاملت وسائل الإعلام العراقية بطريقةٍ مغايرة تماماً للإعلام الغربي، فصورت داعش على أنه أجرمَ بحق العراقيين والإنسانية جمعاء.
كان استخدام صور داعش في وسائل الإعلام الشيعية العراقية تحديداً أداةً سياسية لاستفزاز الآخرين للتدخل، وكذلك لتبييض صورة الفصائل المسلحة المنخرطة في قتاله والتغطية على انتهاكاتها. كما أن تغطيتها لم تخل من التسرع في نشر معلومات خاطئة، منها على سبيل المثال، سيطرة عناصر من داعش على قاعدة سبايكر العسكرية.
تغيّر مسار التغطية الإعلامية في العالم الغربي والعربي بعد ظهور الشهادات الشخصية للناجين من مذبحة سبايكر، والتي كانت قد قوضت من السردية الطائفية التي عززها كل من داعش ووسائل الإعلام الغربية، لتجذب أيضاً انتباه كل من وسائل الإعلام العربية والإيرانية.
مع ذلك، لم تكن السرديات الشخصية محصّنة ضد التشتت والتشرذم بفعل الترجمة الإعلامية، مما حجّم أحياناً من الرسالة المناهضة للطائفية. على سبيل المثال، عندما تتحول مقابلة مصورة تحمل سمات النص الوثائقي إلى تقرير إخباري مكتوب، يضيع الكثير في الترجمة، فلا يمكن للنص المكتوب التعبير عن الإيماءات الجسدية والتعابير غير اللفظية، فتأتي الترجمة ناقصة مفتقدة إلى بعض التفاصيل الدقيقة الواردة في النص الأساسي.
السبي
عندما اجتاح تنظيم “الدولة الإسلامية” مدينة سنجار، في شمال العراق، بتاريخ الثالث من آب عام 2014، أخذ إرهابيوه الفتيات والنساء الإيزيديات بوصفهن “سبايا“، وهي ممارسة يُطلق عليها وصف “السبي”، واعتدوا عليهنّ جنسياً وعذبوهن.
وفقاً لداعش، كانت الدوافع دينية بحتة. ففي مقالات دابق، عُرِف الإيزيديون على أنهم “كفار” يجب أن تؤخذ نساؤهم على أنهن سبايا، حسب التفسيرات الدينية التي قدمها داعش في تلك المقالات. والأهم من ذلك، أن داعش كان يسعى من خلال مقالاته إلى مأسسة ممارسة السبي وإعادة تعريفها على هذا الأساس كشرط أساسي للمعركة النهائية، قبل يوم القيامة، حسب مفهومه. إلا أنني أجد أن التنظيم كان له دافع آخر لا يقل أهمية: إفراغ المناطق الخاضعة لسيطرته من أي تنوّع من شأنه أن يهدد مشروع الخلافة القائم على التجانس، والإقصاء لكل ما هو مختلف.
وعلى عكس الطريقة التي عرفنا من خلالها عن قضية مذبحة سبايكر، فإن السبي كشف عنه أول مرة شهود العيان وشهادات الناجين والناجيات التي أدلوا بها إلى منظمات حقوق الإنسان، وكذلك عندما قدمت فيان دخيل، النائبة الإيزيدية في البرلمان العراقي، نداءها الشهير أمام البرلمان العراقي لتتلقفه وسائل الإعلام العربية والغربية؛ بيد أن تلك القصص مجزأة أيضاً، والسبب يعود الى إشكالية المفهوم وضبابيته وحساسيته.
فعلى الرغم من أن العنف الجنسي غالباً ما يرتبط بالحروب والصراعات كإستراتيجية للسيطرة، وقد اتخذ أشكالا مختلفة عبر التاريخ، بما في ذلك الاستعباد الجنسي والاغتصاب، فإن السبي له بعد ديني فريد. وبحسب الدراسات، فهو يمثل عُرفاً يسبق الإسلام، واستمرت ممارسته في الفترة الأولى لظهوره. إلا أن هذه الممارسة توقفت في مراحل تاريخية لاحقة.iii
على هذا النحو، أنظر الى السبي بوصفه مفردة بحد ذاتها تُشكل جزءاً من سرديةٍ غير مكتملة انفصلت عن سياقها التاريخي الأصلي. والمفردة لضبابية في بادئ الأمر، أدت إلى ظهور رواياتٍ متعددة بمجرد إحياء الممارسة المرتبطة بها. لكن كل سرد ظل جزئياً إلى حدٍ ما، حيث كان من المستحيل ترجمة مجموعة المعاني المتضمنة في مفهوم السبي إلى مرادف واحد.
وعلى الرغم من محلية وخصوصية الجريمة، إلا أنها كانت محط اهتمام لوسائل الإعلام الغربية. فطبيعتها المرتبطة بالعبودية وجنس الضحايا وهويتهم الدينية، كلها عوامل جعلتها أكثر جاذبية لوسائل الإعلام الغربية من مذبحة سبايكر.
تغيّرت مفردة السبي مرات عدة في عملية الترجمة من قبل وسائل الإعلام الغربية، وكذلك من قبل الصفحات الإنجليزية الخاصة بوسائل الإعلام العربية. فتنوعت المرادفات بين “العبودية”، و”الاختطاف”، و”الزواج القسري”، و”الاتجار بالبشر”، و”الاغتصاب”. كل واحدة من هذه المصطلحات استدعت سردية مختلفة.
بينما بدأت القصص الشخصية للناجيات الإيزيديات تغزل سردية جمعية عن “العبودية الجنسية”، ولاحقاً عن “الاغتصاب”، مع الوقت أخذت تلك السردية تتنافس مع سرديات داعش عن السبي والعبودية، مساهمةً بذلك في تحدي وتحجيم الشرعية التي زعمتها داعش في خطابها.
من ناحية أخرى، استخدمت وسائل الإعلام العربية مفردة السبي باستمرار، لكنها تجنبت عموماً تقديم ترجمات مفصلة للروايات الشخصية للناجيات الإيزيديات، أو لمقالات دابق. وحتى عندما حاول الإسلاميون المناهضون لداعش مواجهته للمرة الأولى من خلال توجيه رسالة عامة ومفتوحة إلى زعيمه آنذاك، أبي بكر البغدادي، إلا أنه لم يكن لهذا التدخل تأثير يُذكر على وسائل الإعلام العربية.
يمكن القول إن الرد الإعلامي العربي لم يرقَ إلى مستوى السرد المقنع القادر على التنافس مع سرديات داعش لافتقاره إلى الدقة أحياناً، أو لاكتفائه بنشر التقارير الموجزة أو الترجمات المختصرة أو في كثير من الحالات، غياب الترجمة.
في وسائل الإعلام الإيرانية، من ناحية أخرى، كانت هناك ترجمات أكثر تفصيلاً لنصوص داعش، مما أدى إلى تكثيف التفسيرات الدينية التي استخدمها التنظيم، ربما في محاولة لهزم أيديولوجيته لصالح الإسلام الشيعي.
وفي كل الأحوال، لم يكن كافياً الرد على خطاب التنظيم حول السبي بالإيحاء بأن الممارسة لا تتفق مع السياق الحالي وحسب إذ كانت هناك حاجة إلى رد أكثر حزماً. وعلى نحوٍ مماثل، كان هناك إفراط في التأكيد على أن الإيزيديين هم أهل عقيدة، مما يجعل السؤال التالي يتبادر الى الأذهان: كيف سيكون الخطاب لو كان الإيزيديون غير مؤمنين؟ كانت أولوية وسائل الإعلام العربية هي إظهار أن تنظيم الدولة الإسلامية بعيد كل البعد عن الإسلام، دون أن يُشرَح بالضبط كيف ولماذا.
وعلى الرغم من تقديمها ترجمات أكثر تفصيلاً لنصوص داعش، وشرح التفسيرات الدينية التي استخدمها التنظيم، تبنت وسائل الإعلام الإيرانية إستراتيجية مماثلة لوسائل الإعلام العربية، ولكن لغرضٍ مختلف، هو دحر أيديولوجية “داعش”، لصالح الإسلام الشيعي، متجاهلة أن السبي كان قد ورد في كل من الفقه السني والشيعي.iv
وأخيراً حسمت القصص والشهادات الشخصية للناجيات الإيزيديات، بمن فيهم نادية مراد، التي تغيرت روايتها مرات عدة بسبب التغييرات في الخطاب والوسيط والطريقة التي تم نشرها بها، التنافس بين السرديات المختلفة، مبعدةً سردية داعش عن شرعية السبي لصالح الإبادة الجماعية. وظلت لغة الإبادة هي المسيطرة والمستخدمة حتى هذه اللحظة لوصف الفظاعات التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ضد الإيزيديين والإيزيديات.
الإعدامات (قطع الرؤوس)
كانت مقاطع فيديوهات الإعدام نقطة تحول في طريقة تصوير وتمثيل ونقل التنظيم لجرائمه وإرهابه. وبالاعتماد الكبير على الصور المتحركة أو الفيديوهات كأداة لشرعنة سلطته السياسية وتعزيز سردياتها، أصدر التنظيم سلسلة من مقاطع الفيديو الخاصة بالإعدامات منذ آب 2014، وحتى أوائل 2018.
وفي حين صُورت غالبية مقاطع الفيديو في سوريا أو العراق، تم تصوير عدد قليل آخر في أماكن أخرى، بما في ذلك ليبيا.
على النقيض من الجريمتين السابقتين اللتين بدأتا كأجزاءٍ متفرقة من السرد، قدمت مقاطع الفيديو روايات منظمة ومتماسكة، سعى التنظيم إلى إحكام السيطرة عليها. إلا أن الدلالات البصرية التي أحاطت بها كانت مدعى لتفسيراتٍ مختلفة.
شكلت مقاطع فيديوهات قطع الرؤوس نوعاً جديداً (genre). فكانت تتشابه شكلاً ومحتوى. ويمُكن تتبع هذا النوع من أول فيديو إعدام نُشر عبر الإنترنت، مطلع الألفية الثالثة بواسطة تنظيم القاعدة، حيث أظهر قطع رأس مواطن أمريكي.
مع إطلاق تنظيم داعش أول فيديو إعدام له، كان يواصل ممارسة قديمة تستند الى فلسفة بث “الصدمة والرعب” ويأخذها إلى مستوياتٍ جديدة من الدعاية العالمية مستفيداً من التقنيات التكنلوجية المتطورة لوسائل الإعلام والاتصالات المرئية.
ومع إطلاق ونشر فيديوهات عمليات الإعدام التي ارتكبها داعش، لم يعد التهديد محلياً لأن الضحايا أصبحوا الآن غربيين، مما أثر كثيراً على استجابة الحكومات الغربية، وبالتالي المؤسسات الإعلامية. ولأول مرة، كان هناك قرار سياسي بفرض رقابة على مقاطع الفيديو والحد من توزيعها وتداولها. ونتيجة لذلك، تُرجمت بشكلٍ جزئي إلى صورٍ منفردة ومحررة في تغطية وسائل الإعلام الغربية.
تضعضعت سردية داعش من خلال الترجمة الجزئية، كما وقُوّض الخطاب المرئي للانتقام وتم تأطيره ضمن أيديولوجيات “الحرب على الإرهاب”، و”صدام الحضارات”، في نصوص المقالات المكتوبة. اندمجت هذه الأيديولوجيات الكبرى مع خطاب التهديد الأمني الذي يُشكله داعش عالمياً، والغاية كانت كما هو واضح هي الحث على اتخاذ إجراءات ضد الجماعة الإرهابية، التي باتت الآن عدواً للعالم بأسره.
على الرغم من أن تشتيت سرديات داعش بفعل الترجمة الإعلامية قد كان فاعلاً، إلا أن الصور الثابتة أصبحت شاخصة في الذاكرة، مما ساعد داعش بشكل غير مباشر على إيصال رسالته إلى جمهور أوسع، وإن كان ذلك جزئياً. يمكن أن تكون وسائل الإعلام الغربية قد تنبهت إلى هذه الحقيقة عندما بدأت تدريجياً في جعل الصور الثابتة غير مرئية في تقاريرها ومقالاتها اللاحقة، وبدلاً من ذلك استبدلتها بصور الضحايا في محاولة لإثارة عواطف الجمهور وبناء سردية شخصية للضحايا، تتمحور حول الخير والنبل والشجاعة مقابل وحشية التنظيم.
وباستثناء فيديو حرق معاذ الكساسبة، الطيار الأردني، الذي كان منخرطاً في قوات التحالف المناهضة لداعش، اختفت مثل هذه الروايات الشخصية عندما كان ضحايا الإعدامات من العرب، كما كان الحال مع إعدام واحد وعشرين مصرياً قبطياً. عموماً، بدا أن إعدام الضحايا المحليين، مهما كان مروعاً، أقل أهمية من إعدامات الضحايا الأجانب بالنسبة لخطابات وسائل الإعلام الغربية.
على جانبٍ آخر، لم تُفرض أي رقابة على نشر مقاطع فيديوهات الإعدامات في وسائل الإعلام العربية أو الإيرانية، ولهذا السبب أعادت كل من قناتي العربية والعالم نشر مقاطع الفيديوهات بشكلٍ متكرر.
لكن عندما أعادت قناة العربية نشر مقاطع الفيديوهات على صفحتها العربية كاملةً -عدا مشاهد قطع الرؤوس بعد حذفها-، نشر موقع العالم الإيراني بعض مقاطع الفيديو بالكامل، بغض النظر عن لغة النص سواء كانت بالعربية أو الإنجليزية. تجدر الإشارة الى أنه قد تم حذف بعض تلك المقاطع لاحقاً أو إيقاف بثها، إمّا بفعل الموقع نفسه أو الشركات القائمة على الإنترنت.
تكشف أوجه التشابه بين موقعي العربية والعالم على الرغم من أجندتهما المتباينة عن أن المؤسستين الإعلاميتين تشتركان في هدفٍ واحد في ما يخص التغطية الإعلامية. فكلاهما استخدم مقاطع الفيديوهات تلك كدليل دامغ على وحشية داعش وبشاعته بغض النظر عن حقيقة أنهما كانا يقدمان خدمةً له عن غير قصد من خلال إتاحة مقاطع الفيديو إلى المتابعين.
حتى أن قناة العربية نشرت مقالاً يُفسر حجم الإقبال الكبير على مشاهدة فيديو حرق الكساسبة حياً بواسطة موقعها. فتناولت وسائل الإعلام العربية، ومن ضمنها العربية والجزيرة، حرق الكساسبة بشيءٍ من الإثارة، مع التركيز على جودة الفيديو وإمكانياته التقنية، ربما كانت تلك اللغة ساخرة، وربما كان الهدف هو تسليط الضوء على وجود مقاتلين أجانب في صفوف التنظيم، لكن مثل هذه الاستراتيجية كانت تصب في صالحه إذ كثفت من حجم البروباغندا والدعاية التي كان داعش بأمس الحاجة لها.
باستثناء وسائل الإعلام الغربية، فعلت الفوكس نيوز الأمر ذاته بعدما نشرت فيديو حرق الكساسبة حياً بالكامل، لتواجه عاصفة من الانتقادات مما اضطرها لتبرير إعادة النشر في مقال.
فيما حاولت صحيفة العالم أن تخبر قراءها الدوليين أنه من الضروري القضاء على التنظيم مع تصوير إيران والإسلام الشيعي في الوقت نفسه على أنهما النقيض والمنافس السياسي والديني “الشرعي” لداعش.
حتى عندما لم يتم عرض مقاطع الفيديو، كما هو الحال مع موقع قناة الجزيرة، على سبيل المثال، استُخدمت صوراً مقتطعة منها مرفقة بترجمة باللغة العربية، تُركز على الأسباب التي دفعت داعش لتنفيذ عمليات الإعدام.
على هذا النحو، أصبحت سردية الانتقام السياسي معززة بصرياً. يُمكن القول إن الجزيرة كانت تُوظف هذه الإستراتيجية سياسياً لإظهار أن الولايات المتحدة كانت متواطئة في الصراع في كل من سوريا والعراق.
في كل الأحوال، مثّل حرق الكساسبة حياً نقطة فاصلة في التغطية الإعلامية العربية. إذ حفزت الإدانة السياسية والدينية غير المسبوقة من قبل القادة والشخصيات الإسلامية إلى أن يطغى خطاب ديني مضاد لداعش في كل من العربية والجزيرة، مما أدى إلى تغيير ترجماتهم وتقاريرهم عن نصوص داعش تغييراً جذرياً.
أصبحت تسميات مثل “بربرية”، و”وحشية”، و”بشعة”، و”إرهابية”، أكثر استخداماً في التغطية الإعلامية لحرق الكساسبة، وقطع رؤوس المصريين الأقباط. وبدت سرديات داعش مشتتة أكثر في النص المكتوب مقابل الصوت المناهض لخصومه الإسلاميين، وخاصةً مؤسسة الأزهر وبياناته.
فكما أثر موقف الحكومات الغربية في المقام الأول على التغطية الإعلامية الغربية والطريقة التي تُرجمت بها مقاطع الفيديو، أثر دور المؤسسات الدينية على الإعلام العربي. حتى أن موقع صحيفة العالم الإيرانية استثمر في الإدانة العلنية للقادة السنة بغية الفصل بين داعش والإسلام.
إلا أنه وفي محاولتهم فصل داعش عن بقية المسلمين، لجأت وكالات الإعلام العربية والإيرانية على حد سواء إلى الأيديولوجيات المجردة نفسها، التي استخدمتها وسائل الإعلام الغربية، وهي “صدام الحضارات”، أو ما أُفضل تسميته بـ”صِدام الأيديولوجيات”.
تدمير الآثار الحضارية والثقافية
ظهر تدمير القطع الأثرية الثقافية والمواقع التاريخية في محافظة نينوى في العراق في ثلاثة مقاطع فيديو متتالية أصدرها تنظيم “داعش”، في شباط ونيسان 2015. أظهرت مقاطع الفيديو الدمار المادي في متحف الموصل وعند أحد بوابات نينوى، وفي موقع نمرود المقترح للتراث العالمي لليونسكو، وموقع التراث العالمي في الحضر.
مثل استهداف كافة مكونات الشعب العراقي والأضرحة الإسلامية التي يقدسها كل من الشيعة والسنة على حد سواء، استهدافاً للهوية العراقية الثقافية نفسها؛ ووصفتها المؤرخة العراقية زينب البحراني بأنها إبادة.
على عكس مقاطع الفيديو الخاصة بالإعدام التي استمرَّ تنظيم داعش في بثها، فإن مقاطع الفيديو الخاصة بالتدمير الحضاري لم تتكرر أو تُشكل نوعاً، علاوة على ذلك، لم يُصدر التنظيم فيديوهات أخرى باستثناء الفيديوهات آنفة الذكر، والتي تميزت بركاكة في المونتاج والتحرير. حتى مع حالة تدمير آثار تدمر في سوريا، فإنّ داعش وثق دمارها في صورٍ ولقطاتٍ ثابتة نُشرت في مجلة دابق.
السردية الدينية المؤطرة لمشاهد التدمير في مقاطع الفيديوهات الثلاثة كانت سرديةً هشة، لأنها سرعان ما تعرضت لإدانة واسعة من الكثير من العلماء المسلمين، وفي مقدمتهم دار الإفتاء المصرية، الأزهر، والمرجعية الشيعية في العراق. وعليه، أصبح الموقف الديني المناهض لداعش أبرز وأقوى تأثيراً.
وعلى المستوى الشعبي، كان هناك استنكار وشجب كبير لتدمير القطع الأثرية العراقية على وسائل التواصل الاجتماعي العراقية. كلا الموقفين: الديني والشعبي، أثر بعمق على التغطية والترجمة في وسائل الإعلام العربية.
سلطت وسائل الإعلام العربية الضوء في المقام الأول على الجانب الثقافي والتاريخي المتعلق بأهمية الآثار بالنسبة للعراقيين، والحضارات الأشورية والأكدية والإنسانية عموماً. وبالمثل، أطّرت وسائل الإعلام العراقية أعمال التدمير الثلاثة ضمن سردية ثقافية وتاريخية تُسلط الضوء على العلاقة بين الهوية العراقية والآثار التي دمرها التنظيم.
ركزت التقارير العراقية والعربية على الطابع والهوية العراقية للأثار، والتي تعكس تنوعه بالإشارة إلى الهوية الأشورية لمدينة نمرود الأثرية، فيما أطّرت هذه الهوية التقارير الإعلامية الغربية فبرزت أكثر من عراقيتها. كما كان النهب والتهريب كدوافع للتنظيم أكثر بروزاً في وسائل الإعلام العراقية من وسائل الإعلام الغربية.
وعلى النقيض من فيديوهات الإعدامات، لم تكن وسائل الإعلام الغربية مهتمة في البداية بتحدي أو زعزعة خطاب داعش وسردياته؛ إذ أعادت العديد من المواقع الإعلامية الغربية نشر فيديو تحطيم متحف الموصل. فعلى ما يبدو، كان هناك تمييز بين العنف ضد البشر والعنف ضد الجماد، متجاهلةً الصدمة التي قد يسببها ذلك للأشخاص المرتبطين تاريخياً وعاطفياً بالآثار.
ما زلت أتذكر كيف كان رد فعل الأصدقاء العراقيين على الفيديو الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي اتسم بالغضب والصدمة والحزن. نشرت إحدى الصديقات مثلاً أن صوت تحطيم القطع الأثرية كان مثل صوت الحفر في أعماق روحها.
لكنّ هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فسرعان ما غيرت وسائل الإعلام الغربية إستراتيجيتها في تغطية وترجمة مقطعي الفيديو التاليين، عندما امتنعت عن إعادة نشرهما. ربما كانت هذه مجرد استراتيجية آنية، أو متعمدة، فمن الوارد أن وسائل الإعلام الغربية كانت تحاول تقويض مقاطع الفيديو استجابة للإدانة الكاسحة من قبل جهات فاعلة متعددة.
حتى أن تبرير داعش الديني الطاغي على التقارير المترجمة في حالة الفيديو الأول بدأ ينحسر للهامش في تراجم الفيديوهات اللاحقة، وتدريجياً برز التهريب والنهب دافعاً رئيسياً للتدمير الحضاري. وهذا ما كشفه الباحث المغدور هشام الهاشمي في مقابلةٍ أجراها مع أحد قياديي داعش بعد أن القت القوات الأمنية العراقية القبض عليه، إذ اعترف القيادي أن تدمير الأثار كان من نصيب تلك القطع التي فشل التنظيم في تهريبها الى أوروبا.
الأنا والآخر
تقدم لنا سرديات داعش وترجماتها في الخطابات الإعلامية المحلية والدولية درسا قيماً: يزدهر داعش ويتنفس من خلال ثنائية “الأنا” و”الآخر”، وهي ثنائية تُثير الانقسام والفرقة على أساس الدين أو العرق أو الجنس، والخ.
صاغ النشطاء العراقيون مصطلح الدعشنة، وهو مشتق من كلمة داعش، للإشارة إلى أي ممارسة تهدف إلى إخضاع الآخرين، وتُشير إلى محاولة قمع المعتقدات والأفكار والسلوك والمظاهر على أسس دينية – ليس تنظيم الدولة الإسلامية وحده هو الذي يفعل ذلك في العراق.
إن لمثل هذه الأفعال والثنائيات التي تتضمنها تداعياتٍ ملموسة يمكن أن تُترجم إلى عنف من خلال التحريض على الكراهية والخوف في المجتمع. وفي العراق، قُتل الكثيرون على أيدي الجماعات المسلحة، التي حاربت تنظيم داعش، لأن الضحايا لم يكونوا ينتمون إلى هذه الجماعات أو لا يؤيدون خطابها.
وإلى جانب فشل الحكومة العراقية في محاسبة الجناة، وإعادة بناء المجتمعات في سنجار وحولها، لم يكن الاهتمام الإعلامي غير المتكافئ بالفظائع التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ضد العراقيين بدون عواقب هو الآخر.
أخبرني حسين، وهو من سكنة مدينة الموصل، عاش في ظل حكم داعش، أن التنظيم الإرهابي أعدم الآلاف من السكان المحليين السُنة، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى المؤسسات العسكرية العراقية. وبالإضافة الى الموصل، إرتكب التنظيم جرائم مماثلة ضد العرب السُنة في الأنبار. ومع ذلك، لم تبذل وسائل الإعلام الغربية والعربية جهداً كافياً لتسليط الضوء على تلك الجرائم والانتهاكات ونقلها إلى العالم، على حد قوله.
ربما ساهم التقليل من شأن عنف داعش ضد العراقيين الآخرين، وخاصة المسلمين السنة، بوسائل الإعلام في تعميق الفجوة وزيادة التوتر بين “العراقي السُنّي” وشرائح المجتمع العراقي الأخرى، خاصةً الإيزيديين. ويشترك العديد من هؤلاء في لوم جميع جيرانهم السنة العرب والأكراد على الانضمام إلى داعش، أو الفشل في مقاومة التنظيم – على الأقل.
كلما قلّت معرفتنا بالآخر، كلما زاد خوفنا منه وكرهنا له. لذا أن أفضل رد على داعش لا يكمن في الروايات الاختزالية أو المجردة، لأنها تقلل من التفاصيل الخاصة عن الآخر، وتصوره على نحوٍ قاصر ومقتضب ومشوه.
ما هو البديل إذن؟ إن تفكيك السرديات المجردة والجوهرانية في التقارير الإعلامية والترجمة لتشمل جميع “الآخرين” المختلفين وقصصهم المتنوعة ووجهات نظرهم وأصواتهم هي الخطوة الأولى.
لا يكفي تذكير القراء بأن الإيزيديين هم أهل إيمان، وليسوا “عبدة شيطان”، كما يسميهم داعش على سبيل المثال؛ فالأهم من ذلك هو تذكيرهم بأنه لا عذر لما فعله إرهابيو داعش، حتى لو كانوا كذلك.
لا يُمكن التصدي للتطرف الديني بالنهاية من دون وجود ثقافة نقدية حقيقية، واعتراف كامل بالآخر، وأحقيته في الوجود والحياة؛ فالهدف ليس استبدال داعش بنسخٍ أخرى، وإلا فإننا سنُسجن في دوامتها الأبدية.
بعد عشر سنوات من ذكرى داعش، لا نستذكر أخطاء الإعلام وتحيزاته وحسب، بل نستذكر معه تورُّط السلطات والحكومات وفشلها في إحقاق العدالة ومحاسبة الجناة، كما نستذكر غياب الإرادة الحقيقية لتقديم بدائل لأيديولوجيات داعش وممارساتها، فأوجه الشبه أكبر بكثير من أوجه الاختلاف.
يستند هذا المقال إلى كتاب “الدولة الإسلامية في الترجمة: أربع فظائع، سرديات متعددة“، للكاتبة بلسم مصطفى، الصادر عام 2022، والذي يستند على أطروحة الدكتوراه الخاصة بالموضوع ذاته. كلمة الترجمة في المقال تأخذ معناها الواسع لا الدقيق، المتداخل مع الكتابة الصحفية والتحرير.v
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
في كتابه الصادر عام 2015، “عالم داعش: من النشأة الى إعلان الخلافة“، شددّ هشام الهاشمي، الباحث الراحل، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية والجهادية، على أن مجابهة تلك الجماعات يبدأ من تحدي وتفكيك أفكارها وأيدولوجياتها الإقصائية، مما يقتضي مراجعة لنصوصها وخطابها وسردياتها.
بالنسبة للهاشمي، الأفكار القائمة على الإقصاء والنبذ ورفض الآخر، تتشارك فيها أقطاب سياسية ودينية مختلفة، تشمل الجماعات الإسلامية المتطرفة، والجماعات المنضوية تحت مظلة أقصى اليمين، وتفوق العرق الأبيض، وما سواها. الهاشمي نفسه قُتل على يد إحدى هذه الجماعات.
ولأن مثل هذه المراجعة لا تكتمل من دون قراءة في دور الجهات الإعلامية والسياسية والدينية وغيرها، في التعامل مع مثل تلك الأيدولوجيات ومتبنيها، يقدّم هذا المقال تحليلاً لترجمة نصوص داعش في عددٍ من الوسائل الإعلامية المحلية والعربية والإيرانية والغربية، وتغطيتها لأربع جرائم ارتكبها التنظيم قبل عشر سنوات، بعد اجتياحه لشمال العراق وفرض سيطرته على مدينة الموصل.
يستند هذا التحليل إلى كتابي الصادر عام 2022 بعنوان: “الدولة الإسلامية” في الترجمة: أربع فظائع، سرديات متعددة، والمعتمد بدوره على أطروحة الدكتوراه الخاصة بالموضوع ذاته. أستخدم الترجمة فيه بمعناها الواسع لا الدقيق، المتداخل مع الكتابة الصحفية والتحرير.i
صحيح أن عبارة “التاريخ يُعيد نفسه” ليست دقيقة دائماً، لاختلاف السياقات والظروف والتجارب، إلا أنه لا بد أن تكون هناك بعض الدروس والعبر التي تُساعدنا على الأقل في أن نفهم حاضرنا، ونُقَيم وندرس مواقفنا بعينٍ نقدية تُفكك الأخطاء وتحاول تصويبها مستقبلاً، خصوصاً وأن التاريخ المعني في هذه الحالة هو تاريخ قريب، ولا يعود إلى الماضي السحيق، وأن تهديد داعش كتنظيم لا يزال قائماً محلياً وعالمياً سواء بشكل عملياتٍ متفرقة أو أيديولوجيات عابرة للجماعات والحدود، ولا يُمكن اختزاله بمسك الأرض.
سبايكر
كانت جريمة سبايكر من أولى الفظائع التي ارتكبها تنظيم “الدولة الإسلامية”، ضد ما يقرب من 1700 طالب شيعي مجندين حديثاً في الجيش العراقي، وذك في 12 حزيران 2014.
على الرغم من أن تنظيم داعش كان قد استخدم نصوصاً متعددة الوسائط: صور مزودة بتعليقات وعناوين وتغريدات، إلا أن القصة كانت مجزأة ومبعثرة؛ فعلى الرغم من أن الستين صورة التي نشرها التنظيم عبر تطبيق تويتر (أكس حالياً)، رُتّبت في تسلسل معين، وهو ما يمكن تفسيره على أنه محاولة لإنتاج سردية متماسكة لما حدث للمتدربين العراقيين، إلا أن هذه السلسلة سرعان ما تم تفتيتها بعد إغلاق الحساب الذي نشر تلك الصور على الفور. نتيجة لذلك، تُركنا مع قطعٍ متناثرة وعائمة بشكلٍ عشوائي على الإنترنت.
أخذ العراقيون ممن شاهد الصور في مواقع التواصل المختلفة يحاولون ربط خيوطها حتى يفهموا ما حصل. ما زلت أتذكر تساؤلاتهم حول هوية الجناة والضحايا وأسباب القتل الجماعي. بمعنى آخر، كانوا يتكهنون بالتفاصيل عن طريق التعامل مع الصور والتغريدات ومقاطع الفيديو التي نشرها مؤيدو داعش أو المتعاطفون معه على موقع يوتيوب، كما لو أنها كانت مقاطع لغز تحتاج إلى تجميعها معا لتُكوِن رواية منطقية.
على الرغم من أن النصوص المتنوعة من صورٍ وتعليقاتٍ وغيرها احتفظت ببعض الملامح السردية: دينية وطائفية وعرقية، إلا أنّها لم ترتق لتقدم سرداً متماسكاً. ولم يكن حينها ممكناً تفسيرها وقراءتها إلا في ضوء المقالات اللاحقة المنشورة في دابق، مجلة التنظيم الرسمية.
يمكن القول إن محلية جريمة سبايكر، وتشتت سرديتها، ساهما جزئياً في غيابها أو ربما تغييبها عن عناوين الأخبار، خاصةً في وسائل الإعلام العربية والإيرانية، حيث اختفت تقريباً في تلك المرحلة الأولى.
من جهة أخرى، ربما ساهم إنكار القادة السياسيين في العراق في بادئ الأمر، لتلك الصور والقتل الجماعي في غياب المجزرة عن التغطية الإعلامية. بالإضافة إلى تلك الأسباب، أزعم أن وسائل الإعلام العربية، على وجه الخصوص، ربما أرادت تجنب تسليط الضوء على المجزرة بسبب دوافعها الدينية والمذهبية.
لم تتشكل بعد سردية دينية مناهضة لداعش، وهذا ربما أيضاً أثّر في إهمال الإعلام العربي لها. في تلك المرحلة المبكرة، كان يُنظر إلى تنظيم الدولة الإسلامية بشكلٍ أساسي من خلال عدسة سياسية، كجزء من صراع سياسي بين الحكومة والمسلحين السنة.
أما في وسائل الإعلام الغربية، فقد كانت هناك تغطية محدودة، خاصة بالمقارنة مع الفظائع اللاحقة التي ارتكبها التنظيم الإرهابي. وفيما يخص صورها، فقد بُعثرت في التقارير الإعلامية ولم تكن مضللّة في جميعها.
كما لم تكن هناك محاولة في هذه المرحلة للتفكير في طرق لزعزعة سردية داعش الطائفية، من خلال الترجمة إلى وسائل الإعلام الغربية؛ بل على العكس من ذلك، استحضرت وسائل الإعلام الغربية السردية الطائفية نفسها التي سعى التنظيم إلى إبرازها وتعميمها. فعلى سبيل المثال، في مقالٍ نشرته صحيفة الإندبندنت وحذفته لاحقاً، تصدّرت عبارة “حرب طائفية” في عنوانها، كتحذير من الخطر المحدق بالبلد بعد جريمة القتل الجماعي. وبسبب المعلومات المتضاربة حينها، وصفت البي بي سي الضحايا على أنهم متطوعون من ميليشياتٍ شيعية أو من الفرقة الذهبية.
فتوقعت بعض الصحف، أن تكون الحرب الأهلية الطائفية هي النتيجة الحتمية للقتل الجماعي، وهو ما لم يحدث في الواقع.ii من ناحية أخرى، تعاملت وسائل الإعلام العراقية بطريقةٍ مغايرة تماماً للإعلام الغربي، فصورت داعش على أنه أجرمَ بحق العراقيين والإنسانية جمعاء.
كان استخدام صور داعش في وسائل الإعلام الشيعية العراقية تحديداً أداةً سياسية لاستفزاز الآخرين للتدخل، وكذلك لتبييض صورة الفصائل المسلحة المنخرطة في قتاله والتغطية على انتهاكاتها. كما أن تغطيتها لم تخل من التسرع في نشر معلومات خاطئة، منها على سبيل المثال، سيطرة عناصر من داعش على قاعدة سبايكر العسكرية.
تغيّر مسار التغطية الإعلامية في العالم الغربي والعربي بعد ظهور الشهادات الشخصية للناجين من مذبحة سبايكر، والتي كانت قد قوضت من السردية الطائفية التي عززها كل من داعش ووسائل الإعلام الغربية، لتجذب أيضاً انتباه كل من وسائل الإعلام العربية والإيرانية.
مع ذلك، لم تكن السرديات الشخصية محصّنة ضد التشتت والتشرذم بفعل الترجمة الإعلامية، مما حجّم أحياناً من الرسالة المناهضة للطائفية. على سبيل المثال، عندما تتحول مقابلة مصورة تحمل سمات النص الوثائقي إلى تقرير إخباري مكتوب، يضيع الكثير في الترجمة، فلا يمكن للنص المكتوب التعبير عن الإيماءات الجسدية والتعابير غير اللفظية، فتأتي الترجمة ناقصة مفتقدة إلى بعض التفاصيل الدقيقة الواردة في النص الأساسي.
السبي
عندما اجتاح تنظيم “الدولة الإسلامية” مدينة سنجار، في شمال العراق، بتاريخ الثالث من آب عام 2014، أخذ إرهابيوه الفتيات والنساء الإيزيديات بوصفهن “سبايا“، وهي ممارسة يُطلق عليها وصف “السبي”، واعتدوا عليهنّ جنسياً وعذبوهن.
وفقاً لداعش، كانت الدوافع دينية بحتة. ففي مقالات دابق، عُرِف الإيزيديون على أنهم “كفار” يجب أن تؤخذ نساؤهم على أنهن سبايا، حسب التفسيرات الدينية التي قدمها داعش في تلك المقالات. والأهم من ذلك، أن داعش كان يسعى من خلال مقالاته إلى مأسسة ممارسة السبي وإعادة تعريفها على هذا الأساس كشرط أساسي للمعركة النهائية، قبل يوم القيامة، حسب مفهومه. إلا أنني أجد أن التنظيم كان له دافع آخر لا يقل أهمية: إفراغ المناطق الخاضعة لسيطرته من أي تنوّع من شأنه أن يهدد مشروع الخلافة القائم على التجانس، والإقصاء لكل ما هو مختلف.
وعلى عكس الطريقة التي عرفنا من خلالها عن قضية مذبحة سبايكر، فإن السبي كشف عنه أول مرة شهود العيان وشهادات الناجين والناجيات التي أدلوا بها إلى منظمات حقوق الإنسان، وكذلك عندما قدمت فيان دخيل، النائبة الإيزيدية في البرلمان العراقي، نداءها الشهير أمام البرلمان العراقي لتتلقفه وسائل الإعلام العربية والغربية؛ بيد أن تلك القصص مجزأة أيضاً، والسبب يعود الى إشكالية المفهوم وضبابيته وحساسيته.
فعلى الرغم من أن العنف الجنسي غالباً ما يرتبط بالحروب والصراعات كإستراتيجية للسيطرة، وقد اتخذ أشكالا مختلفة عبر التاريخ، بما في ذلك الاستعباد الجنسي والاغتصاب، فإن السبي له بعد ديني فريد. وبحسب الدراسات، فهو يمثل عُرفاً يسبق الإسلام، واستمرت ممارسته في الفترة الأولى لظهوره. إلا أن هذه الممارسة توقفت في مراحل تاريخية لاحقة.iii
على هذا النحو، أنظر الى السبي بوصفه مفردة بحد ذاتها تُشكل جزءاً من سرديةٍ غير مكتملة انفصلت عن سياقها التاريخي الأصلي. والمفردة لضبابية في بادئ الأمر، أدت إلى ظهور رواياتٍ متعددة بمجرد إحياء الممارسة المرتبطة بها. لكن كل سرد ظل جزئياً إلى حدٍ ما، حيث كان من المستحيل ترجمة مجموعة المعاني المتضمنة في مفهوم السبي إلى مرادف واحد.
وعلى الرغم من محلية وخصوصية الجريمة، إلا أنها كانت محط اهتمام لوسائل الإعلام الغربية. فطبيعتها المرتبطة بالعبودية وجنس الضحايا وهويتهم الدينية، كلها عوامل جعلتها أكثر جاذبية لوسائل الإعلام الغربية من مذبحة سبايكر.
تغيّرت مفردة السبي مرات عدة في عملية الترجمة من قبل وسائل الإعلام الغربية، وكذلك من قبل الصفحات الإنجليزية الخاصة بوسائل الإعلام العربية. فتنوعت المرادفات بين “العبودية”، و”الاختطاف”، و”الزواج القسري”، و”الاتجار بالبشر”، و”الاغتصاب”. كل واحدة من هذه المصطلحات استدعت سردية مختلفة.
بينما بدأت القصص الشخصية للناجيات الإيزيديات تغزل سردية جمعية عن “العبودية الجنسية”، ولاحقاً عن “الاغتصاب”، مع الوقت أخذت تلك السردية تتنافس مع سرديات داعش عن السبي والعبودية، مساهمةً بذلك في تحدي وتحجيم الشرعية التي زعمتها داعش في خطابها.
من ناحية أخرى، استخدمت وسائل الإعلام العربية مفردة السبي باستمرار، لكنها تجنبت عموماً تقديم ترجمات مفصلة للروايات الشخصية للناجيات الإيزيديات، أو لمقالات دابق. وحتى عندما حاول الإسلاميون المناهضون لداعش مواجهته للمرة الأولى من خلال توجيه رسالة عامة ومفتوحة إلى زعيمه آنذاك، أبي بكر البغدادي، إلا أنه لم يكن لهذا التدخل تأثير يُذكر على وسائل الإعلام العربية.
يمكن القول إن الرد الإعلامي العربي لم يرقَ إلى مستوى السرد المقنع القادر على التنافس مع سرديات داعش لافتقاره إلى الدقة أحياناً، أو لاكتفائه بنشر التقارير الموجزة أو الترجمات المختصرة أو في كثير من الحالات، غياب الترجمة.
في وسائل الإعلام الإيرانية، من ناحية أخرى، كانت هناك ترجمات أكثر تفصيلاً لنصوص داعش، مما أدى إلى تكثيف التفسيرات الدينية التي استخدمها التنظيم، ربما في محاولة لهزم أيديولوجيته لصالح الإسلام الشيعي.
وفي كل الأحوال، لم يكن كافياً الرد على خطاب التنظيم حول السبي بالإيحاء بأن الممارسة لا تتفق مع السياق الحالي وحسب إذ كانت هناك حاجة إلى رد أكثر حزماً. وعلى نحوٍ مماثل، كان هناك إفراط في التأكيد على أن الإيزيديين هم أهل عقيدة، مما يجعل السؤال التالي يتبادر الى الأذهان: كيف سيكون الخطاب لو كان الإيزيديون غير مؤمنين؟ كانت أولوية وسائل الإعلام العربية هي إظهار أن تنظيم الدولة الإسلامية بعيد كل البعد عن الإسلام، دون أن يُشرَح بالضبط كيف ولماذا.
وعلى الرغم من تقديمها ترجمات أكثر تفصيلاً لنصوص داعش، وشرح التفسيرات الدينية التي استخدمها التنظيم، تبنت وسائل الإعلام الإيرانية إستراتيجية مماثلة لوسائل الإعلام العربية، ولكن لغرضٍ مختلف، هو دحر أيديولوجية “داعش”، لصالح الإسلام الشيعي، متجاهلة أن السبي كان قد ورد في كل من الفقه السني والشيعي.iv
وأخيراً حسمت القصص والشهادات الشخصية للناجيات الإيزيديات، بمن فيهم نادية مراد، التي تغيرت روايتها مرات عدة بسبب التغييرات في الخطاب والوسيط والطريقة التي تم نشرها بها، التنافس بين السرديات المختلفة، مبعدةً سردية داعش عن شرعية السبي لصالح الإبادة الجماعية. وظلت لغة الإبادة هي المسيطرة والمستخدمة حتى هذه اللحظة لوصف الفظاعات التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ضد الإيزيديين والإيزيديات.
الإعدامات (قطع الرؤوس)
كانت مقاطع فيديوهات الإعدام نقطة تحول في طريقة تصوير وتمثيل ونقل التنظيم لجرائمه وإرهابه. وبالاعتماد الكبير على الصور المتحركة أو الفيديوهات كأداة لشرعنة سلطته السياسية وتعزيز سردياتها، أصدر التنظيم سلسلة من مقاطع الفيديو الخاصة بالإعدامات منذ آب 2014، وحتى أوائل 2018.
وفي حين صُورت غالبية مقاطع الفيديو في سوريا أو العراق، تم تصوير عدد قليل آخر في أماكن أخرى، بما في ذلك ليبيا.
على النقيض من الجريمتين السابقتين اللتين بدأتا كأجزاءٍ متفرقة من السرد، قدمت مقاطع الفيديو روايات منظمة ومتماسكة، سعى التنظيم إلى إحكام السيطرة عليها. إلا أن الدلالات البصرية التي أحاطت بها كانت مدعى لتفسيراتٍ مختلفة.
شكلت مقاطع فيديوهات قطع الرؤوس نوعاً جديداً (genre). فكانت تتشابه شكلاً ومحتوى. ويمُكن تتبع هذا النوع من أول فيديو إعدام نُشر عبر الإنترنت، مطلع الألفية الثالثة بواسطة تنظيم القاعدة، حيث أظهر قطع رأس مواطن أمريكي.
مع إطلاق تنظيم داعش أول فيديو إعدام له، كان يواصل ممارسة قديمة تستند الى فلسفة بث “الصدمة والرعب” ويأخذها إلى مستوياتٍ جديدة من الدعاية العالمية مستفيداً من التقنيات التكنلوجية المتطورة لوسائل الإعلام والاتصالات المرئية.
ومع إطلاق ونشر فيديوهات عمليات الإعدام التي ارتكبها داعش، لم يعد التهديد محلياً لأن الضحايا أصبحوا الآن غربيين، مما أثر كثيراً على استجابة الحكومات الغربية، وبالتالي المؤسسات الإعلامية. ولأول مرة، كان هناك قرار سياسي بفرض رقابة على مقاطع الفيديو والحد من توزيعها وتداولها. ونتيجة لذلك، تُرجمت بشكلٍ جزئي إلى صورٍ منفردة ومحررة في تغطية وسائل الإعلام الغربية.
تضعضعت سردية داعش من خلال الترجمة الجزئية، كما وقُوّض الخطاب المرئي للانتقام وتم تأطيره ضمن أيديولوجيات “الحرب على الإرهاب”، و”صدام الحضارات”، في نصوص المقالات المكتوبة. اندمجت هذه الأيديولوجيات الكبرى مع خطاب التهديد الأمني الذي يُشكله داعش عالمياً، والغاية كانت كما هو واضح هي الحث على اتخاذ إجراءات ضد الجماعة الإرهابية، التي باتت الآن عدواً للعالم بأسره.
على الرغم من أن تشتيت سرديات داعش بفعل الترجمة الإعلامية قد كان فاعلاً، إلا أن الصور الثابتة أصبحت شاخصة في الذاكرة، مما ساعد داعش بشكل غير مباشر على إيصال رسالته إلى جمهور أوسع، وإن كان ذلك جزئياً. يمكن أن تكون وسائل الإعلام الغربية قد تنبهت إلى هذه الحقيقة عندما بدأت تدريجياً في جعل الصور الثابتة غير مرئية في تقاريرها ومقالاتها اللاحقة، وبدلاً من ذلك استبدلتها بصور الضحايا في محاولة لإثارة عواطف الجمهور وبناء سردية شخصية للضحايا، تتمحور حول الخير والنبل والشجاعة مقابل وحشية التنظيم.
وباستثناء فيديو حرق معاذ الكساسبة، الطيار الأردني، الذي كان منخرطاً في قوات التحالف المناهضة لداعش، اختفت مثل هذه الروايات الشخصية عندما كان ضحايا الإعدامات من العرب، كما كان الحال مع إعدام واحد وعشرين مصرياً قبطياً. عموماً، بدا أن إعدام الضحايا المحليين، مهما كان مروعاً، أقل أهمية من إعدامات الضحايا الأجانب بالنسبة لخطابات وسائل الإعلام الغربية.
على جانبٍ آخر، لم تُفرض أي رقابة على نشر مقاطع فيديوهات الإعدامات في وسائل الإعلام العربية أو الإيرانية، ولهذا السبب أعادت كل من قناتي العربية والعالم نشر مقاطع الفيديوهات بشكلٍ متكرر.
لكن عندما أعادت قناة العربية نشر مقاطع الفيديوهات على صفحتها العربية كاملةً -عدا مشاهد قطع الرؤوس بعد حذفها-، نشر موقع العالم الإيراني بعض مقاطع الفيديو بالكامل، بغض النظر عن لغة النص سواء كانت بالعربية أو الإنجليزية. تجدر الإشارة الى أنه قد تم حذف بعض تلك المقاطع لاحقاً أو إيقاف بثها، إمّا بفعل الموقع نفسه أو الشركات القائمة على الإنترنت.
تكشف أوجه التشابه بين موقعي العربية والعالم على الرغم من أجندتهما المتباينة عن أن المؤسستين الإعلاميتين تشتركان في هدفٍ واحد في ما يخص التغطية الإعلامية. فكلاهما استخدم مقاطع الفيديوهات تلك كدليل دامغ على وحشية داعش وبشاعته بغض النظر عن حقيقة أنهما كانا يقدمان خدمةً له عن غير قصد من خلال إتاحة مقاطع الفيديو إلى المتابعين.
حتى أن قناة العربية نشرت مقالاً يُفسر حجم الإقبال الكبير على مشاهدة فيديو حرق الكساسبة حياً بواسطة موقعها. فتناولت وسائل الإعلام العربية، ومن ضمنها العربية والجزيرة، حرق الكساسبة بشيءٍ من الإثارة، مع التركيز على جودة الفيديو وإمكانياته التقنية، ربما كانت تلك اللغة ساخرة، وربما كان الهدف هو تسليط الضوء على وجود مقاتلين أجانب في صفوف التنظيم، لكن مثل هذه الاستراتيجية كانت تصب في صالحه إذ كثفت من حجم البروباغندا والدعاية التي كان داعش بأمس الحاجة لها.
باستثناء وسائل الإعلام الغربية، فعلت الفوكس نيوز الأمر ذاته بعدما نشرت فيديو حرق الكساسبة حياً بالكامل، لتواجه عاصفة من الانتقادات مما اضطرها لتبرير إعادة النشر في مقال.
فيما حاولت صحيفة العالم أن تخبر قراءها الدوليين أنه من الضروري القضاء على التنظيم مع تصوير إيران والإسلام الشيعي في الوقت نفسه على أنهما النقيض والمنافس السياسي والديني “الشرعي” لداعش.
حتى عندما لم يتم عرض مقاطع الفيديو، كما هو الحال مع موقع قناة الجزيرة، على سبيل المثال، استُخدمت صوراً مقتطعة منها مرفقة بترجمة باللغة العربية، تُركز على الأسباب التي دفعت داعش لتنفيذ عمليات الإعدام.
على هذا النحو، أصبحت سردية الانتقام السياسي معززة بصرياً. يُمكن القول إن الجزيرة كانت تُوظف هذه الإستراتيجية سياسياً لإظهار أن الولايات المتحدة كانت متواطئة في الصراع في كل من سوريا والعراق.
في كل الأحوال، مثّل حرق الكساسبة حياً نقطة فاصلة في التغطية الإعلامية العربية. إذ حفزت الإدانة السياسية والدينية غير المسبوقة من قبل القادة والشخصيات الإسلامية إلى أن يطغى خطاب ديني مضاد لداعش في كل من العربية والجزيرة، مما أدى إلى تغيير ترجماتهم وتقاريرهم عن نصوص داعش تغييراً جذرياً.
أصبحت تسميات مثل “بربرية”، و”وحشية”، و”بشعة”، و”إرهابية”، أكثر استخداماً في التغطية الإعلامية لحرق الكساسبة، وقطع رؤوس المصريين الأقباط. وبدت سرديات داعش مشتتة أكثر في النص المكتوب مقابل الصوت المناهض لخصومه الإسلاميين، وخاصةً مؤسسة الأزهر وبياناته.
فكما أثر موقف الحكومات الغربية في المقام الأول على التغطية الإعلامية الغربية والطريقة التي تُرجمت بها مقاطع الفيديو، أثر دور المؤسسات الدينية على الإعلام العربي. حتى أن موقع صحيفة العالم الإيرانية استثمر في الإدانة العلنية للقادة السنة بغية الفصل بين داعش والإسلام.
إلا أنه وفي محاولتهم فصل داعش عن بقية المسلمين، لجأت وكالات الإعلام العربية والإيرانية على حد سواء إلى الأيديولوجيات المجردة نفسها، التي استخدمتها وسائل الإعلام الغربية، وهي “صدام الحضارات”، أو ما أُفضل تسميته بـ”صِدام الأيديولوجيات”.
تدمير الآثار الحضارية والثقافية
ظهر تدمير القطع الأثرية الثقافية والمواقع التاريخية في محافظة نينوى في العراق في ثلاثة مقاطع فيديو متتالية أصدرها تنظيم “داعش”، في شباط ونيسان 2015. أظهرت مقاطع الفيديو الدمار المادي في متحف الموصل وعند أحد بوابات نينوى، وفي موقع نمرود المقترح للتراث العالمي لليونسكو، وموقع التراث العالمي في الحضر.
مثل استهداف كافة مكونات الشعب العراقي والأضرحة الإسلامية التي يقدسها كل من الشيعة والسنة على حد سواء، استهدافاً للهوية العراقية الثقافية نفسها؛ ووصفتها المؤرخة العراقية زينب البحراني بأنها إبادة.
على عكس مقاطع الفيديو الخاصة بالإعدام التي استمرَّ تنظيم داعش في بثها، فإن مقاطع الفيديو الخاصة بالتدمير الحضاري لم تتكرر أو تُشكل نوعاً، علاوة على ذلك، لم يُصدر التنظيم فيديوهات أخرى باستثناء الفيديوهات آنفة الذكر، والتي تميزت بركاكة في المونتاج والتحرير. حتى مع حالة تدمير آثار تدمر في سوريا، فإنّ داعش وثق دمارها في صورٍ ولقطاتٍ ثابتة نُشرت في مجلة دابق.
السردية الدينية المؤطرة لمشاهد التدمير في مقاطع الفيديوهات الثلاثة كانت سرديةً هشة، لأنها سرعان ما تعرضت لإدانة واسعة من الكثير من العلماء المسلمين، وفي مقدمتهم دار الإفتاء المصرية، الأزهر، والمرجعية الشيعية في العراق. وعليه، أصبح الموقف الديني المناهض لداعش أبرز وأقوى تأثيراً.
وعلى المستوى الشعبي، كان هناك استنكار وشجب كبير لتدمير القطع الأثرية العراقية على وسائل التواصل الاجتماعي العراقية. كلا الموقفين: الديني والشعبي، أثر بعمق على التغطية والترجمة في وسائل الإعلام العربية.
سلطت وسائل الإعلام العربية الضوء في المقام الأول على الجانب الثقافي والتاريخي المتعلق بأهمية الآثار بالنسبة للعراقيين، والحضارات الأشورية والأكدية والإنسانية عموماً. وبالمثل، أطّرت وسائل الإعلام العراقية أعمال التدمير الثلاثة ضمن سردية ثقافية وتاريخية تُسلط الضوء على العلاقة بين الهوية العراقية والآثار التي دمرها التنظيم.
ركزت التقارير العراقية والعربية على الطابع والهوية العراقية للأثار، والتي تعكس تنوعه بالإشارة إلى الهوية الأشورية لمدينة نمرود الأثرية، فيما أطّرت هذه الهوية التقارير الإعلامية الغربية فبرزت أكثر من عراقيتها. كما كان النهب والتهريب كدوافع للتنظيم أكثر بروزاً في وسائل الإعلام العراقية من وسائل الإعلام الغربية.
وعلى النقيض من فيديوهات الإعدامات، لم تكن وسائل الإعلام الغربية مهتمة في البداية بتحدي أو زعزعة خطاب داعش وسردياته؛ إذ أعادت العديد من المواقع الإعلامية الغربية نشر فيديو تحطيم متحف الموصل. فعلى ما يبدو، كان هناك تمييز بين العنف ضد البشر والعنف ضد الجماد، متجاهلةً الصدمة التي قد يسببها ذلك للأشخاص المرتبطين تاريخياً وعاطفياً بالآثار.
ما زلت أتذكر كيف كان رد فعل الأصدقاء العراقيين على الفيديو الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي اتسم بالغضب والصدمة والحزن. نشرت إحدى الصديقات مثلاً أن صوت تحطيم القطع الأثرية كان مثل صوت الحفر في أعماق روحها.
لكنّ هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فسرعان ما غيرت وسائل الإعلام الغربية إستراتيجيتها في تغطية وترجمة مقطعي الفيديو التاليين، عندما امتنعت عن إعادة نشرهما. ربما كانت هذه مجرد استراتيجية آنية، أو متعمدة، فمن الوارد أن وسائل الإعلام الغربية كانت تحاول تقويض مقاطع الفيديو استجابة للإدانة الكاسحة من قبل جهات فاعلة متعددة.
حتى أن تبرير داعش الديني الطاغي على التقارير المترجمة في حالة الفيديو الأول بدأ ينحسر للهامش في تراجم الفيديوهات اللاحقة، وتدريجياً برز التهريب والنهب دافعاً رئيسياً للتدمير الحضاري. وهذا ما كشفه الباحث المغدور هشام الهاشمي في مقابلةٍ أجراها مع أحد قياديي داعش بعد أن القت القوات الأمنية العراقية القبض عليه، إذ اعترف القيادي أن تدمير الأثار كان من نصيب تلك القطع التي فشل التنظيم في تهريبها الى أوروبا.
الأنا والآخر
تقدم لنا سرديات داعش وترجماتها في الخطابات الإعلامية المحلية والدولية درسا قيماً: يزدهر داعش ويتنفس من خلال ثنائية “الأنا” و”الآخر”، وهي ثنائية تُثير الانقسام والفرقة على أساس الدين أو العرق أو الجنس، والخ.
صاغ النشطاء العراقيون مصطلح الدعشنة، وهو مشتق من كلمة داعش، للإشارة إلى أي ممارسة تهدف إلى إخضاع الآخرين، وتُشير إلى محاولة قمع المعتقدات والأفكار والسلوك والمظاهر على أسس دينية – ليس تنظيم الدولة الإسلامية وحده هو الذي يفعل ذلك في العراق.
إن لمثل هذه الأفعال والثنائيات التي تتضمنها تداعياتٍ ملموسة يمكن أن تُترجم إلى عنف من خلال التحريض على الكراهية والخوف في المجتمع. وفي العراق، قُتل الكثيرون على أيدي الجماعات المسلحة، التي حاربت تنظيم داعش، لأن الضحايا لم يكونوا ينتمون إلى هذه الجماعات أو لا يؤيدون خطابها.
وإلى جانب فشل الحكومة العراقية في محاسبة الجناة، وإعادة بناء المجتمعات في سنجار وحولها، لم يكن الاهتمام الإعلامي غير المتكافئ بالفظائع التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ضد العراقيين بدون عواقب هو الآخر.
أخبرني حسين، وهو من سكنة مدينة الموصل، عاش في ظل حكم داعش، أن التنظيم الإرهابي أعدم الآلاف من السكان المحليين السُنة، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى المؤسسات العسكرية العراقية. وبالإضافة الى الموصل، إرتكب التنظيم جرائم مماثلة ضد العرب السُنة في الأنبار. ومع ذلك، لم تبذل وسائل الإعلام الغربية والعربية جهداً كافياً لتسليط الضوء على تلك الجرائم والانتهاكات ونقلها إلى العالم، على حد قوله.
ربما ساهم التقليل من شأن عنف داعش ضد العراقيين الآخرين، وخاصة المسلمين السنة، بوسائل الإعلام في تعميق الفجوة وزيادة التوتر بين “العراقي السُنّي” وشرائح المجتمع العراقي الأخرى، خاصةً الإيزيديين. ويشترك العديد من هؤلاء في لوم جميع جيرانهم السنة العرب والأكراد على الانضمام إلى داعش، أو الفشل في مقاومة التنظيم – على الأقل.
كلما قلّت معرفتنا بالآخر، كلما زاد خوفنا منه وكرهنا له. لذا أن أفضل رد على داعش لا يكمن في الروايات الاختزالية أو المجردة، لأنها تقلل من التفاصيل الخاصة عن الآخر، وتصوره على نحوٍ قاصر ومقتضب ومشوه.
ما هو البديل إذن؟ إن تفكيك السرديات المجردة والجوهرانية في التقارير الإعلامية والترجمة لتشمل جميع “الآخرين” المختلفين وقصصهم المتنوعة ووجهات نظرهم وأصواتهم هي الخطوة الأولى.
لا يكفي تذكير القراء بأن الإيزيديين هم أهل إيمان، وليسوا “عبدة شيطان”، كما يسميهم داعش على سبيل المثال؛ فالأهم من ذلك هو تذكيرهم بأنه لا عذر لما فعله إرهابيو داعش، حتى لو كانوا كذلك.
لا يُمكن التصدي للتطرف الديني بالنهاية من دون وجود ثقافة نقدية حقيقية، واعتراف كامل بالآخر، وأحقيته في الوجود والحياة؛ فالهدف ليس استبدال داعش بنسخٍ أخرى، وإلا فإننا سنُسجن في دوامتها الأبدية.
بعد عشر سنوات من ذكرى داعش، لا نستذكر أخطاء الإعلام وتحيزاته وحسب، بل نستذكر معه تورُّط السلطات والحكومات وفشلها في إحقاق العدالة ومحاسبة الجناة، كما نستذكر غياب الإرادة الحقيقية لتقديم بدائل لأيديولوجيات داعش وممارساتها، فأوجه الشبه أكبر بكثير من أوجه الاختلاف.
يستند هذا المقال إلى كتاب “الدولة الإسلامية في الترجمة: أربع فظائع، سرديات متعددة“، للكاتبة بلسم مصطفى، الصادر عام 2022، والذي يستند على أطروحة الدكتوراه الخاصة بالموضوع ذاته. كلمة الترجمة في المقال تأخذ معناها الواسع لا الدقيق، المتداخل مع الكتابة الصحفية والتحرير.v