"ظالّة بس القلايج!".. عن محنة الكلمات السامّة
13 آب 2024
هل هذا المقال هو تبرير للمتنمرين؟ لقوّالي الكلام السام والمؤذي؟
“تعاي أم عصاجيل“، قالتها المعلمة.
كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها مفردة (عصاجيل)، على الرغم من توفّر عائلتي على قاموس زاخر بالمفردات الجنوبية والاصطلاحات التي تتخذ طابعاً غريباً ومعقداً وعصيّاً على الفهم -غالباً- إلا أن مفردة “عصاجيل” أو “أم عصاجيل” لم تكن من ضمنها.
فكرتُ: “تلفزيون”، جمعهُ: تلفزيونات”، “صف” جمعهُ “صفوف”، هل “عصاجيل” كلمة مفردة؟ أم هي جمع؟ وإذا كانت جمعاً، فما مفردُها، “عصجولة”؟ عصجل؟
هل كانت توصيفاً لشيء ما يميزني؟ أنا مميزة يعني؟ أم أنها كانت تعني شيئاً لم تلاحظه مرآتي الصغيرة، أنا التي لم أكن قد تجاوزت السابعة من عُمري بعد؟
اتضح لاحقاً أنه توصيف قاس بعض الشيء لنحولي الشديد وضعف قوامي.
والأشد قسوة، أن معلمتي التي كنت أعشقها، وأردد اسمها أينما ذهبت، أقلد طريقتها في المشي، هي أول من أطلق عليّ هذا اللقب، والذي بات شائعاً في صفي لاحقاً.
كنت كلما لعبت لعبة “مُدرِّسة” في الحي، آخذ دور معلمتي الحبيبة الست “سعدية” وأتسمى باسمها، اتقمص صوتها وضحكتها وأردد الأناشيد التي كانت تلقنها لنا داخل قاعة الصف، بل وأعاود ترديد مصطلحاتها التي تستخدمها داخل الصف على التلميذات الافتراضيات في صفي الافتراضي، فتكون هذه “ام عصاجيل” وتلك “أم خشم” أو “الصفرة” أو “أم كناكير”.
هل كانت العلاقة بيني وبين الست سعدية أشبه بما بات يعرف لاحقاً على نحو واسع بـ”التوكسك ريليشن شب”؟ ذلك المصطلح “المجعلك” الذي شاع وتردد كثيراً على لسان المختصين والمومختصين ليصفوا علاقة غير متكافئة؟ والتي يكون فيها أحد الاطراف مُتمسّكاً، مُحّباً، بينما يقتصر دور الطرف الآخر على التلذذ بالأذى والاستمتاع بشعور الاستحواذ وممارسة الألاعيب، كالهجر والإصرار على ادعاء المحبة، أو الاكتفاء بوصف “أبو/أم عصاجيل”؟
من يدري؟!
أنف روماني محتمل
وقت الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق في التسعينيات، تناول العراقيون على اختلاف مسمياتهم الوظيفية ومكانتهم الاجتماعية طعاماً أقل جودة وكمية، لكني لا أدّعي أن لنحافتي علاقة مباشرة بتلك الحقبة المظلمة، التي طحن فيها الجائعون نوى التمر كبديل عن القمح والشعير، خبزوا النخالة، صنعوا كباب القرنبيط بديلاً عن كباب اللحم، أكل بعضهم الجراد، وقدّسوا وحش الطاوة (الباذنجان)، لأنه رافقهم في مشوار جوعهم وساندهم في محنتهم. لم يتخلَّ عنهم، وأخذ أشكالاً عدة بحسب الاحتياج، لدرجة غيّر فيها ثيابه وحشر قوامه في مرطبانات المربى.
في الحقيقة، كانت شهيتي الضعيفة هي من نحت قوامي ليغدو “معصجلاً” من وجهة نظر المجتمع، وكانت السبب في نحت روحي كذلك، حيث بت أكثر حساسية لكل كلمة وتوصيف، كنت مقتنعة انني لست كافية، لست جميلة بالقدر الذي يسترعي انتباه الآخرين، لا أمتلك أي مؤهلات تدعوني للتصريح عن أفكاري بصوت عال أو الدفاع عنها بثقة لأن هنالك دوماً شيئاً ما ينقصني.
كنت متيقنة -ضمن الباكج الكامل لغياب الثقة- تمام اليقين، بأن أنفي الذي تظهر عليه حدبة في جسر الأنف لتجعله يبدو مقوساً، يعاني من خطب ما -أو هكذا اقتنعت- ما دفعني للشعور بالحرج الدائم منه، وكان بالإضافة لذلك عاملاً من العوامل المحددة والمعيقة لاعتدادي بنفسي وتقديري لذاتي.
كنت أهرع لأي تفسير مذكور في أي كتاب أو مجلة أو قصة شفاهية ومحكية متداولة، يتحدث عن “الأنف الروماني” والأدلة حول إشارته للأرستقراطية والقوة والسلطة، وقصص رسوم الفراعنة وأنوفهم المعقوفة التي ترمز لمكانتهم الإلهية، كنت أبحث عن أي دليل يدعم إيماني باختلافي ويشفع لي في محو تلك الصورة من مخيلتي: “خشمي للي يباوعله من الجانب محلو وميشبه أقراني“.
في كل الأحوال، فقد رافقتني لسنوات ظلال هذه التوصيفات وسواها، حتى قررتُ، طواعية، مجابهته بالوعي والادراك، وخلعتُ عني عباءة أي تأويلات تربط بين صورتي التي يتوجب عليّ الإيمان بها، وبين تلك الصورة المتخيلة التي رسمتها عني الكلمات السامة بألوانها الكئيبة.
هل ما تعرّضتُ له كان محكوماً بدوافع خبيثة أم غير مقصودة؟
هل كانت تلك كلمات سامة؟ أم “شقى” لا غاية من ورائه؟
هل كان غياب الوعي واحداً من الدوافع التي دعت الناطق بكلمة مؤلمة لعدم مراجعته لحديثه قبل إرساله لأذن المتلقي أمامه؟ المتلقي الذي سيأخذ قسطاً لا بأس به من حياته في معالجة ندوب ذلك الحديث وآثاره..
pop up الأذى
للكلمات أثر سحري، فهي ليست مجرد حروف مترابطة ببعضها وفق شروط النحو والصرف، بل قد تصبح لواصق على جروح النفس، وقد تغدو سكاكين ستترك بالضرورة أثرها الذي سيصعب علاجه. وبالكلمات والأوصاف نراعي مشاعر الآخرين، وهذا الفعل يعتبر “فناً من فنون الحياة” بتعبير خالدة الرفاعي، الباحثة الاجتماعية التي تتعامل بشكل يومي مع حالات نفسية متباينة، يعاني فيها الكثيرون من أوجاع الكلمات وتأثيرها. تؤكد اننا: “بالكلمات أيضاً، يمكن أن نترك أثراً سيئاً لا يُمحى”.
هناك تفاوت في مستويات التلقي لمواقف الأذى الكلامي من شخص لآخر، فثمة من يتعامل مع مثل هذه المواقف بثبات انفعالي واضح، بينما يبالغ البعض الآخر في ردود أفعاله وسلوكياته، وذلك يعود لدور التنشئة والتحصين الأسري الذي يلعب دوراً رئيسياً في وقاية الفرد وحمايته من السلوكيات التي تضرّ به.
ويصعب حصر الكلمات السامة والجارحة في مكان، أو وضعها في قوالب وتصنيفها، كما ويصعب حصر مركز انطلاقها وتوقفها، إذ أنها توجد في كل مكان تقريباً.
فقد يظهر أذى الكلمات فجأة كـ pop up بصوت أم تقليدية، تسعى لتكليف ابنتها بمهمة ما، لكنها تستبق النتائج بتوقع الفشل، “طبعاً انتي راح تكسرين نص هالمواعين كالعادة لأن غبية“، أو “انت لو يجي ربك ما يصير براسك خير“، يقول أب لأبنه، كجملة متوارثة بين آباء كثر.
ينبثق ألم الكلمات من وصف معلم لطالب متلكئ بجملة تتناقلها الأجيال، كسردية مقدسة دون أدنى تحريف أو تحوير، “هذا شاربي مو عليه إذا فلحت وصار براسك خير“، ثم تُختم بإهانة أكبر، “يا أثول“.
يقفز أذى الكلمات أيضاً، من فم رجل يجلس خلف مقود مركبته، لا يرتدي حزام الأمان، لا يكترث بالإشارة المرورية، لا يأبه بإعطاء إشارة اليمين أو اليسار قبل “اليوتيرن”، لكنك ستجده متأهباً لإطلاق اصطلاحات وتوصيفات بينما ينقضّ على امرأة أخطأت خطأ مرورياً عابراً بينما كانت تقود سيارتها: “هو صوجج لو صوج اللي صعدج سيارة؟”، يكرر السائق والكثير مثله ذلك.
ويذهب العشرات من السائقين الرجال إلى توثيق مضايقتهم للمرأة السائقة وإهانتها بفيديو، ثم نشره لحصد إيموجيات ضاحكة بالعشرات، وبالتالي ستجد نفسك وسط حفلة شتائم مجانية، يهاجم فيها ذكور غاضبون -بلا أسباب منطقية- قيادة النساء للسيارات.
وقد ينطلق أذى الكلمات أيضاً، من جيب معطف أبيض.. يرتديه طبيب يُعامل مرضاه بفوقية، يصادر حقهم في الخوف على أحبتهم وجهلهم بالمعلومة الطبية، فيصف هذا بالغباء، وذاك بالجهل، ويتشارك على صفحاته على مواقع التواصل مغامرات “البيشنتس” وبلادتهم الكوميدية.
تنمّر؟ شقى؟
اكتب كلمة “تنمر” في أي محركِ بحث، وستجد عشرات المواقع الإلكترونية تتبارى لاستعراض أسباب هذه الممارسة السلوكية، أنواعها، دوافعها، وطرق علاجها، والتي وإن اختلفت في طرق سرد الحالة وشرحها، لكنها ستتفق في المعايير التي ستسهّل على المتلقي التمييز بين التنمر وبين سواه من الأنماط السلوكية والممارسات بسطر واحد، “لا يسمى التنمر تنمراً إلا إذا توافرت فيه العناصر: التكرار، التعمد، والخلل في القوة بين الطرفين”.
أي أن التمييز بين كلمة تقال في لحظة “شقى” أو غضب أو انفعال سلوكي غير مبرر، وبين الكلمات التي يتم تكرارها بشكل متعمد بطريقة تدعوك للتساؤل: ليش التكرار؟ لأن ما رديت؟ لأن ما اهتميت؟
ويمكن اعتبار فائز جاسم هليل العتابي، المعروف بـ”فائز السنفور” أوضح ضحيّة معلنة في العراق لأثر الكلمات السامة، ويمكن ضمّ امرأة من بابل ورجل من ميسان، إلى قائمة ضحاياها التي لا تعد.
اسندت لفائز، الممثل التلفزيوني والمسرحي، أدوار محصورة في قوالب تهزأ بقصر قامته، وأقيمت له حفلات، لم يكن فيها ضيف شرف، بل ضحيّة لسخرية وأذى كلامي فادح؛ على سبيل المثال لا الحصر، يظهر فائز في فيديو منشور علـى موقع يوتيوب ويعود لبرنامج مقالب، حيث يتناوب مقدما البرنامج على الإساءة له بداعي “الشقى” لنحو 21 مرّة في فيديو مدته 23 دقيقة! وكانت الجمل من علـى شاكلة، “امك ما حملت بيك، طلعت بيدها حباية حكتها وطلعت انت“، أو “من يتوفى فائز ما يحطونه بتابوت، يخلوه بتكة جكاير“.
خلق التنمر والكلام المسيء من فائز السنفور مادة دسمة للسخرية والتندر، وجعله عرضة للتهميش والفصل الاجتماعي على أساس اختلافه، وأدّى اختزاله في شخصية يسهل التعدي عليها وإتاحتها لمن هب ودب إلى مقتله، بعد أن تعرّض له مجهولون بضربٍ مبرح أرقده في المستشفى، ما أدى إلى وفاته في أيار 2021.
أغمض عينيك، وكرّر جملة “كَوة مو برضاتي”.. والآن، أي صورة ظهرت أمامك؟ هل هي صورة وجه هيفاء لطيف حسن؟ المرأة التي ترتدي العباءة وتتحدّث لضابط عن تعرّضها للاغتصاب، وانكار المعتدي وادعائه ممارسة الجنس معها مقابل أموال؟
أم ذلك “الميم” الساخر، الذي يستخدم على مواقع التواصل الاجتماعي بمناسبة أو بدونها، والذي يشكّك برواية المرأة؟
في الحالتين، هيفاء لطيف حسن، قتلت بعد حادثة تسريب وانتشار المقطع الفيديوي الخاص بها عام 2020.
“تم تداول معلومات وفاتها بوصفها حادثة انتحار، بينما تشير معلومات أخرى إلى أن (أفرادا من عائلتها) هم الجهة الحقيقية المسؤولة عن مقتلها”، وفق الصحفي عيسى العطواني، الذي يغطّي شؤون محافظة بابل حيث كانت هيفاء تعيش.
هل ردع موتها السخرية التي كانت بالأساس سبباً رئيساً في مقتلها؟
أشك، فلحين إعداد هذه المادة، تم رصد 46 حساباً شخصياً وصفحة عامة على موقع فيسبوك بعنوان (كَوة مو برضاتي)، تحمل الصورة الشخصية للضحية، والملتقطة من تحقيق الفيديو الذي سرّبه “ضابط” كان يتلذّذ بإهانة المتهمين الماثلين تحت سلطته، الذين ثبتت أو لم تثبت إدانتهم، لا فرق.
“ولك انت ياهو؟” يردّ مهدي صالح حمدان مخاطباً سائق مركبة في أحد شوارع قلعة صالح بميسان. كان الرجل يُغلق عينيه أثناء حديثه، والعصبيّة ظاهرة عليه، ذاك أنه يعاني ضعف البصر، كأحد مضاعفات مرض السكري.
صار الرجل المولود عام 1957 ترند على السوشيال ميديا، حيث تعرّض لتنمر لفظي وإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي على مدار سنوات، كما وتعرض لتنمر جسدي وطارده الأطفال ورموه بالحجارة، فقط لأن صاحب كاميرا هاتف كان قد قرر نشر مقطع لمهدي وهو يقول هذه العبارة العادية التي غدت سبباً لما لم يكن بالحسبان.
حيث وفي النهاية، شخّص مهدي صالح حمدان، إثر الكلام الجارح والتنمر الكلامي والجسدي الذي تعرض له، بـ”خلل عقلي”، ثم أصيب بجلطة بالدماغ وتوفي عام 2022.
تخيل أن تتحول فجأة، وبداعي “الشقى”، إلى موضع سخرية وmemes. أن تجد نفسك، كل ماضيك وحاضرك وتجربتك، مختصرة بمقطع فيديو يتكون من بضع ثوان، قد تكون أصلاً مقتصّة من سياق.
تخيل أن يسخر منك الكبار، وأن يضربك الصغار، وأن ترقد/ي في المستشفى، وتموت/ي بعدها، أو تقتل/ي، نتيجة ثوان مصورة، أو كلمات مكتوبة أو صورة مفبركة أو حقيقية لكن مأخوذة من مقتنياتك الشخصية.
بصمة الأذى
كنت أنا ضحيّة للكلام، بأشكاله التي وجد بعضها أسماء وتعريفات، أو تلك التي ظلت طريقها للمعنى، واكتفت بمفعوله كفعل أذى.
وقد تحدّثت إلى أناس من أجناس وأعمار مختلفة، لأتنقل بين أثر الكلام ودوافعه وما يتركه فينا إلى الأبد، أو ذلك الذي نقضي أوقاتاً طويلاً من حياتنا في محاولة معالجته أو التخفيف من وطأته على أنفسنا بعد عُمرٍ.
أردّت التحدّث إلى أناس تركوا بصمة أذاهم لدى الآخرين، وندموا عليه، إلا أن هؤلاء كانوا قلّة، على الرغم من أن اعتراف أحدهم بممارسته فعل التنمر أو الأذى اللفظي والافصاح عن فعلته، قد يبدو فعل مراجعة لتركة آلامه، أو تصالحاً مع ذاته الجديدة التي ترفض ذلك الفعل.
“ما شفت راحة بعد دعائه عليه لأنه كان مستجاب“، تخبرني (ر.ع) قصّة كلماتها السامة التي تركت أثرها عمداً في نفس شاب، كان زميلاً لها في الجامعة، أوهمته بإعجابها به لتدخل معه في علاقة سريعة، أنهتها بجملة قاسية “لبسك كلش مو لائق وما عندك شوارب، كأنك بنية، يعني انت مصدك انا أنعجب بواحد مثلك”.
وتروي ضمن حديث طويل “ورا سنة ونص تقريباً وهواية ظروف، كدرت أحصل حسابه واتواصل وياه من حساب وهمي ثاني حتى أعتذر، لأني والله ما جنت متزنة نفسياً وعندي ضغوط لو تسمعيهن تكولين هاي بعد عندج عقل؟”.
كان الغرض من هذا التواصل، الاعتذار وطلب السماح و”براءة الذمة”، وقد حصلت (ر.ع) على كليهما، لكنه ذكر عرضياً خلال المحادثة، وقبل أن تبادر الأخيرة بغلق حساب التواصل ذاك بشكل نهائي “انتِ دمرتي حياتي ونفسيتي، وانا دعيت عليج عند أمير المؤمنين علي“.
تحدّثت إلى كثيرين، ممن دمّرتهم الكلمات، وآلمتهم، وتركت فيهم جروحاً عميقة، وهؤلاء أطفال وكبار، ممن أعرف بعضهم، وأجهل كثيراً منهم، جمعني بهم الحديث عن “الكلام” بأشكاله وأوجهه المختلفة، حيث لم يكن ثمة رابط بيننا سوى ما تبادلناه، وما تركه فينا الكلام المسموم من ندب، وما لممناه سوية من بقايا. لقد كان ذلك بمثابة معيار شخصي لكل فرد منا، لقياس مدى تخطّيه وشفائه.
“الموت أهون من خطية“؟
“من رحت للشعبة بعد العودة، أكو من الطلاب اللي تقبّلني، وأكو بيهم اللي صاروا أصدقائي، لكن أكو فئة يعتبروني آني وأمثالي (خطية)“، تقول نور جمال (٣١ عاما) التي تعرضت قبل سنوات لحادث سير أدى لحرمانها من المشي واضطرارها لاستخدام الكرسي المتحرك، وحرمانها أيضاً من إتمام دراستها الجامعية في كلية القانون.
وجدت نور، القارئة النهمة المعروفة في الأوساط الثقافية، نفسها فجأة في وضع مختلف، لكنها قررت مواصلة دراستها الجامعية وتحدي الظرف المستجد، ورغم ذلك فقد كان عليها مواجهة مسألة أخرى لم تكن في الحسبان: “سألني طالب عن اسمي، وشعجب دا أدرس؟ وليش؟ جاوبته، جان يكول: والله انتِ خطية!”، و”اني جاوبته بلحظتها وكلتله: انت الخطية، بس وراها حسيت بحزن لأنه تعامل ويه ظرفي بهالطريقة وتجاهل اصراري وطموحي“.
تسلّحت نور بدرعين، درع يسند عمل كرسيها المتحرك فيسهل حركته، ودرع يقيها أثر الكلمات المؤذية التي ستتعرض لها.
إبحث عنك.. فيك
علّة الكلام السام المؤذي، هي في صعوبة فهم مديات تأثيره، في أن تضع نفسك مواضع الآخرين عند تلقي الكلمات، للإحساس بلحظتهم. تخيل أن تمضي ما تبقى من حياتك في صراع داخلي لا يفهم سره سواك، تصطنع اللامبالاة بينما تبحث في المواقع، والريلز، وبين سطور المقولات الخالدة عن حصتك من تقدير الذات. تقدير واضح، لا يلاعبك الغميضة، وعن نصيبك من كعكة الثقة بالنفس التي اختبرها الآخرون، بينما تتحير في مذاقها انت.
تخيل أن تعود لمنزلك، معاتباً نفسك، ملامحك، ذوقك في الملبس، اختياراتك، عن تقصيرها في مجاراة تطلعات من حولك، والتي منعتك في أن تتفادى رشقات الوصف والمفردات الجارحة.
أن تكون البطل في حفلات صلب جماعية تقتادك فيها الجموع وفقاً لبوصلة معاييرها الخاصة، ويتم التعامل فيها معك على أنك لست سوى أذن صاغية، تستقبل المفردة المؤذية برحابة، فلا روح فيك لتتذمر ولا كيان ليحتج.
لسنوات، كنت مقتنعة بأنني سألتقي مجدداً بالست سعدية، وبتلاميذ الصف الذين ساهمت تعليقاتهم الساخرة بنحتي وكتابة سطور من هويتي الحالية، بميزاتها وعيوبها. كنت مقتنعة ان هناك ثمة فرصة ستجمعني بصديقتي لارا، التي صفعتني بعد انتهاء الدوام المدرسي، بينما كنت منشغلة بتعليق شارة “قدوة الصف” على قميصي، مع عبارات أزعم انها كانت بقوة ألم كفّها، لا أتذكر منها سوى تمتمات ساخرة مني، تقلل من استحقاقي للقب من مثل:” قدوتيش أم عصاجيل”
كنتُ ولسنوات، آمل محاورة كل فرد عاب عليّ نحولي وشكل أنفي، رغم صعوبة الفكرة، لكنها كانت بمثابة قناعة تندرج تحت بند العلاج بالتعرّض، الذي يعد أحد أنواع العلاج المعرفي السلوكي التي تتطلب مواجهتك للمواقف التي تفضّل تجنبها، المهم في ذلك، ادراكك الحقيقي لمشاعرك، وتواصلك الروحي العالي مع ذاتك الذي يدفعك لتحديد المشكلة، ومشاركتها، وتحديد نمطها والسعي للتشافي منها.
لكن هذه القناعة تبددت بالتقادم، فأنا، ومنذ سنوات، تصالحت مع فكرة أن لكل شخص ظروفه ودوافعه التي تتحكم بكلماته ومواقفه، ولكلٍ منا اسقاطاته التي تنعكس بشكل أو بآخر على الآخرين وطريقة تعاطيه معهم. وبالتالي انعدمت الرغبة لدي في تغيير أي مما حدث، لأنني بت على اقتناع بأن كل هؤلاء كانت لديهم حجتهم وأسبابهم التي أجهلها.
هل هو تبرير للمتنمرين؟ لقوّالي الكلام السام والمؤذي؟
قطعاً لا، لكنها دون شك وسيلة واستيعاب لحقيقة ما يقع تحت سيطرتنا الآن من أحداث، ويقين باستحالة العودة بالزمن وتغيير ما حصل، وبالتالي تقبله والاستفادة منه كتجربة مرجعية للمستقبل. هذا شكلٌ من أشكال الفلسفة الرواقية، على طريقتي، أفلحت في منحي ما كنت بحاجة إليه دون جهد.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
“تعاي أم عصاجيل“، قالتها المعلمة.
كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها مفردة (عصاجيل)، على الرغم من توفّر عائلتي على قاموس زاخر بالمفردات الجنوبية والاصطلاحات التي تتخذ طابعاً غريباً ومعقداً وعصيّاً على الفهم -غالباً- إلا أن مفردة “عصاجيل” أو “أم عصاجيل” لم تكن من ضمنها.
فكرتُ: “تلفزيون”، جمعهُ: تلفزيونات”، “صف” جمعهُ “صفوف”، هل “عصاجيل” كلمة مفردة؟ أم هي جمع؟ وإذا كانت جمعاً، فما مفردُها، “عصجولة”؟ عصجل؟
هل كانت توصيفاً لشيء ما يميزني؟ أنا مميزة يعني؟ أم أنها كانت تعني شيئاً لم تلاحظه مرآتي الصغيرة، أنا التي لم أكن قد تجاوزت السابعة من عُمري بعد؟
اتضح لاحقاً أنه توصيف قاس بعض الشيء لنحولي الشديد وضعف قوامي.
والأشد قسوة، أن معلمتي التي كنت أعشقها، وأردد اسمها أينما ذهبت، أقلد طريقتها في المشي، هي أول من أطلق عليّ هذا اللقب، والذي بات شائعاً في صفي لاحقاً.
كنت كلما لعبت لعبة “مُدرِّسة” في الحي، آخذ دور معلمتي الحبيبة الست “سعدية” وأتسمى باسمها، اتقمص صوتها وضحكتها وأردد الأناشيد التي كانت تلقنها لنا داخل قاعة الصف، بل وأعاود ترديد مصطلحاتها التي تستخدمها داخل الصف على التلميذات الافتراضيات في صفي الافتراضي، فتكون هذه “ام عصاجيل” وتلك “أم خشم” أو “الصفرة” أو “أم كناكير”.
هل كانت العلاقة بيني وبين الست سعدية أشبه بما بات يعرف لاحقاً على نحو واسع بـ”التوكسك ريليشن شب”؟ ذلك المصطلح “المجعلك” الذي شاع وتردد كثيراً على لسان المختصين والمومختصين ليصفوا علاقة غير متكافئة؟ والتي يكون فيها أحد الاطراف مُتمسّكاً، مُحّباً، بينما يقتصر دور الطرف الآخر على التلذذ بالأذى والاستمتاع بشعور الاستحواذ وممارسة الألاعيب، كالهجر والإصرار على ادعاء المحبة، أو الاكتفاء بوصف “أبو/أم عصاجيل”؟
من يدري؟!
أنف روماني محتمل
وقت الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق في التسعينيات، تناول العراقيون على اختلاف مسمياتهم الوظيفية ومكانتهم الاجتماعية طعاماً أقل جودة وكمية، لكني لا أدّعي أن لنحافتي علاقة مباشرة بتلك الحقبة المظلمة، التي طحن فيها الجائعون نوى التمر كبديل عن القمح والشعير، خبزوا النخالة، صنعوا كباب القرنبيط بديلاً عن كباب اللحم، أكل بعضهم الجراد، وقدّسوا وحش الطاوة (الباذنجان)، لأنه رافقهم في مشوار جوعهم وساندهم في محنتهم. لم يتخلَّ عنهم، وأخذ أشكالاً عدة بحسب الاحتياج، لدرجة غيّر فيها ثيابه وحشر قوامه في مرطبانات المربى.
في الحقيقة، كانت شهيتي الضعيفة هي من نحت قوامي ليغدو “معصجلاً” من وجهة نظر المجتمع، وكانت السبب في نحت روحي كذلك، حيث بت أكثر حساسية لكل كلمة وتوصيف، كنت مقتنعة انني لست كافية، لست جميلة بالقدر الذي يسترعي انتباه الآخرين، لا أمتلك أي مؤهلات تدعوني للتصريح عن أفكاري بصوت عال أو الدفاع عنها بثقة لأن هنالك دوماً شيئاً ما ينقصني.
كنت متيقنة -ضمن الباكج الكامل لغياب الثقة- تمام اليقين، بأن أنفي الذي تظهر عليه حدبة في جسر الأنف لتجعله يبدو مقوساً، يعاني من خطب ما -أو هكذا اقتنعت- ما دفعني للشعور بالحرج الدائم منه، وكان بالإضافة لذلك عاملاً من العوامل المحددة والمعيقة لاعتدادي بنفسي وتقديري لذاتي.
كنت أهرع لأي تفسير مذكور في أي كتاب أو مجلة أو قصة شفاهية ومحكية متداولة، يتحدث عن “الأنف الروماني” والأدلة حول إشارته للأرستقراطية والقوة والسلطة، وقصص رسوم الفراعنة وأنوفهم المعقوفة التي ترمز لمكانتهم الإلهية، كنت أبحث عن أي دليل يدعم إيماني باختلافي ويشفع لي في محو تلك الصورة من مخيلتي: “خشمي للي يباوعله من الجانب محلو وميشبه أقراني“.
في كل الأحوال، فقد رافقتني لسنوات ظلال هذه التوصيفات وسواها، حتى قررتُ، طواعية، مجابهته بالوعي والادراك، وخلعتُ عني عباءة أي تأويلات تربط بين صورتي التي يتوجب عليّ الإيمان بها، وبين تلك الصورة المتخيلة التي رسمتها عني الكلمات السامة بألوانها الكئيبة.
هل ما تعرّضتُ له كان محكوماً بدوافع خبيثة أم غير مقصودة؟
هل كانت تلك كلمات سامة؟ أم “شقى” لا غاية من ورائه؟
هل كان غياب الوعي واحداً من الدوافع التي دعت الناطق بكلمة مؤلمة لعدم مراجعته لحديثه قبل إرساله لأذن المتلقي أمامه؟ المتلقي الذي سيأخذ قسطاً لا بأس به من حياته في معالجة ندوب ذلك الحديث وآثاره..
pop up الأذى
للكلمات أثر سحري، فهي ليست مجرد حروف مترابطة ببعضها وفق شروط النحو والصرف، بل قد تصبح لواصق على جروح النفس، وقد تغدو سكاكين ستترك بالضرورة أثرها الذي سيصعب علاجه. وبالكلمات والأوصاف نراعي مشاعر الآخرين، وهذا الفعل يعتبر “فناً من فنون الحياة” بتعبير خالدة الرفاعي، الباحثة الاجتماعية التي تتعامل بشكل يومي مع حالات نفسية متباينة، يعاني فيها الكثيرون من أوجاع الكلمات وتأثيرها. تؤكد اننا: “بالكلمات أيضاً، يمكن أن نترك أثراً سيئاً لا يُمحى”.
هناك تفاوت في مستويات التلقي لمواقف الأذى الكلامي من شخص لآخر، فثمة من يتعامل مع مثل هذه المواقف بثبات انفعالي واضح، بينما يبالغ البعض الآخر في ردود أفعاله وسلوكياته، وذلك يعود لدور التنشئة والتحصين الأسري الذي يلعب دوراً رئيسياً في وقاية الفرد وحمايته من السلوكيات التي تضرّ به.
ويصعب حصر الكلمات السامة والجارحة في مكان، أو وضعها في قوالب وتصنيفها، كما ويصعب حصر مركز انطلاقها وتوقفها، إذ أنها توجد في كل مكان تقريباً.
فقد يظهر أذى الكلمات فجأة كـ pop up بصوت أم تقليدية، تسعى لتكليف ابنتها بمهمة ما، لكنها تستبق النتائج بتوقع الفشل، “طبعاً انتي راح تكسرين نص هالمواعين كالعادة لأن غبية“، أو “انت لو يجي ربك ما يصير براسك خير“، يقول أب لأبنه، كجملة متوارثة بين آباء كثر.
ينبثق ألم الكلمات من وصف معلم لطالب متلكئ بجملة تتناقلها الأجيال، كسردية مقدسة دون أدنى تحريف أو تحوير، “هذا شاربي مو عليه إذا فلحت وصار براسك خير“، ثم تُختم بإهانة أكبر، “يا أثول“.
يقفز أذى الكلمات أيضاً، من فم رجل يجلس خلف مقود مركبته، لا يرتدي حزام الأمان، لا يكترث بالإشارة المرورية، لا يأبه بإعطاء إشارة اليمين أو اليسار قبل “اليوتيرن”، لكنك ستجده متأهباً لإطلاق اصطلاحات وتوصيفات بينما ينقضّ على امرأة أخطأت خطأ مرورياً عابراً بينما كانت تقود سيارتها: “هو صوجج لو صوج اللي صعدج سيارة؟”، يكرر السائق والكثير مثله ذلك.
ويذهب العشرات من السائقين الرجال إلى توثيق مضايقتهم للمرأة السائقة وإهانتها بفيديو، ثم نشره لحصد إيموجيات ضاحكة بالعشرات، وبالتالي ستجد نفسك وسط حفلة شتائم مجانية، يهاجم فيها ذكور غاضبون -بلا أسباب منطقية- قيادة النساء للسيارات.
وقد ينطلق أذى الكلمات أيضاً، من جيب معطف أبيض.. يرتديه طبيب يُعامل مرضاه بفوقية، يصادر حقهم في الخوف على أحبتهم وجهلهم بالمعلومة الطبية، فيصف هذا بالغباء، وذاك بالجهل، ويتشارك على صفحاته على مواقع التواصل مغامرات “البيشنتس” وبلادتهم الكوميدية.
تنمّر؟ شقى؟
اكتب كلمة “تنمر” في أي محركِ بحث، وستجد عشرات المواقع الإلكترونية تتبارى لاستعراض أسباب هذه الممارسة السلوكية، أنواعها، دوافعها، وطرق علاجها، والتي وإن اختلفت في طرق سرد الحالة وشرحها، لكنها ستتفق في المعايير التي ستسهّل على المتلقي التمييز بين التنمر وبين سواه من الأنماط السلوكية والممارسات بسطر واحد، “لا يسمى التنمر تنمراً إلا إذا توافرت فيه العناصر: التكرار، التعمد، والخلل في القوة بين الطرفين”.
أي أن التمييز بين كلمة تقال في لحظة “شقى” أو غضب أو انفعال سلوكي غير مبرر، وبين الكلمات التي يتم تكرارها بشكل متعمد بطريقة تدعوك للتساؤل: ليش التكرار؟ لأن ما رديت؟ لأن ما اهتميت؟
ويمكن اعتبار فائز جاسم هليل العتابي، المعروف بـ”فائز السنفور” أوضح ضحيّة معلنة في العراق لأثر الكلمات السامة، ويمكن ضمّ امرأة من بابل ورجل من ميسان، إلى قائمة ضحاياها التي لا تعد.
اسندت لفائز، الممثل التلفزيوني والمسرحي، أدوار محصورة في قوالب تهزأ بقصر قامته، وأقيمت له حفلات، لم يكن فيها ضيف شرف، بل ضحيّة لسخرية وأذى كلامي فادح؛ على سبيل المثال لا الحصر، يظهر فائز في فيديو منشور علـى موقع يوتيوب ويعود لبرنامج مقالب، حيث يتناوب مقدما البرنامج على الإساءة له بداعي “الشقى” لنحو 21 مرّة في فيديو مدته 23 دقيقة! وكانت الجمل من علـى شاكلة، “امك ما حملت بيك، طلعت بيدها حباية حكتها وطلعت انت“، أو “من يتوفى فائز ما يحطونه بتابوت، يخلوه بتكة جكاير“.
خلق التنمر والكلام المسيء من فائز السنفور مادة دسمة للسخرية والتندر، وجعله عرضة للتهميش والفصل الاجتماعي على أساس اختلافه، وأدّى اختزاله في شخصية يسهل التعدي عليها وإتاحتها لمن هب ودب إلى مقتله، بعد أن تعرّض له مجهولون بضربٍ مبرح أرقده في المستشفى، ما أدى إلى وفاته في أيار 2021.
أغمض عينيك، وكرّر جملة “كَوة مو برضاتي”.. والآن، أي صورة ظهرت أمامك؟ هل هي صورة وجه هيفاء لطيف حسن؟ المرأة التي ترتدي العباءة وتتحدّث لضابط عن تعرّضها للاغتصاب، وانكار المعتدي وادعائه ممارسة الجنس معها مقابل أموال؟
أم ذلك “الميم” الساخر، الذي يستخدم على مواقع التواصل الاجتماعي بمناسبة أو بدونها، والذي يشكّك برواية المرأة؟
في الحالتين، هيفاء لطيف حسن، قتلت بعد حادثة تسريب وانتشار المقطع الفيديوي الخاص بها عام 2020.
“تم تداول معلومات وفاتها بوصفها حادثة انتحار، بينما تشير معلومات أخرى إلى أن (أفرادا من عائلتها) هم الجهة الحقيقية المسؤولة عن مقتلها”، وفق الصحفي عيسى العطواني، الذي يغطّي شؤون محافظة بابل حيث كانت هيفاء تعيش.
هل ردع موتها السخرية التي كانت بالأساس سبباً رئيساً في مقتلها؟
أشك، فلحين إعداد هذه المادة، تم رصد 46 حساباً شخصياً وصفحة عامة على موقع فيسبوك بعنوان (كَوة مو برضاتي)، تحمل الصورة الشخصية للضحية، والملتقطة من تحقيق الفيديو الذي سرّبه “ضابط” كان يتلذّذ بإهانة المتهمين الماثلين تحت سلطته، الذين ثبتت أو لم تثبت إدانتهم، لا فرق.
“ولك انت ياهو؟” يردّ مهدي صالح حمدان مخاطباً سائق مركبة في أحد شوارع قلعة صالح بميسان. كان الرجل يُغلق عينيه أثناء حديثه، والعصبيّة ظاهرة عليه، ذاك أنه يعاني ضعف البصر، كأحد مضاعفات مرض السكري.
صار الرجل المولود عام 1957 ترند على السوشيال ميديا، حيث تعرّض لتنمر لفظي وإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي على مدار سنوات، كما وتعرض لتنمر جسدي وطارده الأطفال ورموه بالحجارة، فقط لأن صاحب كاميرا هاتف كان قد قرر نشر مقطع لمهدي وهو يقول هذه العبارة العادية التي غدت سبباً لما لم يكن بالحسبان.
حيث وفي النهاية، شخّص مهدي صالح حمدان، إثر الكلام الجارح والتنمر الكلامي والجسدي الذي تعرض له، بـ”خلل عقلي”، ثم أصيب بجلطة بالدماغ وتوفي عام 2022.
تخيل أن تتحول فجأة، وبداعي “الشقى”، إلى موضع سخرية وmemes. أن تجد نفسك، كل ماضيك وحاضرك وتجربتك، مختصرة بمقطع فيديو يتكون من بضع ثوان، قد تكون أصلاً مقتصّة من سياق.
تخيل أن يسخر منك الكبار، وأن يضربك الصغار، وأن ترقد/ي في المستشفى، وتموت/ي بعدها، أو تقتل/ي، نتيجة ثوان مصورة، أو كلمات مكتوبة أو صورة مفبركة أو حقيقية لكن مأخوذة من مقتنياتك الشخصية.
بصمة الأذى
كنت أنا ضحيّة للكلام، بأشكاله التي وجد بعضها أسماء وتعريفات، أو تلك التي ظلت طريقها للمعنى، واكتفت بمفعوله كفعل أذى.
وقد تحدّثت إلى أناس من أجناس وأعمار مختلفة، لأتنقل بين أثر الكلام ودوافعه وما يتركه فينا إلى الأبد، أو ذلك الذي نقضي أوقاتاً طويلاً من حياتنا في محاولة معالجته أو التخفيف من وطأته على أنفسنا بعد عُمرٍ.
أردّت التحدّث إلى أناس تركوا بصمة أذاهم لدى الآخرين، وندموا عليه، إلا أن هؤلاء كانوا قلّة، على الرغم من أن اعتراف أحدهم بممارسته فعل التنمر أو الأذى اللفظي والافصاح عن فعلته، قد يبدو فعل مراجعة لتركة آلامه، أو تصالحاً مع ذاته الجديدة التي ترفض ذلك الفعل.
“ما شفت راحة بعد دعائه عليه لأنه كان مستجاب“، تخبرني (ر.ع) قصّة كلماتها السامة التي تركت أثرها عمداً في نفس شاب، كان زميلاً لها في الجامعة، أوهمته بإعجابها به لتدخل معه في علاقة سريعة، أنهتها بجملة قاسية “لبسك كلش مو لائق وما عندك شوارب، كأنك بنية، يعني انت مصدك انا أنعجب بواحد مثلك”.
وتروي ضمن حديث طويل “ورا سنة ونص تقريباً وهواية ظروف، كدرت أحصل حسابه واتواصل وياه من حساب وهمي ثاني حتى أعتذر، لأني والله ما جنت متزنة نفسياً وعندي ضغوط لو تسمعيهن تكولين هاي بعد عندج عقل؟”.
كان الغرض من هذا التواصل، الاعتذار وطلب السماح و”براءة الذمة”، وقد حصلت (ر.ع) على كليهما، لكنه ذكر عرضياً خلال المحادثة، وقبل أن تبادر الأخيرة بغلق حساب التواصل ذاك بشكل نهائي “انتِ دمرتي حياتي ونفسيتي، وانا دعيت عليج عند أمير المؤمنين علي“.
تحدّثت إلى كثيرين، ممن دمّرتهم الكلمات، وآلمتهم، وتركت فيهم جروحاً عميقة، وهؤلاء أطفال وكبار، ممن أعرف بعضهم، وأجهل كثيراً منهم، جمعني بهم الحديث عن “الكلام” بأشكاله وأوجهه المختلفة، حيث لم يكن ثمة رابط بيننا سوى ما تبادلناه، وما تركه فينا الكلام المسموم من ندب، وما لممناه سوية من بقايا. لقد كان ذلك بمثابة معيار شخصي لكل فرد منا، لقياس مدى تخطّيه وشفائه.
“الموت أهون من خطية“؟
“من رحت للشعبة بعد العودة، أكو من الطلاب اللي تقبّلني، وأكو بيهم اللي صاروا أصدقائي، لكن أكو فئة يعتبروني آني وأمثالي (خطية)“، تقول نور جمال (٣١ عاما) التي تعرضت قبل سنوات لحادث سير أدى لحرمانها من المشي واضطرارها لاستخدام الكرسي المتحرك، وحرمانها أيضاً من إتمام دراستها الجامعية في كلية القانون.
وجدت نور، القارئة النهمة المعروفة في الأوساط الثقافية، نفسها فجأة في وضع مختلف، لكنها قررت مواصلة دراستها الجامعية وتحدي الظرف المستجد، ورغم ذلك فقد كان عليها مواجهة مسألة أخرى لم تكن في الحسبان: “سألني طالب عن اسمي، وشعجب دا أدرس؟ وليش؟ جاوبته، جان يكول: والله انتِ خطية!”، و”اني جاوبته بلحظتها وكلتله: انت الخطية، بس وراها حسيت بحزن لأنه تعامل ويه ظرفي بهالطريقة وتجاهل اصراري وطموحي“.
تسلّحت نور بدرعين، درع يسند عمل كرسيها المتحرك فيسهل حركته، ودرع يقيها أثر الكلمات المؤذية التي ستتعرض لها.
إبحث عنك.. فيك
علّة الكلام السام المؤذي، هي في صعوبة فهم مديات تأثيره، في أن تضع نفسك مواضع الآخرين عند تلقي الكلمات، للإحساس بلحظتهم. تخيل أن تمضي ما تبقى من حياتك في صراع داخلي لا يفهم سره سواك، تصطنع اللامبالاة بينما تبحث في المواقع، والريلز، وبين سطور المقولات الخالدة عن حصتك من تقدير الذات. تقدير واضح، لا يلاعبك الغميضة، وعن نصيبك من كعكة الثقة بالنفس التي اختبرها الآخرون، بينما تتحير في مذاقها انت.
تخيل أن تعود لمنزلك، معاتباً نفسك، ملامحك، ذوقك في الملبس، اختياراتك، عن تقصيرها في مجاراة تطلعات من حولك، والتي منعتك في أن تتفادى رشقات الوصف والمفردات الجارحة.
أن تكون البطل في حفلات صلب جماعية تقتادك فيها الجموع وفقاً لبوصلة معاييرها الخاصة، ويتم التعامل فيها معك على أنك لست سوى أذن صاغية، تستقبل المفردة المؤذية برحابة، فلا روح فيك لتتذمر ولا كيان ليحتج.
لسنوات، كنت مقتنعة بأنني سألتقي مجدداً بالست سعدية، وبتلاميذ الصف الذين ساهمت تعليقاتهم الساخرة بنحتي وكتابة سطور من هويتي الحالية، بميزاتها وعيوبها. كنت مقتنعة ان هناك ثمة فرصة ستجمعني بصديقتي لارا، التي صفعتني بعد انتهاء الدوام المدرسي، بينما كنت منشغلة بتعليق شارة “قدوة الصف” على قميصي، مع عبارات أزعم انها كانت بقوة ألم كفّها، لا أتذكر منها سوى تمتمات ساخرة مني، تقلل من استحقاقي للقب من مثل:” قدوتيش أم عصاجيل”
كنتُ ولسنوات، آمل محاورة كل فرد عاب عليّ نحولي وشكل أنفي، رغم صعوبة الفكرة، لكنها كانت بمثابة قناعة تندرج تحت بند العلاج بالتعرّض، الذي يعد أحد أنواع العلاج المعرفي السلوكي التي تتطلب مواجهتك للمواقف التي تفضّل تجنبها، المهم في ذلك، ادراكك الحقيقي لمشاعرك، وتواصلك الروحي العالي مع ذاتك الذي يدفعك لتحديد المشكلة، ومشاركتها، وتحديد نمطها والسعي للتشافي منها.
لكن هذه القناعة تبددت بالتقادم، فأنا، ومنذ سنوات، تصالحت مع فكرة أن لكل شخص ظروفه ودوافعه التي تتحكم بكلماته ومواقفه، ولكلٍ منا اسقاطاته التي تنعكس بشكل أو بآخر على الآخرين وطريقة تعاطيه معهم. وبالتالي انعدمت الرغبة لدي في تغيير أي مما حدث، لأنني بت على اقتناع بأن كل هؤلاء كانت لديهم حجتهم وأسبابهم التي أجهلها.
هل هو تبرير للمتنمرين؟ لقوّالي الكلام السام والمؤذي؟
قطعاً لا، لكنها دون شك وسيلة واستيعاب لحقيقة ما يقع تحت سيطرتنا الآن من أحداث، ويقين باستحالة العودة بالزمن وتغيير ما حصل، وبالتالي تقبله والاستفادة منه كتجربة مرجعية للمستقبل. هذا شكلٌ من أشكال الفلسفة الرواقية، على طريقتي، أفلحت في منحي ما كنت بحاجة إليه دون جهد.