"أحس راسي راح ينفجر إذا ما شربته".. عن الشاي و"إدمانه" لدى العراقيين
20 تموز 2024
الفرد العراقي يستهلك كميات شاي ضعف المستوى الطبيعي، وهذه رحلة في الشاي من استيراده إلى "تخديره"..
لا يخلو مجلس في العراق من الشاي، ولا تُقدّر ضيافة إلا به، يرتبط بجميع المناسبات، السعيدة والحزينة، ويتمسك بروتينه اليومي، يُستلهم منه الدفء في الشتاء، ولا يمكن مفارقته حتى في صيف العراق القائظ.
محمد الموسوي (35 عاماً)، موظف في وزارة المالية، مواظب على شرب الشاي، يتناوله بكثرة، ويتلذذ برشفات صغيرة ساخنة وسريعة من “استكان الجاي”، وهو فنجان صغير أكبر حجماً من فنجان القهوة، يوضع على وعاء زجاجي شفاف، مخصص لشرب الشاي في العراق وتركيا وإيران.
في الصباح مع وجبة الإفطار، وما بين كأسين إلى ثلاثة في العمل، ثم يتناول منه قدحاً بعد الغداء والعشاء، إضافة إلى ضرورة شربه في لقاءاته مع رفاقه في المقاهي الشعبية الموجودة في منطقته.
يقول الموسوي لجمار، “الجاي ضروري بهالكعدات خاصة ويه لعب الدومنة والطاولي، لا أستطيع تخيل روتيني اليومي بعيداً عن تناول الشاي، أحس رأسي راح ينفجر إذا ما شربته”.
يرجع أصل الشاي إلى شرق القارة الآسيوية، وتحديداً إلى الصين، حيث تنمو شجيراته دائمة الخضرة، وترتفع حتى تسعة أمتار عن وجه الأرض، وتقّلم أغصانه ثم تجفف وتحمص لتكتسب اللون الأسود المعروف للشاي، ويغربل بعد ذلك من أجل فرز أوراقه الكبيرة والصغيرة، ويَنتسب الشاي إلى فصيلة “الكاميليا الشجيرية”، المعروفة بزهورها الجميلة والفواحة، وله أنواع عدة، منها الشاي الأخضر والأحمر والأصفر.
رغم إكثار العراقيين من شربه، لم تشهد زراعته في العراق نجاحاً يذكر.
فقد حاول مزارعون في إقليم كردستان إنجاح تجربة زراعته، ولكن العوامل البيئية لم تتوفر. فشجيرات الشاي تحتاج إلى تربة مناسبة بكثافتها، إضافة إلى مستويات ملوحتها المتوسطة، وعدم تفاوت درجات الحرارة بين النهار والليل، وإلى أشعة الشمس المستمرة والأمطار الكثيرة، وهو ما يتوفر في مناطق شرق آسيا، بينما ليس له وجود أصيل في العراق.
العوامل البيئية حالت دون زراعة الشاي الأسود المعروف في العراق، ولكنها لم تمنع إنبات بعض أنواعه الأخرى، مثل إنجاح زراعة شاي الكجرات، أو الزهورات، كما تسمّى في بلدان عربية أخرى، إضافة إلى زراعة الأعشاب المعطرة، والمنكهة للشاي، كما فعل مزارعون في الديوانية.
العراق ولسدّ حاجته الملحّة للشاي، عَمد إلى شراء أحد الحقول المختصة بزراعته في دولة فيتنام، كما استثمر بشكل رئيسي، وبنسبة 55 بالمئة، في الشركة العراقية الفيتنامية لزراعة الشاي.
عام 1975، اشترى أحمد حسن البكر، الرئيس الأسبق، أرضاً لزراعة الشاي، وأخرى لزراعة الرز إضافة إلى مزارع للمطاط في فيتنام، وألحق إدارتها بالسفارة العراقية هناك. جهزت هاتان الأرضان العراق بحاجته من الشاي، الذي كان يعلّب في صناديق خشبية وبوزن 10 كيلوغرامات للصندوق الواحد، وكذلك الرز المعروف باسم الرز التايلندي، والمطاط المستخدم في صناعة إطارات الديوانية، طيلة الأعوام اللاحقة منذ شرائها وحتى عام 2003.
بعد عام 2003 أشيع عن استحواذ أحزاب السلطة على هذه المزارع، إضافة إلى مزارع أخرى في البرازيل والأرجنتين وتشيلي والسودان وموريتانيا ودول أخرى.
عام 2020، طالبت عالية نصيف، النائبة في البرلمان العراقي، بالتحقيق في تشغيل هذه المزارع لجهات خاصة مرتبطة بوزارة التجارة، ولكن الأخيرة نفت هذا الاتهام.
مرة أخرى، في عام 2022، أُعيد فتح الملف على يد لجنة النزاهة النيابية، عضوها، هادي السلامي قال للصحافة، إن لدى اللجنة ملفات كثيرة توثق الفساد الحاصل في ملف هذه المزارع، واتُّهمت وزارة التجارة ومسؤولون كبار في الحكومات السابقة، دون تسميتهم، بالتورط أيضاً في هذا الفساد.
خُتم هذا السجال عام 2023، بعد إعلان وزارة التجارة إعادة هذه المزارع والتوصل إلى تفاهمات مع الحكومة الفيتنامية، ولكن لم تبادر الوزارة بإظهار أي إثباتات أو إحصائيات تؤكد هذه الادعاءات، أو توضح مآل المزارع العراقية.
كانت وزارة التجارة قد اتُهمت في عام 2007 باستيراد شحنات من الشاي الإيراني الفاسد، وتوزيعها ضمن مفردات الحصة التموينية، واندلعت على إثرها مظاهرات في بابل، تحوّلت إلى اعتصام، ثم في آذار 2024، عاد الحديث عن استيراد شحنات أخرى من الشاي الفاسد.
وبين الحين والآخر تعلن السلطات العراقية عن إتلاف بعض الشحنات الفاسدة من الشاي المستورد، أو بسبب انتهاء صلاحيتها.
في كانون الثاني 2021، هيئة المنافذ الحدودية قامت بإتلاف حوالي 20 طناً من الشاي منتهي الصلاحية، وفي شباط من العام نفسه، قامت صحة نينوى بإتلاف أكثر من 15 طناً من الشاي أيضاً، وفي أيلول2021 أيضاً، أحرق الأمن الوطني في محافظة الديوانية 5 أطنان من الشاي التالف بدعوى احتوائه على الكثير من نشارة الخشب.
مصدر في هيئة المنافذ الحدودية، يؤكد لجمّار، أن معظم شحنات الشاي تصل الى العراق عبر المنافذ البحرية قادمة من دول شرق آسيا، كما يدخل بعضها براً، في شاحنات مخصصة للنقل، عبر الحدود مع إيران والأردن.
بحسب المصدر الذي رفض الكشف عن هويته، فإنّ هذا الإهمال سببه فساد كلٍّ من وزارة التجارة المعنية بمنح عقود الاستيراد إلى تجار محددين، وجشع هؤلاء التجار، واستيرادهم للشاي الفساد.
المصدر يذكر أيضاً أن الفساد لا يقتصر على ذلك، إذ تمر الشحنات الواردة إلى البلاد عبر ظروف بيئية ومناخية متغيرة، إذ تفتقر الكثير من وسائل الشحن إلى وسائل التبريد ومنع الرطوبة، وهذا يساهم في وصول شحنات الشاي إلى العراق وقد أصابها العفن أو التلف، ويؤكد صعوبة تقدير خسائر البلد في هذه الشحنات، خاصة وأن العراق لا يمتلك إحصائيات دقيقة توثق خسائره المادية.
الاستيراد
يستورد العراق الشاي بكميات كبيرة، لسد احتياج السوق منه، ويتجاوز متوسط وارداته من هذه المادة نحو 20 مليون كيلوغرام سنوياً.
احتلت البلاد المرتبة الأولى، للدول المستوردة للشاي في عام 2022، بعد أن تجاوز حجم المستورد منه أكثر من 17 مليون كيلوغرام، بحسب الإحصاءات الرسمية، ولكن إحصاءات أخرى تشير إلى أن العراق استورد أكثر من 23 مليون كيلوغرام خلال الستة أشهر الأولى من عام 2022، من دولة سريلانكا وحدها.
يبلغ معدل الإنفاق على هذه الواردات من 30 إلى 37 مليون دولار سنوياً، بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، التابع لوزارة التخطيط، تذهب إلى الدول المصدرة، وأبرزها سريلانكا والصين والهند، وبلدان أخرى، كما يعمل التجار والشركات التجارية العاملة في العراق على استيراده بشكل مستقل وبيعه في الأسواق، وبأشكال ومناشئ مختلفة، ومنها الأكياس المعبئة والجاهزة، إضافة إلى بيعه بالوزن.
يباع هذا المنتج في الأسواق بأسعار تتراوح ما بين 3 إلى 10 آلاف دينار، للكيلوغرام الواحد، وتحدد أسعاره وفقاً لقيمة صرف الدولار، وتقلبات السوق، ويرتفع غالباً مع تأزمها، كما تصعب العودة إلى سعره السابق عندما يعود السوق إلى وضعه السابق.
متى عرف العراقيون الشاي؟
لا يُعرف على وجه التحديد متى دخل الشاي إلى العراق، أو متى عرفه العراقيون، ويقول إبراهيم خليل العلاف، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الموصل، إن اعتقاداً يسود بأن دخول الشاي إلى العراق جرى عبر الشركات البريطانية العاملة في بلاد فارس، نظراً لامتلاكها فروعاً في محافظة البصرة، ولكنه يرجح فترة دخوله إلى أواخر القرن التاسع عشر، إبان سيطرة العثمانيين على العراق.
ويضيف لجمار، أن اتساع استخدام الشاي زاد بعد الاحتلال البريطاني للعراق، 1914-1918، ونتيجة لذلك أصبح المشروب المفضل للعراقيين، وأنهى سيطرة القهوة على مقاهيهم، كما زادت عمليات استيراد الشاي ومستلزماته، وكان تجار منطقة الشورجة في مطلع القرن العشرين هم أول من استورده، وبدأ عهد “الجاي خانات”، وهي التسمية التي أطلقت حينها على مراكز بيع الشاي، في مختلف مناطق البلاد، بحسب الدكتور العلاف.
سابقاً كان يتم غلي الشاي عبر بخار الماء، وعبر آلة خاصة تسمى “السماور”، وهي آلة كبيرة يوضع الفحم في جزئها الأسفل، ويوضع الماء في جسمها، أما الشاي فيوضع في أعلاها، وتحتوي على صنبورين أحدهما لصب الشاي والآخر لتفريغ الماء المغلي، وهي طريقة عثمانية ما زالت تستخدم حتى الآن من قبل الأتراك.
ما تزال هذه الآلة مستخدمة في بعض المقاهي التراثية القديمة، ولكن نَدُرَ استعمالها بشكل كبير، ويُرجع العلاف أصول هذه الآلة إلى روسيا، إضافة إلى استعمال أكواب الشاي الخاصة، والتي تدعى “استكان”.
“الاستكان”، كأس زجاجي صغير، شفاف اللون، يوضع على صحن دائري، اعتمده العراقيون في شرب الشاي، لخفة وزنه وحجمه المعتدل، إضافة إلى اعتيادهم على هذه الممارسة.
ومن الطرق التقليدية الأخرى المشابهة لتحضيره عبر السماور، هي وضع إبريق الشاي على إبريق آخر أكبر منه حجماً، ويحتوي على الماء فقط، للمساعدة في هدرجة الشاي.
آخرون يلجؤون إلى مزج الشاي بالماء قبل وضعه على النار، وبعضهم يضيفونه إلى الماء بعد غليانه، وتهدئة النار، أو إطفائه لدقائق قليلة، ثم صبه في الاستكانات.
يطلق على عملية تحضير الشاي بالتخدير أو التهدير، أما إبريقه فيسمى كتلي أو قوري، في حين يسمى السكر “شكر”، بفتح الشين والكاف، وقارورته بالشكردان، أما ملعقته الصغيرة فتسمى خاشوكة جاي، حيث يحول العراقيون حرف الشين إلى جيم مفخمة تشبه الجيم الفارسية والتركية.
ارتبط الشاي بعادات العراقيين وتقاليدهم، وأصبح المشروب الرئيسي لهم في جميع مناسباتهم، وتفننوا في خلط الشاي مع عطورات ونكهات مختلفة.
فن خلطات الشاي
يفضل بعض العراقيين تناول الشاي الأسود دون نكهات إضافية، ويذهب آخرون إلى التفنن وإضافة نكهات مختلفة، مثل الهيل والنعناع أو الأعشاب ذات العطور الفواحة، ومزجها ببعضها لتشكيل نكهة مميزة.
جاي العروس هو واحد من الطرق العراقية لإعداد الشاي، يخففونه بالماء المغلي حتى يصبح فاتح اللون، كما ويشربون شاي الزهورات، “الكجرات”، أو إضافة الليمون المجفف “النومي بصرة” إلى قوامه، وأحياناً يضيفون أعواد القرفة، أو الدارسين كما يسمّى في العراق.
يغلب حالياً استعمال الشاي المعلب الجاهز، وهذا يحتوي بالفعل على منكهات عطرية نافذة، وعليه يعتمد الكثيرون اليوم، بسبب سهولة تحضيره.
إدمان حتى النخاع
ما أن عرف العراقيون الشاي حتى أدمنوه، فهو مشروب الأغنياء والفقراء كما يطلق عليه، وانتشر باعته على أرصفة الشوارع، وحتى داخل الدوائر الحكومية الرسمية، يُدمن العراقيون الشاي ويعلو رنين طقطقات ملاعقه الصغيرة بكؤوسه وهي تمزج السكر بالشاي الساخن.
تشير البيانات إلى أن الفرد العراقي يستهلك نحو نصف كيلوغرام شهرياً من الشاي، وهي نسب تفوق المستوى الطبيعي لشربه والمحددة بأقل من ربع كيلوغرام شهرياً.
يعتقد الدكتور إبراهيم خليل العلاف، أن الإنجليز ساهموا في إشاعة ثقافة الشاي بين العراقيين، لاستفادتهم من تجارته، وتعلم منهم الناس طريقة تحضير الشاي “السنكين”، أي المتوسط في اللون والطعم، فهم لا يعدونه خفيفاً كأهل الشام، ولا ثقيلاً أسود كحال المصريين، ويؤكد على تشابه الطريقتين العراقية والبريطانية في تحضيره حتى اليوم بحسب تجربته.
استهلاك العراقيين للشاي يرجع إلى مسببات مختلفة، منها احتواؤه على نسبة من الكافيين المهدئة للمزاج، ما جعله المشروب المناسب في التخفيف من حدة التوترات اليومية التي يعيشها الفرد في العراق.
هرمون السعادة
بدأت العديد من المقاهي الحديثة “المودرن”، بالانتشار في بغداد ومحافظات أخرى، تجذب الشباب بحداثتها على وجه الخصوص، كما يفضلها الكثيرون لقضاء الوقت، واعتمادها ملتقى اجتماعياً وترفيهياً، كما يقول صاحب أحد هذه المقاهي والذي فضل عدم ذكر اسمه.
ويضيف أن انجذاب الشباب إلى مقاهي الشاي بسبب التعود، فهو مشروب تربينا عليه منذ الصغر، صباحاً بعد الفطور، وظهراً بعد الغداء، وعصراً حيث تجتمع الأسرة على تناوله وليلاً بعد وجبة العشاء، وأضاف أن شريحة كبيرة تشرب الشاي لتأخذ مقدارا مناسبا من السكر، لزيادة هرمون السعادة اللحظي، بحسب تعبيره.
محمد كمال، أحد باعة الشاي في منطقة الكرادة، يرجع حب العراقيين للشاي إلى خفته نسبة إلى القهوة، وقدرته على الامتزاج بحبات السكر، “أكو ناس يملون إستكان الجاي شكر حتى يتونسون بي”، ويشتري محمد حوالي 20 كيلوغراماً من الشاي، و10 كيلوغرامات من السكر يومياً، لسد طلبات زبائنه.
ويقول عن عشق العراقيين للشاي، “يزورني يومياً الكثير من الزبائن بعضهم يأتي لشرب الشاي قبل ذهابه إلى عمله أو دراسته، وآخرون أثناء انتظارهم لأحد أو لإنجاز أحد المعاملات في الدوائر القريبة، كما يشتري مني العمال شايهم بعد وجبات الطعام”، وعن عادة شربه صيفاً، يؤكد لجمار، أن العراقيين اعتادوا شربه بغض النظر عن درجة الحرارة العالية، وهو ما جعله مصدر رزق ثابت بالنسبة له.
سلام حسن (41 عاماً) من بغداد، يقول “الجاي بالنسبة لنا مثل المخدرات، نشربه بأي وقت حتى ننتعش، صيف أو شتاء”، وعن شربه في ظل حرارة الصيف يقول، “أظل أشربه لو تكعدني بصف الشمس، فهي عادة أخذناها من آبائنا ويصعب تركها اليوم”، وتقول بعض الأمثال عن عادة شرب العراقيين للشاي صيفاً، “نكسر الحر بالحر”.
آخرون يميلون لشرب الشاي، بسبب مذاقه ونكهته، مثل زيد عبد علي (37 عاماً) من بغداد أيضاً، الذي يعتقد أن العطور التي يحتويها ورائحته تجذب الذائقة لشربه، ولكنه يعتقد أن شرب الشاي من الباعة المتمركزين في الشوارع أو المقاهي الشعبية، يريح النفس ويرجع بالمخيلة إلى تلك الحياة التي عاشها الآباء والأجداد، زمن المقاهي الشعبية، كما تحلو جلساته بالأحاديث والقصص مع الأصدقاء أو حتى الغرباء.
مصطفى الدخيلي (27 عاماً)، يتحدث عن “إدمانه” على الشاي، الذي بدأ من البيت حيث تجتمع عائلته على كؤوسه في مختلف أوقات اليوم، ولكنه يوثق أن هذه العادة تطورت مع بلوغه وخروجه مع أصدقائه، حيث يقضون أوقات فراغهم في أحد مقاهي المنطقة لتبادل النقاشات أو لعب إحدى الألعاب، كالورق “الشدة”، أو الدومنة، بعيداً عن صخب الشارع، ويتراوح صرفه على هذه الجلسات ما بين 60 إلى 75 ألف دينار شهرياً.
كما يساعد الشاي على تهدئة المزاج، إذ يقول محمد حازم (46 عاماً) من بغداد، إن الشاي يساهم بشكل كبير في تخفيف توتره، ولذلك يشربه كثيراً في سبيل الحفاظ على هدوئه، ويقول إنه تعلق به كثيراً حتى أدمن عليه وفشلت جميع محاولات السيطرة على هذه العادة، ويضيف لجمار، “نفسيتي تدهورت من قللت شرب الجاي، وصرت أعصب على أبسط الأمور، لذلك رجعت أشربه بكثرة”.
سارة السوداني (37 عاماً)، تؤكد هذا السياق، وتقول لجمار، إنها اعتادت على تناوله منذ الصغر، في أوقات الصباح والظهيرة والمساء، وتضيف لجمار، “تعودنا على هذه العادة، وهي مشابهة لتعود العراقيين على إفطار العيد وغيرها”، وتذكر أن عادة شرب الشاي في أوقات المساء ترتبط لديها بتناول بذور دوار الشمس، “الجاي وحب شمسي كُمر يغير جونا خاصة بكعدات الشباب، ويفتح النفسية بالسوالف”.
تعلق العراقيين بالشاي أُلقى بأثره على الكثير من عاداتهم وتقاليدهم العشائرية، يعتمده شيوخ العشائر في مجالسهم دلالة على ترحيبهم بالضيوف.
ولعل من العادات الغريبة المرتبطة به، هو رفض تناول الشاي في هذه المجالس للإشارة إلى عدم الرضا، أو الرغبة باستعادة الحقوق، ويعتبر وضع الملعقة داخل قدح الشاي دليلاً على إهانة الضيف وعدم الترحيب به، في حين يدل وضع الملعقة على الصحن الزجاجي المرافق للكوب على تعظيم المضيف لضيوفه، ويتحاشى المضيف وضع فوهة إبريق الشاي باتجاه أحد الجالسين، لدلالتها على استهدافه أو استحقاره.
لا يقتصر الأمر على هذه التراثيات، بل زج الشاي نفسه داخل المخيلات الشعبية، التي تذكر أن وضع ملعقتين في كوب الشاي الواحد تشير إلى الزواج بامرأتين، وإذا ظهرت الفقاعات داخل القدح بعد صب الشاي، فسيحصل شارب الشاي على رزق قادم.
فوائد وأضرار
مثل حال كل المشروبات العشبية، فإن للشاي فوائد جمة، ومنها تقليل مستويات الكوليسترول والسكر في الدم، والتي تحسّن عمل الجهاز الهضمي والقلب، بحسب الطبيب سعد العامري، المختص بالجهاز الهضمي في مستشفى تكريت التعليمي.
ويشير إلى أن احتواءه على الكافيين يعدل من مزاج الإنسان، ولكن كثرة تناوله يزيد من تأقلم الجسم على تأثير الشاي، وتالياً انعدامها، فالعراقيون بحسب العامري لا يُحسون بهذا التأثير بسبب كثرة شربهم للشاي في حياتهم، ويرجع تعلقهم به إلى اعتيادهم على هذه الممارسة.
وعن بعض المعتقدات السائدة بين العراقيين بخصوص الشاي، يؤكد خطأ الاعتقاد القائل بأن الشاي يساعد في هضم الطعام، إذ أن حرارته العالية تحرق الكثير من الفيتامينات والبروتينات والدهون النافعة، وهذا يعني أن الشاي الحار مضر للهضم أكثر من نفعه.
وللاستفادة من مشروب الشاي، ينصح العامري في حديثه لجمار، بشربه بمقدار ثلاثة كؤوس “إستكان” يومياً، بأقصى حد، إذ أن المبالغة في شربه تقلل من امتصاص الجسم للحديد، ويسبب هشاشة العظام، وتالياً ينصح بتناوله بعد وجبات الطعام بأكثر من نصف ساعة، وبدرجة حرارة معتدلة.
وحيث لا يختلف اثنان على مدى عشق العراقيين للشاي، فقد دخل حتى في موروثهم الغنائي، على غرار الفنانة الراحلة سليمة مراد، التي غنت عن أهميّة الشاي في علاقة حبيبين:
خدري الجاي خدريه.. عيوني المن أخدره
مالج يبعد الروح دومج مكدرة
أحلف ما أخدره ولا أقعد كباله
إلا يجي المحبوب واتهنه بجماله
كما ذكره حضيري أبو عزيز، أثناء الحرب العالمية الثانية، 1939 1945، حين فقد من الأسواق ولجأت الحكومة الى تموينه للمواطنين مع مفردات الحصة التموينية الشهرية، وتقول الأغنية:
دمضي العريضة.. امضي العريضة
عيني يبو التموين امضي العريضة
الحلوه على الجاي طاحت مريضة
والشكر غالي.. والشكر غالي
إمنين أجيب الجاي.. والشكر غالي
عذب احوالي.. ومنين أجيب الجاي.. والشكر غالي
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
لا يخلو مجلس في العراق من الشاي، ولا تُقدّر ضيافة إلا به، يرتبط بجميع المناسبات، السعيدة والحزينة، ويتمسك بروتينه اليومي، يُستلهم منه الدفء في الشتاء، ولا يمكن مفارقته حتى في صيف العراق القائظ.
محمد الموسوي (35 عاماً)، موظف في وزارة المالية، مواظب على شرب الشاي، يتناوله بكثرة، ويتلذذ برشفات صغيرة ساخنة وسريعة من “استكان الجاي”، وهو فنجان صغير أكبر حجماً من فنجان القهوة، يوضع على وعاء زجاجي شفاف، مخصص لشرب الشاي في العراق وتركيا وإيران.
في الصباح مع وجبة الإفطار، وما بين كأسين إلى ثلاثة في العمل، ثم يتناول منه قدحاً بعد الغداء والعشاء، إضافة إلى ضرورة شربه في لقاءاته مع رفاقه في المقاهي الشعبية الموجودة في منطقته.
يقول الموسوي لجمار، “الجاي ضروري بهالكعدات خاصة ويه لعب الدومنة والطاولي، لا أستطيع تخيل روتيني اليومي بعيداً عن تناول الشاي، أحس رأسي راح ينفجر إذا ما شربته”.
يرجع أصل الشاي إلى شرق القارة الآسيوية، وتحديداً إلى الصين، حيث تنمو شجيراته دائمة الخضرة، وترتفع حتى تسعة أمتار عن وجه الأرض، وتقّلم أغصانه ثم تجفف وتحمص لتكتسب اللون الأسود المعروف للشاي، ويغربل بعد ذلك من أجل فرز أوراقه الكبيرة والصغيرة، ويَنتسب الشاي إلى فصيلة “الكاميليا الشجيرية”، المعروفة بزهورها الجميلة والفواحة، وله أنواع عدة، منها الشاي الأخضر والأحمر والأصفر.
رغم إكثار العراقيين من شربه، لم تشهد زراعته في العراق نجاحاً يذكر.
فقد حاول مزارعون في إقليم كردستان إنجاح تجربة زراعته، ولكن العوامل البيئية لم تتوفر. فشجيرات الشاي تحتاج إلى تربة مناسبة بكثافتها، إضافة إلى مستويات ملوحتها المتوسطة، وعدم تفاوت درجات الحرارة بين النهار والليل، وإلى أشعة الشمس المستمرة والأمطار الكثيرة، وهو ما يتوفر في مناطق شرق آسيا، بينما ليس له وجود أصيل في العراق.
العوامل البيئية حالت دون زراعة الشاي الأسود المعروف في العراق، ولكنها لم تمنع إنبات بعض أنواعه الأخرى، مثل إنجاح زراعة شاي الكجرات، أو الزهورات، كما تسمّى في بلدان عربية أخرى، إضافة إلى زراعة الأعشاب المعطرة، والمنكهة للشاي، كما فعل مزارعون في الديوانية.
العراق ولسدّ حاجته الملحّة للشاي، عَمد إلى شراء أحد الحقول المختصة بزراعته في دولة فيتنام، كما استثمر بشكل رئيسي، وبنسبة 55 بالمئة، في الشركة العراقية الفيتنامية لزراعة الشاي.
عام 1975، اشترى أحمد حسن البكر، الرئيس الأسبق، أرضاً لزراعة الشاي، وأخرى لزراعة الرز إضافة إلى مزارع للمطاط في فيتنام، وألحق إدارتها بالسفارة العراقية هناك. جهزت هاتان الأرضان العراق بحاجته من الشاي، الذي كان يعلّب في صناديق خشبية وبوزن 10 كيلوغرامات للصندوق الواحد، وكذلك الرز المعروف باسم الرز التايلندي، والمطاط المستخدم في صناعة إطارات الديوانية، طيلة الأعوام اللاحقة منذ شرائها وحتى عام 2003.
بعد عام 2003 أشيع عن استحواذ أحزاب السلطة على هذه المزارع، إضافة إلى مزارع أخرى في البرازيل والأرجنتين وتشيلي والسودان وموريتانيا ودول أخرى.
عام 2020، طالبت عالية نصيف، النائبة في البرلمان العراقي، بالتحقيق في تشغيل هذه المزارع لجهات خاصة مرتبطة بوزارة التجارة، ولكن الأخيرة نفت هذا الاتهام.
مرة أخرى، في عام 2022، أُعيد فتح الملف على يد لجنة النزاهة النيابية، عضوها، هادي السلامي قال للصحافة، إن لدى اللجنة ملفات كثيرة توثق الفساد الحاصل في ملف هذه المزارع، واتُّهمت وزارة التجارة ومسؤولون كبار في الحكومات السابقة، دون تسميتهم، بالتورط أيضاً في هذا الفساد.
خُتم هذا السجال عام 2023، بعد إعلان وزارة التجارة إعادة هذه المزارع والتوصل إلى تفاهمات مع الحكومة الفيتنامية، ولكن لم تبادر الوزارة بإظهار أي إثباتات أو إحصائيات تؤكد هذه الادعاءات، أو توضح مآل المزارع العراقية.
كانت وزارة التجارة قد اتُهمت في عام 2007 باستيراد شحنات من الشاي الإيراني الفاسد، وتوزيعها ضمن مفردات الحصة التموينية، واندلعت على إثرها مظاهرات في بابل، تحوّلت إلى اعتصام، ثم في آذار 2024، عاد الحديث عن استيراد شحنات أخرى من الشاي الفاسد.
وبين الحين والآخر تعلن السلطات العراقية عن إتلاف بعض الشحنات الفاسدة من الشاي المستورد، أو بسبب انتهاء صلاحيتها.
في كانون الثاني 2021، هيئة المنافذ الحدودية قامت بإتلاف حوالي 20 طناً من الشاي منتهي الصلاحية، وفي شباط من العام نفسه، قامت صحة نينوى بإتلاف أكثر من 15 طناً من الشاي أيضاً، وفي أيلول2021 أيضاً، أحرق الأمن الوطني في محافظة الديوانية 5 أطنان من الشاي التالف بدعوى احتوائه على الكثير من نشارة الخشب.
مصدر في هيئة المنافذ الحدودية، يؤكد لجمّار، أن معظم شحنات الشاي تصل الى العراق عبر المنافذ البحرية قادمة من دول شرق آسيا، كما يدخل بعضها براً، في شاحنات مخصصة للنقل، عبر الحدود مع إيران والأردن.
بحسب المصدر الذي رفض الكشف عن هويته، فإنّ هذا الإهمال سببه فساد كلٍّ من وزارة التجارة المعنية بمنح عقود الاستيراد إلى تجار محددين، وجشع هؤلاء التجار، واستيرادهم للشاي الفساد.
المصدر يذكر أيضاً أن الفساد لا يقتصر على ذلك، إذ تمر الشحنات الواردة إلى البلاد عبر ظروف بيئية ومناخية متغيرة، إذ تفتقر الكثير من وسائل الشحن إلى وسائل التبريد ومنع الرطوبة، وهذا يساهم في وصول شحنات الشاي إلى العراق وقد أصابها العفن أو التلف، ويؤكد صعوبة تقدير خسائر البلد في هذه الشحنات، خاصة وأن العراق لا يمتلك إحصائيات دقيقة توثق خسائره المادية.
الاستيراد
يستورد العراق الشاي بكميات كبيرة، لسد احتياج السوق منه، ويتجاوز متوسط وارداته من هذه المادة نحو 20 مليون كيلوغرام سنوياً.
احتلت البلاد المرتبة الأولى، للدول المستوردة للشاي في عام 2022، بعد أن تجاوز حجم المستورد منه أكثر من 17 مليون كيلوغرام، بحسب الإحصاءات الرسمية، ولكن إحصاءات أخرى تشير إلى أن العراق استورد أكثر من 23 مليون كيلوغرام خلال الستة أشهر الأولى من عام 2022، من دولة سريلانكا وحدها.
يبلغ معدل الإنفاق على هذه الواردات من 30 إلى 37 مليون دولار سنوياً، بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، التابع لوزارة التخطيط، تذهب إلى الدول المصدرة، وأبرزها سريلانكا والصين والهند، وبلدان أخرى، كما يعمل التجار والشركات التجارية العاملة في العراق على استيراده بشكل مستقل وبيعه في الأسواق، وبأشكال ومناشئ مختلفة، ومنها الأكياس المعبئة والجاهزة، إضافة إلى بيعه بالوزن.
يباع هذا المنتج في الأسواق بأسعار تتراوح ما بين 3 إلى 10 آلاف دينار، للكيلوغرام الواحد، وتحدد أسعاره وفقاً لقيمة صرف الدولار، وتقلبات السوق، ويرتفع غالباً مع تأزمها، كما تصعب العودة إلى سعره السابق عندما يعود السوق إلى وضعه السابق.
متى عرف العراقيون الشاي؟
لا يُعرف على وجه التحديد متى دخل الشاي إلى العراق، أو متى عرفه العراقيون، ويقول إبراهيم خليل العلاف، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الموصل، إن اعتقاداً يسود بأن دخول الشاي إلى العراق جرى عبر الشركات البريطانية العاملة في بلاد فارس، نظراً لامتلاكها فروعاً في محافظة البصرة، ولكنه يرجح فترة دخوله إلى أواخر القرن التاسع عشر، إبان سيطرة العثمانيين على العراق.
ويضيف لجمار، أن اتساع استخدام الشاي زاد بعد الاحتلال البريطاني للعراق، 1914-1918، ونتيجة لذلك أصبح المشروب المفضل للعراقيين، وأنهى سيطرة القهوة على مقاهيهم، كما زادت عمليات استيراد الشاي ومستلزماته، وكان تجار منطقة الشورجة في مطلع القرن العشرين هم أول من استورده، وبدأ عهد “الجاي خانات”، وهي التسمية التي أطلقت حينها على مراكز بيع الشاي، في مختلف مناطق البلاد، بحسب الدكتور العلاف.
سابقاً كان يتم غلي الشاي عبر بخار الماء، وعبر آلة خاصة تسمى “السماور”، وهي آلة كبيرة يوضع الفحم في جزئها الأسفل، ويوضع الماء في جسمها، أما الشاي فيوضع في أعلاها، وتحتوي على صنبورين أحدهما لصب الشاي والآخر لتفريغ الماء المغلي، وهي طريقة عثمانية ما زالت تستخدم حتى الآن من قبل الأتراك.
ما تزال هذه الآلة مستخدمة في بعض المقاهي التراثية القديمة، ولكن نَدُرَ استعمالها بشكل كبير، ويُرجع العلاف أصول هذه الآلة إلى روسيا، إضافة إلى استعمال أكواب الشاي الخاصة، والتي تدعى “استكان”.
“الاستكان”، كأس زجاجي صغير، شفاف اللون، يوضع على صحن دائري، اعتمده العراقيون في شرب الشاي، لخفة وزنه وحجمه المعتدل، إضافة إلى اعتيادهم على هذه الممارسة.
ومن الطرق التقليدية الأخرى المشابهة لتحضيره عبر السماور، هي وضع إبريق الشاي على إبريق آخر أكبر منه حجماً، ويحتوي على الماء فقط، للمساعدة في هدرجة الشاي.
آخرون يلجؤون إلى مزج الشاي بالماء قبل وضعه على النار، وبعضهم يضيفونه إلى الماء بعد غليانه، وتهدئة النار، أو إطفائه لدقائق قليلة، ثم صبه في الاستكانات.
يطلق على عملية تحضير الشاي بالتخدير أو التهدير، أما إبريقه فيسمى كتلي أو قوري، في حين يسمى السكر “شكر”، بفتح الشين والكاف، وقارورته بالشكردان، أما ملعقته الصغيرة فتسمى خاشوكة جاي، حيث يحول العراقيون حرف الشين إلى جيم مفخمة تشبه الجيم الفارسية والتركية.
ارتبط الشاي بعادات العراقيين وتقاليدهم، وأصبح المشروب الرئيسي لهم في جميع مناسباتهم، وتفننوا في خلط الشاي مع عطورات ونكهات مختلفة.
فن خلطات الشاي
يفضل بعض العراقيين تناول الشاي الأسود دون نكهات إضافية، ويذهب آخرون إلى التفنن وإضافة نكهات مختلفة، مثل الهيل والنعناع أو الأعشاب ذات العطور الفواحة، ومزجها ببعضها لتشكيل نكهة مميزة.
جاي العروس هو واحد من الطرق العراقية لإعداد الشاي، يخففونه بالماء المغلي حتى يصبح فاتح اللون، كما ويشربون شاي الزهورات، “الكجرات”، أو إضافة الليمون المجفف “النومي بصرة” إلى قوامه، وأحياناً يضيفون أعواد القرفة، أو الدارسين كما يسمّى في العراق.
يغلب حالياً استعمال الشاي المعلب الجاهز، وهذا يحتوي بالفعل على منكهات عطرية نافذة، وعليه يعتمد الكثيرون اليوم، بسبب سهولة تحضيره.
إدمان حتى النخاع
ما أن عرف العراقيون الشاي حتى أدمنوه، فهو مشروب الأغنياء والفقراء كما يطلق عليه، وانتشر باعته على أرصفة الشوارع، وحتى داخل الدوائر الحكومية الرسمية، يُدمن العراقيون الشاي ويعلو رنين طقطقات ملاعقه الصغيرة بكؤوسه وهي تمزج السكر بالشاي الساخن.
تشير البيانات إلى أن الفرد العراقي يستهلك نحو نصف كيلوغرام شهرياً من الشاي، وهي نسب تفوق المستوى الطبيعي لشربه والمحددة بأقل من ربع كيلوغرام شهرياً.
يعتقد الدكتور إبراهيم خليل العلاف، أن الإنجليز ساهموا في إشاعة ثقافة الشاي بين العراقيين، لاستفادتهم من تجارته، وتعلم منهم الناس طريقة تحضير الشاي “السنكين”، أي المتوسط في اللون والطعم، فهم لا يعدونه خفيفاً كأهل الشام، ولا ثقيلاً أسود كحال المصريين، ويؤكد على تشابه الطريقتين العراقية والبريطانية في تحضيره حتى اليوم بحسب تجربته.
استهلاك العراقيين للشاي يرجع إلى مسببات مختلفة، منها احتواؤه على نسبة من الكافيين المهدئة للمزاج، ما جعله المشروب المناسب في التخفيف من حدة التوترات اليومية التي يعيشها الفرد في العراق.
هرمون السعادة
بدأت العديد من المقاهي الحديثة “المودرن”، بالانتشار في بغداد ومحافظات أخرى، تجذب الشباب بحداثتها على وجه الخصوص، كما يفضلها الكثيرون لقضاء الوقت، واعتمادها ملتقى اجتماعياً وترفيهياً، كما يقول صاحب أحد هذه المقاهي والذي فضل عدم ذكر اسمه.
ويضيف أن انجذاب الشباب إلى مقاهي الشاي بسبب التعود، فهو مشروب تربينا عليه منذ الصغر، صباحاً بعد الفطور، وظهراً بعد الغداء، وعصراً حيث تجتمع الأسرة على تناوله وليلاً بعد وجبة العشاء، وأضاف أن شريحة كبيرة تشرب الشاي لتأخذ مقدارا مناسبا من السكر، لزيادة هرمون السعادة اللحظي، بحسب تعبيره.
محمد كمال، أحد باعة الشاي في منطقة الكرادة، يرجع حب العراقيين للشاي إلى خفته نسبة إلى القهوة، وقدرته على الامتزاج بحبات السكر، “أكو ناس يملون إستكان الجاي شكر حتى يتونسون بي”، ويشتري محمد حوالي 20 كيلوغراماً من الشاي، و10 كيلوغرامات من السكر يومياً، لسد طلبات زبائنه.
ويقول عن عشق العراقيين للشاي، “يزورني يومياً الكثير من الزبائن بعضهم يأتي لشرب الشاي قبل ذهابه إلى عمله أو دراسته، وآخرون أثناء انتظارهم لأحد أو لإنجاز أحد المعاملات في الدوائر القريبة، كما يشتري مني العمال شايهم بعد وجبات الطعام”، وعن عادة شربه صيفاً، يؤكد لجمار، أن العراقيين اعتادوا شربه بغض النظر عن درجة الحرارة العالية، وهو ما جعله مصدر رزق ثابت بالنسبة له.
سلام حسن (41 عاماً) من بغداد، يقول “الجاي بالنسبة لنا مثل المخدرات، نشربه بأي وقت حتى ننتعش، صيف أو شتاء”، وعن شربه في ظل حرارة الصيف يقول، “أظل أشربه لو تكعدني بصف الشمس، فهي عادة أخذناها من آبائنا ويصعب تركها اليوم”، وتقول بعض الأمثال عن عادة شرب العراقيين للشاي صيفاً، “نكسر الحر بالحر”.
آخرون يميلون لشرب الشاي، بسبب مذاقه ونكهته، مثل زيد عبد علي (37 عاماً) من بغداد أيضاً، الذي يعتقد أن العطور التي يحتويها ورائحته تجذب الذائقة لشربه، ولكنه يعتقد أن شرب الشاي من الباعة المتمركزين في الشوارع أو المقاهي الشعبية، يريح النفس ويرجع بالمخيلة إلى تلك الحياة التي عاشها الآباء والأجداد، زمن المقاهي الشعبية، كما تحلو جلساته بالأحاديث والقصص مع الأصدقاء أو حتى الغرباء.
مصطفى الدخيلي (27 عاماً)، يتحدث عن “إدمانه” على الشاي، الذي بدأ من البيت حيث تجتمع عائلته على كؤوسه في مختلف أوقات اليوم، ولكنه يوثق أن هذه العادة تطورت مع بلوغه وخروجه مع أصدقائه، حيث يقضون أوقات فراغهم في أحد مقاهي المنطقة لتبادل النقاشات أو لعب إحدى الألعاب، كالورق “الشدة”، أو الدومنة، بعيداً عن صخب الشارع، ويتراوح صرفه على هذه الجلسات ما بين 60 إلى 75 ألف دينار شهرياً.
كما يساعد الشاي على تهدئة المزاج، إذ يقول محمد حازم (46 عاماً) من بغداد، إن الشاي يساهم بشكل كبير في تخفيف توتره، ولذلك يشربه كثيراً في سبيل الحفاظ على هدوئه، ويقول إنه تعلق به كثيراً حتى أدمن عليه وفشلت جميع محاولات السيطرة على هذه العادة، ويضيف لجمار، “نفسيتي تدهورت من قللت شرب الجاي، وصرت أعصب على أبسط الأمور، لذلك رجعت أشربه بكثرة”.
سارة السوداني (37 عاماً)، تؤكد هذا السياق، وتقول لجمار، إنها اعتادت على تناوله منذ الصغر، في أوقات الصباح والظهيرة والمساء، وتضيف لجمار، “تعودنا على هذه العادة، وهي مشابهة لتعود العراقيين على إفطار العيد وغيرها”، وتذكر أن عادة شرب الشاي في أوقات المساء ترتبط لديها بتناول بذور دوار الشمس، “الجاي وحب شمسي كُمر يغير جونا خاصة بكعدات الشباب، ويفتح النفسية بالسوالف”.
تعلق العراقيين بالشاي أُلقى بأثره على الكثير من عاداتهم وتقاليدهم العشائرية، يعتمده شيوخ العشائر في مجالسهم دلالة على ترحيبهم بالضيوف.
ولعل من العادات الغريبة المرتبطة به، هو رفض تناول الشاي في هذه المجالس للإشارة إلى عدم الرضا، أو الرغبة باستعادة الحقوق، ويعتبر وضع الملعقة داخل قدح الشاي دليلاً على إهانة الضيف وعدم الترحيب به، في حين يدل وضع الملعقة على الصحن الزجاجي المرافق للكوب على تعظيم المضيف لضيوفه، ويتحاشى المضيف وضع فوهة إبريق الشاي باتجاه أحد الجالسين، لدلالتها على استهدافه أو استحقاره.
لا يقتصر الأمر على هذه التراثيات، بل زج الشاي نفسه داخل المخيلات الشعبية، التي تذكر أن وضع ملعقتين في كوب الشاي الواحد تشير إلى الزواج بامرأتين، وإذا ظهرت الفقاعات داخل القدح بعد صب الشاي، فسيحصل شارب الشاي على رزق قادم.
فوائد وأضرار
مثل حال كل المشروبات العشبية، فإن للشاي فوائد جمة، ومنها تقليل مستويات الكوليسترول والسكر في الدم، والتي تحسّن عمل الجهاز الهضمي والقلب، بحسب الطبيب سعد العامري، المختص بالجهاز الهضمي في مستشفى تكريت التعليمي.
ويشير إلى أن احتواءه على الكافيين يعدل من مزاج الإنسان، ولكن كثرة تناوله يزيد من تأقلم الجسم على تأثير الشاي، وتالياً انعدامها، فالعراقيون بحسب العامري لا يُحسون بهذا التأثير بسبب كثرة شربهم للشاي في حياتهم، ويرجع تعلقهم به إلى اعتيادهم على هذه الممارسة.
وعن بعض المعتقدات السائدة بين العراقيين بخصوص الشاي، يؤكد خطأ الاعتقاد القائل بأن الشاي يساعد في هضم الطعام، إذ أن حرارته العالية تحرق الكثير من الفيتامينات والبروتينات والدهون النافعة، وهذا يعني أن الشاي الحار مضر للهضم أكثر من نفعه.
وللاستفادة من مشروب الشاي، ينصح العامري في حديثه لجمار، بشربه بمقدار ثلاثة كؤوس “إستكان” يومياً، بأقصى حد، إذ أن المبالغة في شربه تقلل من امتصاص الجسم للحديد، ويسبب هشاشة العظام، وتالياً ينصح بتناوله بعد وجبات الطعام بأكثر من نصف ساعة، وبدرجة حرارة معتدلة.
وحيث لا يختلف اثنان على مدى عشق العراقيين للشاي، فقد دخل حتى في موروثهم الغنائي، على غرار الفنانة الراحلة سليمة مراد، التي غنت عن أهميّة الشاي في علاقة حبيبين:
خدري الجاي خدريه.. عيوني المن أخدره
مالج يبعد الروح دومج مكدرة
أحلف ما أخدره ولا أقعد كباله
إلا يجي المحبوب واتهنه بجماله
كما ذكره حضيري أبو عزيز، أثناء الحرب العالمية الثانية، 1939 1945، حين فقد من الأسواق ولجأت الحكومة الى تموينه للمواطنين مع مفردات الحصة التموينية الشهرية، وتقول الأغنية:
دمضي العريضة.. امضي العريضة
عيني يبو التموين امضي العريضة
الحلوه على الجاي طاحت مريضة
والشكر غالي.. والشكر غالي
إمنين أجيب الجاي.. والشكر غالي
عذب احوالي.. ومنين أجيب الجاي.. والشكر غالي