في مشغل التاريخ العراقي: أساطير وخرافات عن "الثورة" و"الأمة" و"الدولة"
14 تموز 2024
هل نحن معاصرون؟ هل يجب أن نترك الماضي العراقي الحديث تماماً ونتجاوزه ولا نتعامل معه؟ أم نذهب للعيش فيه وربط حاضرنا بما شهد من أحداث؟ داخل مشغل التاريخ العراقي: أساطير وخرافات عن "الثورة" و"الأمة" و"الدولة"..
هنالك قولان شائعان جداً في أوساطنا الاجتماعية والأكاديمية، تصعب مواجهتهما دون ثمنٍ، وهما على طرفي نقيضٍ. يقول الأول إن علينا ترك الماضي، فالأمم المتطورة لا تعبأ بالماضي أبداً. أما الثاني فيقول إن علينا دراسة الماضي “موضوعياً” لأنه سبب ما نحن فيه.
بخصوص القول الأول، فهو ينطلق من تشخيص الصراعات حول مسائل يعتبرها قد انتهت وولت ولا قيمة لها في حاضرنا حتى لو كان قبل قرنٍ فقط. وهو هنا ينسى أن الأمم ليست فاقدةً للذاكرة، بل ما هي سوى الذاكرة، وتحديداً الذاكرة المشتركة لا سيما لو تعلق الأمر ببناء وطنٍ ودولةٍ. فالنظر إلى الماضي نقدياً ليس ضد الماضي، بل ضد النظرة التقديسية والتعسف والانتقاء، وما من أمةٍ متطورة بالفعل إلا وقد انطلقت من دراسة ماضيها بكثافةٍ.
أما القول الثاني، فهو يفترض إمكان الموضوعية في دراسة التاريخ، وهذا أمرٌ متعذرٌ. فالماضي موضوع صراعِ تأويلاتٍ. ويكاد استخدام مقولة الموضوعية لتخليص الناس من أوهامهم عن التاريخ أن يكون وهماً محضاً. ومن يرى كونه مؤوِّلاً من بين مؤوِّلين، فهو سيتواضع أمام الفجوة الوجودية بينه وبين حقائق الأشياء، ويحاول إنطاق مسكوت التاريخ ونقد أوهام الحقائق الموضوعية.
ومن هنا ينبغي وضع فكرة “الماضي سبب ما نحن فيه” تحت دائرة المحاسبة. فنحن دائماً معاصرون، ولا نعيش في الماضي. حتى أشد السلفيين في تقديسهم للماضي ومعاداتهم للحداثيين هم في الحقيقة معاصرون، ينطلقون من همومٍ معاصرةٍ، وبسبب هذه الهموم تجري استعادة الماضي ليجيب عن هذه الإشكاليات المعاصرة. إذن، الماضي صنيعة الحاضر، أي هو تأويل الحاضر لما مضى، وليس منفصلاً عنه، موضوعياً، معطى في العراء، وشفافاً. من يرى إمكان الموضوعية في دراسة التاريخ فهو إما يبجِّله أو يرفضه، بحسب النتيجة التي يخرج منها حوله. أما الدراسة النقدية، فلا تتفق مع هذا أو ذاك، فهي تكشف عن أوهام الموضوعيين عن واقع التاريخ، ولا تكشف عن هذا الواقع بموضوعية، لأن واقع التاريخ أمرٌ يتعذر علينا استكناهه. المسائلة النقدية تفضح منظورَنا للماضي، وتضع العيبَ في هذا المنظور الذي لا يعترف بالفجوة بينه وبين الواقع التاريخي. فمن منا يعرف الحاضر بدقته حتى يعرف الماضي بدقته؟
الكثير يختلف حول الحاضر، فهنالك توجهاتٌ جمةٌ، ونحن نسعى لفهم الحاضر الذي نعايشه آنياً، فكيف لنا إذن ادعاء فهم ماضٍ ليس عندنا منه سوى كتاباتٍ متناثرةٍ؟
العشائر بين العثمانيين والإنكليز
في التاريخ العراقي، يُطرَح سؤال مزمن: لماذا لم تنتفض العشائرُ ضد العثمانيين مثلما انتفضت ضد البريطانيين؟ سؤال يطرح لا من أجل البحث عن إجابةٍ، بل هو سؤالٌ استنكاري يحمل إجابةً مسبقةً تقول إن النزعة الدينية قبِلت بالمحتل الإسلامي رغم خرابه، ورفضت المحتل المسيحي رغم بنائه.
ولأول وهلةٍ يبدو هذا الجوابُ مقنعاً، ففي بعض الوثائق (تقارير المس بيل مثالاً لا حصراً) هنالك ما يفيد محاربة العشائر للاحتلال الإنكليزي أول دخوله للعراق بدافع الانتصار للعثمانيين بوصفهم إسلاماً ضد الكفر المسيحي الذي هو استمرارٌ للصليبيين. لكن السؤال المفصلي هو، هل أن الأفكار الدينية تحرِّك الواقع تحريك الحصان للعربة أم أنها تتلابس مع الواقع بأكثر من وجهٍ؟ بحسب المنظور الأول فإن الأفكار الدينية، وعموم الأفكار بعامة، لها الاستقلال المطلق عن الواقع بحيث تمارس عليه السلطة وتحرّكه يميناً شمالاً كيفما تشاء. لكن البديل عن ذلك هو أن الأفكارَ مستقلةٌ نسبياً وليس بالمطلق، وتختلف درجاتُ نسبيتها هنا وهناك. بالطبع ليست الأفكارُ خاضعةً للواقع وصراعاته خضوعاً تاماً كما يرى أنصار الموضوعية الواقعية، بل الأمر هنا هو أن الأفكارَ مسيَّرةٌ ومسيِّرةٌ. الأفكار وعموم الإيديولوجيات أشبه بالمخزون الذي ينمو بتعاطيه مع الظروف، فالأفكار يجري تفعيلها بهذا الاتجاه أو ذاك، أكثر من كونها تمارس اتجاهاً واحداً لا محيد عنه.
والحال، فإن هناك مخزوناً رمزياً على شكل إيديولوجيا دينيةٍ جرى توظيفه في صراع ليس إيديولوجياً في خطوطه العريضة، بل هو صراع مصالح بالدرجة الأولى. وهذا ما تعزِّزه الانقساماتُ بين العشائر آنذاك.
كان أكثر العشائر متحالفاً مع الإنكليز، وليس ضدهم، سواء في بداية دخول الاحتلال البريطاني 1914، أو بعد إكماله في 1917. فالعثمانيون لديهم مشكلةٌ معضِلةٌ مع العشائر، ولم تكن العشائرُ يوماً متصالحةً معهم. كل والٍ يولى على العراق، أيام الحكام المماليك، يبسط قوته على العشائر، فيقتل منهم مقتلةً كبيرةً ليظهِر حزمَه وجديته، لكونهم يهددون استقرار الأوضاع بفعل كون أغلبهم من البدو المترحلين، والطالبين للأتاوات، والساعين باستمرارٍ للغزوات ومعارك الثأر. بل أكثر من ذلك، إن البدو لم يكونوا ذوي نزعةٍ دينيةٍ واضحةٍ في أغلب فتراتهم التاريخية. إذن، العشائر أغلبها بدو، والبدو ليسوا متدينين، وليسوا بصلحٍ مع العثمانيين.
حاول العثمانيون تطبيقَ سياسة العثمنة لبسط مركزية إمبراطوريتهم المترهلة على ديموغرافيا البدو. فلأجل تفكيك الاتحادات القبلية الواسعة جرى تمليك بعض العشائر دون بعضها الآخر. فكان هذا من شأنه أن يجعل تلك العشائرَ تستوطن في المناطق الزراعية بدل الترحل والصراع على الموارد. وكذلك من شأن هذا الأمر أن يجعل عشائرَ أخرى تبطل رابطةَ الاتحاد معها لانتفاء الغرض من هذا الاتحاد المبني على وحدةِ الهدف. فانقسمتِ العشائرُ البدويةُ قسمين هنا، بعد أن كانت جبهةً واحدةً ضد العثمانيين، قسم قليل مع الدولة العثمانية بحكم المصلحة، وقسم ضدها بحكم المصلحة أيضاً.
تنعّم القسمُ القليل الأول بتمليك الأراضي، إذ تحوّل الشيوخ إلى ملاكٍ إقطاعيين، وحرم منها القسم الثاني، وهو الأكبر، أو أصبح قليل الحظوة بها مقارنةً بغيره.
كانت الأغلبيةُ الساحقةُ من العشائر الجنوبية متمذهبةً بالمذهب السني، وعندما جرت عملياتُ توطينها دخل الكثيرُ منها المذهبَ الشيعي، تحديداً عشائر الوسط، وذلك بحكم قربها من كربلاء والنجف بوصفهما مركزين دينيين عريقين. ولهذا السبب أصبح الشيعةُ أغلبيةً فجأةً، بعد أن كانوا أقليةً مقارنةً بالسنّة المسيطرين على عموم المناصب الإدارية.
حاربتِ العشائرُ المستفيدةُ من سياسة العثمنة ضد الاحتلال البريطاني، بينما العشائر غير المستفيدة، والمشكِّلة للأغلبية، فكانت تميل للبريطانيين. كانت سياسةُ البريطانيين جعلَ النزعة العشائرية أقوى، وإرجاع الاتحادات القبلية، وذلك على عادتها بمناقضة كل ما فعلته الإمبراطوريةُ العثمانيةُ سابقاً. فلأجل إسقاط إمبراطورية، يجري التركيزُ على الذين همّشتهم هذه الإمبراطوريةُ، وذلك لخلق قاعدة مستفيدين صلبة توظَّف لمحاربة المستفيدين السابقين من تلك الإمبراطورية. لم يكن الإنكليز ضد العشائر يوماً حتى يُشاع أنهم جاؤوا بالتطور الذي رفضته العشائر بحكم نزعتها الدينية التخلفية. فإذا كان هنالك من تخلف، فسيشترك به البريطانيون والعشائر على حد سواء، وإلا فلا. والخلاصة هي أن العشائر، البدوية تحديداً، كانت ضد العثمانيين، وفي آخر فترة من عمر الدولة العثمانية، وتحديداً مع سياسة الإصلاحات التنظيمية، أصبحت الأقليةُ منها معها والأغلبيةُ لا زالت ضدها. ومع البريطانيين أصبحت الأغلبيةُ مع الاحتلال والأقليةُ ضده.
ثورة العشرين وولادة الوطنية العراقية
تجري عملية إسقاط للحاضر على الماضي، وبشكلٍ فجٍ. يتصور معظم الناس أن ما نتصوره عن الوطنية هو ذاته ما كان في السابق، أو ينبغي أن يكون، وإن لم يوجد فسبب ذلك هو التقصير حتماً.
بينما، وعلى العكس، فإن النزعة الوطنية تبنى بالتدريج، هذا من جهةٍ، ولا تتواجد دائماً على طول خط التاريخ، لكونها مقولةً حديثةَ النشأة من جهةٍ أخرى. كل فترةٍ تاريخيةٍ، طويلة أو قصيرة، لها أفقها الخاص من التفكير يختلف عن أفق غيرها، وذلك بحكم عدة عوامل منها الظروف. لم يعرف شيء ذو بال عن الوطنية حتى بداية القرن العشرين، وقد انبثقت في تركيا العثمانية كما انبثقت في الأرض العربية الخاضعة لإمبراطورية العثمانيين. ففكرةُ ضرورة الانتماء لوطنٍ، تحده حدودٌ قوميةٌ، لم تطبَّق لمجرد الاحتكاك المعلوماتي والمعرفي مع الغرب، بل بالدرجة الأولى بفعل صعود قوى جديدةٍ على أرض الصراع هي نتيجة التغيّرات الجوهرية التي تركها الانفتاحُ على قوى الرأسمال العالمي. فالصراع العالمي فرض نفسَه بالإكراه، ونتيجة ذلك تغيّرت معادلاتُ الصراع، وبرزت ضرورة إنشاء دولٍ ذات طابعٍ قومي، لها حدودٌ ومؤسساتٌ بالضد من الإمبراطوريات ذات النزعة الدينية تحديداً. وهذا الأمر ينفي الفكرة المثالية عن تحرّك الدول الاستعمارية، الرأسمالية بالضرورة، لتخليص المجتمعات من سطوة السلطة العثمانية، مُلقيِن في وعي مجتمعاتنا فكرةَ الانتماء للوطن بدل الانتماء للجامعة الإسلامية! وكذلك ينفي هذا الأمر الفكرةَ القائلةَ بقصور أو تقصير المسلمين عن إنتاج فكرة الوطنية قبل أن ينوِّرهم بها الأوروبيون! معرفة الشيء لا تكفي لتطبيقه، بل بحاجةٍ للظروف، والظروف لا تحقِّق عملياً ما يُعرَف نظرياً فحسب، بل إنها قد تنشئ المعرفة أصلاً، أو تعدِّلها.
كثيراً ما نصادف الأسطورة القائلة: لم تحدث ثورة العشرين إلا بظل البريطانيين الذين جاءونا بالتطور، ولم تحدث أمثالها مع العثمانيين طيلة 400 سنة من التخلف!
علاوة على الإسقاط التاريخي الذي أشير إليه أعلاه، فإن المسكوت عنه في هذه الخرافة هو تبرير الاحتلال والاستعمار لمجرد أنه يخلِّص من احتلالٍ سابقٍ، أو لنقل من معضلةٍ سابقةٍ قد لا تكون احتلالاً بالضرورة. وهو نفسه، ما نعيشه حالياً، بتبرير الاحتلال هنا أو هناك، أو إغفال نقده كأولوية، لمجرد أن الطرف المعارض يمارِس سلبياتٍ معينةً أو يتطلع إليها في أفقه النظري؟ لماذا لا يرفضان معاً وعلى حد سواء؟
كما أن هنالك تناقضاً في هذا الادعاء القائل بمجيء البريطانيين بمقولة الوطنية، إذ كيف هي وطنيةٌ وبالدرجة نفسها مفروضةٌ من قبل طرفٍ لا ينتمي للوطن نفسه؟! هذا الأمر يفتح لنا باباً نقدياً مهماً، وهو أن البريطانيين يقفون مع كل شيء طالما لا يقف ضدهم، فللقومية والوطنية والسيادة مفعولٌ إيجابي بنظرهم عندما يكون ضد غيرهم، وإذا أصبح ضدهم فمفعولها سلبي بالضرورة. هذه المقولات لها حدود صلاحية في أفق التفكير الكولونيالي. من جهةٍ أولى لم تكن أفكار الدولة والسيادة والوطنية من ابتداع الكولونياليات البريطانية والفرنسية والأمريكية بشكلٍ صرفٍ، وبمبادرةٍ محضةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، لم تطبَّق على أرض الواقع باتجاه حدودها القصوى بما يفيد سكان البلاد المحتلة، إذ جرى توجهيها وفق حدود صلاحيةٍ معينةٍ.
قدم الإنكليز وعداً للعراقيين بإنشاء دولةٍ عربيةٍ مثلما وعودوا السوريين. وبعد تحقق هذه الدولة في سوريا، شعر العراقيون بالحيف، فسارعتِ المعارضةُ الوطنيةُ خطاها، وزاد الشحن، خصوصاً بعد افتضاح أمر معاهدة “سايكس-بيكو” و”وعد بلفور” المخالفين لمقتضى الوعود السابقة. دخلت أمريكا على الخط، فضغطت باتجاه إنشاء دولةٍ بالعراق لتمارس الضغط على البريطانيين، كيلا يتحوّل العراقُ لمستعمرةٍ بريطانيةٍ تدر الربح على بريطانيا فقط، ولم يكن هذا الضغط من أجل أن يتنعّم العراقيون بدولتهم.
ناصر الإنكليز، والحال هذه، فكرةَ الدولة العراقية كي لا يكون تابعاً للإمبراطورية العثمانية، مع ما للدول من مخاطر عليهم بسبب الطبيعة الاستقلالية لها، لذلك وافقوا على مضضٍ، ووافق الأمريكيون على ذلك ليمارسوا نصيبهم من النفوذ، وناصرت العشائر ذلك لتتخلص من حيف العثمانيين ولتنال مصالحَها، وناصر الوطنيون المدينيون، ذوي التعليم الحديث، ذلك لتحقيق رؤاهم الوطنية الخاصة. وهكذا هو الأمر، يجتمع الكثير من الخصوم على أمرٍ واحدٍ لدواعٍ مختلفةٍ. ومثل ذلك ما ذكرته المس بيل بخصوص ثورة العشرين في كتاب “مؤسسات الدولة العراقية”، إذ لم تكن ثورة العشرين تحت قيادة أحد، شارك الجميع فيها انطلاقاً من دوافع مختلفةٍ. فهي لم تكن بقيادةٍ دينيةٍ رغم مشاركة مرجعية النجف وكربلاء فيها، ولم تكن عشائريةً محضةً رغم كون شرارتها وعناصرها عشائريةً. فالوطنيون في المدينة استثمروا الثورة وأخذوها نحو حدودها القصوى في أجنداتهم الوطنية إعلامياً، رغم عدم مشاركتهم فيها على أرض الواقع، ولذلك كانت النتيجة الأهم للثورة تسريع إنشاء الدولة العراقية بعد تردد الإنكليز ومماطلتهم في تطبيق وعودهم. لم تنجح الثورةُ، في النهاية، لكنها سرّعت من خطى إنشاء الدولة الملكية، تلك الدولة التي يقدِّسها اليمينيون وبذات الوقت يدنِّسون القائمين بالثورة! وذات الأمر يحدث عندما يعادون العشائر ويصفونهم بـ”المعدان”، بينما الملكية بعهد غازي وفيصل الثاني تحالفت مع العشائر ضد الجيش وضد الانتلجنسيا الوطنية، وضد الطبقات العمالية والوسطى الناشئة.
الأمر اللافت هو أن ثورة العشرين لم تكن مذهبيةً، لكن اليوم يجري استثمارها مذهبياً بشكلٍ مؤسفٍ. تؤسطَر الوقائعُ التاريخيةُ بمرور الزمن وفق أغراض الشخص المؤسطِر. وهذا يرجعنا إلى فكرة تأويلية التاريخ وعدم موضوعيته. قد يكون مقبولاً من الناحية العملية أسطرة التواريخ الوطنية على أن لا يطال ذلك الدرسَ الأكاديمي، وهو ما يحدث مع جميع البلدان، حيث يسمى ذلك بـ”الأساطير المؤسِّسة”، فهي أساطير ذات طابع صحي لكونها تغذّي الذاكرةَ المشتركةَ بوصفها تعزِّز الانتماء الوطني الجامع. لكن ماذا نسمّي ما يحدث في العراق، حيث تجري عملية أسطرة بالاتجاه المعاكس، أسطرة مذهبية (ثورة الشيعة أو ثورة السنة) أو جهوية (ثورة الجنوب أو ثورة الغربية)؟ تجري هنا عملية احتكار الوطنية لصالح طرفٍ ضد طرفٍ آخر داخل الوطن نفسه، وهي عملية تقع على نفس أفق العملية السابقة والتي تنزع الوطنية من الكل وتضعها في حضن الإنكليز! ربما تصلح تسميةُ هذا النوع من التعسّف التاريخي بـ “الأساطير المهدِّمة”. إن لم تؤسِّس الأساطيرُ الوطنَ، كجامعٍ مشتركٍ، فهي تهدِّمه عبر احتكاره لصالح المحتل أو لصالح طرفٍ داخلي واحدٍ.
عبد الكريم قاسم بوصفه زعيم الخراب
هنالك مجموعة خرافات أخرى تتمحور حول عبد الكريم قاسم، من ناحية المخالفين وكذلك المؤالفين. أخطرها هي أن عبد الكريم قاسم هو مؤسس سُنّة الانقلاب والدموية، حيث مشى على إثره من جاء بعده. هذه الفكرة غير تاريخيةٍ، أي أنها لم تتفحص جيداً التفاصيل السابقة. والإشكال الأول الذي يثار بوجه جزءٍ من هذه الفرضية: إذا كانت الملكية بتلك المثالية، كيف تمكّن قاسم من اختراقها عبر ثلاثة أفواج فحسب؟ لم يكن عدد الضباط الأحرار عشية الثورة سوى 200 ضابط، ورغم ذلك لم يطح قاسمُ بالملكية عبر هؤلاء جميعهم، بل هو في آخر أيام ما قبل الثورة عمل مع عبد السلام عارف بمعزل عن البقية، وهو ما أثار حساسيتهم لاحقاً. إذا كانت الملكيةُ مثاليةً من ناحية كونها دولةً قويةً، فيفترض أن لا تسقط بهذه الطريقة البسيطة التي تذكرنا بسقوط الموصل بظل حكومة المالكي! وإذا كانت مثاليةً من ناحية القبول الاجتماعي الواسع (الشرعية)، لكونها تحقق مصالح الشعب، فكان يفترض أن لا تناصر الأغلبيةُ قاسم وتخرج معه وترجِّح كفته، فتحسِم المعركةَ شعبياً بظل الضعف العسكري الواضح لقوى الانقلاب عدةً وعدداً.
إذن، كانت الملكية تفتقد للقوة المادية والقوة الاجتماعية على حد سواء، فما هو سر قوتها في فترات سابقة؟
كان السر يكمن في دعم الاحتلال الإنكليزي لها عبر خلق قاعدةٍ اجتماعيةٍ لها من الملاك الكبار. وبعد خروج الإنكليز حصلت بعض الانقلابات كانقلاب بكر صدقي 1936، وانقلاب العقداء الأربعة 1941، مما اضطر الإنكليز إلى احتلال العراق ثانيةً. لكن مع أفول الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، افتقدت الحكومةُ الملكيةُ سر ديمومتها للأبد، فوضعها ذلك أمام نهايتها المرة.
وبخصوص جزئية الدموية، فإنه من الصحي رفضها وعدم تبريرها بأي شكلٍ من الأشكال، لكن ينبغي أن يقال، من أجل الدرس التاريخي النقدي، إن الاحتلال سفك الكثير من الدماء حتى وصل الأمر للقصف بالطائرات، والحكومات الملكية سفكت الدماء أيضاً، تحديداً مع وثبة 1948 وانتفاضة 1952 وانتفاضة النجف 1956. كانت معروفة آنذاك المشانق أمام أنظار العامة وتعليق الجثث عدة أيام مثلما حدث مع رموز الحزب الشيوعي، فهد ورفيقه مثالاً لا حصراً، علاوة على مجزرة الآشوريين في الثلاثينيات. فلا الانقلابات بدأت مع قاسم، ولا سفك الدماء بدأ معه. انقلاب قاسم هو استمرار لعدة انقلابات بدأت سابقاً ولم تنجح لظروفٍ معينةٍ، فنجح قاسم بعد زوال تلك الظروف. أما سُنّة الدماء فليست مطردةً كما يُتصوَّر، فلم يقتل عارفُ قاسمَ بل حاكمه، ولم يقتل البكرُ عارفَ الثاني بل نفاه، ولم يقتل صدامُ البكرَ بل عزله.
لكن لنركز على المشهد الدموي القاسمي بالذات. لم يقتِل قاسم، ولا مساعده عارف، العائلةَ المالكةَ، فقاسم لم يكن حاضراً في القصر آنذاك. من قتله هو ضابط أصبح نصيراً للثورة نتيجة سماعه لبيان الثورة من الإذاعة فدخل فجأةً وفتح الرشاش على العائلة المالكة الواقفة قبال مجموعة ضباط بشكل نصف دائرةٍ، وقد كان من الضحايا ثلاثة من الضباط أساساً. كذلك بخصوص ثورة الموصل ضد البعث في آذار 1959، أو ثورة كركوك، في تموز 1959، أيام حكم قاسم. مع ثورة الموصل كان الصراع بين الشيوعيين والبعثيين بالدرجة الأساس، وبالطبع يؤخَذ على قاسم السكوتُ عنهم والاستثمارُ من خلالهم. أما في ثورة كركوك، فكان الصراع بين الشيوعيين الكرد ضد التركمان، فحتى القيادة الشيوعية لم تكن مسؤولةً عن ذلك علاوةً على قاسم نفسه، رغم تهاون القيادة الشيوعية في منع الأمر أو شجبه، وهذا الأمر جعلهم يتحمّلون التبعاتِ، ونالوا ما نالوا من قاسم جراء ذلك.
وهذا يقودنا إلى أمرٍ مهمٍ، هو دحض خرافة شيوعية قاسم. لم يكن قاسم شيوعياً مطلقاً، فهو يحابي هذا ضد ذاك بين الفينة والأخرى، لكنه لم ينتمِ لأحدٍ. تذبذبت محاباتُه بين البعثيين والشيوعيين لموازنة الواحد بالآخر، مع أن أكثر محاباته كانت لصالح الشيوعيين، وذلك بسبب كونهم مستحوذين على القاعدة الجماهيرية. ورغم ذلك، بعد أن قضى على البعثيين، فإنه بطش بالشيوعيين وأضرهم أيما ضررٍ في سنة 1962، حتى أنه لم يقبل بتسليح الحزب الشيوعي للدفاع عن حكومته أثناء انقلاب شباط 1963. ولو سلّحهم لربما كان هنالك مسارٌ آخر لا يعجِب بالطبع اليمينيين الناقمين على قاسم والمتهمين إياه بالشيوعية!
هناك خرافةٌ أخرى، ذات بعدٍ مناطقي، تقول إن قاسم جاء بـ”الشروگ” إلى بغداد، فأثّروا سلبياً أيما تأثيرٍ على الوضع الديموغرافي للبلد. طبعاً من يُسمَون بـ”الشروگ” هم المهاجرون من مناطق شرق دجلة في لواء العمارة وقد سكنوا في أطراف بغداد. لو تفحصنا الأمر لوجدنا أن الهجرةَ بدأت بكثافةٍ منذ الأربعينيات، ولم تبدأ مع قاسم. وأسباب الهجرة تتحملها الدولةُ بكافة تفاصيلها، لكون المهاجرين هم أبناء العشائر الذين ألحقت الإقطاعيةُ بحياتهم حيفاً هائلاً، فعانوا الفقر وقلة التغذية وانعدام الاهتمام الصحي. كانوا يهاجرون للعاصمة من أجل العمل لا بطراً وسياحةً وتقصداً لاستغلال موارد العاصمة ومزاحمة أهلها! أولاهم قاسم عنايةً خاصةً، فهم يمثلون أسفل السلم الطبقي، وبالتالي هم قاعدته الشعبية ومن شأنها تثبيت قوائم حكمه. ومن ضمن ما حققه لهم هو تملكيهم قطع أراضٍ في مدينةٍ سميت بـ”الثورة”.
لم تكن الإقطاعيةُ رفيقةَ العشائر الأزلية، حتى يجري النواح عليها والبكاء على أطلال فردوسها. فهي ظاهرةٌ حديثةٌ جاءت بفعل سياسة العثمنة في أواخر القرن الثامن عشر، وغذّاها الإنكليز بقوةٍ في حقبة الحكم الملكي. كانت العشائر أما بدويةً بشكلٍ صرفٍ، أو زراعيةً بنحوٍ بسيطٍ لا علاقة له بامتلاك الشيوخ للمقاطعات الكبرى، إذ كان هنالك ما يسمى بـ”الديرة”، وهي أرض للرعي المجاني يشترك في ملكيتها أبناء العشيرة مع شيخهم على حدٍ سواء.
بمجيء الإقطاعية تحوّل الشيوخُ إلى ملّاكٍ كبارٍ يفرضون أنفسهم على أبناء عشائرهم بقوة “الحوشية” تحت غطاء الاحتلال الإنكليزي. فصلَ الإنكليزُ أبناء الريف عن أبناء المدن لكون المدينة موئل المعارضة لحكم الاحتلال وسياساته بما تحتويه من طبقة مثقفة ذات نزعةٍ استقلاليةٍ. وصل الأمر لأن يُسَن قانونٌ خاصٌ بالمدن وآخر بالريف، وبهذه الطريقة يُقرأ على برنامج الاندماج الوطني السلامُ. من يعصي شيخ عشيرته، فلشيخه أن يعاقبه وفق قانون العشائر الخاص، وإذا هرب فلحكومة الاحتلال أن ترجِعه قسراً إلى عشيرته!
بظل هذه الظروف الإقطاعية، المترفة للشيوخ والقاسية على المزارعين، عانى المزارعون ما عانوا لحدودٍ لم تعد قابلةً للتحمّل. كل ذلك يمثِّل السياق التاريخي للهجرة نحو العاصمة، مع أن هنالك هجرةً أيضاً حدثت باتجاه البصرة، وقبلها كانت الهجرة التي حدثت برعايةٍ عثمانيةٍ للعشائر من الصحراء صوب المناطق الزراعية والمدن المقدسة ومحيطها.
كما أن ذلك يمثِّل أيضاً سياق نشوء طبقةٍ عماليةٍ معاديةٍ للحكومات الملكية التي لم تنصفها لا عندما كانت عمالة زراعية ولا عندما هاجرت وتكدست فوق بعضها بوصفها عمالة غير ذات مهارة وتُستغَل بأبخس الأثمان. أما البرجوازية الوطنية، أي الطبقات الوسطى، فوجدت نفسها أمام مسارٍ سياسي مغلقٍ، فكان التمثيل البرلماني يحابي الشيوخ ومناصري الاحتلال أكثر من غيرهم.
بالإضافة إلى الانتخابات التي جرت أواخر العهد الملكي، وهي الوحيدة التي جرت وفق معايير جيدةٍ، لكن نهايتها انتهت بإلغاء نوري السعيد لها، وجعلها ذات مرحلتين، فكانت تلك خاتمةَ ما كسر ظهرَ بعير الملكية التي دائماً ما كانت تنمو النظرةُ السلبيةُ تجاهها على أنها نصيرةُ الاحتلال أكثر من الشعب.
ضرورة الدكتاتورية
نصادف بشكلٍ دائمٍ ولحد الملل القول بأننا نحتاج لدكتاتور، وأن حكم القانون لا ينفع مع هذا الشعب، فشعبنا “ماله جارة”، إذ لا يناسبنا قانون ولا ديمقراطية. ويجري الاستشهاد بمواقف انتقائيةٍ تصلح للتأويل في أي اتجاه يشاء القائل. فقضية “ليس للشعب العراقي جارة” تصلح للدفاع عن فكرة ضرورة الدكتاتورية، ولفكرة الضد منها. فهناك كثيرون يتعكزون على هذه المسبقة الثقافية لبناء افكارهم عن الشعب العراقي بأنه صانعُ الدكتاتوريات والمستبدين.
السؤال المشكِل هو: متى تحقق حكم القانون بالتمام، ونتائجه كانت سلبية، لكي نحتاج لما هو أكثر من القانون لمعالجة تلك السلبيات التي لم يعالجها حكم القانون وحده؟ هذا الإشكال يكشف عن التحيّزات الثقافية المسبقة، فمعروفةٌ لدينا كمية الفساد الإداري والسياسي، ونوايا أو توجهات أجهزة الحكم التي آخر ما يهمها تحقيق حكم القانون. فكل حقبةٍ وحكومةٍ جاءت على إثر مشاكل وثغراتٍ بنيويةٍ عميقةٍ، وخلّفت مثلها عندما ولّت. لا يوجد توازنٌ بين الراحل والآتي، كلٌّ يزايد على من قبله بمشاكله الخاصة. وهذا سبب عدم حصول التداول السلمي للسلطة، فكل سلطةٍ تأتي عبر انقلابٍ أو احتلالٍ. ومعلوم أن التداول السلمي ليس سببَ التوازن والاستقرار، بل هو من نتائجه. قمع المعارضة في زمنٍ يجعلها، عندما تتسنّم السلطةَ، تقمع من يعارضها وهكذا.
من هنا، يظهر عدم جدوى الذهنية الثقافية التي تضع كلَّ اللوم على المجتمع، إذ أن المجتمع ليس كليةً واحدةً لا اختلاف فيها ولا تشظٍ، أي لا معنى للحديث عن مقولة العقل الجمعي. ومثلما رأينا مع ثورة العشرين، فإنها من حيث الزمن اللاحق اعتاشت على تأويلاتٍ متغايرةٍ مع بعضها، ومن حيث زمنها آنذاك اجتمعت عليها عدة قوى مختلفة مع بعضها في وجهات نظرها أشد الاختلاف، بما يدحض وجود عقلٍ جلمودي واحدٍ يوجِّه كلَّ، أو أغلبَ، أفعال الشعب العراقي ويمكن الحكم عليه بجرة قلمٍ ساخطةٍ.
الدكتاتورية أهم سببٍ للمشاكل التي تحصل دائماً، وهذا ليس ضد العوامل الخارجية، بل في طولها، حيث كثيراً ما نرى القوى الخارجية تدعم هذه الدكتاتورية أو تلك. والدكتاتورية ليست عميلةً دائماً، بل هي أيضاً قد تكون وطنيةً. فالسيادة نوعان، نوع خارجي ينعدم بالاستعمار أو الاحتلال أو العمالة، ونوع داخلي ينعدم باستثناء هذا أو ذاك من حكم القانون.
الانتماء للوطن لا يحقِّق السيادةَ الداخليةَ بالضرورة، ومن هنا تعتكز الدكتاتورياتُ على النزعة الوطنية لتبرير استبدادها طالما مقصودها إبعاد التدخلات الخارجية فحسب.
انعدمت السيادة الخارجية بظل العهد الملكي، لكن تحققها في العهد الجمهوري، وانطلاق الجمهوريين من الأفق الوطني والقومي، لم يعالج المشاكل المعضِلة للدولة العراقية، وذلك لكون هذه الحكومات كل همها محاربة الخارج، دون أن تعمل على مشروعٍ وطني داخلي طويل الأمد، مشبعٍ بحكم القانون. عمل فيصل الأول على مشروع للاندماج الوطني، فلم يمهله عمره الوقتَ المناسبَ، لكنه قبل وفاته بنفسه شعر بالفشل. والمفارقة أنه بدل أن يلوم الاحتلال الذي أعاق كثيراً من نقاط هذا المشروع، ذهب باتجاه لوم الشعب العراقي نفسه، وذلك في رسالةٍ مشهورةٍ عنه. وتزداد المفارقةُ بقوةٍ عندما نضع في الاعتبار أن مهمة فيصل بالأساس هي صناعة هذا الشعب أو هذه الأمة، طالما أن بداية مشروع الدولة كانت معه. فمن غير المعقول أن تأتيه أمةٌ وطنيةٌ من السماء والفراغ، أو تتحقق بوقتٍ قصيرٍ، أو تأتيه بمساعدة احتلال يتدخل في كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ حتى تصل الوقاحة لأن يصف بيرسي كوكس ما فعله من قصف للمتمردين، أيام مرض فيصل، بأنه تأديب للمتمردين ولفيصل نفسه!
كان الملك غازي ضعيفاً في شخصيته مقارنةً بفيصل الأول، ولنا أن نتصوّر حجمَ المشكلة حينئذٍ. بوقته بدأ العد التنازلي باتجاه عدم الثقة بمؤسسة الجيش، حتى دق نوري السعيد ساعةَ الصفر بذلك بعد انقلاب العقداء الأربعة والاحتلال البريطاني، فجَرَتْ عمليةٌ ممنهجةٌ ومقصودةٌ لإهمال مؤسسة الجيش، رغم أن الضباط الشريفيين، والسعيد منهم، كانوا يقاتلون من أجل إقرار قانون التجنيد الإلزامي، والبريطانيون وحلفاؤهم العشائريون كانوا عقبةً بطريقه لأكثر من مرةٍ. ذلك علاوةً على إهمال وضعية المزارعين القاسية بظل النظام الإقطاعي، وإهمال مطالب طبقة العمال الصناعيين رغم أنهم وليدو النظام الملكي بظل الدخول في المرحلة الصناعية الرأسمالية. كذلك الأمر مع البرجوازية الوطنية، كما أشير سابقاً، حيث انسدت مسارات التمثيل السياسي، وبقيت بعض المسارات النقابية بوصفها مؤسسات مجتمع مدني تناصر حقوق المنتمين لها في قطاعات العمل الحكومية وغير الحكومية. أما فيصل الثاني، فهو شاب لم يعرف شيئاً عما يدور بين خاله عبد الإله وممثل الدولة العميقة آنذاك نوري السعيد، لكنه أصبح بطلاً أكثر من فيصل الأول لمجرد كونه قد قُتِل ظلماً. وهنا دور التخييل التاريخي الذي لا يترك شيئاً على حاله كما هي العادة.
مع العهد الجمهوري، أي مع قاسم والعارِفيَنِ والبكر وصدام، استمرت عمليةُ إلغاء وتعطيل ما تبقى من مؤسسات التمثيل المجتمعي، علاوة على ما تبقى من مسارات التمثيل السياسي. فكان رئيس الوزراء غالباً نفسه رئيس الجمهورية، نفسه وزير الدفاع أو الداخلية، ورئيس حزبه أيضاً. هذه الحالة تعني افتقاد المؤسسية بدرجاتها التصاعدية. ودرجات افتقاد المؤسسية نفسها درجات الدكتاتورية، وحدودها القصوى هي الشمولية كما حدث مع صدام حسين، حيث الشمولية هي استبدادية في كل المجالات، حتى الثقافية منها. فمع الشمولية ملئت المؤسسات النقابية بمريدي الحزب الحاكم علاوةً على دوائر الدولة. انغلاق مسارات التمثيل السياسي والنقابي أحدث انفجاراتٍ هائلةً، وكان، وفق بعض الباحثين، السرَ خلف نشوء الحركات الشعبوية التي لا تؤمن بالدولة وارتمت بالكامل للاستثمار بالمجال الديني في أبشع صوره والتي نعيشها حالياً.
وفي الختام، من غير اللائق بالبحث النقدي أن يبرِّر احتلالاً باحتلالٍ، وكذلك من غير اللائق أن يبرِّر استبداداً باستبداد، وأيضاً عليه أن لا يبرِّر مجزرةً بمجزرةٍ، أو دماء بدماء. هنا لا تجري عمليةُ تبريرٍ لما يقترفه هذا ضد ذاك، بل تجري عملية فهمٍ للسياقات والظروف. فالأفعال المشينة تبقى في أفق الرفض، ولا تتغيّر من الرفض إلى القبول لو مُوضِعت في سياقات الفهم.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
هنالك قولان شائعان جداً في أوساطنا الاجتماعية والأكاديمية، تصعب مواجهتهما دون ثمنٍ، وهما على طرفي نقيضٍ. يقول الأول إن علينا ترك الماضي، فالأمم المتطورة لا تعبأ بالماضي أبداً. أما الثاني فيقول إن علينا دراسة الماضي “موضوعياً” لأنه سبب ما نحن فيه.
بخصوص القول الأول، فهو ينطلق من تشخيص الصراعات حول مسائل يعتبرها قد انتهت وولت ولا قيمة لها في حاضرنا حتى لو كان قبل قرنٍ فقط. وهو هنا ينسى أن الأمم ليست فاقدةً للذاكرة، بل ما هي سوى الذاكرة، وتحديداً الذاكرة المشتركة لا سيما لو تعلق الأمر ببناء وطنٍ ودولةٍ. فالنظر إلى الماضي نقدياً ليس ضد الماضي، بل ضد النظرة التقديسية والتعسف والانتقاء، وما من أمةٍ متطورة بالفعل إلا وقد انطلقت من دراسة ماضيها بكثافةٍ.
أما القول الثاني، فهو يفترض إمكان الموضوعية في دراسة التاريخ، وهذا أمرٌ متعذرٌ. فالماضي موضوع صراعِ تأويلاتٍ. ويكاد استخدام مقولة الموضوعية لتخليص الناس من أوهامهم عن التاريخ أن يكون وهماً محضاً. ومن يرى كونه مؤوِّلاً من بين مؤوِّلين، فهو سيتواضع أمام الفجوة الوجودية بينه وبين حقائق الأشياء، ويحاول إنطاق مسكوت التاريخ ونقد أوهام الحقائق الموضوعية.
ومن هنا ينبغي وضع فكرة “الماضي سبب ما نحن فيه” تحت دائرة المحاسبة. فنحن دائماً معاصرون، ولا نعيش في الماضي. حتى أشد السلفيين في تقديسهم للماضي ومعاداتهم للحداثيين هم في الحقيقة معاصرون، ينطلقون من همومٍ معاصرةٍ، وبسبب هذه الهموم تجري استعادة الماضي ليجيب عن هذه الإشكاليات المعاصرة. إذن، الماضي صنيعة الحاضر، أي هو تأويل الحاضر لما مضى، وليس منفصلاً عنه، موضوعياً، معطى في العراء، وشفافاً. من يرى إمكان الموضوعية في دراسة التاريخ فهو إما يبجِّله أو يرفضه، بحسب النتيجة التي يخرج منها حوله. أما الدراسة النقدية، فلا تتفق مع هذا أو ذاك، فهي تكشف عن أوهام الموضوعيين عن واقع التاريخ، ولا تكشف عن هذا الواقع بموضوعية، لأن واقع التاريخ أمرٌ يتعذر علينا استكناهه. المسائلة النقدية تفضح منظورَنا للماضي، وتضع العيبَ في هذا المنظور الذي لا يعترف بالفجوة بينه وبين الواقع التاريخي. فمن منا يعرف الحاضر بدقته حتى يعرف الماضي بدقته؟
الكثير يختلف حول الحاضر، فهنالك توجهاتٌ جمةٌ، ونحن نسعى لفهم الحاضر الذي نعايشه آنياً، فكيف لنا إذن ادعاء فهم ماضٍ ليس عندنا منه سوى كتاباتٍ متناثرةٍ؟
العشائر بين العثمانيين والإنكليز
في التاريخ العراقي، يُطرَح سؤال مزمن: لماذا لم تنتفض العشائرُ ضد العثمانيين مثلما انتفضت ضد البريطانيين؟ سؤال يطرح لا من أجل البحث عن إجابةٍ، بل هو سؤالٌ استنكاري يحمل إجابةً مسبقةً تقول إن النزعة الدينية قبِلت بالمحتل الإسلامي رغم خرابه، ورفضت المحتل المسيحي رغم بنائه.
ولأول وهلةٍ يبدو هذا الجوابُ مقنعاً، ففي بعض الوثائق (تقارير المس بيل مثالاً لا حصراً) هنالك ما يفيد محاربة العشائر للاحتلال الإنكليزي أول دخوله للعراق بدافع الانتصار للعثمانيين بوصفهم إسلاماً ضد الكفر المسيحي الذي هو استمرارٌ للصليبيين. لكن السؤال المفصلي هو، هل أن الأفكار الدينية تحرِّك الواقع تحريك الحصان للعربة أم أنها تتلابس مع الواقع بأكثر من وجهٍ؟ بحسب المنظور الأول فإن الأفكار الدينية، وعموم الأفكار بعامة، لها الاستقلال المطلق عن الواقع بحيث تمارس عليه السلطة وتحرّكه يميناً شمالاً كيفما تشاء. لكن البديل عن ذلك هو أن الأفكارَ مستقلةٌ نسبياً وليس بالمطلق، وتختلف درجاتُ نسبيتها هنا وهناك. بالطبع ليست الأفكارُ خاضعةً للواقع وصراعاته خضوعاً تاماً كما يرى أنصار الموضوعية الواقعية، بل الأمر هنا هو أن الأفكارَ مسيَّرةٌ ومسيِّرةٌ. الأفكار وعموم الإيديولوجيات أشبه بالمخزون الذي ينمو بتعاطيه مع الظروف، فالأفكار يجري تفعيلها بهذا الاتجاه أو ذاك، أكثر من كونها تمارس اتجاهاً واحداً لا محيد عنه.
والحال، فإن هناك مخزوناً رمزياً على شكل إيديولوجيا دينيةٍ جرى توظيفه في صراع ليس إيديولوجياً في خطوطه العريضة، بل هو صراع مصالح بالدرجة الأولى. وهذا ما تعزِّزه الانقساماتُ بين العشائر آنذاك.
كان أكثر العشائر متحالفاً مع الإنكليز، وليس ضدهم، سواء في بداية دخول الاحتلال البريطاني 1914، أو بعد إكماله في 1917. فالعثمانيون لديهم مشكلةٌ معضِلةٌ مع العشائر، ولم تكن العشائرُ يوماً متصالحةً معهم. كل والٍ يولى على العراق، أيام الحكام المماليك، يبسط قوته على العشائر، فيقتل منهم مقتلةً كبيرةً ليظهِر حزمَه وجديته، لكونهم يهددون استقرار الأوضاع بفعل كون أغلبهم من البدو المترحلين، والطالبين للأتاوات، والساعين باستمرارٍ للغزوات ومعارك الثأر. بل أكثر من ذلك، إن البدو لم يكونوا ذوي نزعةٍ دينيةٍ واضحةٍ في أغلب فتراتهم التاريخية. إذن، العشائر أغلبها بدو، والبدو ليسوا متدينين، وليسوا بصلحٍ مع العثمانيين.
حاول العثمانيون تطبيقَ سياسة العثمنة لبسط مركزية إمبراطوريتهم المترهلة على ديموغرافيا البدو. فلأجل تفكيك الاتحادات القبلية الواسعة جرى تمليك بعض العشائر دون بعضها الآخر. فكان هذا من شأنه أن يجعل تلك العشائرَ تستوطن في المناطق الزراعية بدل الترحل والصراع على الموارد. وكذلك من شأن هذا الأمر أن يجعل عشائرَ أخرى تبطل رابطةَ الاتحاد معها لانتفاء الغرض من هذا الاتحاد المبني على وحدةِ الهدف. فانقسمتِ العشائرُ البدويةُ قسمين هنا، بعد أن كانت جبهةً واحدةً ضد العثمانيين، قسم قليل مع الدولة العثمانية بحكم المصلحة، وقسم ضدها بحكم المصلحة أيضاً.
تنعّم القسمُ القليل الأول بتمليك الأراضي، إذ تحوّل الشيوخ إلى ملاكٍ إقطاعيين، وحرم منها القسم الثاني، وهو الأكبر، أو أصبح قليل الحظوة بها مقارنةً بغيره.
كانت الأغلبيةُ الساحقةُ من العشائر الجنوبية متمذهبةً بالمذهب السني، وعندما جرت عملياتُ توطينها دخل الكثيرُ منها المذهبَ الشيعي، تحديداً عشائر الوسط، وذلك بحكم قربها من كربلاء والنجف بوصفهما مركزين دينيين عريقين. ولهذا السبب أصبح الشيعةُ أغلبيةً فجأةً، بعد أن كانوا أقليةً مقارنةً بالسنّة المسيطرين على عموم المناصب الإدارية.
حاربتِ العشائرُ المستفيدةُ من سياسة العثمنة ضد الاحتلال البريطاني، بينما العشائر غير المستفيدة، والمشكِّلة للأغلبية، فكانت تميل للبريطانيين. كانت سياسةُ البريطانيين جعلَ النزعة العشائرية أقوى، وإرجاع الاتحادات القبلية، وذلك على عادتها بمناقضة كل ما فعلته الإمبراطوريةُ العثمانيةُ سابقاً. فلأجل إسقاط إمبراطورية، يجري التركيزُ على الذين همّشتهم هذه الإمبراطوريةُ، وذلك لخلق قاعدة مستفيدين صلبة توظَّف لمحاربة المستفيدين السابقين من تلك الإمبراطورية. لم يكن الإنكليز ضد العشائر يوماً حتى يُشاع أنهم جاؤوا بالتطور الذي رفضته العشائر بحكم نزعتها الدينية التخلفية. فإذا كان هنالك من تخلف، فسيشترك به البريطانيون والعشائر على حد سواء، وإلا فلا. والخلاصة هي أن العشائر، البدوية تحديداً، كانت ضد العثمانيين، وفي آخر فترة من عمر الدولة العثمانية، وتحديداً مع سياسة الإصلاحات التنظيمية، أصبحت الأقليةُ منها معها والأغلبيةُ لا زالت ضدها. ومع البريطانيين أصبحت الأغلبيةُ مع الاحتلال والأقليةُ ضده.
ثورة العشرين وولادة الوطنية العراقية
تجري عملية إسقاط للحاضر على الماضي، وبشكلٍ فجٍ. يتصور معظم الناس أن ما نتصوره عن الوطنية هو ذاته ما كان في السابق، أو ينبغي أن يكون، وإن لم يوجد فسبب ذلك هو التقصير حتماً.
بينما، وعلى العكس، فإن النزعة الوطنية تبنى بالتدريج، هذا من جهةٍ، ولا تتواجد دائماً على طول خط التاريخ، لكونها مقولةً حديثةَ النشأة من جهةٍ أخرى. كل فترةٍ تاريخيةٍ، طويلة أو قصيرة، لها أفقها الخاص من التفكير يختلف عن أفق غيرها، وذلك بحكم عدة عوامل منها الظروف. لم يعرف شيء ذو بال عن الوطنية حتى بداية القرن العشرين، وقد انبثقت في تركيا العثمانية كما انبثقت في الأرض العربية الخاضعة لإمبراطورية العثمانيين. ففكرةُ ضرورة الانتماء لوطنٍ، تحده حدودٌ قوميةٌ، لم تطبَّق لمجرد الاحتكاك المعلوماتي والمعرفي مع الغرب، بل بالدرجة الأولى بفعل صعود قوى جديدةٍ على أرض الصراع هي نتيجة التغيّرات الجوهرية التي تركها الانفتاحُ على قوى الرأسمال العالمي. فالصراع العالمي فرض نفسَه بالإكراه، ونتيجة ذلك تغيّرت معادلاتُ الصراع، وبرزت ضرورة إنشاء دولٍ ذات طابعٍ قومي، لها حدودٌ ومؤسساتٌ بالضد من الإمبراطوريات ذات النزعة الدينية تحديداً. وهذا الأمر ينفي الفكرة المثالية عن تحرّك الدول الاستعمارية، الرأسمالية بالضرورة، لتخليص المجتمعات من سطوة السلطة العثمانية، مُلقيِن في وعي مجتمعاتنا فكرةَ الانتماء للوطن بدل الانتماء للجامعة الإسلامية! وكذلك ينفي هذا الأمر الفكرةَ القائلةَ بقصور أو تقصير المسلمين عن إنتاج فكرة الوطنية قبل أن ينوِّرهم بها الأوروبيون! معرفة الشيء لا تكفي لتطبيقه، بل بحاجةٍ للظروف، والظروف لا تحقِّق عملياً ما يُعرَف نظرياً فحسب، بل إنها قد تنشئ المعرفة أصلاً، أو تعدِّلها.
كثيراً ما نصادف الأسطورة القائلة: لم تحدث ثورة العشرين إلا بظل البريطانيين الذين جاءونا بالتطور، ولم تحدث أمثالها مع العثمانيين طيلة 400 سنة من التخلف!
علاوة على الإسقاط التاريخي الذي أشير إليه أعلاه، فإن المسكوت عنه في هذه الخرافة هو تبرير الاحتلال والاستعمار لمجرد أنه يخلِّص من احتلالٍ سابقٍ، أو لنقل من معضلةٍ سابقةٍ قد لا تكون احتلالاً بالضرورة. وهو نفسه، ما نعيشه حالياً، بتبرير الاحتلال هنا أو هناك، أو إغفال نقده كأولوية، لمجرد أن الطرف المعارض يمارِس سلبياتٍ معينةً أو يتطلع إليها في أفقه النظري؟ لماذا لا يرفضان معاً وعلى حد سواء؟
كما أن هنالك تناقضاً في هذا الادعاء القائل بمجيء البريطانيين بمقولة الوطنية، إذ كيف هي وطنيةٌ وبالدرجة نفسها مفروضةٌ من قبل طرفٍ لا ينتمي للوطن نفسه؟! هذا الأمر يفتح لنا باباً نقدياً مهماً، وهو أن البريطانيين يقفون مع كل شيء طالما لا يقف ضدهم، فللقومية والوطنية والسيادة مفعولٌ إيجابي بنظرهم عندما يكون ضد غيرهم، وإذا أصبح ضدهم فمفعولها سلبي بالضرورة. هذه المقولات لها حدود صلاحية في أفق التفكير الكولونيالي. من جهةٍ أولى لم تكن أفكار الدولة والسيادة والوطنية من ابتداع الكولونياليات البريطانية والفرنسية والأمريكية بشكلٍ صرفٍ، وبمبادرةٍ محضةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، لم تطبَّق على أرض الواقع باتجاه حدودها القصوى بما يفيد سكان البلاد المحتلة، إذ جرى توجهيها وفق حدود صلاحيةٍ معينةٍ.
قدم الإنكليز وعداً للعراقيين بإنشاء دولةٍ عربيةٍ مثلما وعودوا السوريين. وبعد تحقق هذه الدولة في سوريا، شعر العراقيون بالحيف، فسارعتِ المعارضةُ الوطنيةُ خطاها، وزاد الشحن، خصوصاً بعد افتضاح أمر معاهدة “سايكس-بيكو” و”وعد بلفور” المخالفين لمقتضى الوعود السابقة. دخلت أمريكا على الخط، فضغطت باتجاه إنشاء دولةٍ بالعراق لتمارس الضغط على البريطانيين، كيلا يتحوّل العراقُ لمستعمرةٍ بريطانيةٍ تدر الربح على بريطانيا فقط، ولم يكن هذا الضغط من أجل أن يتنعّم العراقيون بدولتهم.
ناصر الإنكليز، والحال هذه، فكرةَ الدولة العراقية كي لا يكون تابعاً للإمبراطورية العثمانية، مع ما للدول من مخاطر عليهم بسبب الطبيعة الاستقلالية لها، لذلك وافقوا على مضضٍ، ووافق الأمريكيون على ذلك ليمارسوا نصيبهم من النفوذ، وناصرت العشائر ذلك لتتخلص من حيف العثمانيين ولتنال مصالحَها، وناصر الوطنيون المدينيون، ذوي التعليم الحديث، ذلك لتحقيق رؤاهم الوطنية الخاصة. وهكذا هو الأمر، يجتمع الكثير من الخصوم على أمرٍ واحدٍ لدواعٍ مختلفةٍ. ومثل ذلك ما ذكرته المس بيل بخصوص ثورة العشرين في كتاب “مؤسسات الدولة العراقية”، إذ لم تكن ثورة العشرين تحت قيادة أحد، شارك الجميع فيها انطلاقاً من دوافع مختلفةٍ. فهي لم تكن بقيادةٍ دينيةٍ رغم مشاركة مرجعية النجف وكربلاء فيها، ولم تكن عشائريةً محضةً رغم كون شرارتها وعناصرها عشائريةً. فالوطنيون في المدينة استثمروا الثورة وأخذوها نحو حدودها القصوى في أجنداتهم الوطنية إعلامياً، رغم عدم مشاركتهم فيها على أرض الواقع، ولذلك كانت النتيجة الأهم للثورة تسريع إنشاء الدولة العراقية بعد تردد الإنكليز ومماطلتهم في تطبيق وعودهم. لم تنجح الثورةُ، في النهاية، لكنها سرّعت من خطى إنشاء الدولة الملكية، تلك الدولة التي يقدِّسها اليمينيون وبذات الوقت يدنِّسون القائمين بالثورة! وذات الأمر يحدث عندما يعادون العشائر ويصفونهم بـ”المعدان”، بينما الملكية بعهد غازي وفيصل الثاني تحالفت مع العشائر ضد الجيش وضد الانتلجنسيا الوطنية، وضد الطبقات العمالية والوسطى الناشئة.
الأمر اللافت هو أن ثورة العشرين لم تكن مذهبيةً، لكن اليوم يجري استثمارها مذهبياً بشكلٍ مؤسفٍ. تؤسطَر الوقائعُ التاريخيةُ بمرور الزمن وفق أغراض الشخص المؤسطِر. وهذا يرجعنا إلى فكرة تأويلية التاريخ وعدم موضوعيته. قد يكون مقبولاً من الناحية العملية أسطرة التواريخ الوطنية على أن لا يطال ذلك الدرسَ الأكاديمي، وهو ما يحدث مع جميع البلدان، حيث يسمى ذلك بـ”الأساطير المؤسِّسة”، فهي أساطير ذات طابع صحي لكونها تغذّي الذاكرةَ المشتركةَ بوصفها تعزِّز الانتماء الوطني الجامع. لكن ماذا نسمّي ما يحدث في العراق، حيث تجري عملية أسطرة بالاتجاه المعاكس، أسطرة مذهبية (ثورة الشيعة أو ثورة السنة) أو جهوية (ثورة الجنوب أو ثورة الغربية)؟ تجري هنا عملية احتكار الوطنية لصالح طرفٍ ضد طرفٍ آخر داخل الوطن نفسه، وهي عملية تقع على نفس أفق العملية السابقة والتي تنزع الوطنية من الكل وتضعها في حضن الإنكليز! ربما تصلح تسميةُ هذا النوع من التعسّف التاريخي بـ “الأساطير المهدِّمة”. إن لم تؤسِّس الأساطيرُ الوطنَ، كجامعٍ مشتركٍ، فهي تهدِّمه عبر احتكاره لصالح المحتل أو لصالح طرفٍ داخلي واحدٍ.
عبد الكريم قاسم بوصفه زعيم الخراب
هنالك مجموعة خرافات أخرى تتمحور حول عبد الكريم قاسم، من ناحية المخالفين وكذلك المؤالفين. أخطرها هي أن عبد الكريم قاسم هو مؤسس سُنّة الانقلاب والدموية، حيث مشى على إثره من جاء بعده. هذه الفكرة غير تاريخيةٍ، أي أنها لم تتفحص جيداً التفاصيل السابقة. والإشكال الأول الذي يثار بوجه جزءٍ من هذه الفرضية: إذا كانت الملكية بتلك المثالية، كيف تمكّن قاسم من اختراقها عبر ثلاثة أفواج فحسب؟ لم يكن عدد الضباط الأحرار عشية الثورة سوى 200 ضابط، ورغم ذلك لم يطح قاسمُ بالملكية عبر هؤلاء جميعهم، بل هو في آخر أيام ما قبل الثورة عمل مع عبد السلام عارف بمعزل عن البقية، وهو ما أثار حساسيتهم لاحقاً. إذا كانت الملكيةُ مثاليةً من ناحية كونها دولةً قويةً، فيفترض أن لا تسقط بهذه الطريقة البسيطة التي تذكرنا بسقوط الموصل بظل حكومة المالكي! وإذا كانت مثاليةً من ناحية القبول الاجتماعي الواسع (الشرعية)، لكونها تحقق مصالح الشعب، فكان يفترض أن لا تناصر الأغلبيةُ قاسم وتخرج معه وترجِّح كفته، فتحسِم المعركةَ شعبياً بظل الضعف العسكري الواضح لقوى الانقلاب عدةً وعدداً.
إذن، كانت الملكية تفتقد للقوة المادية والقوة الاجتماعية على حد سواء، فما هو سر قوتها في فترات سابقة؟
كان السر يكمن في دعم الاحتلال الإنكليزي لها عبر خلق قاعدةٍ اجتماعيةٍ لها من الملاك الكبار. وبعد خروج الإنكليز حصلت بعض الانقلابات كانقلاب بكر صدقي 1936، وانقلاب العقداء الأربعة 1941، مما اضطر الإنكليز إلى احتلال العراق ثانيةً. لكن مع أفول الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية، افتقدت الحكومةُ الملكيةُ سر ديمومتها للأبد، فوضعها ذلك أمام نهايتها المرة.
وبخصوص جزئية الدموية، فإنه من الصحي رفضها وعدم تبريرها بأي شكلٍ من الأشكال، لكن ينبغي أن يقال، من أجل الدرس التاريخي النقدي، إن الاحتلال سفك الكثير من الدماء حتى وصل الأمر للقصف بالطائرات، والحكومات الملكية سفكت الدماء أيضاً، تحديداً مع وثبة 1948 وانتفاضة 1952 وانتفاضة النجف 1956. كانت معروفة آنذاك المشانق أمام أنظار العامة وتعليق الجثث عدة أيام مثلما حدث مع رموز الحزب الشيوعي، فهد ورفيقه مثالاً لا حصراً، علاوة على مجزرة الآشوريين في الثلاثينيات. فلا الانقلابات بدأت مع قاسم، ولا سفك الدماء بدأ معه. انقلاب قاسم هو استمرار لعدة انقلابات بدأت سابقاً ولم تنجح لظروفٍ معينةٍ، فنجح قاسم بعد زوال تلك الظروف. أما سُنّة الدماء فليست مطردةً كما يُتصوَّر، فلم يقتل عارفُ قاسمَ بل حاكمه، ولم يقتل البكرُ عارفَ الثاني بل نفاه، ولم يقتل صدامُ البكرَ بل عزله.
لكن لنركز على المشهد الدموي القاسمي بالذات. لم يقتِل قاسم، ولا مساعده عارف، العائلةَ المالكةَ، فقاسم لم يكن حاضراً في القصر آنذاك. من قتله هو ضابط أصبح نصيراً للثورة نتيجة سماعه لبيان الثورة من الإذاعة فدخل فجأةً وفتح الرشاش على العائلة المالكة الواقفة قبال مجموعة ضباط بشكل نصف دائرةٍ، وقد كان من الضحايا ثلاثة من الضباط أساساً. كذلك بخصوص ثورة الموصل ضد البعث في آذار 1959، أو ثورة كركوك، في تموز 1959، أيام حكم قاسم. مع ثورة الموصل كان الصراع بين الشيوعيين والبعثيين بالدرجة الأساس، وبالطبع يؤخَذ على قاسم السكوتُ عنهم والاستثمارُ من خلالهم. أما في ثورة كركوك، فكان الصراع بين الشيوعيين الكرد ضد التركمان، فحتى القيادة الشيوعية لم تكن مسؤولةً عن ذلك علاوةً على قاسم نفسه، رغم تهاون القيادة الشيوعية في منع الأمر أو شجبه، وهذا الأمر جعلهم يتحمّلون التبعاتِ، ونالوا ما نالوا من قاسم جراء ذلك.
وهذا يقودنا إلى أمرٍ مهمٍ، هو دحض خرافة شيوعية قاسم. لم يكن قاسم شيوعياً مطلقاً، فهو يحابي هذا ضد ذاك بين الفينة والأخرى، لكنه لم ينتمِ لأحدٍ. تذبذبت محاباتُه بين البعثيين والشيوعيين لموازنة الواحد بالآخر، مع أن أكثر محاباته كانت لصالح الشيوعيين، وذلك بسبب كونهم مستحوذين على القاعدة الجماهيرية. ورغم ذلك، بعد أن قضى على البعثيين، فإنه بطش بالشيوعيين وأضرهم أيما ضررٍ في سنة 1962، حتى أنه لم يقبل بتسليح الحزب الشيوعي للدفاع عن حكومته أثناء انقلاب شباط 1963. ولو سلّحهم لربما كان هنالك مسارٌ آخر لا يعجِب بالطبع اليمينيين الناقمين على قاسم والمتهمين إياه بالشيوعية!
هناك خرافةٌ أخرى، ذات بعدٍ مناطقي، تقول إن قاسم جاء بـ”الشروگ” إلى بغداد، فأثّروا سلبياً أيما تأثيرٍ على الوضع الديموغرافي للبلد. طبعاً من يُسمَون بـ”الشروگ” هم المهاجرون من مناطق شرق دجلة في لواء العمارة وقد سكنوا في أطراف بغداد. لو تفحصنا الأمر لوجدنا أن الهجرةَ بدأت بكثافةٍ منذ الأربعينيات، ولم تبدأ مع قاسم. وأسباب الهجرة تتحملها الدولةُ بكافة تفاصيلها، لكون المهاجرين هم أبناء العشائر الذين ألحقت الإقطاعيةُ بحياتهم حيفاً هائلاً، فعانوا الفقر وقلة التغذية وانعدام الاهتمام الصحي. كانوا يهاجرون للعاصمة من أجل العمل لا بطراً وسياحةً وتقصداً لاستغلال موارد العاصمة ومزاحمة أهلها! أولاهم قاسم عنايةً خاصةً، فهم يمثلون أسفل السلم الطبقي، وبالتالي هم قاعدته الشعبية ومن شأنها تثبيت قوائم حكمه. ومن ضمن ما حققه لهم هو تملكيهم قطع أراضٍ في مدينةٍ سميت بـ”الثورة”.
لم تكن الإقطاعيةُ رفيقةَ العشائر الأزلية، حتى يجري النواح عليها والبكاء على أطلال فردوسها. فهي ظاهرةٌ حديثةٌ جاءت بفعل سياسة العثمنة في أواخر القرن الثامن عشر، وغذّاها الإنكليز بقوةٍ في حقبة الحكم الملكي. كانت العشائر أما بدويةً بشكلٍ صرفٍ، أو زراعيةً بنحوٍ بسيطٍ لا علاقة له بامتلاك الشيوخ للمقاطعات الكبرى، إذ كان هنالك ما يسمى بـ”الديرة”، وهي أرض للرعي المجاني يشترك في ملكيتها أبناء العشيرة مع شيخهم على حدٍ سواء.
بمجيء الإقطاعية تحوّل الشيوخُ إلى ملّاكٍ كبارٍ يفرضون أنفسهم على أبناء عشائرهم بقوة “الحوشية” تحت غطاء الاحتلال الإنكليزي. فصلَ الإنكليزُ أبناء الريف عن أبناء المدن لكون المدينة موئل المعارضة لحكم الاحتلال وسياساته بما تحتويه من طبقة مثقفة ذات نزعةٍ استقلاليةٍ. وصل الأمر لأن يُسَن قانونٌ خاصٌ بالمدن وآخر بالريف، وبهذه الطريقة يُقرأ على برنامج الاندماج الوطني السلامُ. من يعصي شيخ عشيرته، فلشيخه أن يعاقبه وفق قانون العشائر الخاص، وإذا هرب فلحكومة الاحتلال أن ترجِعه قسراً إلى عشيرته!
بظل هذه الظروف الإقطاعية، المترفة للشيوخ والقاسية على المزارعين، عانى المزارعون ما عانوا لحدودٍ لم تعد قابلةً للتحمّل. كل ذلك يمثِّل السياق التاريخي للهجرة نحو العاصمة، مع أن هنالك هجرةً أيضاً حدثت باتجاه البصرة، وقبلها كانت الهجرة التي حدثت برعايةٍ عثمانيةٍ للعشائر من الصحراء صوب المناطق الزراعية والمدن المقدسة ومحيطها.
كما أن ذلك يمثِّل أيضاً سياق نشوء طبقةٍ عماليةٍ معاديةٍ للحكومات الملكية التي لم تنصفها لا عندما كانت عمالة زراعية ولا عندما هاجرت وتكدست فوق بعضها بوصفها عمالة غير ذات مهارة وتُستغَل بأبخس الأثمان. أما البرجوازية الوطنية، أي الطبقات الوسطى، فوجدت نفسها أمام مسارٍ سياسي مغلقٍ، فكان التمثيل البرلماني يحابي الشيوخ ومناصري الاحتلال أكثر من غيرهم.
بالإضافة إلى الانتخابات التي جرت أواخر العهد الملكي، وهي الوحيدة التي جرت وفق معايير جيدةٍ، لكن نهايتها انتهت بإلغاء نوري السعيد لها، وجعلها ذات مرحلتين، فكانت تلك خاتمةَ ما كسر ظهرَ بعير الملكية التي دائماً ما كانت تنمو النظرةُ السلبيةُ تجاهها على أنها نصيرةُ الاحتلال أكثر من الشعب.
ضرورة الدكتاتورية
نصادف بشكلٍ دائمٍ ولحد الملل القول بأننا نحتاج لدكتاتور، وأن حكم القانون لا ينفع مع هذا الشعب، فشعبنا “ماله جارة”، إذ لا يناسبنا قانون ولا ديمقراطية. ويجري الاستشهاد بمواقف انتقائيةٍ تصلح للتأويل في أي اتجاه يشاء القائل. فقضية “ليس للشعب العراقي جارة” تصلح للدفاع عن فكرة ضرورة الدكتاتورية، ولفكرة الضد منها. فهناك كثيرون يتعكزون على هذه المسبقة الثقافية لبناء افكارهم عن الشعب العراقي بأنه صانعُ الدكتاتوريات والمستبدين.
السؤال المشكِل هو: متى تحقق حكم القانون بالتمام، ونتائجه كانت سلبية، لكي نحتاج لما هو أكثر من القانون لمعالجة تلك السلبيات التي لم يعالجها حكم القانون وحده؟ هذا الإشكال يكشف عن التحيّزات الثقافية المسبقة، فمعروفةٌ لدينا كمية الفساد الإداري والسياسي، ونوايا أو توجهات أجهزة الحكم التي آخر ما يهمها تحقيق حكم القانون. فكل حقبةٍ وحكومةٍ جاءت على إثر مشاكل وثغراتٍ بنيويةٍ عميقةٍ، وخلّفت مثلها عندما ولّت. لا يوجد توازنٌ بين الراحل والآتي، كلٌّ يزايد على من قبله بمشاكله الخاصة. وهذا سبب عدم حصول التداول السلمي للسلطة، فكل سلطةٍ تأتي عبر انقلابٍ أو احتلالٍ. ومعلوم أن التداول السلمي ليس سببَ التوازن والاستقرار، بل هو من نتائجه. قمع المعارضة في زمنٍ يجعلها، عندما تتسنّم السلطةَ، تقمع من يعارضها وهكذا.
من هنا، يظهر عدم جدوى الذهنية الثقافية التي تضع كلَّ اللوم على المجتمع، إذ أن المجتمع ليس كليةً واحدةً لا اختلاف فيها ولا تشظٍ، أي لا معنى للحديث عن مقولة العقل الجمعي. ومثلما رأينا مع ثورة العشرين، فإنها من حيث الزمن اللاحق اعتاشت على تأويلاتٍ متغايرةٍ مع بعضها، ومن حيث زمنها آنذاك اجتمعت عليها عدة قوى مختلفة مع بعضها في وجهات نظرها أشد الاختلاف، بما يدحض وجود عقلٍ جلمودي واحدٍ يوجِّه كلَّ، أو أغلبَ، أفعال الشعب العراقي ويمكن الحكم عليه بجرة قلمٍ ساخطةٍ.
الدكتاتورية أهم سببٍ للمشاكل التي تحصل دائماً، وهذا ليس ضد العوامل الخارجية، بل في طولها، حيث كثيراً ما نرى القوى الخارجية تدعم هذه الدكتاتورية أو تلك. والدكتاتورية ليست عميلةً دائماً، بل هي أيضاً قد تكون وطنيةً. فالسيادة نوعان، نوع خارجي ينعدم بالاستعمار أو الاحتلال أو العمالة، ونوع داخلي ينعدم باستثناء هذا أو ذاك من حكم القانون.
الانتماء للوطن لا يحقِّق السيادةَ الداخليةَ بالضرورة، ومن هنا تعتكز الدكتاتورياتُ على النزعة الوطنية لتبرير استبدادها طالما مقصودها إبعاد التدخلات الخارجية فحسب.
انعدمت السيادة الخارجية بظل العهد الملكي، لكن تحققها في العهد الجمهوري، وانطلاق الجمهوريين من الأفق الوطني والقومي، لم يعالج المشاكل المعضِلة للدولة العراقية، وذلك لكون هذه الحكومات كل همها محاربة الخارج، دون أن تعمل على مشروعٍ وطني داخلي طويل الأمد، مشبعٍ بحكم القانون. عمل فيصل الأول على مشروع للاندماج الوطني، فلم يمهله عمره الوقتَ المناسبَ، لكنه قبل وفاته بنفسه شعر بالفشل. والمفارقة أنه بدل أن يلوم الاحتلال الذي أعاق كثيراً من نقاط هذا المشروع، ذهب باتجاه لوم الشعب العراقي نفسه، وذلك في رسالةٍ مشهورةٍ عنه. وتزداد المفارقةُ بقوةٍ عندما نضع في الاعتبار أن مهمة فيصل بالأساس هي صناعة هذا الشعب أو هذه الأمة، طالما أن بداية مشروع الدولة كانت معه. فمن غير المعقول أن تأتيه أمةٌ وطنيةٌ من السماء والفراغ، أو تتحقق بوقتٍ قصيرٍ، أو تأتيه بمساعدة احتلال يتدخل في كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ حتى تصل الوقاحة لأن يصف بيرسي كوكس ما فعله من قصف للمتمردين، أيام مرض فيصل، بأنه تأديب للمتمردين ولفيصل نفسه!
كان الملك غازي ضعيفاً في شخصيته مقارنةً بفيصل الأول، ولنا أن نتصوّر حجمَ المشكلة حينئذٍ. بوقته بدأ العد التنازلي باتجاه عدم الثقة بمؤسسة الجيش، حتى دق نوري السعيد ساعةَ الصفر بذلك بعد انقلاب العقداء الأربعة والاحتلال البريطاني، فجَرَتْ عمليةٌ ممنهجةٌ ومقصودةٌ لإهمال مؤسسة الجيش، رغم أن الضباط الشريفيين، والسعيد منهم، كانوا يقاتلون من أجل إقرار قانون التجنيد الإلزامي، والبريطانيون وحلفاؤهم العشائريون كانوا عقبةً بطريقه لأكثر من مرةٍ. ذلك علاوةً على إهمال وضعية المزارعين القاسية بظل النظام الإقطاعي، وإهمال مطالب طبقة العمال الصناعيين رغم أنهم وليدو النظام الملكي بظل الدخول في المرحلة الصناعية الرأسمالية. كذلك الأمر مع البرجوازية الوطنية، كما أشير سابقاً، حيث انسدت مسارات التمثيل السياسي، وبقيت بعض المسارات النقابية بوصفها مؤسسات مجتمع مدني تناصر حقوق المنتمين لها في قطاعات العمل الحكومية وغير الحكومية. أما فيصل الثاني، فهو شاب لم يعرف شيئاً عما يدور بين خاله عبد الإله وممثل الدولة العميقة آنذاك نوري السعيد، لكنه أصبح بطلاً أكثر من فيصل الأول لمجرد كونه قد قُتِل ظلماً. وهنا دور التخييل التاريخي الذي لا يترك شيئاً على حاله كما هي العادة.
مع العهد الجمهوري، أي مع قاسم والعارِفيَنِ والبكر وصدام، استمرت عمليةُ إلغاء وتعطيل ما تبقى من مؤسسات التمثيل المجتمعي، علاوة على ما تبقى من مسارات التمثيل السياسي. فكان رئيس الوزراء غالباً نفسه رئيس الجمهورية، نفسه وزير الدفاع أو الداخلية، ورئيس حزبه أيضاً. هذه الحالة تعني افتقاد المؤسسية بدرجاتها التصاعدية. ودرجات افتقاد المؤسسية نفسها درجات الدكتاتورية، وحدودها القصوى هي الشمولية كما حدث مع صدام حسين، حيث الشمولية هي استبدادية في كل المجالات، حتى الثقافية منها. فمع الشمولية ملئت المؤسسات النقابية بمريدي الحزب الحاكم علاوةً على دوائر الدولة. انغلاق مسارات التمثيل السياسي والنقابي أحدث انفجاراتٍ هائلةً، وكان، وفق بعض الباحثين، السرَ خلف نشوء الحركات الشعبوية التي لا تؤمن بالدولة وارتمت بالكامل للاستثمار بالمجال الديني في أبشع صوره والتي نعيشها حالياً.
وفي الختام، من غير اللائق بالبحث النقدي أن يبرِّر احتلالاً باحتلالٍ، وكذلك من غير اللائق أن يبرِّر استبداداً باستبداد، وأيضاً عليه أن لا يبرِّر مجزرةً بمجزرةٍ، أو دماء بدماء. هنا لا تجري عمليةُ تبريرٍ لما يقترفه هذا ضد ذاك، بل تجري عملية فهمٍ للسياقات والظروف. فالأفعال المشينة تبقى في أفق الرفض، ولا تتغيّر من الرفض إلى القبول لو مُوضِعت في سياقات الفهم.