من كرة القدم إلى "الدعابل": عالم من الخلق واللذة
17 حزيران 2024
قد يكون اللعب من الزوايا المهملة في الحياة، إلا أنها تعاود الظهور كلما أتيحت لها الفرصة.
حين بلغنا سنّ السادسة، اختطفتنا خيالات المدرسة من خيالات العائلة، هناك خلقنا الوحش، طاردناه، أمسكنا به ووضعناه في سجن متخيّل، لا وحش في المدرسة، وكل ما كنا نفعله، إننا نعلب، نتخيّل، نبدع في رسم وحش لا حدود له، أنيابه الطويلة غالباً، وشعره المجعّد على الدوام، وحش نجلبه من الدماغ إلى المقاعد الدراسية، قال أحد الأطفال في الصف الثاني باء، “الوحش أخذ قلمي”، ادّعى آخر أن زوجة الوحش تطبخ الممحاة لأطفالها.
صباحاً توفي جدي، في المساء ابتكرنا لعبة، تسابقنا نحن الأولاد في ما بيننا، من لديه القدرة على عدّ النساء الموجودات في العزاء بأسرع وقت ممكن، في اليوم التالي، اتسعت اللعبة، لتشمل حساب الرجال في سرادق العزاء، وانتهى اليوم الأخير من العزاء، في حساب عدد الصحون على المائدة، هذه اللعبة، لم نتعلمها من أحد، نحن من ابتكرناها وطورناها، لتصبح في ما بعد؛ ليست القدرة على العدِّ فحسب، بل إحصاء الرجال الذين يرتدون العقال، وكم عدد الرجال الذين يلبسون اللون الأسود، هذا درس في الحساب والألوان خارج الصف، رغم أن الهدف لم يكن التعلم، لقد كنا نلعب فحسب.
ما الذي يدفع مجموعة من الصبية، في مكان ما، من دون تخطيط مسبق، لابتكار لعبتهم؟ في وقت قصير، توضع القواعد والقوانين، حيث يستطيع أن يميز هؤلاء بناءً على النتائج الفائز من الخاسر، ثم يستعمل كل واحد منهم عشرات الطرق للفوز، وعشرات الفخاخ لإيقاع الآخر خاسراً، إنها رغبة اللعب، أو حاسة اللعب، الصفة التي ليست حكراً على البشر، لكنها الرغبة التي خلقته “كائناً” يلعب ويمضي في لعبته حتى نهاية حياته، التي يمكن اعتبارها لعبة أيضاً.
قد تكون هذه أول الخيالات، أول لحظات انفتح فيها الذهن، خارج العائلة، وكان ذلك بسبب اللعب، فما هو اللعب؟ لماذا نلعب؟ متى نكف عن اللعب؟ هل يمكن تخيُّل حياتنا من دون اللعب؟
اللعب أسبق من الإنسان العاقل
في مقدمة كتابه الشهير “ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانية”، يقول يوهان هوتسينغا إن “صفة اللعب ذات أهمية تتساوى مع أهمية صفتي العقلانية والإبداع، وتستحق أن يُخصص لها مكان بين المصطلحات التي تتناول حياة الإنسان والحضارة البشرية”، الكتاب الذي يدرس تاريخ اللعب يؤكد فيه هوتسينغا أن “اللعب قد ظهر قبل نشوء المجتمعات البشرية وقبل وجود أي ظواهر ثقافية، وأن الحضارة الإنسانية لم تضف أي جديد لفكرة اللعب”.
قد يكون أضاف شيئاً واحداً فقط، لقد طوّر الإنسان اللعب إلى مهنة.
تشير الدراسات التاريخية إلى أن الإنسان تعلم اللعب من الحيوانات حوله، لكنه ومن أجل مزيد من الدراما واللهو، حين تمكن من الطبيعة، أقحم الحيوانات التي تعلم منها في الألعاب التي يمارسها، كالخيول، والثيران، والكلاب، وغيرها.
وإذا كانت جميع الحيوانات قد وجدت لعبتها المفضلة، ذهب الإنسان بعيداً في اللعب، وضع القوانين وآليات الفائز والخاسر والجوائز، لقد تغيّر مسار اللعب كلياً حين دخل حيز التنفيذ البشري، وقد يكون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يموت من اللعب، أو بسببه.
وهنا يورد إدواردو غاليانو في كاتبه “كرة القدم في الظل والشمس”، واحدة من أشهر قصص الموت بسبب اللعب: “قد كانت كرة القدم بالنسبة للنازيين أيضاً مسألة دولة. وهناك نَصْبٌ في أوكرانيا يذكر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي. وكان الألمان قد حذروهم: إذا ربحتم ستموتون”.
دخلوا الملعب وهم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، ولكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. فأعدم اللاعبون الـ11 وهم بقمصان اللعب.
للعب وجود أصلي، يحتفظ بجوهره خارج الوجود الإنساني، فاللعب، وعلى عكس غيره من الفعاليات التي يمارسها الإنسان، تام وكامل المعنى حتى من دونه، لأنه ليس من الأفعال التي احتكرها. الحيوانات في الغابة تلعب ربما قبل وجود الإنسان العاقل، الذي بات ينظم فعاليات اللعب وينقلها عبر الشاشات ويوزع المشتركين فيها بين الأمم والشعوب، ويحدد لكل قارة عدداً معيناً من المقاعد لكل لعبة، وقبل أن يطور فكرة اللعب أو يعقّدها ويجعلها ذات بعد اقتصادي، كانت القردة تلعب من أجل اكتساب مزيد من المهارات في القفز والهرب.
يرتبط اللعب باللهو، بالمرح والتسلية والتعلم، يُمارَس غالباً كنشاط إضافي وليس أساسياً في حياة الإنسان على الأقل، يرتبط أيضاً بمرحلة الطفولة، أي أنه يقع في ما يمكن الاستغناء عنه، يرتبط اللعب أيضاً بالابتكار والاكتشاف، كما يقترن بالذكاء وسرعة البديهة والصحة الجسدية، فقد أجرى فريق باحثين من جامعة أوتفوش لوراند الهنغارية دراسة عن إمكانية تعلم الكلاب كلمات جديدة، ووجد أن الكلاب الأكثر ذكاء والأكثر قدرة على إضافة كلمات جديدة هي تلك التي تمرح وتلعب أكثر.
إلا أن كل تلك المحدّدات التي ترتبط باللعب، لا تخفي كون اللعب هو ممارسة مجانية لا تذهب إلى أبعد ذلك، رغم أن التطور التنظيمي لبعض الألعاب جعل منها ماكينة اقتصادية ضخمة، إذ تشكل الرياضة نحو اثنين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويبلغ حجم إيراداتها قرابة 800 مليار دولار سنويا.
لكن كل ذلك لا يبعد اللعب عن جوهره الأصلي، عمّا يتعلمه الإنسان منه، عما يكتسبه ويكتشفه وهو يلعب.
اللعب في المدن الشعبيّة
لا يمكن أن تميّز المدن الشعبية عبر طريقة العيش فحسب، بل يمكن معرفتها أيضاً من طريقة لعب الأولاد فيها، الأطفال في المدن الشعبية يمكن لهم من عيدان الخشب اكتشاف عشرات الألعاب، يمكنهم من بقايا الأشياء التالفة والقديمة اكتشاف لعب جديدة.
وهكذا كانت تغذى الألعاب في مدينة الثورة شرقي بغداد، فمن صناديق البلاستك والخشب المتبقية في السوق الشعبية، نكتشف الألعاب، نلعب بالإطارات المهترئة للسيارات والدراجات، نبتكر الألعاب على قدم وساق، من المهمل والهامشي وغير المفيد.
غالباً الطين أول لعبة يمكن ممارستها في مدينة الثورة، الشوارع والأزقة في المدينة “مبلطة”، لكن تصميمها يمنح الأطفال ساحات ذات شكل مربع تقريباً، تبلغ مساحة الواحدة منها نحو 800 متر مربع، مساحات جرداء تلك ليس فيها سوى الطين والتراب والكلاب والقطط والزجاج المتكسر، قد تجد إسطبلاً للأحصنة، وربما تجد خيمة لعائلة بدوية فيها، هذا المشهد كان متاحاً قبل العام 2003، قد تجد في هذه المساحات الحرة بقعاً سوداء وهي ما يتركه الناس حين يستبدلون زيت العجلات، بتراكم الزيت تصبح هذه البقع لزجة وقابلة لأن تصبح منطقة تزلج.
في كل قطاع من مدينة الثورة أربع ساحات في الغالب، وقبل أن نصبح قادرين على دحرجة الكرة، نأخذ أطراف تلك الساحة، في الأطراف لعبتنا المفضلة حيث نجلب ماء من المنزل لنرطب الأرض وحفر أنفاقاً، نبني المدن الوهمية، نرسم الأشكال، نبني البيوت التي سرعان ما تُزال عندما ينطلق الشبان الأكبر سناً في الكرة.
بالمجمل، لا يمكن أن تكون من سكنة الثورة ما لم تمارس كرة القدم، هذا الشرط الجزائي للوجود هناك للأولاد، على الأقل البنات يلعبن الكرة أيضاً، لكن بشكل محدود جداً، يمكن تقسيم ألعاب طفولتنا إلى قسمين: الألعاب الذكورية والألعاب المشتركة، من الألعاب المشتركة حسبما أتذكر هي: بيت البيوت، التوكي، الكرات الزجاجية أحياناً، لكن قائمة لعب الصبيان لا تنتهي، وهذا قد يشير إلى حقيقة أن لا ألعاب تخص الإناث وحدهن.
قد تكون لدى الصبيات ألعاب منزلية، دمى وألعاب من الورق المقوى الملون وغيرها، ولا يمكن عدها ألعاباً مستقلة، فحتى لو جاء أحدهم بلعبة تخص الإناث، سنقفز نحن الأولاد لممارستها، وجعلها مادة للتنافس، وإظهار الفحولة أيضاً، فعندما يلعب الأولاد لا بد لهم من اتخاذ دور الرجل، أو هذا ما كان يحصل معنا على الأقل.
يشكل اللعب في المناطق الشعبية الحجر الأساس لتكوين الأطفال، لنحت شخصياتهم وتربيتهم، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال انتزاع اللعب من هؤلاء الأطفال الذين كنت أحدهم، بل يمكن القول إن بعضهم يمارس حياته كما لو أنها لعبة.
اللعب حسب المواسم
يرتبط اللعب بالمواسم غالباً، الاستثناء الوحيد هي كرة القدم التي تستمر بالدوران صيفاً وشتاء، في الربيع كنا نصنع من “حلفات” المبردة شباكاً لاصطياد الفراشات التي تبدأ في الظهور نهايات آذار وتستمر حتى منتصف نيسان، في أيام البرد، يكون المنزل هو المساحة المتاحة للعب، لذا يأتي موسم لعب “بيت البيوت”، الشتاء حين يعتدل وتبدأ نسمات الهواء خفيفة ورقيقة، يبدأ الأطفال في تحضير طائراتهم التي تصنع من أكياس النايلون وتقوس بالنهايات الصلبة للسعف، وحتى أيام الهواء الرطب في الصيف يمكن أن تأتي بموسم الطائرات، الصيف غالباً يخصص للعبتين هما الأكثر أهمية: الدعابل والتصاوير، وغالباً في الصيف أيضاً تبدأ العجلات بأنواعها تدور، لأن الشارع جاف ويسمح بحركة إطارات السيارات أو إطارات الدراجات الهوائية التي تدفع بواسطة سلك معدني صلب “سيم”، كنا نسمي تلك اللعبة “الجروخ”.
تضاف إلى ذلك لعبة الجميدان والشرطة والحرامية والعظم الضائع، لكن مع جيلنا بدأت واحدة من أشهر الألعاب بالاختفاء، وهي لعبة “الجعاب”، وآخر جيل مارس تلك اللعبة هم جيل بداية الثمانينيات.
لا تنتهي قائمة ألعاب الكرة بكرة القدم والكرات الزجاجية، فبواسطة كرة صغيرة “كرة المضرب”، كنا نمارس لعبتين: لعبة الـ102، حيث نرسم دائرة على أحد الجدران ونقسم إلى فريقين متساويين بعدد اللاعبين، وترمى الكرة من أعضاء كل فريق نحو الدائرة بالتناوب من مسافة بعيدة، حتى يصيب أحدهم أي موضع داخل الدائرة لتكون الكرة بحوزة فريقه، أما الفريق الثاني فيبدأ أعضاؤه بوضع أيديهم داخل الدائرة والعدّ حتى العدد 102، بينما يرمي الفريق الأول الكرة عليهم، ومن تصيبه لا يحق له إكمال العد ويخرج من اللعبة، ويحق للفريق الحائز على الكرة مناولتها باليد بين اللاعبين إذا كان أحد لاعبي الفريق الآخر بعيداً عن حامل الكرة، وينتهي الشوط إما بإصابة جميع لاعبي فريق العد فيخسر وتبقى الكرة بحوزة الفريق الأول، أو يتمكن فريق العد من الوصول إلى العدد 102 فيأخذ الكرة وتُقلب الأدوار، ولا يوجد عدد محدد للمشاركين في اللعبة.
اللعبة الأخرى التي كانت تمارس بواسطة الكرة الصغيرة هي لعبة “سبع سيفونات”، حيث يرسم شكل هندسي من سبعة مربعات أحدها في الرأس وتصطف خلفه ستة مربعات متجاورة، ويُقسم الأولاد إلى فريقين، الأول لديه الكرة والثاني لديه مهمة توزيع السيفونات السبع على الشكل، تقذف الكرة في البدء على السيفونات التي هي أغلفة زجاجات المشروبات الغازية، ثم يمسك فريق الكرة الفريق الآخر الذي يحاول توزيع السيفونات على المربعات.
أوقات اللعب
الأوقات المناسبة للعب متعددة، بعد انتهاء المدرسة، نذهب إلى المنزل، نستبدل قميص المدرسة بقميص الشارع، نأكل، ثم نقفز مثل أرانب مذعورة إلى الشارع حتى الغروب، بعدها يبدأ وقت الدارسة، الوقت الأكثر حيوية في اللعب، هي أيام العطل، الجمعة مخصصة للركض واللهو، عطلة منتصف العام الدراسي، والعطلة الصيفية، وأيضا مساء يوم الخميس، في وقت كانت أيام الدوام الرسمي 6 أيام عدا يوم الجمعة، ليالي العطلة الصيفية تبقى الأكثر أهمية، الأكثر متعة ومجانية، حيث يستمر اللعب منذ الصباح الباكر، ولا ينتهي إلا مع النعاس حين يسيطر على الأطفال، لا ينتهي اللعب إلا مع سلطان النوم.
اللعب كل شيء
اللعب هو كل شيء، إذا كان هناك من يمارس حياته على أنها مادة للمجد، وآخر يراها مساحة للغريزة، غيرهما مثلاً يرى الحياة بكلياتها مجالاً لكسب الود أو المال، لكن ثمة نوعاً من الناس ومن دون دراية، من دون تخطيط مسبق، يمكن أن أرى حياته على أنها نوع مكثف من اللعب.
ليس من المعتاد تمجيد اللعب، ليس هناك دعم اجتماعي أو حتى اقتصادي لهذه الرؤية، فيما لو حسبت حياتي بشكل دقيق، عشت حتى الآن 280 ألف ساعة في هذه الحياة، ضاع ثلثها في النوم، وغالباً أعرف أين ذهبت أيامي، أدرك جيداً أن ما تبقى هو أنني كنت ألعب، حكايتي من اللعب قد يبدو فيها نوع من المجاز، إلا أنها في الآن ذاته، نوع من الحياة التي تمارس على أنها لعبة، لعبة لا فائز فيها ولا خاسر، ومهما كانت النتيجة، سنبدأ في اللحظة التالية في اللعب.
لعبت كرة القدم بجوارب من الصوف، أحشر الزوجين معاً، نوع من الدمى المكورة كانت الكرة، كرة يجب أن تدخل في مرمى، الذي كان مجسماً من حديد يتوسط باحة المنزل، وتوضع فوقه مبردة الهواء، لم يكن اللعب في الشارع متاحاً وقتها، فالساحة الصغيرة لمن تجاوزت أعمارهم 18 عاماً، والشارع الإسفلتي لمن هم دون ذلك، وما أن دخلت العاشرة، حتى بدأت الكرة تحترف في الشارع، أول كرة لعبنا بها كانت من البلاستك الرخيص، نهايتها مدببة بشكل قاس وحاد، حيث يمكن لسوء الحظ أن يضع إصبعك الكبير في تلك الحافة المدببة، لم نكن وقتها نعرف غير ضرب الكرة بالإصبع الكبير، كنا نسمي تلك الضرب “نكَر”، فيما بعد اكتشفنا الضربة التي في باطن القدم وكنا نسميها “كارت”، ولم أعرف ضرب الكرة بظاهر القدم من الجانب إلا في وقت متأخر.
لم يقتصر الأمر على كرة القدم، فقد كنت مهووساً بـ”الدعابل”، كرة زجاجية ملونة، وأخرى ذات لون واحد، أفضل اثنين كنت ألعب معهما هما: حسين المصري وعبد الله أبو السكر، فالأول لسمرته سُمّي بالمصري، والثاني لإصابته المبكرة بمرض السكري سمي بهذا الاسم، مات لاحقاً وهو لم يبلغ الثانية والعشرين من العمر، كنت أفضلهما لأننا الثلاثة بالمستوى والمهارة ذاتيهما، تبدأ اللعبة ولا تعرف من سوف يكسب، كنت محتالاً أكثر منهما بقليل، لدي نوع من الخبث في اللعب، وحين تصل “دعابلي” إلى حافة الصفر، استغل بيتنا الذي يقابل الساحة، وأحفر بشكل جيد ما نسميه “نُقرة”، ولا أحد يلعب في تلك النقرة إلا من يدفع لي بدل إيجار عنها، غالباً يكون كرة زجاجية واحدة أو اثنتين، فكان شراء تلك الكرة ليس ضمن ثقافتنا، نحن نكسبها من اللعب، عديمو المهارة فقط من لديهم قدرة على الشراء، هكذا كان الأمر.
لست من أفضل لاعبي الكريات الزجاجية، ولا كرة القدم، لكنني كنت في مستوى لا بأس به، إلا أن الفشل كل الفشل كان في صناعة الطائرة النايلون، فقد كان صفاء فرحان هو الصانع الأمهر لتلك الطائرة، كذلك كنت عديم الفائدة في صناعة فخاخ الطيور، وهي كانت على نوعين: “جزوة” التي توضع على الأرض ويطمر جزء منها في التراب، ويعلق فيها أي نوع من الطعام، وما أن ينقره الطائر حتى يجد نفسه بيدينا نحن الأطفال الذين لا نعرف ماذا سنفعل بهذا العصفور الصغير، والنوع الثاني من الألعاب التي نصنعها كانت تسمى “المصيادة”، وهي تلك التي تصنع من جذع خشبي على شكل حرف V، والكفوف المطاطية التي تستخدم في الطب، كان الحصول على كف نظيف غير ملطخ بالدماء أندر ما يمكن أن يحصل في تلك الأيام، كان الأكثر جرأة منا يذهب إلى قمامة مستشفى القادسية في مدينة الثورة، ليبحث عن الكفوف.
مرّ على تلك الألعاب نحو عقدين، إلا أنني وحتى الآن أمارس الكتابة والعمل والعيش كما لو أنني ألعب، أكتب من أجل اللهو، لا فائز ولا خاسر دائماً، أمارس حياتي كما لو أنها لعبة، لعبة لا نهائية، أقرأ كما ألعب، وأحب كما كنت ألعب، قد تكون هذه إحدى زوايا الحياة التي نهملها، إلا أنها تعاود الظهور كلما أتيحت لها الفرصة.
لكنني ولسنوات طويلة، كنت ممن يتعصبون في اللعب، حتى اكتشفت جوهره في عبارة يستعيرها إدواردو غاليانو في كتابه “كرة القدم في الظل والشمس” من المفكر الفرنسي ألبير كامو: “عندما أفوز لا أشعر بأنني إله، وعندما أخسر لا أشعر بأنني قمامة”، هذا أصل العملية، اللعب فحسب، هذه الجملة يمكن أن تفض أي التباس ينال من اللعب، تنهي أي نوع من الجدل عن سردية اللعب، لقد ساعدتني هذه الجملة على فهم معنى اللعب، يمكن القول إنها أعطتني الدرس الأكثر أهمية في اللعب، إنه لعب فحسب.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
حين بلغنا سنّ السادسة، اختطفتنا خيالات المدرسة من خيالات العائلة، هناك خلقنا الوحش، طاردناه، أمسكنا به ووضعناه في سجن متخيّل، لا وحش في المدرسة، وكل ما كنا نفعله، إننا نعلب، نتخيّل، نبدع في رسم وحش لا حدود له، أنيابه الطويلة غالباً، وشعره المجعّد على الدوام، وحش نجلبه من الدماغ إلى المقاعد الدراسية، قال أحد الأطفال في الصف الثاني باء، “الوحش أخذ قلمي”، ادّعى آخر أن زوجة الوحش تطبخ الممحاة لأطفالها.
صباحاً توفي جدي، في المساء ابتكرنا لعبة، تسابقنا نحن الأولاد في ما بيننا، من لديه القدرة على عدّ النساء الموجودات في العزاء بأسرع وقت ممكن، في اليوم التالي، اتسعت اللعبة، لتشمل حساب الرجال في سرادق العزاء، وانتهى اليوم الأخير من العزاء، في حساب عدد الصحون على المائدة، هذه اللعبة، لم نتعلمها من أحد، نحن من ابتكرناها وطورناها، لتصبح في ما بعد؛ ليست القدرة على العدِّ فحسب، بل إحصاء الرجال الذين يرتدون العقال، وكم عدد الرجال الذين يلبسون اللون الأسود، هذا درس في الحساب والألوان خارج الصف، رغم أن الهدف لم يكن التعلم، لقد كنا نلعب فحسب.
ما الذي يدفع مجموعة من الصبية، في مكان ما، من دون تخطيط مسبق، لابتكار لعبتهم؟ في وقت قصير، توضع القواعد والقوانين، حيث يستطيع أن يميز هؤلاء بناءً على النتائج الفائز من الخاسر، ثم يستعمل كل واحد منهم عشرات الطرق للفوز، وعشرات الفخاخ لإيقاع الآخر خاسراً، إنها رغبة اللعب، أو حاسة اللعب، الصفة التي ليست حكراً على البشر، لكنها الرغبة التي خلقته “كائناً” يلعب ويمضي في لعبته حتى نهاية حياته، التي يمكن اعتبارها لعبة أيضاً.
قد تكون هذه أول الخيالات، أول لحظات انفتح فيها الذهن، خارج العائلة، وكان ذلك بسبب اللعب، فما هو اللعب؟ لماذا نلعب؟ متى نكف عن اللعب؟ هل يمكن تخيُّل حياتنا من دون اللعب؟
اللعب أسبق من الإنسان العاقل
في مقدمة كتابه الشهير “ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانية”، يقول يوهان هوتسينغا إن “صفة اللعب ذات أهمية تتساوى مع أهمية صفتي العقلانية والإبداع، وتستحق أن يُخصص لها مكان بين المصطلحات التي تتناول حياة الإنسان والحضارة البشرية”، الكتاب الذي يدرس تاريخ اللعب يؤكد فيه هوتسينغا أن “اللعب قد ظهر قبل نشوء المجتمعات البشرية وقبل وجود أي ظواهر ثقافية، وأن الحضارة الإنسانية لم تضف أي جديد لفكرة اللعب”.
قد يكون أضاف شيئاً واحداً فقط، لقد طوّر الإنسان اللعب إلى مهنة.
تشير الدراسات التاريخية إلى أن الإنسان تعلم اللعب من الحيوانات حوله، لكنه ومن أجل مزيد من الدراما واللهو، حين تمكن من الطبيعة، أقحم الحيوانات التي تعلم منها في الألعاب التي يمارسها، كالخيول، والثيران، والكلاب، وغيرها.
وإذا كانت جميع الحيوانات قد وجدت لعبتها المفضلة، ذهب الإنسان بعيداً في اللعب، وضع القوانين وآليات الفائز والخاسر والجوائز، لقد تغيّر مسار اللعب كلياً حين دخل حيز التنفيذ البشري، وقد يكون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يموت من اللعب، أو بسببه.
وهنا يورد إدواردو غاليانو في كاتبه “كرة القدم في الظل والشمس”، واحدة من أشهر قصص الموت بسبب اللعب: “قد كانت كرة القدم بالنسبة للنازيين أيضاً مسألة دولة. وهناك نَصْبٌ في أوكرانيا يذكر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي. وكان الألمان قد حذروهم: إذا ربحتم ستموتون”.
دخلوا الملعب وهم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، ولكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. فأعدم اللاعبون الـ11 وهم بقمصان اللعب.
للعب وجود أصلي، يحتفظ بجوهره خارج الوجود الإنساني، فاللعب، وعلى عكس غيره من الفعاليات التي يمارسها الإنسان، تام وكامل المعنى حتى من دونه، لأنه ليس من الأفعال التي احتكرها. الحيوانات في الغابة تلعب ربما قبل وجود الإنسان العاقل، الذي بات ينظم فعاليات اللعب وينقلها عبر الشاشات ويوزع المشتركين فيها بين الأمم والشعوب، ويحدد لكل قارة عدداً معيناً من المقاعد لكل لعبة، وقبل أن يطور فكرة اللعب أو يعقّدها ويجعلها ذات بعد اقتصادي، كانت القردة تلعب من أجل اكتساب مزيد من المهارات في القفز والهرب.
يرتبط اللعب باللهو، بالمرح والتسلية والتعلم، يُمارَس غالباً كنشاط إضافي وليس أساسياً في حياة الإنسان على الأقل، يرتبط أيضاً بمرحلة الطفولة، أي أنه يقع في ما يمكن الاستغناء عنه، يرتبط اللعب أيضاً بالابتكار والاكتشاف، كما يقترن بالذكاء وسرعة البديهة والصحة الجسدية، فقد أجرى فريق باحثين من جامعة أوتفوش لوراند الهنغارية دراسة عن إمكانية تعلم الكلاب كلمات جديدة، ووجد أن الكلاب الأكثر ذكاء والأكثر قدرة على إضافة كلمات جديدة هي تلك التي تمرح وتلعب أكثر.
إلا أن كل تلك المحدّدات التي ترتبط باللعب، لا تخفي كون اللعب هو ممارسة مجانية لا تذهب إلى أبعد ذلك، رغم أن التطور التنظيمي لبعض الألعاب جعل منها ماكينة اقتصادية ضخمة، إذ تشكل الرياضة نحو اثنين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويبلغ حجم إيراداتها قرابة 800 مليار دولار سنويا.
لكن كل ذلك لا يبعد اللعب عن جوهره الأصلي، عمّا يتعلمه الإنسان منه، عما يكتسبه ويكتشفه وهو يلعب.
اللعب في المدن الشعبيّة
لا يمكن أن تميّز المدن الشعبية عبر طريقة العيش فحسب، بل يمكن معرفتها أيضاً من طريقة لعب الأولاد فيها، الأطفال في المدن الشعبية يمكن لهم من عيدان الخشب اكتشاف عشرات الألعاب، يمكنهم من بقايا الأشياء التالفة والقديمة اكتشاف لعب جديدة.
وهكذا كانت تغذى الألعاب في مدينة الثورة شرقي بغداد، فمن صناديق البلاستك والخشب المتبقية في السوق الشعبية، نكتشف الألعاب، نلعب بالإطارات المهترئة للسيارات والدراجات، نبتكر الألعاب على قدم وساق، من المهمل والهامشي وغير المفيد.
غالباً الطين أول لعبة يمكن ممارستها في مدينة الثورة، الشوارع والأزقة في المدينة “مبلطة”، لكن تصميمها يمنح الأطفال ساحات ذات شكل مربع تقريباً، تبلغ مساحة الواحدة منها نحو 800 متر مربع، مساحات جرداء تلك ليس فيها سوى الطين والتراب والكلاب والقطط والزجاج المتكسر، قد تجد إسطبلاً للأحصنة، وربما تجد خيمة لعائلة بدوية فيها، هذا المشهد كان متاحاً قبل العام 2003، قد تجد في هذه المساحات الحرة بقعاً سوداء وهي ما يتركه الناس حين يستبدلون زيت العجلات، بتراكم الزيت تصبح هذه البقع لزجة وقابلة لأن تصبح منطقة تزلج.
في كل قطاع من مدينة الثورة أربع ساحات في الغالب، وقبل أن نصبح قادرين على دحرجة الكرة، نأخذ أطراف تلك الساحة، في الأطراف لعبتنا المفضلة حيث نجلب ماء من المنزل لنرطب الأرض وحفر أنفاقاً، نبني المدن الوهمية، نرسم الأشكال، نبني البيوت التي سرعان ما تُزال عندما ينطلق الشبان الأكبر سناً في الكرة.
بالمجمل، لا يمكن أن تكون من سكنة الثورة ما لم تمارس كرة القدم، هذا الشرط الجزائي للوجود هناك للأولاد، على الأقل البنات يلعبن الكرة أيضاً، لكن بشكل محدود جداً، يمكن تقسيم ألعاب طفولتنا إلى قسمين: الألعاب الذكورية والألعاب المشتركة، من الألعاب المشتركة حسبما أتذكر هي: بيت البيوت، التوكي، الكرات الزجاجية أحياناً، لكن قائمة لعب الصبيان لا تنتهي، وهذا قد يشير إلى حقيقة أن لا ألعاب تخص الإناث وحدهن.
قد تكون لدى الصبيات ألعاب منزلية، دمى وألعاب من الورق المقوى الملون وغيرها، ولا يمكن عدها ألعاباً مستقلة، فحتى لو جاء أحدهم بلعبة تخص الإناث، سنقفز نحن الأولاد لممارستها، وجعلها مادة للتنافس، وإظهار الفحولة أيضاً، فعندما يلعب الأولاد لا بد لهم من اتخاذ دور الرجل، أو هذا ما كان يحصل معنا على الأقل.
يشكل اللعب في المناطق الشعبية الحجر الأساس لتكوين الأطفال، لنحت شخصياتهم وتربيتهم، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال انتزاع اللعب من هؤلاء الأطفال الذين كنت أحدهم، بل يمكن القول إن بعضهم يمارس حياته كما لو أنها لعبة.
اللعب حسب المواسم
يرتبط اللعب بالمواسم غالباً، الاستثناء الوحيد هي كرة القدم التي تستمر بالدوران صيفاً وشتاء، في الربيع كنا نصنع من “حلفات” المبردة شباكاً لاصطياد الفراشات التي تبدأ في الظهور نهايات آذار وتستمر حتى منتصف نيسان، في أيام البرد، يكون المنزل هو المساحة المتاحة للعب، لذا يأتي موسم لعب “بيت البيوت”، الشتاء حين يعتدل وتبدأ نسمات الهواء خفيفة ورقيقة، يبدأ الأطفال في تحضير طائراتهم التي تصنع من أكياس النايلون وتقوس بالنهايات الصلبة للسعف، وحتى أيام الهواء الرطب في الصيف يمكن أن تأتي بموسم الطائرات، الصيف غالباً يخصص للعبتين هما الأكثر أهمية: الدعابل والتصاوير، وغالباً في الصيف أيضاً تبدأ العجلات بأنواعها تدور، لأن الشارع جاف ويسمح بحركة إطارات السيارات أو إطارات الدراجات الهوائية التي تدفع بواسطة سلك معدني صلب “سيم”، كنا نسمي تلك اللعبة “الجروخ”.
تضاف إلى ذلك لعبة الجميدان والشرطة والحرامية والعظم الضائع، لكن مع جيلنا بدأت واحدة من أشهر الألعاب بالاختفاء، وهي لعبة “الجعاب”، وآخر جيل مارس تلك اللعبة هم جيل بداية الثمانينيات.
لا تنتهي قائمة ألعاب الكرة بكرة القدم والكرات الزجاجية، فبواسطة كرة صغيرة “كرة المضرب”، كنا نمارس لعبتين: لعبة الـ102، حيث نرسم دائرة على أحد الجدران ونقسم إلى فريقين متساويين بعدد اللاعبين، وترمى الكرة من أعضاء كل فريق نحو الدائرة بالتناوب من مسافة بعيدة، حتى يصيب أحدهم أي موضع داخل الدائرة لتكون الكرة بحوزة فريقه، أما الفريق الثاني فيبدأ أعضاؤه بوضع أيديهم داخل الدائرة والعدّ حتى العدد 102، بينما يرمي الفريق الأول الكرة عليهم، ومن تصيبه لا يحق له إكمال العد ويخرج من اللعبة، ويحق للفريق الحائز على الكرة مناولتها باليد بين اللاعبين إذا كان أحد لاعبي الفريق الآخر بعيداً عن حامل الكرة، وينتهي الشوط إما بإصابة جميع لاعبي فريق العد فيخسر وتبقى الكرة بحوزة الفريق الأول، أو يتمكن فريق العد من الوصول إلى العدد 102 فيأخذ الكرة وتُقلب الأدوار، ولا يوجد عدد محدد للمشاركين في اللعبة.
اللعبة الأخرى التي كانت تمارس بواسطة الكرة الصغيرة هي لعبة “سبع سيفونات”، حيث يرسم شكل هندسي من سبعة مربعات أحدها في الرأس وتصطف خلفه ستة مربعات متجاورة، ويُقسم الأولاد إلى فريقين، الأول لديه الكرة والثاني لديه مهمة توزيع السيفونات السبع على الشكل، تقذف الكرة في البدء على السيفونات التي هي أغلفة زجاجات المشروبات الغازية، ثم يمسك فريق الكرة الفريق الآخر الذي يحاول توزيع السيفونات على المربعات.
أوقات اللعب
الأوقات المناسبة للعب متعددة، بعد انتهاء المدرسة، نذهب إلى المنزل، نستبدل قميص المدرسة بقميص الشارع، نأكل، ثم نقفز مثل أرانب مذعورة إلى الشارع حتى الغروب، بعدها يبدأ وقت الدارسة، الوقت الأكثر حيوية في اللعب، هي أيام العطل، الجمعة مخصصة للركض واللهو، عطلة منتصف العام الدراسي، والعطلة الصيفية، وأيضا مساء يوم الخميس، في وقت كانت أيام الدوام الرسمي 6 أيام عدا يوم الجمعة، ليالي العطلة الصيفية تبقى الأكثر أهمية، الأكثر متعة ومجانية، حيث يستمر اللعب منذ الصباح الباكر، ولا ينتهي إلا مع النعاس حين يسيطر على الأطفال، لا ينتهي اللعب إلا مع سلطان النوم.
اللعب كل شيء
اللعب هو كل شيء، إذا كان هناك من يمارس حياته على أنها مادة للمجد، وآخر يراها مساحة للغريزة، غيرهما مثلاً يرى الحياة بكلياتها مجالاً لكسب الود أو المال، لكن ثمة نوعاً من الناس ومن دون دراية، من دون تخطيط مسبق، يمكن أن أرى حياته على أنها نوع مكثف من اللعب.
ليس من المعتاد تمجيد اللعب، ليس هناك دعم اجتماعي أو حتى اقتصادي لهذه الرؤية، فيما لو حسبت حياتي بشكل دقيق، عشت حتى الآن 280 ألف ساعة في هذه الحياة، ضاع ثلثها في النوم، وغالباً أعرف أين ذهبت أيامي، أدرك جيداً أن ما تبقى هو أنني كنت ألعب، حكايتي من اللعب قد يبدو فيها نوع من المجاز، إلا أنها في الآن ذاته، نوع من الحياة التي تمارس على أنها لعبة، لعبة لا فائز فيها ولا خاسر، ومهما كانت النتيجة، سنبدأ في اللحظة التالية في اللعب.
لعبت كرة القدم بجوارب من الصوف، أحشر الزوجين معاً، نوع من الدمى المكورة كانت الكرة، كرة يجب أن تدخل في مرمى، الذي كان مجسماً من حديد يتوسط باحة المنزل، وتوضع فوقه مبردة الهواء، لم يكن اللعب في الشارع متاحاً وقتها، فالساحة الصغيرة لمن تجاوزت أعمارهم 18 عاماً، والشارع الإسفلتي لمن هم دون ذلك، وما أن دخلت العاشرة، حتى بدأت الكرة تحترف في الشارع، أول كرة لعبنا بها كانت من البلاستك الرخيص، نهايتها مدببة بشكل قاس وحاد، حيث يمكن لسوء الحظ أن يضع إصبعك الكبير في تلك الحافة المدببة، لم نكن وقتها نعرف غير ضرب الكرة بالإصبع الكبير، كنا نسمي تلك الضرب “نكَر”، فيما بعد اكتشفنا الضربة التي في باطن القدم وكنا نسميها “كارت”، ولم أعرف ضرب الكرة بظاهر القدم من الجانب إلا في وقت متأخر.
لم يقتصر الأمر على كرة القدم، فقد كنت مهووساً بـ”الدعابل”، كرة زجاجية ملونة، وأخرى ذات لون واحد، أفضل اثنين كنت ألعب معهما هما: حسين المصري وعبد الله أبو السكر، فالأول لسمرته سُمّي بالمصري، والثاني لإصابته المبكرة بمرض السكري سمي بهذا الاسم، مات لاحقاً وهو لم يبلغ الثانية والعشرين من العمر، كنت أفضلهما لأننا الثلاثة بالمستوى والمهارة ذاتيهما، تبدأ اللعبة ولا تعرف من سوف يكسب، كنت محتالاً أكثر منهما بقليل، لدي نوع من الخبث في اللعب، وحين تصل “دعابلي” إلى حافة الصفر، استغل بيتنا الذي يقابل الساحة، وأحفر بشكل جيد ما نسميه “نُقرة”، ولا أحد يلعب في تلك النقرة إلا من يدفع لي بدل إيجار عنها، غالباً يكون كرة زجاجية واحدة أو اثنتين، فكان شراء تلك الكرة ليس ضمن ثقافتنا، نحن نكسبها من اللعب، عديمو المهارة فقط من لديهم قدرة على الشراء، هكذا كان الأمر.
لست من أفضل لاعبي الكريات الزجاجية، ولا كرة القدم، لكنني كنت في مستوى لا بأس به، إلا أن الفشل كل الفشل كان في صناعة الطائرة النايلون، فقد كان صفاء فرحان هو الصانع الأمهر لتلك الطائرة، كذلك كنت عديم الفائدة في صناعة فخاخ الطيور، وهي كانت على نوعين: “جزوة” التي توضع على الأرض ويطمر جزء منها في التراب، ويعلق فيها أي نوع من الطعام، وما أن ينقره الطائر حتى يجد نفسه بيدينا نحن الأطفال الذين لا نعرف ماذا سنفعل بهذا العصفور الصغير، والنوع الثاني من الألعاب التي نصنعها كانت تسمى “المصيادة”، وهي تلك التي تصنع من جذع خشبي على شكل حرف V، والكفوف المطاطية التي تستخدم في الطب، كان الحصول على كف نظيف غير ملطخ بالدماء أندر ما يمكن أن يحصل في تلك الأيام، كان الأكثر جرأة منا يذهب إلى قمامة مستشفى القادسية في مدينة الثورة، ليبحث عن الكفوف.
مرّ على تلك الألعاب نحو عقدين، إلا أنني وحتى الآن أمارس الكتابة والعمل والعيش كما لو أنني ألعب، أكتب من أجل اللهو، لا فائز ولا خاسر دائماً، أمارس حياتي كما لو أنها لعبة، لعبة لا نهائية، أقرأ كما ألعب، وأحب كما كنت ألعب، قد تكون هذه إحدى زوايا الحياة التي نهملها، إلا أنها تعاود الظهور كلما أتيحت لها الفرصة.
لكنني ولسنوات طويلة، كنت ممن يتعصبون في اللعب، حتى اكتشفت جوهره في عبارة يستعيرها إدواردو غاليانو في كتابه “كرة القدم في الظل والشمس” من المفكر الفرنسي ألبير كامو: “عندما أفوز لا أشعر بأنني إله، وعندما أخسر لا أشعر بأنني قمامة”، هذا أصل العملية، اللعب فحسب، هذه الجملة يمكن أن تفض أي التباس ينال من اللعب، تنهي أي نوع من الجدل عن سردية اللعب، لقد ساعدتني هذه الجملة على فهم معنى اللعب، يمكن القول إنها أعطتني الدرس الأكثر أهمية في اللعب، إنه لعب فحسب.