معضلة "الرئيس"... كيف تفّه سياسيو العراق برلمانه 

علي الأعرجي

27 أيار 2024

كيف تهتزّ الديمقراطية الهشة؟ وكيف يجري "تتفيه" سلطة البرلمان؟ عدسة مكبرة على رئاسة البرلمان، وكيف تجري الهيمنة على إقرار القوانين والتسلّط على القرار التشريعي..

في 14 تشرين الثاني 2023، سلبت المحكمة الاتحادية العليا، مجلس النواب العراقي، رئيسه، بدعوى “انتحارية” قدّمها النائب السابق ليث الدليمي بالضد من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ادّعت تزوير استقالة للدليمي من البرلمان، لتفضي القضية إلى إنهاء عضويتيهما كليهما من المجلس وتبدأ رحلة طويلة، شهدت ظواهر سياسية وتحالفات متحركة وكسر إرادات، تماسكت خلالها القوى السياسية الشيعية وأوغلت بتفكيك وتعرية القوى السياسية السنية المفككة أصلاً، فضلاً عن تمرير قوانين ما كانت لتمرّ بسهولة لولا سيطرة الإطار التنسيقي على رئاسة البرلمان. 

بينما كان رئيس المحكمة الاتحادية العليا يتلو قرار إنهاء عضوية الحلبوسي، كان آخر رؤساء البرلمان يترأس الجلسة رقم 25 من الفصل التشريعي الثاني -السنة التشريعية الثانية، وبعد أن أمضى البرلمان نصف عمره التشريعي تحت رئاسته، أنهى الحلبوسي تلك الجلسة قبل أن تبدأ، عقب أن ورده الخبر من السلطة القضائية العليا. 

منذ ذلك الحين، أصبحت رئاسة البرلمان لدى الطرف الشيعي الذي انفرد بهذا المنصب، وغاب الطرف السني طوال 6 أشهر من المنصب السيادي الأول والأهم بالنسبة لهم، وفق الخارطة التي فرضها العرف السياسي بعد عام 2003، حيث استحوذ الطرف الشيعي على الرئاسة التشريعية، رئاسة مجلس النواب، من خلال النائب الأول لرئيس المجلس محسن المندلاوي، بالإضافة للرئاسة التنفيذية رئاسة الوزراء. 

السباق نحو الفريسة 

في الأثناء، كانت الشخصيات والكتل السياسية السنية المناوئة للحلبوسي، تتحرك لأخذ فرصتها بعد هيمنة السياسي الشاب وحزبه “تقدم” لدورتين برلمانيتين على المنصب. 

فبعد يومين فقط، وبينما كان حزب تقدم يعيش حالة الغضب والصدمة والتفكير بترتيب الأوراق، تحرك تحالف “العزم” برئاسة مثنى السامرائي، وتحالف “الحسم” الذي يضم أسامة النجيفي وجمال الكربولي ووزير الدفاع الحالي ثابت العباسي، لتقديم مرشحين بدلاء لسلب المنصب من حزب “تقدم”، في خطوة ربما تكون مدفوعة بالانقسام والخلاف المسبق مع الحلبوسي، وبالاصطفاف الأكثر قرباً لمكوّنات الإطار التنسيقي الشيعي أو بـ”الشعور بالعار”، فحزب تقدم أخذ حجمه وتأثيره من الحلبوسي، وسيكون أمراً صعباً على القيادات السنية أن يأتي سياسي آخر غير معروف ليتسلم منصب رئاسة البرلمان فقط لأنه من “تقدم”، وبناء على ذلك قدم تحالف التحالفين -العزم والحسم- كلاً من محمود المشهداني وطلال الزوبعي وسالم العيساوي كمرشحين لخلافة الحلبوسي. 

اقرأ أيضاً

المستقلون في البرلمان.. تجربة “الاستقلالية” و”التطرّف” و”التخادُم” 

ومنذ الأيام الأولى، ورداً على تحركات القوى السياسية السنية الأخرى، بدأ حزب “تقدم” الحديث عن شعلان الكريّم أو هيبت الحلبوسي كمرشحين محتملين لمنصب رئيس البرلمان. وبدأت الأسماء تتكرر وتضاف لها أسماء جديدة، تظهر وتغيب. في الأثناء كان الانقسام تسرّب إلى البيت الشيعي، فبينما كان “الإطار” يتظاهر بأن الأمر متروك للسُنة، كانت قواه تتلذّذ بالاختلاف حول: ندعم من؟ أو تتلذّذ باستمرار افتراس المنصب. 

مخارج قانونية “على المرام 

خلال 6  أشهر، ترأس محسن المندلاوي أكثر من 30 جلسة، مقابل 80 جلسة كانت برئاسة الحلبوسي منذ بدء الدورة البرلمانية الخامسة، ما يعني أن الطرف الشيعي اقتطع ما يقارب الـ13 بالمئة من عمر دورة البرلمان من الجانب السني لصالحه، أو ربع جلسات الفصلين التشريعيين الأولين. 

مباشرة، في اليوم التالي لإنهاء عضوية الحلبوسي، أي في 15 تشرين الثاني 2023، عقد البرلمان جلسة استثنائية برئاسة المندلاوي، بدأت الجلسة بجدل قانونية عقد جلسة للبرلمان دون انتخاب رئيس جديد له، حيث تداخل النائب علي حسن الساعدي مذكراً بالمادة 12 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على أنه “إذا خلا منصب رئيس مجلس النواب أو أي من نائبيه لأي سبب كان، ينتخب المجلس بالأغلبية المطلقة خلفاً له في أول جلسة يعقدها لسد الشاغر وفقاً لضوابط التوازنات السياسية بين الكتل”. 

إلّا أن المندلاوي ردّ على ذلك بأن قرار المحكمة الاتحادية العليا لم يرد إلى مجلس النواب بعد، واستناداً الى المادة 35 من النظام الداخلي فأنه يمارس النائب الأول مهام رئيس المجلس عند غيابه، وفي تلك الجلسة تم التصويت على رئيس الادعاء العام وهيئة الإشراف القضائي. 

وفي 18 تشرين الثاني، عقدت جلسة استثنائية ثانية، وفي 22 تشرين الثاني، عقد مجلس النواب جلسة استثنائية جديدة برئاسة المندلاوي كان على رأس جدول اعمالها انتخاب رئيس البرلمان وهي أول محاولة لانتخاب بديل للحلبوسي، وذلك بعد وصول قرار المحكمة الاتحادية العليا إلى البرلمان وأصبح لزاماً انتخاب رئيس المجلس، إلا أن المندلاوي استند إلى قرار للمحكمة الاتحادية العليا يعود لعام 2009، القرار 9 اتحادية 2009، والذي ينص على وجوب استمرار عمل مجلس النواب بأداء مهامه وانعقاد جلساته برئاسة أحد نائبي الرئيس وحسب قِدَمَه لحين انتخاب رئيس للمجلس، ليطلب المندلاوي من البرلمان التصويت على تأجيل فقرة انتخاب رئيس البرلمان لحين حصول توافق سياسي، وتم التصويت بالفعل على التأجيل. 

سنة تشريعية أخرى.. جولة أولى 

اختتم المندلاوي السنة التشريعية الثانية بـ3 جلسات استثنائية صوت خلالها على قانون هام، وحسم اثنين من أهم المناصب القضائية، وتم ترحيل اختيار منصب رئيس البرلمان إلى ما بعد الانتخابات المحلية التي أجريت في 18 كانون الأول، ليبدأ المندلاوي السنة التشريعية الثالثة. 

في 13 كانون الثاني بدأت السنة التشريعية الثالثة أول جلساتها بجدول أعمال، كلُّه فقرة واحدة: انتخاب رئيس للمجلس، عُقدت الساعة الخامسة بعد الظهر، وأعلن البرلمان تسلّم أسماء 6 مرشحين للمنصب وهم كل من النائب سالم العيساوي، ومحمود المشهداني، وشعلان الكريم، وطلال الزوبعي، وعبد الرحيم الشمري الذي قدم في ما بعد طلب الانسحاب، فضلاً عن النائب عامر عبد الجبار وهو نائب شيعي في محاولة لكسر العرف السياسي المتبع منذ 2003 بأن يكون رئيس البرلمان من حصة القوى السنية. 

وتمت بالفعل عملية التصويت، على 5 مرشحين بعد انسحاب الشمري، حصل فيها مرشح تقدم شعلان الكريم على 157 صوتاً كأعلى الأصوات بين المرشحين، وبعده سالم العيساوي بـ97 صوتاً، ومحمود المشهداني 48 صوتاً، وعامر عبد الجبار 6 أصوات، وطلال الزوبعي حصل على صوت واحد فقط. 

توقفت الجلسة، ثم استؤنفت الساعة الـ12 والنصف بعد منتصف الليل، امتدت لـ9 دقائق فقط صُوِتَ خلالها لصالح فقرة متعلقة بتمشية أمور البرلمان في حال غياب رئيس البرلمان أو أحد نائبيه: تصدر القرارات باتفاق الحاضرين. فصار ترؤس المندلاوي المؤقت للجلسات، مصطبغاً بالشرعية. 

وخلال فترة استحواذ القوى الشيعية على رئاسة البرلمان، منذ إقصاء الحلبوسي وحتى 22 أيار، قرئ 37 قانوناً قراءة أولى وثانية، وشُرِعَ 16 قانوناً، أبرزها تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وتعديل قانون العقوبات، وتعديل قانون مكافحة البغاء، الذي وضع عقوبات السجن المؤبد بحق مثليي الجنس، واستجلب انزعاج وامتعاض المجتمع الدولي وبعض المنظمات الحقوقية، والذي لولا ترؤس المندلاوي بالإنابة للبرلمان ربما كان لم يُشرّع، فسبق أن اتُهِم َالحلبوسي بمنع عرض القانون للتصويت. 

كما شرّع البرلمان أيضاً، برئاسة القوى الشيعية، قانون العطلات الرسمية وقانون جهاز الأمن الوطني، مقابل 36 قانوناً تم تشريعها تحت رئاسة الحلبوسي، طوال عامين. 

اقتصر تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، على تمديد عُمر المفوضية لـ6 أشهر، لتنتهي في 6 تموز، بدلاً من 6 كانون الثاني 2024، وذلك لضمان اجراء انتخابات اقليم كردستان التي شهدت عدة عقبات هي الأخرى نتيجة صدور قرارات من المحكمة الاتحادية العليا، تضيّق على الحزب الديمقراطي الكردستاني، من بينها تولي المفوضية العليا الاتحادية مهمة الإشراف، والغاء مقاعد كوتا الأقليات، خصوصاً وأن أغلبيتهم ينتشرون في مناطق نفوذ الديمقراطي الكردستاني أربيل ودهوك. 

الجولة الثانية.. انقلاب إطاري ودعاوى قضائية متبادلة 

كان يجب على البرلمان عقد جولة ثانية لانتخاب رئيسه، حيث يتطلب حصول المرشح على نصف العدد المطلق لأعضاء البرلمان +1، ما يعني أن المرشح يجب أن يحصل على 166 صوتا للفوز بمنصب رئيس البرلمان، أي أن شعلان الكريم كانت تفصله 6 أصوات فقط للفوز بالرئاسة.  

ظهرت فقرة انتخاب رئيس البرلمان على جدول أعمال الجلسة الثانية في السنة التشريعية الجديدة والتي عقدت في 27 كانون الثاني 2024، إلّا أن الخلافات كانت كبيرة ولاسيما “انقلاب” الإطار التنسيقي على شعلان الكريّم مرشح تقدم، فبينما حصل الكريم على 157 صوتاً لا يمتلك حزب تقدم سوى 37 مقعداً ومع توزيع أصوات القوى السنية الأخرى على باقي المرشحين، كما أن مقاعد الكرد أكثر من 50 مقعداً، ما يعني أنه حتى في حال صوت جميع النواب الكرد للكريّم مع كتلة تقدم، فهناك أكثر من 70 نائباً من الإطار التنسيقي وأصدقائه، من المرجّح أنهم صوتوا لمرشح تقدم، غير أن معظم أطراف الإطار التنسيقي خرجت بمواقف مغايرة بعد ساعات من تلك الجلسة وعبرت عن رفض الكريّم رئيساً للبرلمان بدعوى انه “متهم بتمجيد النظام السابق”. 

على إثر ذلك، ترادفت الدعاوى القضائية على المحكمة الاتحادية، حيث جاءت دعاوى من النواب فالح الخزعلي ويوسف الكلابي تطعن بترشيح شعلان الكريم لرئاسة البرلمان، فضلاً عن دعوى أخرى من النائبَيْن نفسيهما، بالإضافة الى النائب عن “حقوق” -كتائب حزب الله- حسين مؤنس تطالب بإسقاط عضوية الكريّم من البرلمان، كما تسلمت المحكمة الاتحادية العليا دعوى من النائب عن تقدم هيبت الحلبوسي يطالب فيها بإلغاء الجولة الأولى لانتخاب رئيس البرلمان والحكم بعدم دستوريتها، حيث انتظر تقدم من هذه الخطوة، الحصول على فرصة فتح باب الترشيح مجدداً للدفع بمرشح آخر بعد أن اقتربت ورقة الكريم من الاحتراق وعدم امتلاك حزبه مرشحاً غيره خلف باب الترشح الموصد. 

الأبواب تغلق.. لا تقدم لتقدم 

منذ 13 كانون الأول، لم تحسم المحكمة الاتحادية العليا الدعاوى المرفوعة أمامها إلّا بعد أشهر، في 28 شباط ردت المحكمة دعوى “بطلان ترشيح شعلان الكريم” لعدم الاختصاص، لكن حزب الحلبوسي كان يتطلع لأمر واحد: دعوى إلغاء الجولة الأولى ليتمكن من الزج باسم جديد غير الكريّم. 

بعد ذلك بحوالي شهر، وفي 1 نيسان، نطقت المحكمة الاتحادية العليا: ردُّ طلب تقدّم بإلغاء الجولة الأولى، وأقرت بصحتها، وفي 8 أيار ردّت المحكمة دعوى اسقاط عضوية الكريّم، لكن الأوان كان فات حيث أن الكريم سحب ترشيحه لرئاسة البرلمان وكذلك انسحب من حزب تقدم، حيث كان الحزب يتطلع فقط للحصول على فرصة جديدة لتقديم مرشح اخر غيره. 

بعد حكم المحكمة بصحتها، صار مجلس النواب ملزماً بمرشحي جلسة الجولة الأولى، وعليه ان يعقد ثانية لانتخاب رئيس البرلمان منها ومنها فقط، فلم يكن أمام حزب تقدم سوى أمل ضئيل واحد، وهو التصويت لصالح تعديل النظام الداخلي للبرلمان، بما يتيح إمكانية فتح باب الترشيح مجدداً، إلّا أن هذا الخيار جوبِه برفض من قوى الإطار التنسيقي. 

اقرأ أيضاً

“مُحن” البرلماني العراقي ومِحنة الدولة: لو نظروا أبعد من أعضائهم التناسلية! 

في الأثناء، وفي منتصف آذار 2024، انسحب 5 نواب من تحالفي العزم والسيادة، لتشكيل كتلة جديدة باسم “الصدارة”، من بينهم نائبان مرشّحان في الجولة الأولى، والوحيدة، لرئاسة البرلمان، وهما محمود المشهداني، وطلال الزوبعي، كـ”مناورة” في محاولة لإيجاد كتلة سنية “وسطية” بين القطبين المتناحرين على المنصب، “تقدم” من جهة، و”العزم و”الحسم” من جهة أخرى. 

وبالفعل، أعلنت الكتلة الجديدة، “الصدارة”، انضمامها إلى “تقدم”، ليعلن الحزب دعمه لترشيح محمود المشهداني لرئاسة البرلمان، فبينما لم يستطع الحلبوسي استعادة المنصب، وافق على الأقل أن يأخذه شخص آخر “يرتضيه”، حتى وان كان إعلان الانضمام شكلياً، يداوي فيه المشهداني جرح تقدم. 

في يوم إعلان “تقدم” ذاته، أعلن ياسر صخيل المالكي النائب المقرّب من زعيم دولة القانون رئيس الوزراء السابق والقيادي في الإطار التنسيقي نوري المالكي، أعلن دعم المشهداني، في تغريدة على منصة X زيّنها بترحيبٍ بالتوافق السُني.  

للمكونات حق “اللعب فقط 

لا يمكن القول إن أزمة انتخاب رئيس البرلمان التي دامت 6 أشهر، انتهت أو طالت، لا يمكن القول إنها مقتصرة على القوى السياسية السنية، فبصمات القوى الشيعية واضحة ومتحكمة، فلن يجلس على مقعد “حصة السنة” إلا من ترتضيه القوى الشيعية، كما أن الكلمة الأولى والأخيرة والوحيدة في منصب رئيس الوزراء هي للشيعة، ولن يكون للكتل السنية والكردية دور أو رأي فيه. 

حيث أظهرت الأشهر الأخيرة أن الشراكة التي يرفع نظام ما بعد 2003 لواءها، هي السماح للمكونات الأخرى بالمشاركة في اللعبة، لا أن تشارك بوضع قوانينها ومعاييرها وضوابطها، بل هذه امتيازات حصرية لممثلي المكون الشيعي، فالقوى الشيعية تدخلت بدعم مرشح على حساب آخر، والتضييق على مرشح بعد التصويت له، وصدور قرارات من المحكمة الاتحادية تضيّق الأدوار على أن يتمكن طرف من الانفراد واجباره على الخضوع لـ”توافق” سياسي، صوت الشيعة فيه هو الأعلى. 

لماذا يحتاج رئيس البرلمان لدعاية انتخابية وحرب شائعات؟ 

طوال سنوات، كان الذهاب لانتخاب الرئاسات داخل البرلمان، وبالرغم من كونه “انتخابا” إلا أنه لا يقترن بالترويج وإطلاق الدعايات الهادفة لجذب الأصوات، لأنه انتخاب يتم بعد اتفاق الكتل السياسية على اسم محدّد، الا ان انتخاب رئيس البرلمان في الجولة الثانية احتاج الى أن يطلق المرشحان سالم العيساوي ومحمود المشهداني، جملة دعايات انتخابية وتعهدات بالالتزام بثواب في تغريدات مساء الجمعة، قبل ساعات من انعقاد الجلسة الساخنة في اليوم التالي. 

وشهدت الساعات التي سبقت الجلسة أيضاً، حرب شائعات وتسقيطاً سياسياً متبادلاً، على سبيل المثال تم ترويج انباء عن انسحاب المشهداني من المنافسة أمام العيساوي، او إعادة نشر مواقف سابقة للمشهداني من قبيل وصف الشيعة بأنهم “مال لطم مو مال حكم”. 

احتاج مرشحو رئاسة البرلمان هذه المرة إلى دعايات انتخابية وتعهدات وحرب شائعات، لأن اتفاق الإطار التنسيقي لم يتضمن توجيهاً مركزياً بانتخاب مرشح دون آخر، حيث لا يريد قائد كتلة سياسية داخل الإطار معاداة تقدم والحلبوسي ولا يريد تقويته أيضاً، وهذا ينطبق على بقية القوى السنية بشكل صريح، خصوصاً وإن الإطار “غير متحمس أساساً” لحسم منصب رئيس البرلمان، وفق تلميح أكثر من نائب. 

تشي الحالة بأن قادة الإطار تركوا أمر التصويت بحرية للنواب ليختاروا من يريدوه من المرشحين في الجولة الثانية، وإذا لم يحسم الأمر، تضمن التوجيه أن تكون الجولة الثالثة هي الحاسمة بالتصويت لصالح من حصل على أعلى الأصوات في الجلسة الثانية. 

لذلك، وبينما أدرك حزب تقدم هذا الأمر مبكراً، وأن الذهاب لجولة ثالثة يعني مضي توجيه قادة الإطار بالتصويت لمن حصل على أعلى الأصوات في الجولة الثانية وهو سالم العيساوي الذي حاز على 158 صوتاً مقابل 137 صوتاً للمشهداني، ذهب نواب تقدم نحو عرقلة الجلسة، الأمر الذي أشعل شجاراً بين هيبت الحلبوسي ورئيس تحالف العزم مثنى السامرائي، ومحاولة نواب تقدم الضغط على محسن المندلاوي نائب رئيس البرلمان الأول ومسيّر الرئاسة لرفع الجلسة، وهذا ما حصل بالفعل. 

حتى إشعار آخر 

بعدما رفع المندلاوي جلسة البرلمان عقب الشجار “الدامي”، في جلسة أراد لها الإطار التنسيقي أن تكون بلا هدف ولا نهاية واضحة، تحققت، بالإضافة لمكسب التشريع وإصدار القوانين بأريحية، ثلاث نقاط لصالح الإطار الشيعي: المساحة التي تتمتع بها السلطة التنفيذية -الحكومة- المنبثقة من الإطار التسيقي الشيعي والخاضعة لقادته، في ظل غياب الرقابة والمساءلة البرلمانية الكافية. 

والثانية تعميق التفكك والخلاف بين القوى السنيّة وزيادة مستوى التحدي بينها وإشاعة هذا التفكك والصورة السياسية السلبية المتشكلة تجاه المنافس السياسي الأكبر لها على صعيد المكونات. 

اقرأ أيضاً

من البرلمان إلى السجن: القوانين الفضفاضة لقمع الحريات 

أما الثالثة فهي أن الإطار التنسيقي ألقى الحجة على الجميع وأصبح لديه المبرر الكافي للاحتفاظ بمنصب رئيس البرلمان حتى إشعار آخر، في محاولة إثبات أن تأخير انتخاب الرئيس ليس محاولة إطارية للاستحواذ على المنصب أطول فترة ممكنة، بل سبب داخلي بين القوى السنية، ولا حجة على الإطار، وبوضوح، قال المندلاوي بعد رفع الجلسة، إنه لن يعقد جلسة أخرى لانتخاب رئيس للبرلمان إلّا بالتوافق على مرشح واحد، وهو أمر ربما يطول بطول عمر الدورة البرلمانية، أو بما يكفي ليمرر ويشرّع “الإطار التنسيقي” ما يريد. 

جلسة البرلمان التالية في 22 أيار، خلا جدول أعمالها من “انتخاب رئيس البرلمان” بالفعل، لكنه تضمن التصويت على مزيد من القوانين، مثل قانون التعديل الثاني لقانون مفوضية الانتخابات والذي يهدف لتمديد عمر مفوضية الانتخابات، بما يسمح بإجراء انتخابات برلمان الإقليم، إلّا أن تقديم بعض المتضررين وحكومة كردستان طعناً في قوائم المرشحين وإجراءات المفوضية وانسحاب الديمقراطي الكردستاني من الانتخابات أوحت بعدم امكانية اجراء الانتخابات في موعدها، وتزامن هذا التأخير المحتمل مع قرب انتهاء فاعلية التمديد الأول لعمر المفوضية الذي ينتهي في 6 تموز ليأتي التمديد الجديد لعمر المفوضية حتى 6 كانون الثاني 2025. 

وتضمنت الجلسة أيضاً التصويت على مشروع قانون العطلات الرسمية، الذي تضمن إدراج “عيد الغدير” كعطلة رسمية ضمن القانون، على الرغم من رفض القوى والأوساط الدينية السنية وبعض الأصوات، اعترافًا رسميًا بمبدأ “الولاية والتنصيب الإلهي لعلي بن أبي طالب خليفة للنبي محمد”، وبالتالي فهو اعتراف ضمني ببطلان “الخلافة الراشدة” التي يؤمن بها السنة، السواد الأعظم من مسلمي العالم، ما أعاد الروح للخطابات والجدل الطائفي. 

أضاف تمرير القانون بهذه الصيغة مكسباً شيعياً آخر أثمرته الأشهر الـ6 -قد تطول- التي حكموا فيها البرلمان، وما كان القانون ليمرَّ بسهولة لولا أن منصب رئاسة البرلمان بيد الإطار، وسط اعتقاد بأن عدم توجيه الإطار التنسيقي بانتخاب شخصية محددة وكذلك ذهاب بعض نوابه لإبطال أوراق التصويت، هو تعمد واضح لتأخير حسم منصب رئيس البرلمان ومن ثم إدراج “قانون عطلة الغدير” في الجلسة التالية مباشرة لجلسة فشل انتخاب رئيس البرلمان.  

في الجلسة ذاتها حاول الإطار التنسيقي أيضاً تمرير قانون جدلي آخر، وهو التصويت على قانون إعادة العقارات الى أصحابها المشمولين ببعض قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، غير أن بعض النواب السنة، عملوا على رفض تمرير القانون وتأجيله، كونه يتضمن سلب بعض الأراضي من العرب السنة في كركوك لصالح الكرد، في الوقت الذي ساهمت بعض القوى الكردية بتمرير قانون عطلة الغدير. 

تضيف تجربة الأشهر الستة التي قد تطول، فشلاً آخر للحياة السياسية في العراق، فشل أصاب أعلى سلطات النظام الذي مازال يحمل اسم “العراق الجديد” بعد  21 سنة من الاحتلال الأمريكي، ومازال الذين تضخّمت أموالهم ومخازن سلاحهم ومناسيب نفوذهم يقولون إنه ديمقراطي ذو حرّيات، بينما تتراجع الحريات وتهتز الديمقراطية الهشة عبر “تتفيه” السلطة التشريعية بطريقة كالتي شهدها الجميع. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”   

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في 14 تشرين الثاني 2023، سلبت المحكمة الاتحادية العليا، مجلس النواب العراقي، رئيسه، بدعوى “انتحارية” قدّمها النائب السابق ليث الدليمي بالضد من رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ادّعت تزوير استقالة للدليمي من البرلمان، لتفضي القضية إلى إنهاء عضويتيهما كليهما من المجلس وتبدأ رحلة طويلة، شهدت ظواهر سياسية وتحالفات متحركة وكسر إرادات، تماسكت خلالها القوى السياسية الشيعية وأوغلت بتفكيك وتعرية القوى السياسية السنية المفككة أصلاً، فضلاً عن تمرير قوانين ما كانت لتمرّ بسهولة لولا سيطرة الإطار التنسيقي على رئاسة البرلمان. 

بينما كان رئيس المحكمة الاتحادية العليا يتلو قرار إنهاء عضوية الحلبوسي، كان آخر رؤساء البرلمان يترأس الجلسة رقم 25 من الفصل التشريعي الثاني -السنة التشريعية الثانية، وبعد أن أمضى البرلمان نصف عمره التشريعي تحت رئاسته، أنهى الحلبوسي تلك الجلسة قبل أن تبدأ، عقب أن ورده الخبر من السلطة القضائية العليا. 

منذ ذلك الحين، أصبحت رئاسة البرلمان لدى الطرف الشيعي الذي انفرد بهذا المنصب، وغاب الطرف السني طوال 6 أشهر من المنصب السيادي الأول والأهم بالنسبة لهم، وفق الخارطة التي فرضها العرف السياسي بعد عام 2003، حيث استحوذ الطرف الشيعي على الرئاسة التشريعية، رئاسة مجلس النواب، من خلال النائب الأول لرئيس المجلس محسن المندلاوي، بالإضافة للرئاسة التنفيذية رئاسة الوزراء. 

السباق نحو الفريسة 

في الأثناء، كانت الشخصيات والكتل السياسية السنية المناوئة للحلبوسي، تتحرك لأخذ فرصتها بعد هيمنة السياسي الشاب وحزبه “تقدم” لدورتين برلمانيتين على المنصب. 

فبعد يومين فقط، وبينما كان حزب تقدم يعيش حالة الغضب والصدمة والتفكير بترتيب الأوراق، تحرك تحالف “العزم” برئاسة مثنى السامرائي، وتحالف “الحسم” الذي يضم أسامة النجيفي وجمال الكربولي ووزير الدفاع الحالي ثابت العباسي، لتقديم مرشحين بدلاء لسلب المنصب من حزب “تقدم”، في خطوة ربما تكون مدفوعة بالانقسام والخلاف المسبق مع الحلبوسي، وبالاصطفاف الأكثر قرباً لمكوّنات الإطار التنسيقي الشيعي أو بـ”الشعور بالعار”، فحزب تقدم أخذ حجمه وتأثيره من الحلبوسي، وسيكون أمراً صعباً على القيادات السنية أن يأتي سياسي آخر غير معروف ليتسلم منصب رئاسة البرلمان فقط لأنه من “تقدم”، وبناء على ذلك قدم تحالف التحالفين -العزم والحسم- كلاً من محمود المشهداني وطلال الزوبعي وسالم العيساوي كمرشحين لخلافة الحلبوسي. 

اقرأ أيضاً

المستقلون في البرلمان.. تجربة “الاستقلالية” و”التطرّف” و”التخادُم” 

ومنذ الأيام الأولى، ورداً على تحركات القوى السياسية السنية الأخرى، بدأ حزب “تقدم” الحديث عن شعلان الكريّم أو هيبت الحلبوسي كمرشحين محتملين لمنصب رئيس البرلمان. وبدأت الأسماء تتكرر وتضاف لها أسماء جديدة، تظهر وتغيب. في الأثناء كان الانقسام تسرّب إلى البيت الشيعي، فبينما كان “الإطار” يتظاهر بأن الأمر متروك للسُنة، كانت قواه تتلذّذ بالاختلاف حول: ندعم من؟ أو تتلذّذ باستمرار افتراس المنصب. 

مخارج قانونية “على المرام 

خلال 6  أشهر، ترأس محسن المندلاوي أكثر من 30 جلسة، مقابل 80 جلسة كانت برئاسة الحلبوسي منذ بدء الدورة البرلمانية الخامسة، ما يعني أن الطرف الشيعي اقتطع ما يقارب الـ13 بالمئة من عمر دورة البرلمان من الجانب السني لصالحه، أو ربع جلسات الفصلين التشريعيين الأولين. 

مباشرة، في اليوم التالي لإنهاء عضوية الحلبوسي، أي في 15 تشرين الثاني 2023، عقد البرلمان جلسة استثنائية برئاسة المندلاوي، بدأت الجلسة بجدل قانونية عقد جلسة للبرلمان دون انتخاب رئيس جديد له، حيث تداخل النائب علي حسن الساعدي مذكراً بالمادة 12 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على أنه “إذا خلا منصب رئيس مجلس النواب أو أي من نائبيه لأي سبب كان، ينتخب المجلس بالأغلبية المطلقة خلفاً له في أول جلسة يعقدها لسد الشاغر وفقاً لضوابط التوازنات السياسية بين الكتل”. 

إلّا أن المندلاوي ردّ على ذلك بأن قرار المحكمة الاتحادية العليا لم يرد إلى مجلس النواب بعد، واستناداً الى المادة 35 من النظام الداخلي فأنه يمارس النائب الأول مهام رئيس المجلس عند غيابه، وفي تلك الجلسة تم التصويت على رئيس الادعاء العام وهيئة الإشراف القضائي. 

وفي 18 تشرين الثاني، عقدت جلسة استثنائية ثانية، وفي 22 تشرين الثاني، عقد مجلس النواب جلسة استثنائية جديدة برئاسة المندلاوي كان على رأس جدول اعمالها انتخاب رئيس البرلمان وهي أول محاولة لانتخاب بديل للحلبوسي، وذلك بعد وصول قرار المحكمة الاتحادية العليا إلى البرلمان وأصبح لزاماً انتخاب رئيس المجلس، إلا أن المندلاوي استند إلى قرار للمحكمة الاتحادية العليا يعود لعام 2009، القرار 9 اتحادية 2009، والذي ينص على وجوب استمرار عمل مجلس النواب بأداء مهامه وانعقاد جلساته برئاسة أحد نائبي الرئيس وحسب قِدَمَه لحين انتخاب رئيس للمجلس، ليطلب المندلاوي من البرلمان التصويت على تأجيل فقرة انتخاب رئيس البرلمان لحين حصول توافق سياسي، وتم التصويت بالفعل على التأجيل. 

سنة تشريعية أخرى.. جولة أولى 

اختتم المندلاوي السنة التشريعية الثانية بـ3 جلسات استثنائية صوت خلالها على قانون هام، وحسم اثنين من أهم المناصب القضائية، وتم ترحيل اختيار منصب رئيس البرلمان إلى ما بعد الانتخابات المحلية التي أجريت في 18 كانون الأول، ليبدأ المندلاوي السنة التشريعية الثالثة. 

في 13 كانون الثاني بدأت السنة التشريعية الثالثة أول جلساتها بجدول أعمال، كلُّه فقرة واحدة: انتخاب رئيس للمجلس، عُقدت الساعة الخامسة بعد الظهر، وأعلن البرلمان تسلّم أسماء 6 مرشحين للمنصب وهم كل من النائب سالم العيساوي، ومحمود المشهداني، وشعلان الكريم، وطلال الزوبعي، وعبد الرحيم الشمري الذي قدم في ما بعد طلب الانسحاب، فضلاً عن النائب عامر عبد الجبار وهو نائب شيعي في محاولة لكسر العرف السياسي المتبع منذ 2003 بأن يكون رئيس البرلمان من حصة القوى السنية. 

وتمت بالفعل عملية التصويت، على 5 مرشحين بعد انسحاب الشمري، حصل فيها مرشح تقدم شعلان الكريم على 157 صوتاً كأعلى الأصوات بين المرشحين، وبعده سالم العيساوي بـ97 صوتاً، ومحمود المشهداني 48 صوتاً، وعامر عبد الجبار 6 أصوات، وطلال الزوبعي حصل على صوت واحد فقط. 

توقفت الجلسة، ثم استؤنفت الساعة الـ12 والنصف بعد منتصف الليل، امتدت لـ9 دقائق فقط صُوِتَ خلالها لصالح فقرة متعلقة بتمشية أمور البرلمان في حال غياب رئيس البرلمان أو أحد نائبيه: تصدر القرارات باتفاق الحاضرين. فصار ترؤس المندلاوي المؤقت للجلسات، مصطبغاً بالشرعية. 

وخلال فترة استحواذ القوى الشيعية على رئاسة البرلمان، منذ إقصاء الحلبوسي وحتى 22 أيار، قرئ 37 قانوناً قراءة أولى وثانية، وشُرِعَ 16 قانوناً، أبرزها تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وتعديل قانون العقوبات، وتعديل قانون مكافحة البغاء، الذي وضع عقوبات السجن المؤبد بحق مثليي الجنس، واستجلب انزعاج وامتعاض المجتمع الدولي وبعض المنظمات الحقوقية، والذي لولا ترؤس المندلاوي بالإنابة للبرلمان ربما كان لم يُشرّع، فسبق أن اتُهِم َالحلبوسي بمنع عرض القانون للتصويت. 

كما شرّع البرلمان أيضاً، برئاسة القوى الشيعية، قانون العطلات الرسمية وقانون جهاز الأمن الوطني، مقابل 36 قانوناً تم تشريعها تحت رئاسة الحلبوسي، طوال عامين. 

اقتصر تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، على تمديد عُمر المفوضية لـ6 أشهر، لتنتهي في 6 تموز، بدلاً من 6 كانون الثاني 2024، وذلك لضمان اجراء انتخابات اقليم كردستان التي شهدت عدة عقبات هي الأخرى نتيجة صدور قرارات من المحكمة الاتحادية العليا، تضيّق على الحزب الديمقراطي الكردستاني، من بينها تولي المفوضية العليا الاتحادية مهمة الإشراف، والغاء مقاعد كوتا الأقليات، خصوصاً وأن أغلبيتهم ينتشرون في مناطق نفوذ الديمقراطي الكردستاني أربيل ودهوك. 

الجولة الثانية.. انقلاب إطاري ودعاوى قضائية متبادلة 

كان يجب على البرلمان عقد جولة ثانية لانتخاب رئيسه، حيث يتطلب حصول المرشح على نصف العدد المطلق لأعضاء البرلمان +1، ما يعني أن المرشح يجب أن يحصل على 166 صوتا للفوز بمنصب رئيس البرلمان، أي أن شعلان الكريم كانت تفصله 6 أصوات فقط للفوز بالرئاسة.  

ظهرت فقرة انتخاب رئيس البرلمان على جدول أعمال الجلسة الثانية في السنة التشريعية الجديدة والتي عقدت في 27 كانون الثاني 2024، إلّا أن الخلافات كانت كبيرة ولاسيما “انقلاب” الإطار التنسيقي على شعلان الكريّم مرشح تقدم، فبينما حصل الكريم على 157 صوتاً لا يمتلك حزب تقدم سوى 37 مقعداً ومع توزيع أصوات القوى السنية الأخرى على باقي المرشحين، كما أن مقاعد الكرد أكثر من 50 مقعداً، ما يعني أنه حتى في حال صوت جميع النواب الكرد للكريّم مع كتلة تقدم، فهناك أكثر من 70 نائباً من الإطار التنسيقي وأصدقائه، من المرجّح أنهم صوتوا لمرشح تقدم، غير أن معظم أطراف الإطار التنسيقي خرجت بمواقف مغايرة بعد ساعات من تلك الجلسة وعبرت عن رفض الكريّم رئيساً للبرلمان بدعوى انه “متهم بتمجيد النظام السابق”. 

على إثر ذلك، ترادفت الدعاوى القضائية على المحكمة الاتحادية، حيث جاءت دعاوى من النواب فالح الخزعلي ويوسف الكلابي تطعن بترشيح شعلان الكريم لرئاسة البرلمان، فضلاً عن دعوى أخرى من النائبَيْن نفسيهما، بالإضافة الى النائب عن “حقوق” -كتائب حزب الله- حسين مؤنس تطالب بإسقاط عضوية الكريّم من البرلمان، كما تسلمت المحكمة الاتحادية العليا دعوى من النائب عن تقدم هيبت الحلبوسي يطالب فيها بإلغاء الجولة الأولى لانتخاب رئيس البرلمان والحكم بعدم دستوريتها، حيث انتظر تقدم من هذه الخطوة، الحصول على فرصة فتح باب الترشيح مجدداً للدفع بمرشح آخر بعد أن اقتربت ورقة الكريم من الاحتراق وعدم امتلاك حزبه مرشحاً غيره خلف باب الترشح الموصد. 

الأبواب تغلق.. لا تقدم لتقدم 

منذ 13 كانون الأول، لم تحسم المحكمة الاتحادية العليا الدعاوى المرفوعة أمامها إلّا بعد أشهر، في 28 شباط ردت المحكمة دعوى “بطلان ترشيح شعلان الكريم” لعدم الاختصاص، لكن حزب الحلبوسي كان يتطلع لأمر واحد: دعوى إلغاء الجولة الأولى ليتمكن من الزج باسم جديد غير الكريّم. 

بعد ذلك بحوالي شهر، وفي 1 نيسان، نطقت المحكمة الاتحادية العليا: ردُّ طلب تقدّم بإلغاء الجولة الأولى، وأقرت بصحتها، وفي 8 أيار ردّت المحكمة دعوى اسقاط عضوية الكريّم، لكن الأوان كان فات حيث أن الكريم سحب ترشيحه لرئاسة البرلمان وكذلك انسحب من حزب تقدم، حيث كان الحزب يتطلع فقط للحصول على فرصة جديدة لتقديم مرشح اخر غيره. 

بعد حكم المحكمة بصحتها، صار مجلس النواب ملزماً بمرشحي جلسة الجولة الأولى، وعليه ان يعقد ثانية لانتخاب رئيس البرلمان منها ومنها فقط، فلم يكن أمام حزب تقدم سوى أمل ضئيل واحد، وهو التصويت لصالح تعديل النظام الداخلي للبرلمان، بما يتيح إمكانية فتح باب الترشيح مجدداً، إلّا أن هذا الخيار جوبِه برفض من قوى الإطار التنسيقي. 

اقرأ أيضاً

“مُحن” البرلماني العراقي ومِحنة الدولة: لو نظروا أبعد من أعضائهم التناسلية! 

في الأثناء، وفي منتصف آذار 2024، انسحب 5 نواب من تحالفي العزم والسيادة، لتشكيل كتلة جديدة باسم “الصدارة”، من بينهم نائبان مرشّحان في الجولة الأولى، والوحيدة، لرئاسة البرلمان، وهما محمود المشهداني، وطلال الزوبعي، كـ”مناورة” في محاولة لإيجاد كتلة سنية “وسطية” بين القطبين المتناحرين على المنصب، “تقدم” من جهة، و”العزم و”الحسم” من جهة أخرى. 

وبالفعل، أعلنت الكتلة الجديدة، “الصدارة”، انضمامها إلى “تقدم”، ليعلن الحزب دعمه لترشيح محمود المشهداني لرئاسة البرلمان، فبينما لم يستطع الحلبوسي استعادة المنصب، وافق على الأقل أن يأخذه شخص آخر “يرتضيه”، حتى وان كان إعلان الانضمام شكلياً، يداوي فيه المشهداني جرح تقدم. 

في يوم إعلان “تقدم” ذاته، أعلن ياسر صخيل المالكي النائب المقرّب من زعيم دولة القانون رئيس الوزراء السابق والقيادي في الإطار التنسيقي نوري المالكي، أعلن دعم المشهداني، في تغريدة على منصة X زيّنها بترحيبٍ بالتوافق السُني.  

للمكونات حق “اللعب فقط 

لا يمكن القول إن أزمة انتخاب رئيس البرلمان التي دامت 6 أشهر، انتهت أو طالت، لا يمكن القول إنها مقتصرة على القوى السياسية السنية، فبصمات القوى الشيعية واضحة ومتحكمة، فلن يجلس على مقعد “حصة السنة” إلا من ترتضيه القوى الشيعية، كما أن الكلمة الأولى والأخيرة والوحيدة في منصب رئيس الوزراء هي للشيعة، ولن يكون للكتل السنية والكردية دور أو رأي فيه. 

حيث أظهرت الأشهر الأخيرة أن الشراكة التي يرفع نظام ما بعد 2003 لواءها، هي السماح للمكونات الأخرى بالمشاركة في اللعبة، لا أن تشارك بوضع قوانينها ومعاييرها وضوابطها، بل هذه امتيازات حصرية لممثلي المكون الشيعي، فالقوى الشيعية تدخلت بدعم مرشح على حساب آخر، والتضييق على مرشح بعد التصويت له، وصدور قرارات من المحكمة الاتحادية تضيّق الأدوار على أن يتمكن طرف من الانفراد واجباره على الخضوع لـ”توافق” سياسي، صوت الشيعة فيه هو الأعلى. 

لماذا يحتاج رئيس البرلمان لدعاية انتخابية وحرب شائعات؟ 

طوال سنوات، كان الذهاب لانتخاب الرئاسات داخل البرلمان، وبالرغم من كونه “انتخابا” إلا أنه لا يقترن بالترويج وإطلاق الدعايات الهادفة لجذب الأصوات، لأنه انتخاب يتم بعد اتفاق الكتل السياسية على اسم محدّد، الا ان انتخاب رئيس البرلمان في الجولة الثانية احتاج الى أن يطلق المرشحان سالم العيساوي ومحمود المشهداني، جملة دعايات انتخابية وتعهدات بالالتزام بثواب في تغريدات مساء الجمعة، قبل ساعات من انعقاد الجلسة الساخنة في اليوم التالي. 

وشهدت الساعات التي سبقت الجلسة أيضاً، حرب شائعات وتسقيطاً سياسياً متبادلاً، على سبيل المثال تم ترويج انباء عن انسحاب المشهداني من المنافسة أمام العيساوي، او إعادة نشر مواقف سابقة للمشهداني من قبيل وصف الشيعة بأنهم “مال لطم مو مال حكم”. 

احتاج مرشحو رئاسة البرلمان هذه المرة إلى دعايات انتخابية وتعهدات وحرب شائعات، لأن اتفاق الإطار التنسيقي لم يتضمن توجيهاً مركزياً بانتخاب مرشح دون آخر، حيث لا يريد قائد كتلة سياسية داخل الإطار معاداة تقدم والحلبوسي ولا يريد تقويته أيضاً، وهذا ينطبق على بقية القوى السنية بشكل صريح، خصوصاً وإن الإطار “غير متحمس أساساً” لحسم منصب رئيس البرلمان، وفق تلميح أكثر من نائب. 

تشي الحالة بأن قادة الإطار تركوا أمر التصويت بحرية للنواب ليختاروا من يريدوه من المرشحين في الجولة الثانية، وإذا لم يحسم الأمر، تضمن التوجيه أن تكون الجولة الثالثة هي الحاسمة بالتصويت لصالح من حصل على أعلى الأصوات في الجلسة الثانية. 

لذلك، وبينما أدرك حزب تقدم هذا الأمر مبكراً، وأن الذهاب لجولة ثالثة يعني مضي توجيه قادة الإطار بالتصويت لمن حصل على أعلى الأصوات في الجولة الثانية وهو سالم العيساوي الذي حاز على 158 صوتاً مقابل 137 صوتاً للمشهداني، ذهب نواب تقدم نحو عرقلة الجلسة، الأمر الذي أشعل شجاراً بين هيبت الحلبوسي ورئيس تحالف العزم مثنى السامرائي، ومحاولة نواب تقدم الضغط على محسن المندلاوي نائب رئيس البرلمان الأول ومسيّر الرئاسة لرفع الجلسة، وهذا ما حصل بالفعل. 

حتى إشعار آخر 

بعدما رفع المندلاوي جلسة البرلمان عقب الشجار “الدامي”، في جلسة أراد لها الإطار التنسيقي أن تكون بلا هدف ولا نهاية واضحة، تحققت، بالإضافة لمكسب التشريع وإصدار القوانين بأريحية، ثلاث نقاط لصالح الإطار الشيعي: المساحة التي تتمتع بها السلطة التنفيذية -الحكومة- المنبثقة من الإطار التسيقي الشيعي والخاضعة لقادته، في ظل غياب الرقابة والمساءلة البرلمانية الكافية. 

والثانية تعميق التفكك والخلاف بين القوى السنيّة وزيادة مستوى التحدي بينها وإشاعة هذا التفكك والصورة السياسية السلبية المتشكلة تجاه المنافس السياسي الأكبر لها على صعيد المكونات. 

اقرأ أيضاً

من البرلمان إلى السجن: القوانين الفضفاضة لقمع الحريات 

أما الثالثة فهي أن الإطار التنسيقي ألقى الحجة على الجميع وأصبح لديه المبرر الكافي للاحتفاظ بمنصب رئيس البرلمان حتى إشعار آخر، في محاولة إثبات أن تأخير انتخاب الرئيس ليس محاولة إطارية للاستحواذ على المنصب أطول فترة ممكنة، بل سبب داخلي بين القوى السنية، ولا حجة على الإطار، وبوضوح، قال المندلاوي بعد رفع الجلسة، إنه لن يعقد جلسة أخرى لانتخاب رئيس للبرلمان إلّا بالتوافق على مرشح واحد، وهو أمر ربما يطول بطول عمر الدورة البرلمانية، أو بما يكفي ليمرر ويشرّع “الإطار التنسيقي” ما يريد. 

جلسة البرلمان التالية في 22 أيار، خلا جدول أعمالها من “انتخاب رئيس البرلمان” بالفعل، لكنه تضمن التصويت على مزيد من القوانين، مثل قانون التعديل الثاني لقانون مفوضية الانتخابات والذي يهدف لتمديد عمر مفوضية الانتخابات، بما يسمح بإجراء انتخابات برلمان الإقليم، إلّا أن تقديم بعض المتضررين وحكومة كردستان طعناً في قوائم المرشحين وإجراءات المفوضية وانسحاب الديمقراطي الكردستاني من الانتخابات أوحت بعدم امكانية اجراء الانتخابات في موعدها، وتزامن هذا التأخير المحتمل مع قرب انتهاء فاعلية التمديد الأول لعمر المفوضية الذي ينتهي في 6 تموز ليأتي التمديد الجديد لعمر المفوضية حتى 6 كانون الثاني 2025. 

وتضمنت الجلسة أيضاً التصويت على مشروع قانون العطلات الرسمية، الذي تضمن إدراج “عيد الغدير” كعطلة رسمية ضمن القانون، على الرغم من رفض القوى والأوساط الدينية السنية وبعض الأصوات، اعترافًا رسميًا بمبدأ “الولاية والتنصيب الإلهي لعلي بن أبي طالب خليفة للنبي محمد”، وبالتالي فهو اعتراف ضمني ببطلان “الخلافة الراشدة” التي يؤمن بها السنة، السواد الأعظم من مسلمي العالم، ما أعاد الروح للخطابات والجدل الطائفي. 

أضاف تمرير القانون بهذه الصيغة مكسباً شيعياً آخر أثمرته الأشهر الـ6 -قد تطول- التي حكموا فيها البرلمان، وما كان القانون ليمرَّ بسهولة لولا أن منصب رئاسة البرلمان بيد الإطار، وسط اعتقاد بأن عدم توجيه الإطار التنسيقي بانتخاب شخصية محددة وكذلك ذهاب بعض نوابه لإبطال أوراق التصويت، هو تعمد واضح لتأخير حسم منصب رئيس البرلمان ومن ثم إدراج “قانون عطلة الغدير” في الجلسة التالية مباشرة لجلسة فشل انتخاب رئيس البرلمان.  

في الجلسة ذاتها حاول الإطار التنسيقي أيضاً تمرير قانون جدلي آخر، وهو التصويت على قانون إعادة العقارات الى أصحابها المشمولين ببعض قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل، غير أن بعض النواب السنة، عملوا على رفض تمرير القانون وتأجيله، كونه يتضمن سلب بعض الأراضي من العرب السنة في كركوك لصالح الكرد، في الوقت الذي ساهمت بعض القوى الكردية بتمرير قانون عطلة الغدير. 

تضيف تجربة الأشهر الستة التي قد تطول، فشلاً آخر للحياة السياسية في العراق، فشل أصاب أعلى سلطات النظام الذي مازال يحمل اسم “العراق الجديد” بعد  21 سنة من الاحتلال الأمريكي، ومازال الذين تضخّمت أموالهم ومخازن سلاحهم ومناسيب نفوذهم يقولون إنه ديمقراطي ذو حرّيات، بينما تتراجع الحريات وتهتز الديمقراطية الهشة عبر “تتفيه” السلطة التشريعية بطريقة كالتي شهدها الجميع. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”