كاميرا هوليود في بغداد: العِراقي المُستباح في مسارح أخلاقية
22 أيار 2024
قراءة مطوّلة في أفلام أمريكية عن حرب العراق، يظهر فيها الجانب العراقي مُجهّلاً، يفقد حقاً إنسانياً في أن يكون ضحيّة حرب، وضحيّة تحريف حقيقتها..
مُنذ ميلاد السينما نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي موبوءة بداء التوظيف السياسي. أدرك فلاديمير لينين أهمية تطويع السينما، واعتبر من الضروري أن يخضع هيكل صناعة الأفلام وخصائص المادة البصرية لأفكار المؤسسة السياسية، نظراً لما تملكه من قدرة على نقل الدعاية في إطار ترفيهي. وعلى الجهةِ الأخرى، التقط وودرو ويلسون الرئيس الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، قابلية ما يُمكن للسينما أن تخلقه من إعادة إنتاج للحوادث التاريخية، مهما بدت دموية ومُفارقة لما تتبنّاه المؤسسات الحديثة من خِطاب ديموقراطي.
في فيلم “ولادة أمّة- the birth of nation” إخراج وإنتاج ديفيد غريفيث، تحوّلت الحرب الأهلية الأمريكية إلى نمطٍ ارتقائي، مثله مثل العوارض الضارة والمؤسفة التي تختبرها الأمم الكبيرة، لتظفر برفاه إعادة الإعمار من جديد. ظهرت الحقائق التاريخية المنوطة بالحرب الأهلية الأمريكية في الفيلم، مُحوّلة من ثوابت تاريخية إلى حكايات خرافية، يتم تأطيرها لصالح الشحن القومي العاطفي.
تاريخ السينما مع التوجيه السياسي والدعائي طويل، يمُر عبر الحرب العالمية الثانية، واهتمام بينيتو موسوليني وأدولف هتلر بمنظومة السينما، وينتقلُ إلى التوسّع الأمريكي بعد الحرب نفسها، من خلال أفلام الأبطال الخارقين، وتوزيعها في أوروبا، تحديداً إيطاليا، التي كانت تُعاني تهالُكاً في البنية التحتية وتهتّكاً اقتصادي، لتغذية خيال مُجتمعٍ غارق في المعاناة برحلات ارتقاء وتحقق فردي.
محطة العراق
كما في حروب أخرى، أعادت السينما الأمريكية إنتاج الحرب على العراق في 2003.
في تشرين الأول 2001، التقى الرئيس الأمريكي جورج بوش، بأصحاب أستوديوهات أمريكية عدّة لمُناقشة كيف يُمكن لصناعة الترفيه أن تُساعد في “الحرب على الإرهاب”، هذه الجُملة تحديداً، فتحت على السينما العالمية توجّهاً فجاً، جمالياً وثقافياً وسياسياً، مثّله كُتلة من أفلام موضعية، جُزء كبير منها، ارتكز على حرب العراق، تحت قاعدة تجاوز الصراع الحاصل حول تأييد الحرب أو معارضتها، لأن الأفضل بطبيعة الحال هو التسليم بضرورة الحرب، ثم النظر إلى الأخطاء الجانبية، التي ارتكبتها، مع الأسف، السياسة الأمريكية آنذاك، بينما الضرورة العُليا، تبدأ وتنتهي عند دعم القوّات والوقوف وراء القُوى العُظمى الديموقراطية.
ظهر مُصطلح أفلام “حرب العراق” في 2005، مع صُدور فيلم “Jarhead” للمُخرج سام منديز. للمفارقة، الفيلم كان عن حربِ الخليج، لكنّه حظي بإقبال جماهيري جيّد، وتم الترويج له، باعتباره فيلماً منوطاً بحرب العراق. لاحقاً، وتحديداً عندما تلاشت أسطورة سلاح الدمار الشامل، فرض سؤال داعي وجود القوات الأمريكية في العراق نفسه، وخلال هذه المرحلة أنتجت هوليود أفلاما عديدة، استطاعت خلالها الولايات المُتحدة تدجين رؤية للتفوّق العسكري، والحقُ في الخطأ، والأهم، القُدرة على تبرير العُنف المنظم، بينما كان الجانبُ الآخر، العراقي، إما مُجهّلاً أو مُفترى عليه، أو مُستباحاً.
مسارح أخلاقية
تميّزت الحرب على العراق، عن بقيّة الحروب التي خاضتها الولايات المُتحدة قبلها -خاصة حرب فيتنام- بأنها وقعت في زمنٍ يُمكن لكاميرات التصوير أن تتموضع في قلب الحدث، وتنقلُ دواخل الأحداث مُباشرة أمام العالم. رُبما لذلك، لم تحظ أفلام حرب العراق بنجاحٍ كبير، سواء المؤيدة لها أو المُعارضة، لأن الناس بعد مرور سنوات قليلة على الحرب، كانت اكتفت بما شاهدته، تحديداً ما حاولت الدعاية الأمريكية، المرئية والمكتوبة، تجهيله.
في فيلم “أفضل سنوات حياتنا- The best of our lives” تنتهي إرثية الحرب العالمية الثانية عند تأثيرها على مجموعة من الجنود الأمريكيين، عندما يعودون إلى وطنهم، ليكتشفوا تغيرات يصعبُ إصلاحها، ومن ثم يأتي التكيّف مع الحياةِ مرة أخرى، بينما الأفلام التي صدرت عن حربِ فيتنام -بعيداً عن التي أدانتها بوضوح- تتمحورُ حول المآل نفسه، وهي تضاربُ المشاعر بين الحُزن على القتلى الأمريكيين، وأن الوطن قد باع أبناءه، ثم الانتهاء بضرورة الاندماج مع المُجتمع والعودة إلى تجديد الفناء الوطني بتفانِ.
في أفلام حرب العراق، تمثّلت استجابة الولايات المُتحدّة لنقد خطوة الحرب، وضرورة إدانة نفسها، مسألة ضرورية للخُروج عن صورة دخولها العراق لسببٍ عسكري غير مُبرر. في فيلم “خزانة الألم- The hurt locker” نرى في البداية جُملة ظاهرها ثوري “الحرب مُخدرات”. بالفعل يتناول الفيلم نقداً للحرب، وما تُحدثه من ضررٍ جذري في حياة الجُنود، ورُبما حمل الفيلم ملمحاً لنقدِ الشخصية الأمريكية الحديثة، لكن هل تصاعد النقد إلى التعمّق في جذرية الحرب على العراق؟ أو في وضع أي إشارة لآثار هذه الحرب على العراقيين؟
الفيلم الذي حصل على أوسكار 2009، وحصدت مُخرجته كاثرين بيجلو في المُناسبة نفسها جائزة أفضل مُخرجة، يتناول حياة ثلاثة جُنود أمريكيين يتم إرسالهم إلى العراق، لمنع التحديات التي تُواجه القوات الأمريكية في البلاد، من خلال ألغامٍ يزرعها تنظيمُ القاعدة، المُمثّل الحصري للمُقاومة في الفيلم. حفل الفيلم بفضاء من الأسئلة، عبر تنويعة من ثلاث شخصيات، يُمثّل كُل واحدٍ منهم قُطباً كونياً وإنسانياً، بداية من التهوّر المُفرط، مروراً بالخوف المرضي، وانتهاءً بالالتزام المثالي. هذه النماذج تستنزفها الحرب، وتجعلُ من أكوادها الأخلاقية، المُلتزمة تجاه الوطن، أفكاراً معطوبة لا تُنتج سوى استهلاك الجنس البشري ودفعه نحو الهاوية، لكن الجانب الآخر من التناول، يتجاهل أحد أطراف هذا الاستنزاف الحربي، الجانبُ العراقي المُقولب في إطار الإرهاب، أو في إطار ضحيته.
باعتبار أن السينما تُمثّل حكاية ما، في إطار بصري يرتكزُ على التكثيف والإشارة لحصر مُختلف جوانب الحكاية، فإن تمثيلاتُ البداية والمُسببات فيها، تُحيل إلى نفس البداية والمُسببات في الواقع، وبالتالي فإن الفيلم حينما يُدين الحرب، فإنه يُعيد إنتاج الحدث، باعتباره استنزف جُنوداً أمريكيين، رُبما عبر أخطاء سيادية، وبشكلٍ أساسي عبر مُقاومة إرهابيين، أي عبر إزاحة طرف استحال من ضحيّة إلى مُساهم في المسؤولية حول وجود هذه الحرب.
في قراءته لفيلم “القناص الأمريكي- American sniper” يُطلق زاك بوشامب على آلية التدجين الأمريكي تجاه سردية حرب العراق، بأنّها “تصوير للحرب كمسارح أخلاقية” من حيثُ إعادة تشكيل الحقائق باستحقاق غريب، كأن أصول هذه الأحداث مرّت مُنذ عقود طويلة، ولم تمر على تغطيات صحافية بديلة ووسائل مرئية حاولت تعويض التحريف الأمريكي. في الفيلم المذكور، يتم تناوُل نشاط القنّاص الأمريكي كريس كايل، الذي شارك في الحرب على العراق، وقتل أكثر من 160 عراقيًا، ومن خلال حكايته في الفيلم، طبعًا، يتم تناوُل التحديات النفسية التي يُواجهها الجُندي الأميركي خلال وقت الحروب.
يحفلُ الفيلم الذي أخرجه “كلينت إيستوود” بأطر إدانة أكثر مُباشرة تجاه الشخصية العراقية، التي بدت إما خائنة، أو هي قاتل مُحتمل. جاءت هذه الأرضية القُطبية، التي تجعلُ من العراقي أمثولة للشر، لصبغ معنى ضروري على حياة القنّاص كريس -لا يصحُ طبعاً أن يخدم الوطن ويقتُل 160 إنساناً، ويكون مُجرم حرب مثلاً، أو ينتهي بهذه الرحلة إلى إدانة أخلاقية. لا يُوجد رجل أو سيدة، أو حتى طفل عراقي في الفيلم، إلا وله ملمح في تسبب دمار نفسي للجُندي الأمريكي، الذي يجدُ وقتها دافعاً للانتقام، والقتل، تحت ضرورة، ورُبما قليل من الندم، لأجل الثأر لزُملائه القتلى.
بنى إيستوود فيلماً سينمائياً مُتماسكاً، وشخصية قائمة على أساس يجعلُ الانتقام ضرورة مصبوغة بالمعنى الدفاعي، على مُستوى عام في ما يتعلّق بالوطن، وعلى مُستوى خاص في ما يتعلّقُ بالأسرة، لكن دوافعُ الانتقام الدفاعية، ارتكزت على حوادث لا علاقة لها بالحرب على العراق. بدلاً من السبب المُعتاد، المُتعلق بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، يرجئ الفيلم دافع الانتقام لدى كريس، إلى أحداث 11 أيلول، التي افتتحت الفيلم، ومن ثم انتقلنا إلى كريس مُباشرة في العراق، ولذلك بدا مُبرراً تمسّك القنّاص الأمريكي بأن ما يفعله في العراق واجباً وطنياً، وبديلاً لضبابية وجهة حياته الشخصية.
يتناول كتاب “إمبراطوريات: منطق السيادة الكونية من روما القديمة إلى الولايات المُتحدة” تصوّراً نافذاً عن الولايات المُتحدة كقوة عظمى حديثة، ركّزت موقعها العالمي في التسعينيات عقب الحرب الباردة، في وقتٍ بدأ العالم يظن أنه يودّع القُوى العظمى، بمعناها التقليدي، وبلا عودة. تفرضُ الولايات المُتحدة حالة الاستثناء حسب رغبتها، فالدُول الحديثة لا يُمكنها تقرير مصير أخرى، لكن القُوى العظمى يُمكنها فعلُ ذلك، بما تحمله من دور أبوي وتنميق خطابي. تنعكسُ هذه الحالة في أفلام حرب العراق، من حيثُ الاستحقاق الأمريكي في الحرب أولاً، وفي فرض حقيقة حصرية عنها، تُؤرجحُ الحُضور العراقي حسب الطلب، تُجهّله، وتحصُره في سببية فظاعة الحرب وآثارها النفسية، لكنها لا تسمحُ بالاندفاع أبداً تجاه تناوُل المسألة جذرياً، أو توصيفها من جهةِ الخاسِر، على مُستوى المكان ومآلات المُجتمع.
العراقي المُفترى عليه
على الجهةِ الأخرى، المعنيّة بنقدِ الحرب، كفكرة ومُمارسة تخضعُ لأساس استعماري وسُلطوى، مدّت السينما الأمريكية مداها لتبنّي رُؤية مُناورة للواقع ومُستقطعة له، تقوم على التعبير عن أشخاصٍ توّرطوا في سوء تقدير المؤسسة الأمريكية لقرار الحرب، وينتهي هؤلاء الأشخاص إلى ضحايا قرارات خاطئة، تتشوّه سُمعتهم، ويُقمع همّهم الإنساني، وترتكزُ الأفلام إلى تسجيلات خطابات رئاسية وتفكيك للمُسببات الأولية التي دفعت الولايات المُتحدة للحربِ على العراق، لكن هل تنفذُ هذه الأفلام إلى رؤية غير مُدجّنة ومُحرّفة؟ وهل ظهر العراقي في هذه الأفلام بعيداً عن قالب الإدانة والتأطير المُعتاد.
في فيلم “Green zone- المنطقة الخضراء” إخراج بول غرينغراس وبُطولة مات ديمون، تتموضعُ الحرب كحدثٍ حاكمٍ مُنذ بداية الفيلم، دون أسباب مرجعية لهؤلاء الجُنود. يبدأ الفيلم بالعاصمة بغداد وهي تطفحُ بعشوائية الحرب وقسوتها، غارات جوية تُمطر المدينة، وتتمركزُ رحلة الجُندي “مايكل” عبر سردٍ خطيّ ينتقلُ بين مجلس الحرب والفضاء المكاني للعراق. يُكلّف مايكل باقتحام مناطق من المُفترض أن بها أسلحةَ دمارٍ شامل، لكنه من مكان لآخر، لا يجدُ سوى مراحيض قديمة ومناطق غير مسكونة، ليست بها حتى إشارات لأي نشاطٍ سابق، وهُنا يدور الفيلم بين طرفي صراع، الأول منوطٌ بتشكك مايكل في وجود أسلحة دمار شامل، والثاني معني بمجلس الحرب الذي يضعُ حقيقة هذا السبب ضرورة مهما بدت وهمية.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
مُنذ ميلاد السينما نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي موبوءة بداء التوظيف السياسي. أدرك فلاديمير لينين أهمية تطويع السينما، واعتبر من الضروري أن يخضع هيكل صناعة الأفلام وخصائص المادة البصرية لأفكار المؤسسة السياسية، نظراً لما تملكه من قدرة على نقل الدعاية في إطار ترفيهي. وعلى الجهةِ الأخرى، التقط وودرو ويلسون الرئيس الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، قابلية ما يُمكن للسينما أن تخلقه من إعادة إنتاج للحوادث التاريخية، مهما بدت دموية ومُفارقة لما تتبنّاه المؤسسات الحديثة من خِطاب ديموقراطي.
في فيلم “ولادة أمّة- the birth of nation” إخراج وإنتاج ديفيد غريفيث، تحوّلت الحرب الأهلية الأمريكية إلى نمطٍ ارتقائي، مثله مثل العوارض الضارة والمؤسفة التي تختبرها الأمم الكبيرة، لتظفر برفاه إعادة الإعمار من جديد. ظهرت الحقائق التاريخية المنوطة بالحرب الأهلية الأمريكية في الفيلم، مُحوّلة من ثوابت تاريخية إلى حكايات خرافية، يتم تأطيرها لصالح الشحن القومي العاطفي.
تاريخ السينما مع التوجيه السياسي والدعائي طويل، يمُر عبر الحرب العالمية الثانية، واهتمام بينيتو موسوليني وأدولف هتلر بمنظومة السينما، وينتقلُ إلى التوسّع الأمريكي بعد الحرب نفسها، من خلال أفلام الأبطال الخارقين، وتوزيعها في أوروبا، تحديداً إيطاليا، التي كانت تُعاني تهالُكاً في البنية التحتية وتهتّكاً اقتصادي، لتغذية خيال مُجتمعٍ غارق في المعاناة برحلات ارتقاء وتحقق فردي.
محطة العراق
كما في حروب أخرى، أعادت السينما الأمريكية إنتاج الحرب على العراق في 2003.
في تشرين الأول 2001، التقى الرئيس الأمريكي جورج بوش، بأصحاب أستوديوهات أمريكية عدّة لمُناقشة كيف يُمكن لصناعة الترفيه أن تُساعد في “الحرب على الإرهاب”، هذه الجُملة تحديداً، فتحت على السينما العالمية توجّهاً فجاً، جمالياً وثقافياً وسياسياً، مثّله كُتلة من أفلام موضعية، جُزء كبير منها، ارتكز على حرب العراق، تحت قاعدة تجاوز الصراع الحاصل حول تأييد الحرب أو معارضتها، لأن الأفضل بطبيعة الحال هو التسليم بضرورة الحرب، ثم النظر إلى الأخطاء الجانبية، التي ارتكبتها، مع الأسف، السياسة الأمريكية آنذاك، بينما الضرورة العُليا، تبدأ وتنتهي عند دعم القوّات والوقوف وراء القُوى العُظمى الديموقراطية.
ظهر مُصطلح أفلام “حرب العراق” في 2005، مع صُدور فيلم “Jarhead” للمُخرج سام منديز. للمفارقة، الفيلم كان عن حربِ الخليج، لكنّه حظي بإقبال جماهيري جيّد، وتم الترويج له، باعتباره فيلماً منوطاً بحرب العراق. لاحقاً، وتحديداً عندما تلاشت أسطورة سلاح الدمار الشامل، فرض سؤال داعي وجود القوات الأمريكية في العراق نفسه، وخلال هذه المرحلة أنتجت هوليود أفلاما عديدة، استطاعت خلالها الولايات المُتحدة تدجين رؤية للتفوّق العسكري، والحقُ في الخطأ، والأهم، القُدرة على تبرير العُنف المنظم، بينما كان الجانبُ الآخر، العراقي، إما مُجهّلاً أو مُفترى عليه، أو مُستباحاً.
مسارح أخلاقية
تميّزت الحرب على العراق، عن بقيّة الحروب التي خاضتها الولايات المُتحدة قبلها -خاصة حرب فيتنام- بأنها وقعت في زمنٍ يُمكن لكاميرات التصوير أن تتموضع في قلب الحدث، وتنقلُ دواخل الأحداث مُباشرة أمام العالم. رُبما لذلك، لم تحظ أفلام حرب العراق بنجاحٍ كبير، سواء المؤيدة لها أو المُعارضة، لأن الناس بعد مرور سنوات قليلة على الحرب، كانت اكتفت بما شاهدته، تحديداً ما حاولت الدعاية الأمريكية، المرئية والمكتوبة، تجهيله.
في فيلم “أفضل سنوات حياتنا- The best of our lives” تنتهي إرثية الحرب العالمية الثانية عند تأثيرها على مجموعة من الجنود الأمريكيين، عندما يعودون إلى وطنهم، ليكتشفوا تغيرات يصعبُ إصلاحها، ومن ثم يأتي التكيّف مع الحياةِ مرة أخرى، بينما الأفلام التي صدرت عن حربِ فيتنام -بعيداً عن التي أدانتها بوضوح- تتمحورُ حول المآل نفسه، وهي تضاربُ المشاعر بين الحُزن على القتلى الأمريكيين، وأن الوطن قد باع أبناءه، ثم الانتهاء بضرورة الاندماج مع المُجتمع والعودة إلى تجديد الفناء الوطني بتفانِ.
في أفلام حرب العراق، تمثّلت استجابة الولايات المُتحدّة لنقد خطوة الحرب، وضرورة إدانة نفسها، مسألة ضرورية للخُروج عن صورة دخولها العراق لسببٍ عسكري غير مُبرر. في فيلم “خزانة الألم- The hurt locker” نرى في البداية جُملة ظاهرها ثوري “الحرب مُخدرات”. بالفعل يتناول الفيلم نقداً للحرب، وما تُحدثه من ضررٍ جذري في حياة الجُنود، ورُبما حمل الفيلم ملمحاً لنقدِ الشخصية الأمريكية الحديثة، لكن هل تصاعد النقد إلى التعمّق في جذرية الحرب على العراق؟ أو في وضع أي إشارة لآثار هذه الحرب على العراقيين؟
الفيلم الذي حصل على أوسكار 2009، وحصدت مُخرجته كاثرين بيجلو في المُناسبة نفسها جائزة أفضل مُخرجة، يتناول حياة ثلاثة جُنود أمريكيين يتم إرسالهم إلى العراق، لمنع التحديات التي تُواجه القوات الأمريكية في البلاد، من خلال ألغامٍ يزرعها تنظيمُ القاعدة، المُمثّل الحصري للمُقاومة في الفيلم. حفل الفيلم بفضاء من الأسئلة، عبر تنويعة من ثلاث شخصيات، يُمثّل كُل واحدٍ منهم قُطباً كونياً وإنسانياً، بداية من التهوّر المُفرط، مروراً بالخوف المرضي، وانتهاءً بالالتزام المثالي. هذه النماذج تستنزفها الحرب، وتجعلُ من أكوادها الأخلاقية، المُلتزمة تجاه الوطن، أفكاراً معطوبة لا تُنتج سوى استهلاك الجنس البشري ودفعه نحو الهاوية، لكن الجانب الآخر من التناول، يتجاهل أحد أطراف هذا الاستنزاف الحربي، الجانبُ العراقي المُقولب في إطار الإرهاب، أو في إطار ضحيته.
باعتبار أن السينما تُمثّل حكاية ما، في إطار بصري يرتكزُ على التكثيف والإشارة لحصر مُختلف جوانب الحكاية، فإن تمثيلاتُ البداية والمُسببات فيها، تُحيل إلى نفس البداية والمُسببات في الواقع، وبالتالي فإن الفيلم حينما يُدين الحرب، فإنه يُعيد إنتاج الحدث، باعتباره استنزف جُنوداً أمريكيين، رُبما عبر أخطاء سيادية، وبشكلٍ أساسي عبر مُقاومة إرهابيين، أي عبر إزاحة طرف استحال من ضحيّة إلى مُساهم في المسؤولية حول وجود هذه الحرب.
في قراءته لفيلم “القناص الأمريكي- American sniper” يُطلق زاك بوشامب على آلية التدجين الأمريكي تجاه سردية حرب العراق، بأنّها “تصوير للحرب كمسارح أخلاقية” من حيثُ إعادة تشكيل الحقائق باستحقاق غريب، كأن أصول هذه الأحداث مرّت مُنذ عقود طويلة، ولم تمر على تغطيات صحافية بديلة ووسائل مرئية حاولت تعويض التحريف الأمريكي. في الفيلم المذكور، يتم تناوُل نشاط القنّاص الأمريكي كريس كايل، الذي شارك في الحرب على العراق، وقتل أكثر من 160 عراقيًا، ومن خلال حكايته في الفيلم، طبعًا، يتم تناوُل التحديات النفسية التي يُواجهها الجُندي الأميركي خلال وقت الحروب.
يحفلُ الفيلم الذي أخرجه “كلينت إيستوود” بأطر إدانة أكثر مُباشرة تجاه الشخصية العراقية، التي بدت إما خائنة، أو هي قاتل مُحتمل. جاءت هذه الأرضية القُطبية، التي تجعلُ من العراقي أمثولة للشر، لصبغ معنى ضروري على حياة القنّاص كريس -لا يصحُ طبعاً أن يخدم الوطن ويقتُل 160 إنساناً، ويكون مُجرم حرب مثلاً، أو ينتهي بهذه الرحلة إلى إدانة أخلاقية. لا يُوجد رجل أو سيدة، أو حتى طفل عراقي في الفيلم، إلا وله ملمح في تسبب دمار نفسي للجُندي الأمريكي، الذي يجدُ وقتها دافعاً للانتقام، والقتل، تحت ضرورة، ورُبما قليل من الندم، لأجل الثأر لزُملائه القتلى.
بنى إيستوود فيلماً سينمائياً مُتماسكاً، وشخصية قائمة على أساس يجعلُ الانتقام ضرورة مصبوغة بالمعنى الدفاعي، على مُستوى عام في ما يتعلّق بالوطن، وعلى مُستوى خاص في ما يتعلّقُ بالأسرة، لكن دوافعُ الانتقام الدفاعية، ارتكزت على حوادث لا علاقة لها بالحرب على العراق. بدلاً من السبب المُعتاد، المُتعلق بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، يرجئ الفيلم دافع الانتقام لدى كريس، إلى أحداث 11 أيلول، التي افتتحت الفيلم، ومن ثم انتقلنا إلى كريس مُباشرة في العراق، ولذلك بدا مُبرراً تمسّك القنّاص الأمريكي بأن ما يفعله في العراق واجباً وطنياً، وبديلاً لضبابية وجهة حياته الشخصية.
يتناول كتاب “إمبراطوريات: منطق السيادة الكونية من روما القديمة إلى الولايات المُتحدة” تصوّراً نافذاً عن الولايات المُتحدة كقوة عظمى حديثة، ركّزت موقعها العالمي في التسعينيات عقب الحرب الباردة، في وقتٍ بدأ العالم يظن أنه يودّع القُوى العظمى، بمعناها التقليدي، وبلا عودة. تفرضُ الولايات المُتحدة حالة الاستثناء حسب رغبتها، فالدُول الحديثة لا يُمكنها تقرير مصير أخرى، لكن القُوى العظمى يُمكنها فعلُ ذلك، بما تحمله من دور أبوي وتنميق خطابي. تنعكسُ هذه الحالة في أفلام حرب العراق، من حيثُ الاستحقاق الأمريكي في الحرب أولاً، وفي فرض حقيقة حصرية عنها، تُؤرجحُ الحُضور العراقي حسب الطلب، تُجهّله، وتحصُره في سببية فظاعة الحرب وآثارها النفسية، لكنها لا تسمحُ بالاندفاع أبداً تجاه تناوُل المسألة جذرياً، أو توصيفها من جهةِ الخاسِر، على مُستوى المكان ومآلات المُجتمع.
العراقي المُفترى عليه
على الجهةِ الأخرى، المعنيّة بنقدِ الحرب، كفكرة ومُمارسة تخضعُ لأساس استعماري وسُلطوى، مدّت السينما الأمريكية مداها لتبنّي رُؤية مُناورة للواقع ومُستقطعة له، تقوم على التعبير عن أشخاصٍ توّرطوا في سوء تقدير المؤسسة الأمريكية لقرار الحرب، وينتهي هؤلاء الأشخاص إلى ضحايا قرارات خاطئة، تتشوّه سُمعتهم، ويُقمع همّهم الإنساني، وترتكزُ الأفلام إلى تسجيلات خطابات رئاسية وتفكيك للمُسببات الأولية التي دفعت الولايات المُتحدة للحربِ على العراق، لكن هل تنفذُ هذه الأفلام إلى رؤية غير مُدجّنة ومُحرّفة؟ وهل ظهر العراقي في هذه الأفلام بعيداً عن قالب الإدانة والتأطير المُعتاد.
في فيلم “Green zone- المنطقة الخضراء” إخراج بول غرينغراس وبُطولة مات ديمون، تتموضعُ الحرب كحدثٍ حاكمٍ مُنذ بداية الفيلم، دون أسباب مرجعية لهؤلاء الجُنود. يبدأ الفيلم بالعاصمة بغداد وهي تطفحُ بعشوائية الحرب وقسوتها، غارات جوية تُمطر المدينة، وتتمركزُ رحلة الجُندي “مايكل” عبر سردٍ خطيّ ينتقلُ بين مجلس الحرب والفضاء المكاني للعراق. يُكلّف مايكل باقتحام مناطق من المُفترض أن بها أسلحةَ دمارٍ شامل، لكنه من مكان لآخر، لا يجدُ سوى مراحيض قديمة ومناطق غير مسكونة، ليست بها حتى إشارات لأي نشاطٍ سابق، وهُنا يدور الفيلم بين طرفي صراع، الأول منوطٌ بتشكك مايكل في وجود أسلحة دمار شامل، والثاني معني بمجلس الحرب الذي يضعُ حقيقة هذا السبب ضرورة مهما بدت وهمية.