الأوليغارشية العراقية: أرباب المصارف الخاصة والسيطرة على السياسة النقدية
09 أيار 2024
وحش قانوني أطلق عام 2003 وأخذ يكبر حتى صار يأكل اليوم ما يجنيه العراق من بيع النفط.. عن أرباب المصارف في العراق
بعد حرب الخليج الأولى، عام 1991، سمح نظام صدام حسين لأوّل مرّة بتشكيل بنوك خاصة في العراق. ومنذ عام 1992، وحتى نهاية نظام حزب البعث، عام 2003، كان هناك 17 مصرفاً خاصاً؛ لكنّ النظام العراقي السابق منعها من إجراء المعاملات الدولية، بما في ذلك المدفوعات والتحويلات المالية وخطابات الاعتماد، وهذا كلّه كان يحدث بالتزامن مع انهيارات الاقتصاد العراقي، والسياسة النقدية، الذي تمثّل بارتفاع كميّة النقود بمعدل سنوي قدره 139 بالمئة، مع معدل تضخم وصل إلى 221 بالمئة.
البدايات
في تشرين الثاني 2003، كُسرت هذه القيود على المصارف الخاصة، عندما سمح لها البنك المركزي العراقي بمعالجة المدفوعات الدولية، والتحويلات المالية وخطابات الاعتماد بالعملة الأجنبية.
في أواسط عام 2004، أطلق البنك المركزي العراقي استراتيجية “التسهيلات القائمة“، (Standing Facilities)، وكان الهدف منها “منح الأمان للمصارف الخاصة”، لإدارة فائض السيولة لديها، وكذلك إعطاء الحرية لتلك المصارف في “التعامل فيما بينها بصورة أوسع دون الاقتصار على التعامل مع البنك المركزي فقط”، كما أصدر المركزي العراقي ما أسماها “اللوائح التنظيمية”، التي تسمح للمصارف الخاصة بتوسيع عملياتها المالية والمصرفية بما يحقق “قدرات تنافسية عالية للحصول على الموارد المالية”.
هذه الإجراءات تأتي عقب خطوات أخرى، وصفت حينها بأنّها “مهمّة” لتحديث النظام المصرفي العراقي، منها على سبيل المثال، إنشاء عُملة وطنية جديدة، وإطلاق مزادات يومية لبيع العملة الأجنبية (Foreign Currency Action)، من قبل البنك المركزي، عرفت لاحقاً هذه المزادات باسم “نافذة بيع العملة”، والتي بدأ العمل بها رسمياً في 4 تشرين الأول 2003.
بحسب إعلان “سلطة الائتلاف” حينها، التي كان على رأسها بول برمير، الحاكم الأميركي للعراق، فإنّ البنوك الخاصة، يتولى إدارتها في العراق “مصرفيون ذوو مؤهلات عالية وخبرة، عملوا سابقاً في البنك المركزي العراقي، وكذلك في مصرفي الرافدين والرشيد المملوكين للدولة”.
هذه البنوك الخاصة تعاقدت مع العديد من البنوك الدولية، لترتيب خطوط ائتمان تجعلها على استعداد لمعالجة المدفوعات الدولية، والتحويلات، وخطابات الاعتماد.
في حزيران 2004، اجتمع ممثلون عن هذه المصارف العراقية، مع خبراء أميركيين ودوليين في القطاع المالي في نيويورك وواشنطن، حينها قالت سلطة الائتلاف إنّ هذا الاجتماع “يأتي للاطلاع على أحدث أساليب الأعمال المصرفية، ولإقامة صلات مع شركاء أمريكيين محتملين في قطاع الأعمال الأمريكي”. وكانت وكالة التجارة والتنمية الأميركية هي الراعي الرسمي لهذا الاجتماع.
كيفن وولفلاين، كبير مستشاري وزارة المالية العراقية حينها، والذي عيّنه بول بريمر، قال عن ذلك الاجتماع، “إن إعادة بناء وتحديث قطاع المصارف الخاص أمر أساسي للتنمية الاقتصادية في العراق”، وقد وفّرت هذه الزيارة، بحسب وولفلاين، لأعضاء الوفد العراقي، فرصة ثمينة للاطلاع على الأساليب الحديثة في الأعمال المصرفية، ستساعدهم في جعل البنوك الخاصة “القلب النابض للبنية المصرفية المستقبلية في العراق.”
ثيلما آسكي، مديرة وكالة التجارة والتنمية الأميركية، هي الأخرى أدلت بملاحظات أمام الوفد العراقي حينها، وطرحت رؤية شديدة التفاؤل، قالت آسكي إنّ “إنشاء وتطوير قطاع مالي نابض بالحيوية والنشاط هو عنصر أساسي أثناء خطو العراق نحو المستقبل”، وشددت على أنّ وكالة التجارة والتنمية الأميركية “مؤهلة جداً” لتقديم المساعدة في هذا القطاع الحاسم الأهمية، إذ أنّها “حققت سجّلاً متيناً في مجال إعادة الإعمار في منطقة البلقان، في التسعينيات من القرن الماضي، وفي أحدث نشاطاتها في أفغانستان.”
ترأس الوفد العراقي في ذلك الاجتماع، فالح داوود سلمان، نائب محافظ البنك المركزي العراقي، بمشاركة أعضاء آخرين عن: بنك البركة للاستثمار والتمويل، وبنك الاستثمار العراقي، وبنك بغداد، وبنك استثمار الشرق الأوسط العراقي، وبنك البصرة الخاص للاستثمار، والمصرف الإسلامي، والمصرف التجاري العراقي، وبنك الشمال، وبنك التسليف العراقي، وبنك سومر، والمصرف التجاري الخليجي، وبنك الاستثمار المتحد.
الجانب الأميركي من جهته كان ممثلاً بكلٍّ من إبريل فولي، النائبة الأولى لرئيس بنك الاستيراد والتصدير الأميركي؛ ودجيه براندز، مدير فريق عمل إعادة إعمار العراق في وزارة التجارة الأميركية؛ ودولسه زانايزر، كبيرة مستشاري رئيس شركة الاستثمار الخاصة في الخارج.
الزيارة اشتملت كذلك على اجتماعات مع بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، وجمعية المصرفيين العرب في أميركا الشمالية، وجمعية المصرفيين الدوليين، ووزارة الخزانة الأميركية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
اللغة المثالية في البيانات والمؤتمرات الصحفية لم تكن تشبه ما يجري بالفعل على الأرض، فمنذ 2003، وحتّى الآن، تحوّل النظام المصرفي العراقي، إلى ثقب أسود، ابتلع مئات المليارات من الدولارات، وما يزال هذا النظام يسيطر على السوق المالية في العراق، ويتحكم بالاقتصاد العراقي من خلال السيطرة على شراء الدولار من “مزاد العملة”، وإعادة تدويره وغسله وتهريبه إلى الخارج.
لهذه السيطرة أشكال كثيرة، منها التحويلات الخارجية، والنقد، والفواتير المزورة، والسوق الموازي، الذي يسيطر حالياً على ميزان سعر الصرف بين الدولار الأميركي والدينار العراقي، وهو سوق يقوم على تهريب العملة الصعبة خارج العراق، والتحكم بسوق البضائع والأعمال داخل العراق.
هذه السيطرة شديدة الأذى على الاقتصاد العراقي، تتحكم بها المصارف الخاصة، والمصارف الحكومية كذلك، التي تسهّل على البنوك الخاصة استحواذها على البيئة المالية في العراق، ومن يحرّك كل هذه اللعبة ويتحكم بها، هم من يتحكمون بتلك البنوك ويمتلكونها، أحزاب سياسية لها أذرع مسلحة، وشخصيات متنفذة محمية بالسلاح كذلك، بَنَت إمبراطوريات مالية على أنقاض النظام المالي في العراق.
علي علاوي، وزير المالية العراقي السابق، كشف عن وجود 30 مليارديراً في العراق، “جمعوا ثروتهم بعد عام 2003″، كما أنّه يتحدث بيأس عندما يتعلق الأمر بإصلاح النظام المالي والمصرفي في العراق، لأن البلاد بحسب وصفه، تُدار عن طريق “دولة الليل”، ثم تأتي “دولة النهار” لتنفذ وحسب، وفي حوار على التلفزيون الرسمي، لم يتردد الوزير بالتأكيد على “وجود ما يكفي من الأدلّة على أنّ مزاد العملة كان جزءاً مهماً من عملية الفساد”.
التفشّي
النظام المصرفي العراقي، والسياسات النقدية، مرّت بتحولات كبيرة وخطيرة منذ عام 2003، لكنّ أهمّها ما حدث بين 2013 و2015، وهي الفترة التي منح فيها البنك المركزي العراقي تراخيص لإنشاء شركات صيرفة، وهذه الشركات كانت تدخل إلى نافذة بيع العملة وتشتري الدولار من الدولة العراقية وتمتلك بيئة متخادمة مع المصارف الخاصة، وأكثر من ذلك؛ فإن كثيراً من شركات الصيرفة هذه كانت واجهات للمصارف التي بدورها تشتري الدولار من مزاد العملة، من خلال فواتير معظمها مزوّرة.
بحسب مصطفى غالب مخيف، محافظ البنك المركزي السابق، كان في العراق 385 شركة صيرفة، عام 2012، وخلال عام واحد فقط، أي عام 2013، ارتفع عددها إلى أكثر من 2000 شركة، عندما فتح البنك المركزي العراقي منح الرخص لإنشاء المزيد من شركات الصيرفة.
في تقرير البنك المركزي حول نافذة بيع العملة لعام 2019، أقرّ البنك أن هذا العدد الكبير من شركات الصرافة، “يشكل عبئاً على البنك المركزي، في الإشراف والسيطرة والرقابة، لا سيما وأن تلك المكاتب تُدار من قبل أفراد”، ثم يؤكد البنك المركزي في تقريره على تخلّف نظام الرقابة لديه، “ليست لدينا أنظمة إلكترونية، ولا أنظمة إدارية ومحاسبية ورقابية يمكن الركون إليها أو الوثوق بها”.
عام 2014، أوقف البنك المركزي العراقي منح الرخص لشركات الصيرفة، لكن البرلمان العراقي شرّع قانون المصارف الإسلامية، الذي تحوّلت بموجبه الكثير من شركات الصيرفة إلى مصارف إسلامية، ليرتفع عدد المصارف الخاصة من 36 مصرفاً إلى 81 مصرفاً في الوقت الحالي، وفقاً لما كشفه مصطفى غالب مخيف، المحافظ السابق للبنك المركزي.
لكن قوائم البنك المركزي في موقعه الرسمي لا تظهر سوى 62 مصرفاً، 8 مصارف حكومية، 30 مصرفاً إسلامياً، 24 مصرفاً تجارياً، ويقرّ مخيف أنّ هذا العدد من المصارف وشركات الصرافة “كبير جداً، ومبالغ به، فالعراق لا يحتاج لهذا العدد”.
المثير في هذه القوائم هو أنّ 21 مصرفاً إسلامياً ممنوع من التعامل بالدولار، وكذلك بالنسبة للمصارف التجارية، هناك 13 مصرفاً ممنوعاً من التعامل بالدولار، وهي مصارف معاقبة من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، بسبب ما تقول واشنطن أنها تعاملات مشبوهة تتعلق بتهريب العملة وغسيل الأموال، لصالح إيران ومليشيات مسلحة مرتبطة بها، داخل العراق وخارجه.
تنص الفقرة الثانية من المادة الأولى لقانون المصارف الإسلامية على جواز تأسيس مصرف إسلامي وفقاً لأحكام قانون الشركات رقم (21) لسنة 1997، وقانون الشركات العامة رقم (22) لسنة 1997، وقانون المصارف رقم (94) لسنة 2004، على أن يتضمن عقد تأسيسه ونظامه الداخلي التزاماً بممارسة الأعمال المصرفية المسموح بها بدون فائدة، أخذاً وعطاءً، ووفقا لصيغ المعاملات المصرفية التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، سواء في مجال قبول الودائع وتقديم الخدمات المصرفية الأخرى أو في مجال التمويل والاستثمار.
في المادة الرابعة، أولاً، يفصّل القانون رأس المال المطلوب لتأسيس مصرف إسلامي، “لا يجوز أن يقل رأس المال المدفوع لأي مصرف إسلامي عن (250) مئتين وخمسين مليار دينار على أن يدفع (100) مائة مليار دينار منها عند التأسيس، ويسدد على ثلاث دفعات متساوية من تاريخ منح الإجازة، وللبنك أن يرفع الحد الأدنى وفق قانون المصارف رقم (94) لسنة 2004”.
من هذا القانون بدأت الأحزاب التي تستحوذ على السلطة بالسيطرة على النظام المصرفي العراقي، وصار لديها أذرع مالية تستطيع من خلالها الدخول إلى خزينة الدولة ومواردها المالية، عن طريق نافذة بيع العملة، وتحوّلت ظاهرة “الفواتير المزوّرة” إلى واحدة من أكبر أبواب الفساد المالي في العراق، بعد عام 2003.
وفقاً للوائح البنك المركزي فإن “نافذة بيع العملة” أو مزاد العملة الأجنبية، يخضع لقانون البنك المركزي العراقي رقم 56 لسنة 2004، والمبادئ التوجيهية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، التي صدّق عليها مجلس النواب العراقي عام 2008، وكذلك يخضع للدستور العراقي الذي “وضع الاقتصاد العراقي في إطار اقتصاد السوق والمنافسة وحرية ودعم القطاع الخاص”.
كذلك فإن مزاد بيع العملة – بحسب البنك المركزي العراقي – يخضع لقانون مكافحة غسيل الأموال رقم 93 لسنة 2004، الذي يلزم المؤسسات المالية كافة (المصرفية وغير المصرفية) بالتحري عن هوية الزبون عند فتح حساب أو إجراء عمليات مالية، وإبلاغ البنك المركزي عن “المعاملات التي يُشتَبَه بها”، ويراقب البنك المركزي مدى التزام المؤسسات بذلك.
يبرر البنك المركزي العراقي اللجوء إلى أسلوب “مزاد بيع العملة” إلى “طبيعة إيرادات وتمويل الإنفاق الحكومي”، وكذلك إلى تمويل التجارة الخارجية، وسد العجز في ميزان المدفوعات، وهذا بحسب البنك المركزي “قد فرض واقعاً معيناً ومحدداً لعمليات بيع وشراء العملة الأجنبية”، إذ أن معظم واردات وزارة المالية العراقية هي بالعملة الأجنبية، بينما معظم نفقاتها بالدينار العراقي، لذلك تقوم وزارة المالية ببيع الدولار للبنك المركزي، الذي يقوم بدوره ببيعه للقطاع الخاص، للحصول على الدينار العراقي.
في 11 تشرين الأول 2015، قدّم أحمد الجلبي، الذي كان رئيساً للجنة المالية في مجلس النواب العراقي، تقريراً إلى هيئة النزاهة الاتحادية، وهي هيئة مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، ولها شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري، الجلبي في تقريره قدّم وثائق تُكشف لأول مرة عن الفساد والتلاعب في “مزاد بيع العملة”.
الجلبي الذي مات بشكل مفاجئ بعد ثلاث أسابيع من تقديم التقرير، (في 3 تشرين الثاني 2015)، قدّم أمثلة على ما يجري في البنك المركزي، من خلال مزاد بيع العملة، وتعاملات المصارف الخاصة التي تشتري الدولار من البنك المركزي العراقي، وتهربه إلى الخارج من خلال “فواتير مزوّرة”، وتعاملات مع شركات صيرفة فرعية.
مصرف الهدى، هو مصرف خاص، وبحسب تقرير اللجنة المالية النيابية، قام المصرف بتحويل مبلغ 6.455.660.368 (ستة مليارات وأربعمئة وخمسة وخمسين مليوناً وستين ألفاً وثلاثمئة وثمانية وستين دولاراً أمريكياً) إلى حساب المصرف في بنك الإسكان الأردني، خلال السنوات: 2012 – 2013 – 2014، والجزء الأول من سنة 2015، وحوّل من هذا المبلغ 5.787.999.397 (خمسة مليارات وسبعمئة وسبعة وثمانين مليوناً وتسعمئة وتسعة وتسعين ألفاً وثلاثمائة وسبعة وتسعين دولاراً أمريكياً) إلى شركة الطِيب، في حسابها لدى بنك الإسكان الأردني.
شركة الطِيب قامت بدورها بتحويل مبلغ 5.704.158.578 (خمسة مليارات وسبعمائة وأربعة ملايين ومائة وثمانية وخمسين ألفاً وخمسمئة وثمانية وسبعين دولاراً أمريكياً) إلى حساب شركة الكمال للصرافة في الأردن، التي قامت بدورها بتحويل هذه الأموال إلى مستفيدين “مجهولي الهوية”، بحسب تقرير اللجنة المالية في البرلمان العراقي.
التقرير يكشف أيضاً امتناع البنك المركزي العراقي، عن تزويد اللجنة المالية بمعلومات حول هذه التحويلات، وكذلك يكشف التقرير عن قيام البنك المركزي بإعطاء معلومات كاذبة للجنة المالية حول شركات الصيرفة المنخرطة بهذه التحويلات الضخمة.
يورد تقرير اللجنة المالية مثالاً على المعلومات التي وصفها بالكاذبة، من قبل البنك المركزي حول التعاملات “المشبوهة” بين شركة المهج للتحويل المالي وشركة الراوي للصرافة في الأردن، حيث نفى البنك المركزي العراقي وجود تعاملات وتحويلات مالية بين الشركتين في عام 2014.
لكن تقرير اللجنة المالية يكشف من خلال “حصوله على جدول بيانات”، عن 53 معاملة مالية على الأقل بين الشركتين، وأن مجموع هذه التعاملات بلغ 547.395.000 (خمسمئة وسبعة وأربعين مليوناً وثلاثمئة وخمسة وتسعين ألف دولار).
اللجنة المالية النيابية تقدم معلومات تفصيلية كذلك عن مصرف الشرق الأوسط، وتعاملاته المالية لسنة 2012، وتكشف اللجنة تفاصيل مثيرة عن علي غلام، وعائلته التي استحوذت على المصرف من خلال “أرباح أسهمها في مزاد بيع العملة”، وكيف استخدمت هذه العائلة شركة تدعى “الندى” للتحويل المالي، من أجل القيام بتحويلات مالية مشبوهة. اللجنة المالية أكدت في تقريرها على وجود “فيض” من الأدلة التي تدين العشرات من المصارف في العراق، تقوم بمثل هذه العمليات على مستوى واسع.
تقرير اللجنة المالية النيابية، مصدر الوثيقة: صحيفة المدى
في تقريره عن نافذة بيع العملة لعام 2019، يكشف البنك المركزي العراقي عن “إحالة 679 مخالفة إلى الجهات القضائية”، تتعلق بمخالفات ارتكبتها المصارف الخاصة في “نافذة بيع العملة”، وهذه المخالفات هي فقط للسنة المالية 2017 – 2018.
بحسب تقارير “السياسة النقدية” السنوية، للبنك المركزي، فإنّ مبيعات “نافذة بيع العملة”، أو مزاد العملة الأجنبية، بلغت 498,669 مليار دولار أميركي، وهذا الكم الهائل هو فقط للفترة من 2003 ولغاية 2018.
النقد – يُسلّم “كاش” باليد – الذي اشترته المصارف الخاصة من المجموع الكلّي، بلغ 99 مليار دولار، فيما حوّل البنك المركزي 399 مليار دولار، إلى حسابات تلك المصارف، أما الطريقة التي باع بها البنك المركزي العراقي هذا المبلغ الضخم من الدولارات، فيذكرها البنك في تقريره عن نافذة بيع العملة لسنة 2019، وهي أن يقدم المصرف “طلب شراء الدولار لغرض تعزيز أرصدة المصرف في الخارج أو البيع النقدي، إلى دائرة العمليات المالية وإدارة الدين/ قسم نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية من حسابه المفتوح في هذا البنك، على آلا يزيد مبلغ التعزيز على مقدار مبالغ معاملات الزبائن”.
ويرفق مع هذا الطلب وثيقتين فقط، “استمارة بيع وشراء الدولار التي تخوّل هذا البنك السحب من حسابات المصرف المفتوحة لديه بالدينار العراقي، وبإمكان المصارف الحصول عليها من خلال دائرة المحاسبة في هذا البنك”. أما الوثيقة الثانية فهي “كشف بأسماء شركات التوسط في بيع وشراء العملة الأجنبية التي ترغب بشراء الدولار نقداً من خلال المصرف”.
أما من 2019 ولغاية 2023، وبحسب التقارير السنوية لتلك الأعوام المنشورة على موقع البنك المركزي فقد باع البنك لهذه المصارف، عن طريق نافذة بيع العملة، 212.5 مليار دولار، نقداً ومن خلال الحوّالات على حسابات تلك المصارف في خارج العراق.
السيطرة
يحتفظ العراق باحتياطي نقدي يقترب من 113 مليار دولار، في البنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، وتملك الدولة العراقية عدة حسابات في البنك الاحتياطي الفيدرالي، بما في ذلك الحساب الجاري لوزارة المالية، وهو الأكبر، حيث يتلقّى المدفوعات من مبيعات صادرات النفط، كما يمتلك البنك المركزي العراقي حساباً هناك، يستخدمه لتسوية المدفوعات المالية بينه وبين الكيانات الحكومية العراقية الأخرى، مثل وزارة المالية، والمصرف التجاري العراقي، وكذلك لتسوية المدفوعات والتحويلات المالية مع المصارف الخاصة، التي تشتري الدولار من خلال “مزاد بيع العملة الأجنبية”.
وصاية بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على الأموال العراقية (الاحتياطي النقدي وواردات النفط)، بدأت لحظة احتلال الولايات المتحدة للعراق، وتأسيس “صندوق تنمية العراق” الذي كان يشرف عليه ويديره بول بريمر، الحاكم الأميركي على العراق.
تشرح اللائحة التنظيمية لصندوق تنمية العراق آلية وضع الأموال العراقية، من واردات النفط وغيرها في حساب الصندوق ببنك الاحتياطي الفيدرالي، ومن ثمَّ تحويلها إلى البنك المركزي العراقي، بعد اقتطاع 5 بالمئة منها لصالح صندوق التعويضات الدولي، وهي تعويضات يدفعها العراق للكويت جراء الغزو، وقد حددتها الأمم المتحدة بمبلغ 52.4 مليار دولار، أعلن العراق عن تسديدها كاملةً نهاية 2021.
وصاية واشنطن على أموال العراق هي أيضاً جزء من حالة الطوارئ الوطنية الأميركية، المعلنة بموجب الأمر التنفيذي 13303، والتي تعطي للرئيس الأمريكي صلاحية تمديدها في كل عام منذ 2003، وهذا ما فعله جو بايدن في أيار 2024، حين أعلن تمديد حالة الطوارئ الخاصة بالعراق عاماً آخر.
بموجب حالة الطوارئ هذه، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية هي من تسيطر وتدير الأموال العراقية التي تأتي من بيع النفط، فتلك الأموال لا تذهب إلى بغداد، وإنما إلى نيويورك، وتوضع في بنك الاحتياطي الفيدرالي، ومن هناك تُحوّل – تحت إشراف وزارة الخزانة الأميركية – إلى حسابات وزارة المالية العراقية والبنك المركزي العراقي، المفتوحة في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
حالة الطوارئ تلزم أيضاً واشنطن بحماية الأموال والأصول الاحتياطية العراقية من الدول والكيانات والأفراد التي تطالب العراق بدفع الديون المترتبة عليه، والتي تعود في أغلبها إلى قروض وتعويضات منذ فترة الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت.
الأمر التنفيذي 13303، يعطي أيضاً صلاحيات لوزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات وقيود على الكيانات والمؤسسات العراقية، وفقاً لمتطلبات حالة الطوارئ الأمريكية، وهذا يمثّل وسيلة ضغط أمريكية على أي حكومة عراقية، وهي تستخدم ذلك بالفعل في صارعها مع إيران، على حساب الاقتصاد العراقي، ورصانة مؤسساته.
عام 2022، مارس مكتب الإرهاب والاستخبارات المالية، التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ضغطاً كبيراً على الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي، بعد ما كشف عمّا وصفها بأدلّة على وجود “غسيل أموال وتهريب للدولار”، وتشارك المكتب ووزارة الخزانة الأمريكية القلق من مزاد بيع العملة، الذي يعد النافذة الرئيسية لهذا التهريب.
على إثر ذلك، أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن إجراءات جديدة، ملزمة للمصارف العراقية التي تريد استخدام مزاد العملة لشراء الدولار، وتقتضي هذه الإجراءات الدخول إلى “منصة إلكترونية جديدة“، ترتبط بالبنك المركزي العراقي، وتفرض متطلبات صارمة لشراء الدولار، لمنع استخدام النظام المصرفي العراقي في عمليات تهريب الدولار وغسيل الأموال.
قبل فرض هذه الإجراءات، كان معدّل مبيعات البنك المركزي العراقي للدولار في نافذة بيع العملة يتراوح بين 220 -250 مليون دولار يومياً، وتقسم هذه المبيعات إلى نوعين، تحويلات إلى الخارج (حوالات واعتمادات)، وهي النسبة الأكبر، والبيع النقدي، وهو ما يسلّمه البنك المركزي العراقي نقداً إلى المصارف.
بعد اعتماد المنصة الإلكترونية الجديدة، وإجراءات الفيدرالي الأمريكي، انخفضت مبيعات البنك المركزي العراقي في نافذة بيع العملة إلى مستويات كبيرة، فعلى سبيل المثال، في 18 كانون الأول 2022، باع المركزي العراقي 32,490,291 (اثنان وثلاثين مليوناً وأربعمئة وتسعين ألف ومئتين وواحد وتسعين دولاراً).
البنك المركزي العراقي أعلن عن استعداده للعمل المشترك مع الفيدرالي الأميركي، “لمواجهة تحديات العمل بالمنصة الإلكترونية للحوالات والنقد”، ونشر تفاصيل اجتماع دام “لساعات طويلة” مع وفد الفيدرالي الأمريكي ووزارة الخزانة في واشنطن.
المركزي العراقي كشف أنّ المنصة الإلكترونية الجديدة تتطلب توفير تفاصيل كاملة عن العملاء الذين يريدون تحويل الأموال، بمن فيهم المستفيدون النهائيون، وهذا ما لم يكن معمولاً به طيلة السنوات السابقة.
محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، قال في مقابلة على التلفزيون الرسمي، نهاية كانون الثاني 2023، إن هذه الإجراءات ستحدّ من عمليات تهريب الدولار، وأقرّ بوجود هذا التهريب من خلال الفواتير المزوّرة التي تقدّم إلى البنك المركزي العراقي.
السوداني تحدّث باستغراب عن حجم مبيعات البنك المركزي العراقي في نافذة بيع العملة، “ما الذي نستورده لكي يبيع المركزي يومياً 300 مليون دولار، أو 200 مليون دولار، أو 250 مليون دولار؟ بالتأكيد هذه عملة تذهب إلى خارج العراق”، وأضاف رئيس الوزراء أنّ “البنك المركزي الآن يبيع 30 أو 40 مليون دولار يومياً، ولم يتأثر السوق العراقي، هذا يعني أن تلك الأموال كانت تهرّب خارج العراق، ومن خلال الفواتير المزوّرة”.
لكنّ رئيس الوزراء الذي أكد وجود تهريب للعملة الصعبة، من خلال البنك المركزي العراقي، عيّن محافظاً جديداً للبنك المركزي، وهو علي محسن العلاق، الذي كان محافظاً سابقاً للبنك المركزي، من 2014 – 2020، والعلاق أحد أبرز المحسوبين على رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وارتبط اسمه بضعف إجراءات البنك المركزي تجاه المصارف الخاصة، وكذلك ارتبط اسمه بحادثة غرق 7 مليارات دينار عراقي في بناية البنك المركزي، بسبب ما قيل حينها أنّها “تسرّب لمياه الأمطار”.
أكبر شكاوى الاحتياطي الفيدرالي هي من البنوك العراقية الخاصة، المملوكة لأفراد خاضعين للعقوبات الأمريكية، الذين يشترون الدولارات من مزاد بيع العملة، ثم يرتبون تحويلها إلى جهات مرتبطة بإيران، كما تقول واشنطن.
وزارة الخزانة الأمريكية فرضت عقوبات على مصرف الهدى، نهاية كانون الثاني 2024، وقالت الخزانة الأمريكية إنّها اتخذت هذا الإجراء “لحماية النظام المالي الدولي من مبيضي الأموال وممولي الإرهاب المرتبطين بأنشطة إيران الخبيثة”.
مالك مصرف الهدى ورئيسه حمد الموسوي أُدرج على قوائم عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية أيضاً، “لدعمه فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني والجماعات الميليشياوية المتحالفة مع إيران في العراق”، بحسب ما جاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية.
بعدها هذا الإجراء بعدة أيام، وتحديداً في 4 شباط 2024، حظر البنك المركزي العراقي 8 مصارف عراقية خاصة، من الدخول إلى نافذة بيع العملة، وهي مصرف آشور الدولي للاستثمار، ومصرف الاستثمار العراقي، ومصرف الاتحاد العراقي، ومصرف كردستان الدولي الإسلامي للاستثمار والتنمية، ومصرف الهدى، ومصرف الجنوب الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف العربية الإسلامي، ومصرف حمورابي التجاري.
هذا الحظر جاء بعد أيام من زيارة بريان نيلسون، وكيل الخزانة الأميركية لمكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية، إلى العراق، والتقى خلال الزيارة بمسؤولين عراقيين كبار، منهم محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، وتلا حظر هذه المصرف إجراء آخر من قبل البنك المركزي العراقي، نهاية أيار 2024، عندما قرر المركزي إيقاف 197 شركة صيرفة من الدخول إلى نافذة بيع العملة.
قبل ذلك، في تموز 2023، فرضت الخزانة الأمريكية عقوبات على 14 مصرفاً عراقياً، وحظرتها من التعامل أو شراء الدولار من نافذة بيع العملة الأجنبية في البنك المركزي العراقي، وبحسب ما كشف مسؤول أمريكي لصحيفة وول ستريت جورنال فإن العقوبات على هذه المصارف، هي جزء من حملة على تحويل العملة الأمريكية إلى إيران.
شملت العقوبات مصرف المستشار، والقرطاس، والطيف، وإيلاف، وأربيل، والبنك الإسلامي الدولي، ومصرف عبر العراق، ومصرف الموصل، والراجح، وسومر، والثقة، وأور، ومصرفي العالم وزين العراق.
التأثير
بحسب مصدر في البنك المركزي العراقي، تطبّق رسوم “إتاوة” على كل التحويلات بالدولار، تتراوح من 2 بالمئة إلى 20 بالمئة، حسب حجم التحويلات وظروف السوق، وتعمل شبكة التهريب هذه من خلال التحويلات، التي تواجه صعوبات الآن، ومن خلال البيع النقدي للدولار في مزاد العملة.
شركات الصرافة التي هي واجهات فرعية للمصارف الخاصة، المسيطرة على مزاد العملة في البنك المركزي، تشتري معظم الحصّة اليومية من الدولارات النقدية في بغداد؛ مما يترك القليل منها متداولاً ويرفع السعر، ثم تقوم هذه الصيرفات بتهريب الدولار إلى الخارج، أو إعادة بيعه في الداخل، من خلال السوق السوداء، أو ما يعرف بالسوق الموازي.
يقول المصدر من داخل البنك المركزي العراقي إنّ المصارف الخاصة تحتفظ عمداً بمبالغ “الدولار” التي تمتلكها، وتفرج عن القليل جداً منها، لكي تستمر عملية الاستفادة من فارق سعر الصرف بين المباع في البنك المركزي (1310 دينار لكل دولار واحد)، والمباع في السوق الموازي (يتراوح من 1450 دينار إلى 1650 دينار، لكل دولار)، على الرغم من أن البنك المركزي حدد سعر البيع لتلك المصارف وشركات الصرافة بحيث لا يتجاوز الربح عشرة دنانير عن كل دولار، أي أن تلك المصارف وشركات الصرافة ملزمة ببيع الدولار للتجار والمواطنين بسعر 1320 دينار لكل دولار، لكن هذا لا يحدث في السوق الموازي الذي.
وفقاً للبنك المركزي العراقي، فإن الفئات التي تشتري الدولار من السوق الموازي، وتتسبب في توفير فرصة للمضاربين والمنتفعين وتداول سعر صرف غير رسمي، هي:
- المستوردون من التجار الذين لا يتبعون الطرائق الأصولية في عمليات التحويل الخارجي (الحوالات والاعتمادات المستندية) عبر المنصة الإلكترونية، المتاحة لهم بالسعر الرسمي.
- المستوردون لمواد ممنوعة أو مخدرة كتُجّار المخدرات وغيرها، أو لمواد لا تمرُّ عبر المنافذ الحدودية الرسمية، هروبًا من مقتضيات القانون أو الجمارك، مثل مستوردي السجائر وبعض مستوردي الأجهزة الدقيقة، فيعمدون إلى السوق لشراء الدولار غير المخصّص لهم لتسديد أقيامها.
- الفئة التي تحقّق عوائد من متحصلات الجرائم، كالرشاوى والسرقات والخطف والابتزاز وبيع الممنوعات وغيرها، ويعمدون إلى تحويلها للخارج لإخفائها.
- المواطنون الذين يدفعون لمشترياتهم من السلع والخدمات في داخل العراق بالدولار، مما يدفعهم إلى شراء الدولار من السوق، وإذ لا يوجد تخصيص من مبيعات البنك المركزي من الدولار لهذا الغرض، فيكون شراؤهم من حصة مخصصة لأغراض أُخرى، ولا سيّما السفر.
بعد تعيين علي محسن العلاق محافظاً للبنك المركزي، عادت مبيعات مزاد العملة لحجمها السابق، الذي يصل في بعض الأيام إلى 300 مليون دولار يومياً، ولا يقل عن 200 مليون دولار يومياً، وهذا يثير الأسئلة حول الإجراءات التي فرضها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويستدعي التذكير بحديث سابق لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي قال إن هذه الأرقام من المبيعات اليومية للبنك المركزي تؤكد وجود تهريب للعملة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
بعد حرب الخليج الأولى، عام 1991، سمح نظام صدام حسين لأوّل مرّة بتشكيل بنوك خاصة في العراق. ومنذ عام 1992، وحتى نهاية نظام حزب البعث، عام 2003، كان هناك 17 مصرفاً خاصاً؛ لكنّ النظام العراقي السابق منعها من إجراء المعاملات الدولية، بما في ذلك المدفوعات والتحويلات المالية وخطابات الاعتماد، وهذا كلّه كان يحدث بالتزامن مع انهيارات الاقتصاد العراقي، والسياسة النقدية، الذي تمثّل بارتفاع كميّة النقود بمعدل سنوي قدره 139 بالمئة، مع معدل تضخم وصل إلى 221 بالمئة.
البدايات
في تشرين الثاني 2003، كُسرت هذه القيود على المصارف الخاصة، عندما سمح لها البنك المركزي العراقي بمعالجة المدفوعات الدولية، والتحويلات المالية وخطابات الاعتماد بالعملة الأجنبية.
في أواسط عام 2004، أطلق البنك المركزي العراقي استراتيجية “التسهيلات القائمة“، (Standing Facilities)، وكان الهدف منها “منح الأمان للمصارف الخاصة”، لإدارة فائض السيولة لديها، وكذلك إعطاء الحرية لتلك المصارف في “التعامل فيما بينها بصورة أوسع دون الاقتصار على التعامل مع البنك المركزي فقط”، كما أصدر المركزي العراقي ما أسماها “اللوائح التنظيمية”، التي تسمح للمصارف الخاصة بتوسيع عملياتها المالية والمصرفية بما يحقق “قدرات تنافسية عالية للحصول على الموارد المالية”.
هذه الإجراءات تأتي عقب خطوات أخرى، وصفت حينها بأنّها “مهمّة” لتحديث النظام المصرفي العراقي، منها على سبيل المثال، إنشاء عُملة وطنية جديدة، وإطلاق مزادات يومية لبيع العملة الأجنبية (Foreign Currency Action)، من قبل البنك المركزي، عرفت لاحقاً هذه المزادات باسم “نافذة بيع العملة”، والتي بدأ العمل بها رسمياً في 4 تشرين الأول 2003.
بحسب إعلان “سلطة الائتلاف” حينها، التي كان على رأسها بول برمير، الحاكم الأميركي للعراق، فإنّ البنوك الخاصة، يتولى إدارتها في العراق “مصرفيون ذوو مؤهلات عالية وخبرة، عملوا سابقاً في البنك المركزي العراقي، وكذلك في مصرفي الرافدين والرشيد المملوكين للدولة”.
هذه البنوك الخاصة تعاقدت مع العديد من البنوك الدولية، لترتيب خطوط ائتمان تجعلها على استعداد لمعالجة المدفوعات الدولية، والتحويلات، وخطابات الاعتماد.
في حزيران 2004، اجتمع ممثلون عن هذه المصارف العراقية، مع خبراء أميركيين ودوليين في القطاع المالي في نيويورك وواشنطن، حينها قالت سلطة الائتلاف إنّ هذا الاجتماع “يأتي للاطلاع على أحدث أساليب الأعمال المصرفية، ولإقامة صلات مع شركاء أمريكيين محتملين في قطاع الأعمال الأمريكي”. وكانت وكالة التجارة والتنمية الأميركية هي الراعي الرسمي لهذا الاجتماع.
كيفن وولفلاين، كبير مستشاري وزارة المالية العراقية حينها، والذي عيّنه بول بريمر، قال عن ذلك الاجتماع، “إن إعادة بناء وتحديث قطاع المصارف الخاص أمر أساسي للتنمية الاقتصادية في العراق”، وقد وفّرت هذه الزيارة، بحسب وولفلاين، لأعضاء الوفد العراقي، فرصة ثمينة للاطلاع على الأساليب الحديثة في الأعمال المصرفية، ستساعدهم في جعل البنوك الخاصة “القلب النابض للبنية المصرفية المستقبلية في العراق.”
ثيلما آسكي، مديرة وكالة التجارة والتنمية الأميركية، هي الأخرى أدلت بملاحظات أمام الوفد العراقي حينها، وطرحت رؤية شديدة التفاؤل، قالت آسكي إنّ “إنشاء وتطوير قطاع مالي نابض بالحيوية والنشاط هو عنصر أساسي أثناء خطو العراق نحو المستقبل”، وشددت على أنّ وكالة التجارة والتنمية الأميركية “مؤهلة جداً” لتقديم المساعدة في هذا القطاع الحاسم الأهمية، إذ أنّها “حققت سجّلاً متيناً في مجال إعادة الإعمار في منطقة البلقان، في التسعينيات من القرن الماضي، وفي أحدث نشاطاتها في أفغانستان.”
ترأس الوفد العراقي في ذلك الاجتماع، فالح داوود سلمان، نائب محافظ البنك المركزي العراقي، بمشاركة أعضاء آخرين عن: بنك البركة للاستثمار والتمويل، وبنك الاستثمار العراقي، وبنك بغداد، وبنك استثمار الشرق الأوسط العراقي، وبنك البصرة الخاص للاستثمار، والمصرف الإسلامي، والمصرف التجاري العراقي، وبنك الشمال، وبنك التسليف العراقي، وبنك سومر، والمصرف التجاري الخليجي، وبنك الاستثمار المتحد.
الجانب الأميركي من جهته كان ممثلاً بكلٍّ من إبريل فولي، النائبة الأولى لرئيس بنك الاستيراد والتصدير الأميركي؛ ودجيه براندز، مدير فريق عمل إعادة إعمار العراق في وزارة التجارة الأميركية؛ ودولسه زانايزر، كبيرة مستشاري رئيس شركة الاستثمار الخاصة في الخارج.
الزيارة اشتملت كذلك على اجتماعات مع بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، وجمعية المصرفيين العرب في أميركا الشمالية، وجمعية المصرفيين الدوليين، ووزارة الخزانة الأميركية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.
اللغة المثالية في البيانات والمؤتمرات الصحفية لم تكن تشبه ما يجري بالفعل على الأرض، فمنذ 2003، وحتّى الآن، تحوّل النظام المصرفي العراقي، إلى ثقب أسود، ابتلع مئات المليارات من الدولارات، وما يزال هذا النظام يسيطر على السوق المالية في العراق، ويتحكم بالاقتصاد العراقي من خلال السيطرة على شراء الدولار من “مزاد العملة”، وإعادة تدويره وغسله وتهريبه إلى الخارج.
لهذه السيطرة أشكال كثيرة، منها التحويلات الخارجية، والنقد، والفواتير المزورة، والسوق الموازي، الذي يسيطر حالياً على ميزان سعر الصرف بين الدولار الأميركي والدينار العراقي، وهو سوق يقوم على تهريب العملة الصعبة خارج العراق، والتحكم بسوق البضائع والأعمال داخل العراق.
هذه السيطرة شديدة الأذى على الاقتصاد العراقي، تتحكم بها المصارف الخاصة، والمصارف الحكومية كذلك، التي تسهّل على البنوك الخاصة استحواذها على البيئة المالية في العراق، ومن يحرّك كل هذه اللعبة ويتحكم بها، هم من يتحكمون بتلك البنوك ويمتلكونها، أحزاب سياسية لها أذرع مسلحة، وشخصيات متنفذة محمية بالسلاح كذلك، بَنَت إمبراطوريات مالية على أنقاض النظام المالي في العراق.
علي علاوي، وزير المالية العراقي السابق، كشف عن وجود 30 مليارديراً في العراق، “جمعوا ثروتهم بعد عام 2003″، كما أنّه يتحدث بيأس عندما يتعلق الأمر بإصلاح النظام المالي والمصرفي في العراق، لأن البلاد بحسب وصفه، تُدار عن طريق “دولة الليل”، ثم تأتي “دولة النهار” لتنفذ وحسب، وفي حوار على التلفزيون الرسمي، لم يتردد الوزير بالتأكيد على “وجود ما يكفي من الأدلّة على أنّ مزاد العملة كان جزءاً مهماً من عملية الفساد”.
التفشّي
النظام المصرفي العراقي، والسياسات النقدية، مرّت بتحولات كبيرة وخطيرة منذ عام 2003، لكنّ أهمّها ما حدث بين 2013 و2015، وهي الفترة التي منح فيها البنك المركزي العراقي تراخيص لإنشاء شركات صيرفة، وهذه الشركات كانت تدخل إلى نافذة بيع العملة وتشتري الدولار من الدولة العراقية وتمتلك بيئة متخادمة مع المصارف الخاصة، وأكثر من ذلك؛ فإن كثيراً من شركات الصيرفة هذه كانت واجهات للمصارف التي بدورها تشتري الدولار من مزاد العملة، من خلال فواتير معظمها مزوّرة.
بحسب مصطفى غالب مخيف، محافظ البنك المركزي السابق، كان في العراق 385 شركة صيرفة، عام 2012، وخلال عام واحد فقط، أي عام 2013، ارتفع عددها إلى أكثر من 2000 شركة، عندما فتح البنك المركزي العراقي منح الرخص لإنشاء المزيد من شركات الصيرفة.
في تقرير البنك المركزي حول نافذة بيع العملة لعام 2019، أقرّ البنك أن هذا العدد الكبير من شركات الصرافة، “يشكل عبئاً على البنك المركزي، في الإشراف والسيطرة والرقابة، لا سيما وأن تلك المكاتب تُدار من قبل أفراد”، ثم يؤكد البنك المركزي في تقريره على تخلّف نظام الرقابة لديه، “ليست لدينا أنظمة إلكترونية، ولا أنظمة إدارية ومحاسبية ورقابية يمكن الركون إليها أو الوثوق بها”.
عام 2014، أوقف البنك المركزي العراقي منح الرخص لشركات الصيرفة، لكن البرلمان العراقي شرّع قانون المصارف الإسلامية، الذي تحوّلت بموجبه الكثير من شركات الصيرفة إلى مصارف إسلامية، ليرتفع عدد المصارف الخاصة من 36 مصرفاً إلى 81 مصرفاً في الوقت الحالي، وفقاً لما كشفه مصطفى غالب مخيف، المحافظ السابق للبنك المركزي.
لكن قوائم البنك المركزي في موقعه الرسمي لا تظهر سوى 62 مصرفاً، 8 مصارف حكومية، 30 مصرفاً إسلامياً، 24 مصرفاً تجارياً، ويقرّ مخيف أنّ هذا العدد من المصارف وشركات الصرافة “كبير جداً، ومبالغ به، فالعراق لا يحتاج لهذا العدد”.
المثير في هذه القوائم هو أنّ 21 مصرفاً إسلامياً ممنوع من التعامل بالدولار، وكذلك بالنسبة للمصارف التجارية، هناك 13 مصرفاً ممنوعاً من التعامل بالدولار، وهي مصارف معاقبة من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، بسبب ما تقول واشنطن أنها تعاملات مشبوهة تتعلق بتهريب العملة وغسيل الأموال، لصالح إيران ومليشيات مسلحة مرتبطة بها، داخل العراق وخارجه.
تنص الفقرة الثانية من المادة الأولى لقانون المصارف الإسلامية على جواز تأسيس مصرف إسلامي وفقاً لأحكام قانون الشركات رقم (21) لسنة 1997، وقانون الشركات العامة رقم (22) لسنة 1997، وقانون المصارف رقم (94) لسنة 2004، على أن يتضمن عقد تأسيسه ونظامه الداخلي التزاماً بممارسة الأعمال المصرفية المسموح بها بدون فائدة، أخذاً وعطاءً، ووفقا لصيغ المعاملات المصرفية التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، سواء في مجال قبول الودائع وتقديم الخدمات المصرفية الأخرى أو في مجال التمويل والاستثمار.
في المادة الرابعة، أولاً، يفصّل القانون رأس المال المطلوب لتأسيس مصرف إسلامي، “لا يجوز أن يقل رأس المال المدفوع لأي مصرف إسلامي عن (250) مئتين وخمسين مليار دينار على أن يدفع (100) مائة مليار دينار منها عند التأسيس، ويسدد على ثلاث دفعات متساوية من تاريخ منح الإجازة، وللبنك أن يرفع الحد الأدنى وفق قانون المصارف رقم (94) لسنة 2004”.
من هذا القانون بدأت الأحزاب التي تستحوذ على السلطة بالسيطرة على النظام المصرفي العراقي، وصار لديها أذرع مالية تستطيع من خلالها الدخول إلى خزينة الدولة ومواردها المالية، عن طريق نافذة بيع العملة، وتحوّلت ظاهرة “الفواتير المزوّرة” إلى واحدة من أكبر أبواب الفساد المالي في العراق، بعد عام 2003.
وفقاً للوائح البنك المركزي فإن “نافذة بيع العملة” أو مزاد العملة الأجنبية، يخضع لقانون البنك المركزي العراقي رقم 56 لسنة 2004، والمبادئ التوجيهية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، التي صدّق عليها مجلس النواب العراقي عام 2008، وكذلك يخضع للدستور العراقي الذي “وضع الاقتصاد العراقي في إطار اقتصاد السوق والمنافسة وحرية ودعم القطاع الخاص”.
كذلك فإن مزاد بيع العملة – بحسب البنك المركزي العراقي – يخضع لقانون مكافحة غسيل الأموال رقم 93 لسنة 2004، الذي يلزم المؤسسات المالية كافة (المصرفية وغير المصرفية) بالتحري عن هوية الزبون عند فتح حساب أو إجراء عمليات مالية، وإبلاغ البنك المركزي عن “المعاملات التي يُشتَبَه بها”، ويراقب البنك المركزي مدى التزام المؤسسات بذلك.
يبرر البنك المركزي العراقي اللجوء إلى أسلوب “مزاد بيع العملة” إلى “طبيعة إيرادات وتمويل الإنفاق الحكومي”، وكذلك إلى تمويل التجارة الخارجية، وسد العجز في ميزان المدفوعات، وهذا بحسب البنك المركزي “قد فرض واقعاً معيناً ومحدداً لعمليات بيع وشراء العملة الأجنبية”، إذ أن معظم واردات وزارة المالية العراقية هي بالعملة الأجنبية، بينما معظم نفقاتها بالدينار العراقي، لذلك تقوم وزارة المالية ببيع الدولار للبنك المركزي، الذي يقوم بدوره ببيعه للقطاع الخاص، للحصول على الدينار العراقي.
في 11 تشرين الأول 2015، قدّم أحمد الجلبي، الذي كان رئيساً للجنة المالية في مجلس النواب العراقي، تقريراً إلى هيئة النزاهة الاتحادية، وهي هيئة مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، ولها شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري، الجلبي في تقريره قدّم وثائق تُكشف لأول مرة عن الفساد والتلاعب في “مزاد بيع العملة”.
الجلبي الذي مات بشكل مفاجئ بعد ثلاث أسابيع من تقديم التقرير، (في 3 تشرين الثاني 2015)، قدّم أمثلة على ما يجري في البنك المركزي، من خلال مزاد بيع العملة، وتعاملات المصارف الخاصة التي تشتري الدولار من البنك المركزي العراقي، وتهربه إلى الخارج من خلال “فواتير مزوّرة”، وتعاملات مع شركات صيرفة فرعية.
مصرف الهدى، هو مصرف خاص، وبحسب تقرير اللجنة المالية النيابية، قام المصرف بتحويل مبلغ 6.455.660.368 (ستة مليارات وأربعمئة وخمسة وخمسين مليوناً وستين ألفاً وثلاثمئة وثمانية وستين دولاراً أمريكياً) إلى حساب المصرف في بنك الإسكان الأردني، خلال السنوات: 2012 – 2013 – 2014، والجزء الأول من سنة 2015، وحوّل من هذا المبلغ 5.787.999.397 (خمسة مليارات وسبعمئة وسبعة وثمانين مليوناً وتسعمئة وتسعة وتسعين ألفاً وثلاثمائة وسبعة وتسعين دولاراً أمريكياً) إلى شركة الطِيب، في حسابها لدى بنك الإسكان الأردني.
شركة الطِيب قامت بدورها بتحويل مبلغ 5.704.158.578 (خمسة مليارات وسبعمائة وأربعة ملايين ومائة وثمانية وخمسين ألفاً وخمسمئة وثمانية وسبعين دولاراً أمريكياً) إلى حساب شركة الكمال للصرافة في الأردن، التي قامت بدورها بتحويل هذه الأموال إلى مستفيدين “مجهولي الهوية”، بحسب تقرير اللجنة المالية في البرلمان العراقي.
التقرير يكشف أيضاً امتناع البنك المركزي العراقي، عن تزويد اللجنة المالية بمعلومات حول هذه التحويلات، وكذلك يكشف التقرير عن قيام البنك المركزي بإعطاء معلومات كاذبة للجنة المالية حول شركات الصيرفة المنخرطة بهذه التحويلات الضخمة.
يورد تقرير اللجنة المالية مثالاً على المعلومات التي وصفها بالكاذبة، من قبل البنك المركزي حول التعاملات “المشبوهة” بين شركة المهج للتحويل المالي وشركة الراوي للصرافة في الأردن، حيث نفى البنك المركزي العراقي وجود تعاملات وتحويلات مالية بين الشركتين في عام 2014.
لكن تقرير اللجنة المالية يكشف من خلال “حصوله على جدول بيانات”، عن 53 معاملة مالية على الأقل بين الشركتين، وأن مجموع هذه التعاملات بلغ 547.395.000 (خمسمئة وسبعة وأربعين مليوناً وثلاثمئة وخمسة وتسعين ألف دولار).
اللجنة المالية النيابية تقدم معلومات تفصيلية كذلك عن مصرف الشرق الأوسط، وتعاملاته المالية لسنة 2012، وتكشف اللجنة تفاصيل مثيرة عن علي غلام، وعائلته التي استحوذت على المصرف من خلال “أرباح أسهمها في مزاد بيع العملة”، وكيف استخدمت هذه العائلة شركة تدعى “الندى” للتحويل المالي، من أجل القيام بتحويلات مالية مشبوهة. اللجنة المالية أكدت في تقريرها على وجود “فيض” من الأدلة التي تدين العشرات من المصارف في العراق، تقوم بمثل هذه العمليات على مستوى واسع.
تقرير اللجنة المالية النيابية، مصدر الوثيقة: صحيفة المدى
في تقريره عن نافذة بيع العملة لعام 2019، يكشف البنك المركزي العراقي عن “إحالة 679 مخالفة إلى الجهات القضائية”، تتعلق بمخالفات ارتكبتها المصارف الخاصة في “نافذة بيع العملة”، وهذه المخالفات هي فقط للسنة المالية 2017 – 2018.
بحسب تقارير “السياسة النقدية” السنوية، للبنك المركزي، فإنّ مبيعات “نافذة بيع العملة”، أو مزاد العملة الأجنبية، بلغت 498,669 مليار دولار أميركي، وهذا الكم الهائل هو فقط للفترة من 2003 ولغاية 2018.
النقد – يُسلّم “كاش” باليد – الذي اشترته المصارف الخاصة من المجموع الكلّي، بلغ 99 مليار دولار، فيما حوّل البنك المركزي 399 مليار دولار، إلى حسابات تلك المصارف، أما الطريقة التي باع بها البنك المركزي العراقي هذا المبلغ الضخم من الدولارات، فيذكرها البنك في تقريره عن نافذة بيع العملة لسنة 2019، وهي أن يقدم المصرف “طلب شراء الدولار لغرض تعزيز أرصدة المصرف في الخارج أو البيع النقدي، إلى دائرة العمليات المالية وإدارة الدين/ قسم نافذة بيع وشراء العملة الأجنبية من حسابه المفتوح في هذا البنك، على آلا يزيد مبلغ التعزيز على مقدار مبالغ معاملات الزبائن”.
ويرفق مع هذا الطلب وثيقتين فقط، “استمارة بيع وشراء الدولار التي تخوّل هذا البنك السحب من حسابات المصرف المفتوحة لديه بالدينار العراقي، وبإمكان المصارف الحصول عليها من خلال دائرة المحاسبة في هذا البنك”. أما الوثيقة الثانية فهي “كشف بأسماء شركات التوسط في بيع وشراء العملة الأجنبية التي ترغب بشراء الدولار نقداً من خلال المصرف”.
أما من 2019 ولغاية 2023، وبحسب التقارير السنوية لتلك الأعوام المنشورة على موقع البنك المركزي فقد باع البنك لهذه المصارف، عن طريق نافذة بيع العملة، 212.5 مليار دولار، نقداً ومن خلال الحوّالات على حسابات تلك المصارف في خارج العراق.
السيطرة
يحتفظ العراق باحتياطي نقدي يقترب من 113 مليار دولار، في البنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، وتملك الدولة العراقية عدة حسابات في البنك الاحتياطي الفيدرالي، بما في ذلك الحساب الجاري لوزارة المالية، وهو الأكبر، حيث يتلقّى المدفوعات من مبيعات صادرات النفط، كما يمتلك البنك المركزي العراقي حساباً هناك، يستخدمه لتسوية المدفوعات المالية بينه وبين الكيانات الحكومية العراقية الأخرى، مثل وزارة المالية، والمصرف التجاري العراقي، وكذلك لتسوية المدفوعات والتحويلات المالية مع المصارف الخاصة، التي تشتري الدولار من خلال “مزاد بيع العملة الأجنبية”.
وصاية بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على الأموال العراقية (الاحتياطي النقدي وواردات النفط)، بدأت لحظة احتلال الولايات المتحدة للعراق، وتأسيس “صندوق تنمية العراق” الذي كان يشرف عليه ويديره بول بريمر، الحاكم الأميركي على العراق.
تشرح اللائحة التنظيمية لصندوق تنمية العراق آلية وضع الأموال العراقية، من واردات النفط وغيرها في حساب الصندوق ببنك الاحتياطي الفيدرالي، ومن ثمَّ تحويلها إلى البنك المركزي العراقي، بعد اقتطاع 5 بالمئة منها لصالح صندوق التعويضات الدولي، وهي تعويضات يدفعها العراق للكويت جراء الغزو، وقد حددتها الأمم المتحدة بمبلغ 52.4 مليار دولار، أعلن العراق عن تسديدها كاملةً نهاية 2021.
وصاية واشنطن على أموال العراق هي أيضاً جزء من حالة الطوارئ الوطنية الأميركية، المعلنة بموجب الأمر التنفيذي 13303، والتي تعطي للرئيس الأمريكي صلاحية تمديدها في كل عام منذ 2003، وهذا ما فعله جو بايدن في أيار 2024، حين أعلن تمديد حالة الطوارئ الخاصة بالعراق عاماً آخر.
بموجب حالة الطوارئ هذه، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية هي من تسيطر وتدير الأموال العراقية التي تأتي من بيع النفط، فتلك الأموال لا تذهب إلى بغداد، وإنما إلى نيويورك، وتوضع في بنك الاحتياطي الفيدرالي، ومن هناك تُحوّل – تحت إشراف وزارة الخزانة الأميركية – إلى حسابات وزارة المالية العراقية والبنك المركزي العراقي، المفتوحة في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
حالة الطوارئ تلزم أيضاً واشنطن بحماية الأموال والأصول الاحتياطية العراقية من الدول والكيانات والأفراد التي تطالب العراق بدفع الديون المترتبة عليه، والتي تعود في أغلبها إلى قروض وتعويضات منذ فترة الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت.
الأمر التنفيذي 13303، يعطي أيضاً صلاحيات لوزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات وقيود على الكيانات والمؤسسات العراقية، وفقاً لمتطلبات حالة الطوارئ الأمريكية، وهذا يمثّل وسيلة ضغط أمريكية على أي حكومة عراقية، وهي تستخدم ذلك بالفعل في صارعها مع إيران، على حساب الاقتصاد العراقي، ورصانة مؤسساته.
عام 2022، مارس مكتب الإرهاب والاستخبارات المالية، التابع لوزارة الخزانة الأمريكية ضغطاً كبيراً على الحكومة العراقية والبنك المركزي العراقي، بعد ما كشف عمّا وصفها بأدلّة على وجود “غسيل أموال وتهريب للدولار”، وتشارك المكتب ووزارة الخزانة الأمريكية القلق من مزاد بيع العملة، الذي يعد النافذة الرئيسية لهذا التهريب.
على إثر ذلك، أعلن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن إجراءات جديدة، ملزمة للمصارف العراقية التي تريد استخدام مزاد العملة لشراء الدولار، وتقتضي هذه الإجراءات الدخول إلى “منصة إلكترونية جديدة“، ترتبط بالبنك المركزي العراقي، وتفرض متطلبات صارمة لشراء الدولار، لمنع استخدام النظام المصرفي العراقي في عمليات تهريب الدولار وغسيل الأموال.
قبل فرض هذه الإجراءات، كان معدّل مبيعات البنك المركزي العراقي للدولار في نافذة بيع العملة يتراوح بين 220 -250 مليون دولار يومياً، وتقسم هذه المبيعات إلى نوعين، تحويلات إلى الخارج (حوالات واعتمادات)، وهي النسبة الأكبر، والبيع النقدي، وهو ما يسلّمه البنك المركزي العراقي نقداً إلى المصارف.
بعد اعتماد المنصة الإلكترونية الجديدة، وإجراءات الفيدرالي الأمريكي، انخفضت مبيعات البنك المركزي العراقي في نافذة بيع العملة إلى مستويات كبيرة، فعلى سبيل المثال، في 18 كانون الأول 2022، باع المركزي العراقي 32,490,291 (اثنان وثلاثين مليوناً وأربعمئة وتسعين ألف ومئتين وواحد وتسعين دولاراً).
البنك المركزي العراقي أعلن عن استعداده للعمل المشترك مع الفيدرالي الأميركي، “لمواجهة تحديات العمل بالمنصة الإلكترونية للحوالات والنقد”، ونشر تفاصيل اجتماع دام “لساعات طويلة” مع وفد الفيدرالي الأمريكي ووزارة الخزانة في واشنطن.
المركزي العراقي كشف أنّ المنصة الإلكترونية الجديدة تتطلب توفير تفاصيل كاملة عن العملاء الذين يريدون تحويل الأموال، بمن فيهم المستفيدون النهائيون، وهذا ما لم يكن معمولاً به طيلة السنوات السابقة.
محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، قال في مقابلة على التلفزيون الرسمي، نهاية كانون الثاني 2023، إن هذه الإجراءات ستحدّ من عمليات تهريب الدولار، وأقرّ بوجود هذا التهريب من خلال الفواتير المزوّرة التي تقدّم إلى البنك المركزي العراقي.
السوداني تحدّث باستغراب عن حجم مبيعات البنك المركزي العراقي في نافذة بيع العملة، “ما الذي نستورده لكي يبيع المركزي يومياً 300 مليون دولار، أو 200 مليون دولار، أو 250 مليون دولار؟ بالتأكيد هذه عملة تذهب إلى خارج العراق”، وأضاف رئيس الوزراء أنّ “البنك المركزي الآن يبيع 30 أو 40 مليون دولار يومياً، ولم يتأثر السوق العراقي، هذا يعني أن تلك الأموال كانت تهرّب خارج العراق، ومن خلال الفواتير المزوّرة”.
لكنّ رئيس الوزراء الذي أكد وجود تهريب للعملة الصعبة، من خلال البنك المركزي العراقي، عيّن محافظاً جديداً للبنك المركزي، وهو علي محسن العلاق، الذي كان محافظاً سابقاً للبنك المركزي، من 2014 – 2020، والعلاق أحد أبرز المحسوبين على رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وارتبط اسمه بضعف إجراءات البنك المركزي تجاه المصارف الخاصة، وكذلك ارتبط اسمه بحادثة غرق 7 مليارات دينار عراقي في بناية البنك المركزي، بسبب ما قيل حينها أنّها “تسرّب لمياه الأمطار”.
أكبر شكاوى الاحتياطي الفيدرالي هي من البنوك العراقية الخاصة، المملوكة لأفراد خاضعين للعقوبات الأمريكية، الذين يشترون الدولارات من مزاد بيع العملة، ثم يرتبون تحويلها إلى جهات مرتبطة بإيران، كما تقول واشنطن.
وزارة الخزانة الأمريكية فرضت عقوبات على مصرف الهدى، نهاية كانون الثاني 2024، وقالت الخزانة الأمريكية إنّها اتخذت هذا الإجراء “لحماية النظام المالي الدولي من مبيضي الأموال وممولي الإرهاب المرتبطين بأنشطة إيران الخبيثة”.
مالك مصرف الهدى ورئيسه حمد الموسوي أُدرج على قوائم عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية أيضاً، “لدعمه فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني والجماعات الميليشياوية المتحالفة مع إيران في العراق”، بحسب ما جاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية.
بعدها هذا الإجراء بعدة أيام، وتحديداً في 4 شباط 2024، حظر البنك المركزي العراقي 8 مصارف عراقية خاصة، من الدخول إلى نافذة بيع العملة، وهي مصرف آشور الدولي للاستثمار، ومصرف الاستثمار العراقي، ومصرف الاتحاد العراقي، ومصرف كردستان الدولي الإسلامي للاستثمار والتنمية، ومصرف الهدى، ومصرف الجنوب الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف العربية الإسلامي، ومصرف حمورابي التجاري.
هذا الحظر جاء بعد أيام من زيارة بريان نيلسون، وكيل الخزانة الأميركية لمكافحة الإرهاب والاستخبارات المالية، إلى العراق، والتقى خلال الزيارة بمسؤولين عراقيين كبار، منهم محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، وتلا حظر هذه المصرف إجراء آخر من قبل البنك المركزي العراقي، نهاية أيار 2024، عندما قرر المركزي إيقاف 197 شركة صيرفة من الدخول إلى نافذة بيع العملة.
قبل ذلك، في تموز 2023، فرضت الخزانة الأمريكية عقوبات على 14 مصرفاً عراقياً، وحظرتها من التعامل أو شراء الدولار من نافذة بيع العملة الأجنبية في البنك المركزي العراقي، وبحسب ما كشف مسؤول أمريكي لصحيفة وول ستريت جورنال فإن العقوبات على هذه المصارف، هي جزء من حملة على تحويل العملة الأمريكية إلى إيران.
شملت العقوبات مصرف المستشار، والقرطاس، والطيف، وإيلاف، وأربيل، والبنك الإسلامي الدولي، ومصرف عبر العراق، ومصرف الموصل، والراجح، وسومر، والثقة، وأور، ومصرفي العالم وزين العراق.
التأثير
بحسب مصدر في البنك المركزي العراقي، تطبّق رسوم “إتاوة” على كل التحويلات بالدولار، تتراوح من 2 بالمئة إلى 20 بالمئة، حسب حجم التحويلات وظروف السوق، وتعمل شبكة التهريب هذه من خلال التحويلات، التي تواجه صعوبات الآن، ومن خلال البيع النقدي للدولار في مزاد العملة.
شركات الصرافة التي هي واجهات فرعية للمصارف الخاصة، المسيطرة على مزاد العملة في البنك المركزي، تشتري معظم الحصّة اليومية من الدولارات النقدية في بغداد؛ مما يترك القليل منها متداولاً ويرفع السعر، ثم تقوم هذه الصيرفات بتهريب الدولار إلى الخارج، أو إعادة بيعه في الداخل، من خلال السوق السوداء، أو ما يعرف بالسوق الموازي.
يقول المصدر من داخل البنك المركزي العراقي إنّ المصارف الخاصة تحتفظ عمداً بمبالغ “الدولار” التي تمتلكها، وتفرج عن القليل جداً منها، لكي تستمر عملية الاستفادة من فارق سعر الصرف بين المباع في البنك المركزي (1310 دينار لكل دولار واحد)، والمباع في السوق الموازي (يتراوح من 1450 دينار إلى 1650 دينار، لكل دولار)، على الرغم من أن البنك المركزي حدد سعر البيع لتلك المصارف وشركات الصرافة بحيث لا يتجاوز الربح عشرة دنانير عن كل دولار، أي أن تلك المصارف وشركات الصرافة ملزمة ببيع الدولار للتجار والمواطنين بسعر 1320 دينار لكل دولار، لكن هذا لا يحدث في السوق الموازي الذي.
وفقاً للبنك المركزي العراقي، فإن الفئات التي تشتري الدولار من السوق الموازي، وتتسبب في توفير فرصة للمضاربين والمنتفعين وتداول سعر صرف غير رسمي، هي:
- المستوردون من التجار الذين لا يتبعون الطرائق الأصولية في عمليات التحويل الخارجي (الحوالات والاعتمادات المستندية) عبر المنصة الإلكترونية، المتاحة لهم بالسعر الرسمي.
- المستوردون لمواد ممنوعة أو مخدرة كتُجّار المخدرات وغيرها، أو لمواد لا تمرُّ عبر المنافذ الحدودية الرسمية، هروبًا من مقتضيات القانون أو الجمارك، مثل مستوردي السجائر وبعض مستوردي الأجهزة الدقيقة، فيعمدون إلى السوق لشراء الدولار غير المخصّص لهم لتسديد أقيامها.
- الفئة التي تحقّق عوائد من متحصلات الجرائم، كالرشاوى والسرقات والخطف والابتزاز وبيع الممنوعات وغيرها، ويعمدون إلى تحويلها للخارج لإخفائها.
- المواطنون الذين يدفعون لمشترياتهم من السلع والخدمات في داخل العراق بالدولار، مما يدفعهم إلى شراء الدولار من السوق، وإذ لا يوجد تخصيص من مبيعات البنك المركزي من الدولار لهذا الغرض، فيكون شراؤهم من حصة مخصصة لأغراض أُخرى، ولا سيّما السفر.
بعد تعيين علي محسن العلاق محافظاً للبنك المركزي، عادت مبيعات مزاد العملة لحجمها السابق، الذي يصل في بعض الأيام إلى 300 مليون دولار يومياً، ولا يقل عن 200 مليون دولار يومياً، وهذا يثير الأسئلة حول الإجراءات التي فرضها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويستدعي التذكير بحديث سابق لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي قال إن هذه الأرقام من المبيعات اليومية للبنك المركزي تؤكد وجود تهريب للعملة.