"التوريث السياسي".. جانب من خبايا الانتخابات المحلية  

أحمد نجم

05 كانون الأول 2023

يدفع سياسيون أشقاءهم وزوجاتهم وأبناء عمومتهم للترشح لانتخابات مجالس المحافظات، في مسعى من "العائلات السياسية" للحفاظ على سيطرتها على مراكز القرار والمال والنفوذ.. لكن من هؤلاء بالضبط؟ وكم عددهم؟ وهل سيتمكنون من الفوز؟ عن جانب من خبايا الانتخابات العراقية.

مثل الاستعداد لماراثون طويل ومرهق، يستعد 321 مرشحاً للفوز بعضوية مجلس محافظة ديالى في انتخابات كانون الأول، وهي أول انتخابات محلية تقام في المحافظة منذ أكثر من عشر سنوات. 

وكما في أي انتخابات أخرى، الفرص بين المتنافسين ليست متكافئة، وسبب عدم التكافؤ هذا ليس فقط نتيجة المال السياسي والسلطة والنفوذ وتأثير السلاح كما هو معتاد طيلة العقدين الماضيين، بل تسببت به ظاهرة بدت واضحة في السباق الانتخابي وتمثلت في نوع جديد من التوريث يمكن أن يسمى مجازاً “التوريث الديمقراطي”، إذ تصدر المشهد الانتخابي ما يشبه الفريق الرديف في الأندية الرياضية، وهو مؤلف من أشقاء أعضاء مجلس النواب وأزواجهم. 

يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب عن محافظة ديالى 14 نائباً، وفي الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 18 كانون الأول 2023، دفع ثمانية منهم بأحد أفراد عائلته للمشاركة فيها (سبعة دفعوا بأشقائهم ونائبة دفعت بزوجها) فيما اكتفى النواب الستة الآخرون بدعم مرشحين ضمن أحزابهم السياسية. 

ويواجه المرشحون عن الأحزاب المدنية صعوبات أكبر من المعتاد، إذ يشير أحمد كريم العطافي المرشح عن حزب أمارجي، إلى أن الفرص الانتخابية غير عادلة. 

“يتاح للمرشح عن العائلات السياسية مساحة كبيرة نتيجة المال السياسي والنفوذ والسلطة، بينما نحن كمدنيين لا نملك شيئاً غير ثقة الناس والمقبولية والشباب الطامح للتغيير” يقول العطافي لـ”جمّار”. 

لكن كيف يتأثر السباق الانتخابي بمرشحي العوائل؟ يجيب مصطفى الأوسي، الخبير في مجال الدعاية الانتخابية، عن ذلك بأكثر من اتجاه. 

يرى الأوسي أن امتلاك المرشح شقيقاً نائباً أو مسؤولاً تنفيذياً مؤثراً سيتيح له مزيداً من الدعم المالي لتمويل الحملة، بالإضافة للنفوذ الواسع الذي يسلط على دوائر الدولة وخاصة الخدمية للحصول على المشاريع والتسهيلات الإدارية وغيرها، وكل ذلك يمكّن المرشح من تقوية حظوظه ويضيف لرصيده الانتخابي مزيداً من الأصوات. 

مصطفى الأوسي -اختار هذا الاسم لنفسه بعد أن رفض الكشف عن هويته أو أي معلومات قد تسهّل معرفته- عمل قيادياً في ثلاث حملات انتخابية سابقة مع ثلاثة مرشحين مختلفين في ديالى. 

ويشير الأوسي إلى ميزة أخرى يتمتع بها مرشحو التوريث الديمقراطي تتجسد في ميل الناخبين إلى التصويت للمرشح المؤهل أو القريب من الفوز، ووجود شقيق نائب للمرشح يعزز من هذا الانطباع لدى الجمهور. 

بيئة مشجعة 

يحدث أيضاً أن يضطر سكان بعض المناطق، وخاصة الريفية، إلى التصويت لشقيق النائب تجنباً لخسارة المكتسبات والمزايا التي منحها لهم النائب. 

ويتفق الأوسي مع الرأي القائل بوجود عامل مساعد في تنامي هذه الظاهرة يتمثل بوجود بيئة عشائرية مشجعة على التوريث وترسيخ سلطة العوائل السياسية، ومتقبلة أكثر للمتاجرة بالمشاريع الخدمية والمساومة عليها انتخابياً. 

وتعد ديالى رابع المحافظات العراقية في نسبة سكان الأرياف والقرى، حيث تبلغ نسبتهم 50.8 بالمئة من مجموع السكان الكلي البالغ عددهم أكثر من مليون و700 ألف نسمة، بحسب بيانات وزارة التخطيط لعام 2020. 

ويبلغ عدد الناخبين الكلي في ديالى، بحسب علي كريم سعيد مدير مكتب مفوضية الانتخابات في المحافظة، 892 ألفاً و720 ناخباً في الاقتراع العام و57 ألفاً في الاقتراع الخاص، فيما يتوزع المرشحون الـ321 (وبينهم 92 امرأة) بين سبعة تحالفات وثمانية أحزاب ومرشح فردي واحد. 

ويبدو الترابط بين ترشيح الأسر السياسية والبيئات العشائرية واضحاً عند تتبع مناطق نفوذ وتواجد أعضاء مجلس النواب. 

في قضاءي المقدادية وبلدروز (اعتبرتا دائرة انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة) حيث البيئات العشائرية أكثر بروزاً، أقدم ثلاثة نواب يمثلون القضاءين على ترشيح أشقائهم لعضوية مجلس المحافظة، وهم المحافظ مثنى التميمي الشقيق الأكبر للنائب همام التميمي، وصباح زيني شقيق النائب صلاح زيني، بالإضافة إلى رشيدة الدايني شقيقة النائبة المخضرمة ناهدة الدايني. 

كما ترشح شقيقا عضوين في مجلس النواب عن قضاء خانقين منحدرين من العشائر العربية في نواحي جلولاء وقرة تبة والسعدية، وهما أحمد مظهر الجبوري ومضر الكروي (وشقيقاهما نافع مظهر وعمر الكروي). 

في الخالص أيضاً ينتسب مرشحون إلى بيئات عشائرية واسعة هما حردان المعموري شقيق النائب برهان المعموري ولؤي العبيدي زوج النائبة نورس العيسى. 

أما في بعقوبة، مركز المحافظة، فإن النائبة أسماء كمبش هي الوحيدة من نواب المدينة التي أقدمت على ترشيح شقيقتها ماجدة كمبش، وكلاهما شقيقتان لسعد كمبش رئيس ديوان الوقف السني السابق الذي أثارت قضية هروبه من السجن ووفاته لاحقاً جدلاً واسعاً خلال شهر نيسان 2023. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن النائبين في الدورة البرلمانية السابقة رياض التميمي وصلاح مزاحم الجبوري يجريان مراناً لإعادة الترشح في الانتخابات النيابية عن طريق ترشيح أشقاء لهم في الانتخابات المحلية المقبلة. 

وتجنباً للوقوع في شباك المخالفات القانونية لمفوضية الانتخابات، ترك المرشحون مهمة تبني المشاريع الخدمية ومتابعتها والترويج لها إعلامياً لأشقائهم من النواب، إذ أن صفحات أعضاء مجلس النواب على مواقع التواصل الاجتماعي مزدحمة بأخبار الاستجابة لمطالب الأهالي في تبليط الطرق أو ربط المحولات الكهربائية أو مد شبكات مياه الإسالة وغيرها. 

وجميع تلك الأعمال الخدمية تنفذها المؤسسات الحكومية، لكن يجري الإيعاز بها من قبل النواب الذين يمارسون نفوذاً هائلاً على دوائر الدولة. 

ولا يرى سعيد خلال حديثه لـ”جمّار” في ذلك ما يتعارض مع قانون الانتخابات، باعتبار أن الإشراف والرقابة من المهام الأساسية لأعضاء مجلس النواب، نافياً في الوقت ذاته ورود أي شكاوى إلى مفوضية ديالى تتعلق باستخدام المال العام في الدعاية الانتخابية. 

أما الشكاوى الواردة للمفوضية، والتي يقدرها سعيد لغاية 16 تشرين الثاني 2023 بـ15 شكوى، فجميعها تتعلق بمخالفات للأماكن المحددة لوضع اللافتات التعريفية للمرشحين. 

شراء كل من يمكن شراؤه 

منجم آخر من الأصوات الانتخابية اكتشفه المتنفذون، وهو ملف المتقدمين للشمول بشبكة الحماية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إذ يجمع بعض النواب معاملات المواطنين الراغبين بالحصول على المنح الشهرية التي تقدمها الشبكة للعاطلين عن العمل ويستغلون ذلك انتخابياً. 

وليس غريباً إذن أن تشهد الأشهر الأخيرة ظهور ثلاث وجبات تضمنت آلاف الأسماء التي حصلت الموافقة على شمولها بالمنح الشهرية. 

وتحافظ المنح الشهرية تلك (والتي تقدر بنحو 200 دولار) على العوائل من التدحرج تحت خط الفقر، كما أنها تحافظ على النفوذ السياسي للنواب وذويهم وتسهّل لهم الحصول على آلاف الأصوات بسهولة ومن دون إنفاق مالي من حملاتهم الانتخابية. 

وللأوسي معرفة واسعة أيضاً بأسرار الحملات الانتخابية وحجم تكاليفها المالية وآلية شراء الأصوات وموظفي المفوضية. 

قاد الأوسي بنفسه في إحدى الانتخابات السابقة مهمة شراء الأصوات عن طريق ممثلي كيان المرشح الذي يعمل معه، إذ يدفع 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً) لممثلي الكيان السياسي مقابل كل صوت يأتي به من أفراد عائلته أو ممن يثق بهم، إضافة إلى المبلغ الممنوح لممثل الكيان لمراقبة الانتخابات. 

ويحمل ممثلو الكيانات السياسية صفة قانونية في يوم الانتخابات، إذ يتيح قانون الانتخابات اختيار المرشح أو الكيان السياسي عدداً غير محدد من الممثلين للتواجد في المراكز والمحطات الانتخابية لمراقبة العملية الانتخابية وتسجيل الخروق وتقديم الطعون ومراقبة إجراءات العد والفرز ونتائج المحطة الانتخابية، لكن لممثل الكيانات دوراً آخر أكثر أهمية، إذ يسخر وجودهم لاستقبال أقاربهم أو أصدقائهم أو من يثقون بهم للتذكير بتسلسل المرشح ورقم قائمته بالإضافة للدخول إلى كابينة الانتخابات نيابة عن ذويهم أو كبار السن أو من يجهلون آلية الانتخاب. 

يقدر الأوسي عدد الأصوات التي اشتراها بنفسه خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بين 250 و300 صوت، وقد أنقذت تلك الأصوات مع الأصوات الأخرى التي اشتراها زملاؤه، والتي يقدرها بنحو ألفي صوت، المرشح من خسارة محققة نتيجة تقارب النتائج مع المنافسين. 

ولا يجد حرجاً أيضاً من كشف الآلية التي تتم بها استمالة مديري المحطات والمراكز الانتخابية من خلال دفع مبالغ توازي ما يتسلمونه رسمياً من مفوضية الانتخابات مقابل تسهيل مهمة ممثلي الكيانات السياسية في شراء أصوات أقاربهم ومن يثقون بهم والسماح لهم بالدخول إلى كابينة الانتخاب وتأشير ورقة الناخب بدلاً منه. 

ويشير الأوسي إلى أن ذلك يتم من دون أن يفهم مدير المحطة أنه يرتكب مخالفة، إذ يتم إقناعه بأن الناخبين هم جمهور للمرشح الفلاني لكنهم لا يعرفون كيف ينتخبون. 

ويتسلم مدير المحطة الانتخابية ما لا يقل عن 200 ألف دينار (نحو 127 دولاراً) مقابل السماح لممثل الكيان بدخول الكابينة مع الناخب، ويتم إخباره بأن المبلغ “هدية” كما يصفها الأوسي الذي يحتفي هو وزملاؤه بأي عدد من الأصوات يأتي بهذا المبلغ حتى لو كان خمسة أصوات فقط. 

طريقة شراء الأصوات هذه، بحسب الأوسي، متبعة وناجحة لدى كثير من المرشحين الأقوياء الذين عادة ما يدخرون 150-200 مليون دينار من أموال الحملة الانتخابية لتمويل عمليات الشراء في يوم الانتخابات. 

ويقدر الأوسي المبالغ المصروفة لتمويل حملة انتخابية لتحالف سياسي من 30 مرشحاً بـ15-20 مليار دينار، وذلك فضلاً عن تلقي بعض المرشحين تمويلاً إضافياً من داعمين آخرين مثل مسؤولين أو مقاولين أو عن طريق بيع عقاراتهم الشخصية. 

وخسارة الانتخابات بالنسبة للمرشحين لا تعني النهاية، إذ أن المرشح الفائز ملزم بتعويض المرشحين معه في القائمة ممن سهّلوا له الفوز نتيجة استفادة القائمة من أصواتهم، بجزء من العقود والصفقات التي تتم بعد وصوله للمجلس النيابي أو المحلي. 

جذور التوريث 

لا يكتمل فهم ظاهرة “التوريث الديمقراطي” -المصطلح الذي تبدو مفردتاه متناقضتين- من دون فهم مسبباته وجذوره الاجتماعية، حيث تتجاذب رغبة التوريث مع النوازع الكامنة في النفس البشرية والرغبة الجامحة باستمرار الاسم وروابط الدم. 

درس المفكر فالح عبد الجبار تحولات المجتمع المدني العراقي وولاداته المتعسرة بعناية، وتعريف المجتمع المدني برؤية عبد الجبار يتلخص بكونه مجتمعاً متحرراً من قواعد القرابة والوراثة ويتشكل من اتحادات طواعية غير قرابية ويعمل كمجتمع وسيط بين الأفراد والدولة، ومهمته تتمثل في ملء المجال العام الذي قد تشغله القبيلة في الحالات الأقرب للبدائية وقد تشغله الدولة في الأنظمة الديكتاتورية. 

ولم تترسخ جذور المجتمع المدني في العراق وتعثر أكثر من مرة نتيجة نموه البطيء وقصر فترته التاريخية، إذ أنه بدأ يتشكل مع نهايات الدولة العثمانية وبدايات الدولة العراقية الحديثة مع نمو طبقات اجتماعية حديثة مثل الصناعيين والتجار والمتعلمين والعسكر وملاك الأرض، بدلاً من طرق الإنتاج القديمة القائمة على الإنتاج الرعوي والزراعي المحدود، واختتمت سلسلة تعثراته نتيجة التقلبات السياسية في عقد التسعينيات من القرن الماضي في ظل العقوبات الاقتصادية وديكتاتورية نظام البعث. 

وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى بلغت نسبتها 54 بالمئة من سكان المدن في عام 1990 بعد أن كانت تمثل 1 بالمئة منهم عام 1900، إلا أن 90 بالمئة من أفراد هذه الطبقة كانوا من قطاع موظفي الدولة، أي لم يكن لهم دور في النمو المفترض للمجتمع المدني. 

وتسببت العقوبات الاقتصادية بخسارات كبيرة للطبقة الوسطى نتيجة اعتمادها شبه الكامل على الدولة، وأدى ذلك إلى أمر وصفه عبد الجبار في كتابه “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب” بـ”الأمر الخطير”، وهو عودة المجتمع المدني إلى شبكات تضامن محلية استندت غالبيتها إلى روابط القرابة في القبائل بالإضافة إلى إعادة الارتباط بالمؤسسات الدينية. 

فالبعث قمع في بدايات تسلمه السلطة كل أشكال ومظاهر المجتمع المدني مثل التنظيمات الحزبية، واستحوذ على الاتحادات والنقابات والنوادي وغيرها ودمجها قسرياً مع الدولة، وما إن ضعفت سلطة الدولة بعد الحصار لم يجد المجتمع المدني بقايا لشيء من مظاهره السابقة، فلجأ إلى القبيلة والمؤسسة الدينية. 

وهكذا ابتدأت التجربة الديمقراطية عام 2003 وهي تفتقد إحدى أهم ركائزها المتمثلة بالمجتمع المدني المتحرر من القبائلية وروابط الدم والقرابة، وبدلاً من أن تعمق التجارب الديمقراطية وتعزز قوة المجتمع المدني حدث العكس. 

واردات الدكان النفطي 

ترتكز العلاقة بين النائب في التجربة الديمقراطية بعد 2003 وبين ناخبيه وبيئته المحلية، على عوائد أنابيب النفط، حيث تتحكم مواردها وطرق توزيعها في مدى القبول والرفض، إذ أن الموارد النفطية تلك حولت الدولة ومؤسساتها إلى “دكان لبيع النفط والتصرف بموارده” كما عبر عنه عالم الاجتماع فالح عبد الجبار. 

وتحول قرار التصرف بتلك الموارد من مؤسسات الدولة إلى أعضاء مجلس النواب والمرشحين المتنفذين، وخاصة خلال الانتخابات، فتحولت بذلك العلاقة بين الناخب والمرشح إلى أسوأ أنواع المنفعة المتبادلة من ناحية تعلقها بالاحتياجات الأساسية للأفراد مثل الشوارع المعبدة أو منظومات المجاري أو توفير فرص العمل. 

ومن ناحية أخرى، تبنى هذه العلاقة النفعية غالباً على عدم الثقة، فالناخب يعلم أن المرشح الذي يغريه الآن بالوعود والامتيازات سيجد صعوبة بالغة في الوصول إليه بعد الفوز وصعوبة أكبر في تلبية احتياجاته، والمرشح يعلم أن الفائدة قد تذهب لغيره فيما لو حقق للأهالي مكاسب أكبر من المشاريع الخدمية. 

العلاقة من هذا النوع تقود أيضاً إلى غياب بعد النظر في القرار الانتخابي، إذ يفضل المواطنون، نتيجة سوء أوضاعهم المعيشية وغياب الخدمات الأساسية، منح أصواتهم لمن يوفر لهم تلك الاحتياجات الأساسية على المدى القصير، من دون اكتراث للمستقبل البعيد، مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. 

وبسبب ذلك، يجد بعض المرشحين من أحزاب مدنية أو توجهات اقتصادية حرة، أنفسهم في حرج كبير، إذ أن مصارحة الجمهور بأفكارهم الاقتصادية من ناحية، وعجزهم عن منافسة المرشحين الآخرين في تنفيذ المشاريع الخدمية من ناحية أخرى، سيجعلهم في مؤخرة السباق الانتخابي، أما إذا قرروا تقليد سلوك مرشحي الأحزاب التقليدية ذاته، فسيكونون بمثابة من يطلق الرصاص على نفسه ومشروعه وأفكاره. 

فصل آخر من القصة الانتخابية لم يُرو بعد، فالسلاح يحكم صناديق الاقتراع في عدد كبير من الأحياء والقرى ولو بشكل غير معلن، كما يقول العطافي الذي لمس تأثيره عندما تواصل مع “مجتمع خائف يخشى الظهور معنا في المؤتمرات العلنية”. 

مثل الاستعداد لماراثون طويل ومرهق، يستعد 321 مرشحاً للفوز بعضوية مجلس محافظة ديالى في انتخابات كانون الأول، وهي أول انتخابات محلية تقام في المحافظة منذ أكثر من عشر سنوات. 

وكما في أي انتخابات أخرى، الفرص بين المتنافسين ليست متكافئة، وسبب عدم التكافؤ هذا ليس فقط نتيجة المال السياسي والسلطة والنفوذ وتأثير السلاح كما هو معتاد طيلة العقدين الماضيين، بل تسببت به ظاهرة بدت واضحة في السباق الانتخابي وتمثلت في نوع جديد من التوريث يمكن أن يسمى مجازاً “التوريث الديمقراطي”، إذ تصدر المشهد الانتخابي ما يشبه الفريق الرديف في الأندية الرياضية، وهو مؤلف من أشقاء أعضاء مجلس النواب وأزواجهم. 

يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب عن محافظة ديالى 14 نائباً، وفي الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 18 كانون الأول 2023، دفع ثمانية منهم بأحد أفراد عائلته للمشاركة فيها (سبعة دفعوا بأشقائهم ونائبة دفعت بزوجها) فيما اكتفى النواب الستة الآخرون بدعم مرشحين ضمن أحزابهم السياسية. 

ويواجه المرشحون عن الأحزاب المدنية صعوبات أكبر من المعتاد، إذ يشير أحمد كريم العطافي المرشح عن حزب أمارجي، إلى أن الفرص الانتخابية غير عادلة. 

“يتاح للمرشح عن العائلات السياسية مساحة كبيرة نتيجة المال السياسي والنفوذ والسلطة، بينما نحن كمدنيين لا نملك شيئاً غير ثقة الناس والمقبولية والشباب الطامح للتغيير” يقول العطافي لـ”جمّار”. 

لكن كيف يتأثر السباق الانتخابي بمرشحي العوائل؟ يجيب مصطفى الأوسي، الخبير في مجال الدعاية الانتخابية، عن ذلك بأكثر من اتجاه. 

يرى الأوسي أن امتلاك المرشح شقيقاً نائباً أو مسؤولاً تنفيذياً مؤثراً سيتيح له مزيداً من الدعم المالي لتمويل الحملة، بالإضافة للنفوذ الواسع الذي يسلط على دوائر الدولة وخاصة الخدمية للحصول على المشاريع والتسهيلات الإدارية وغيرها، وكل ذلك يمكّن المرشح من تقوية حظوظه ويضيف لرصيده الانتخابي مزيداً من الأصوات. 

مصطفى الأوسي -اختار هذا الاسم لنفسه بعد أن رفض الكشف عن هويته أو أي معلومات قد تسهّل معرفته- عمل قيادياً في ثلاث حملات انتخابية سابقة مع ثلاثة مرشحين مختلفين في ديالى. 

ويشير الأوسي إلى ميزة أخرى يتمتع بها مرشحو التوريث الديمقراطي تتجسد في ميل الناخبين إلى التصويت للمرشح المؤهل أو القريب من الفوز، ووجود شقيق نائب للمرشح يعزز من هذا الانطباع لدى الجمهور. 

بيئة مشجعة 

يحدث أيضاً أن يضطر سكان بعض المناطق، وخاصة الريفية، إلى التصويت لشقيق النائب تجنباً لخسارة المكتسبات والمزايا التي منحها لهم النائب. 

ويتفق الأوسي مع الرأي القائل بوجود عامل مساعد في تنامي هذه الظاهرة يتمثل بوجود بيئة عشائرية مشجعة على التوريث وترسيخ سلطة العوائل السياسية، ومتقبلة أكثر للمتاجرة بالمشاريع الخدمية والمساومة عليها انتخابياً. 

وتعد ديالى رابع المحافظات العراقية في نسبة سكان الأرياف والقرى، حيث تبلغ نسبتهم 50.8 بالمئة من مجموع السكان الكلي البالغ عددهم أكثر من مليون و700 ألف نسمة، بحسب بيانات وزارة التخطيط لعام 2020. 

ويبلغ عدد الناخبين الكلي في ديالى، بحسب علي كريم سعيد مدير مكتب مفوضية الانتخابات في المحافظة، 892 ألفاً و720 ناخباً في الاقتراع العام و57 ألفاً في الاقتراع الخاص، فيما يتوزع المرشحون الـ321 (وبينهم 92 امرأة) بين سبعة تحالفات وثمانية أحزاب ومرشح فردي واحد. 

ويبدو الترابط بين ترشيح الأسر السياسية والبيئات العشائرية واضحاً عند تتبع مناطق نفوذ وتواجد أعضاء مجلس النواب. 

في قضاءي المقدادية وبلدروز (اعتبرتا دائرة انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة) حيث البيئات العشائرية أكثر بروزاً، أقدم ثلاثة نواب يمثلون القضاءين على ترشيح أشقائهم لعضوية مجلس المحافظة، وهم المحافظ مثنى التميمي الشقيق الأكبر للنائب همام التميمي، وصباح زيني شقيق النائب صلاح زيني، بالإضافة إلى رشيدة الدايني شقيقة النائبة المخضرمة ناهدة الدايني. 

كما ترشح شقيقا عضوين في مجلس النواب عن قضاء خانقين منحدرين من العشائر العربية في نواحي جلولاء وقرة تبة والسعدية، وهما أحمد مظهر الجبوري ومضر الكروي (وشقيقاهما نافع مظهر وعمر الكروي). 

في الخالص أيضاً ينتسب مرشحون إلى بيئات عشائرية واسعة هما حردان المعموري شقيق النائب برهان المعموري ولؤي العبيدي زوج النائبة نورس العيسى. 

أما في بعقوبة، مركز المحافظة، فإن النائبة أسماء كمبش هي الوحيدة من نواب المدينة التي أقدمت على ترشيح شقيقتها ماجدة كمبش، وكلاهما شقيقتان لسعد كمبش رئيس ديوان الوقف السني السابق الذي أثارت قضية هروبه من السجن ووفاته لاحقاً جدلاً واسعاً خلال شهر نيسان 2023. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن النائبين في الدورة البرلمانية السابقة رياض التميمي وصلاح مزاحم الجبوري يجريان مراناً لإعادة الترشح في الانتخابات النيابية عن طريق ترشيح أشقاء لهم في الانتخابات المحلية المقبلة. 

وتجنباً للوقوع في شباك المخالفات القانونية لمفوضية الانتخابات، ترك المرشحون مهمة تبني المشاريع الخدمية ومتابعتها والترويج لها إعلامياً لأشقائهم من النواب، إذ أن صفحات أعضاء مجلس النواب على مواقع التواصل الاجتماعي مزدحمة بأخبار الاستجابة لمطالب الأهالي في تبليط الطرق أو ربط المحولات الكهربائية أو مد شبكات مياه الإسالة وغيرها. 

وجميع تلك الأعمال الخدمية تنفذها المؤسسات الحكومية، لكن يجري الإيعاز بها من قبل النواب الذين يمارسون نفوذاً هائلاً على دوائر الدولة. 

ولا يرى سعيد خلال حديثه لـ”جمّار” في ذلك ما يتعارض مع قانون الانتخابات، باعتبار أن الإشراف والرقابة من المهام الأساسية لأعضاء مجلس النواب، نافياً في الوقت ذاته ورود أي شكاوى إلى مفوضية ديالى تتعلق باستخدام المال العام في الدعاية الانتخابية. 

أما الشكاوى الواردة للمفوضية، والتي يقدرها سعيد لغاية 16 تشرين الثاني 2023 بـ15 شكوى، فجميعها تتعلق بمخالفات للأماكن المحددة لوضع اللافتات التعريفية للمرشحين. 

شراء كل من يمكن شراؤه 

منجم آخر من الأصوات الانتخابية اكتشفه المتنفذون، وهو ملف المتقدمين للشمول بشبكة الحماية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إذ يجمع بعض النواب معاملات المواطنين الراغبين بالحصول على المنح الشهرية التي تقدمها الشبكة للعاطلين عن العمل ويستغلون ذلك انتخابياً. 

وليس غريباً إذن أن تشهد الأشهر الأخيرة ظهور ثلاث وجبات تضمنت آلاف الأسماء التي حصلت الموافقة على شمولها بالمنح الشهرية. 

وتحافظ المنح الشهرية تلك (والتي تقدر بنحو 200 دولار) على العوائل من التدحرج تحت خط الفقر، كما أنها تحافظ على النفوذ السياسي للنواب وذويهم وتسهّل لهم الحصول على آلاف الأصوات بسهولة ومن دون إنفاق مالي من حملاتهم الانتخابية. 

وللأوسي معرفة واسعة أيضاً بأسرار الحملات الانتخابية وحجم تكاليفها المالية وآلية شراء الأصوات وموظفي المفوضية. 

قاد الأوسي بنفسه في إحدى الانتخابات السابقة مهمة شراء الأصوات عن طريق ممثلي كيان المرشح الذي يعمل معه، إذ يدفع 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً) لممثلي الكيان السياسي مقابل كل صوت يأتي به من أفراد عائلته أو ممن يثق بهم، إضافة إلى المبلغ الممنوح لممثل الكيان لمراقبة الانتخابات. 

ويحمل ممثلو الكيانات السياسية صفة قانونية في يوم الانتخابات، إذ يتيح قانون الانتخابات اختيار المرشح أو الكيان السياسي عدداً غير محدد من الممثلين للتواجد في المراكز والمحطات الانتخابية لمراقبة العملية الانتخابية وتسجيل الخروق وتقديم الطعون ومراقبة إجراءات العد والفرز ونتائج المحطة الانتخابية، لكن لممثل الكيانات دوراً آخر أكثر أهمية، إذ يسخر وجودهم لاستقبال أقاربهم أو أصدقائهم أو من يثقون بهم للتذكير بتسلسل المرشح ورقم قائمته بالإضافة للدخول إلى كابينة الانتخابات نيابة عن ذويهم أو كبار السن أو من يجهلون آلية الانتخاب. 

يقدر الأوسي عدد الأصوات التي اشتراها بنفسه خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بين 250 و300 صوت، وقد أنقذت تلك الأصوات مع الأصوات الأخرى التي اشتراها زملاؤه، والتي يقدرها بنحو ألفي صوت، المرشح من خسارة محققة نتيجة تقارب النتائج مع المنافسين. 

ولا يجد حرجاً أيضاً من كشف الآلية التي تتم بها استمالة مديري المحطات والمراكز الانتخابية من خلال دفع مبالغ توازي ما يتسلمونه رسمياً من مفوضية الانتخابات مقابل تسهيل مهمة ممثلي الكيانات السياسية في شراء أصوات أقاربهم ومن يثقون بهم والسماح لهم بالدخول إلى كابينة الانتخاب وتأشير ورقة الناخب بدلاً منه. 

ويشير الأوسي إلى أن ذلك يتم من دون أن يفهم مدير المحطة أنه يرتكب مخالفة، إذ يتم إقناعه بأن الناخبين هم جمهور للمرشح الفلاني لكنهم لا يعرفون كيف ينتخبون. 

ويتسلم مدير المحطة الانتخابية ما لا يقل عن 200 ألف دينار (نحو 127 دولاراً) مقابل السماح لممثل الكيان بدخول الكابينة مع الناخب، ويتم إخباره بأن المبلغ “هدية” كما يصفها الأوسي الذي يحتفي هو وزملاؤه بأي عدد من الأصوات يأتي بهذا المبلغ حتى لو كان خمسة أصوات فقط. 

طريقة شراء الأصوات هذه، بحسب الأوسي، متبعة وناجحة لدى كثير من المرشحين الأقوياء الذين عادة ما يدخرون 150-200 مليون دينار من أموال الحملة الانتخابية لتمويل عمليات الشراء في يوم الانتخابات. 

ويقدر الأوسي المبالغ المصروفة لتمويل حملة انتخابية لتحالف سياسي من 30 مرشحاً بـ15-20 مليار دينار، وذلك فضلاً عن تلقي بعض المرشحين تمويلاً إضافياً من داعمين آخرين مثل مسؤولين أو مقاولين أو عن طريق بيع عقاراتهم الشخصية. 

وخسارة الانتخابات بالنسبة للمرشحين لا تعني النهاية، إذ أن المرشح الفائز ملزم بتعويض المرشحين معه في القائمة ممن سهّلوا له الفوز نتيجة استفادة القائمة من أصواتهم، بجزء من العقود والصفقات التي تتم بعد وصوله للمجلس النيابي أو المحلي. 

جذور التوريث 

لا يكتمل فهم ظاهرة “التوريث الديمقراطي” -المصطلح الذي تبدو مفردتاه متناقضتين- من دون فهم مسبباته وجذوره الاجتماعية، حيث تتجاذب رغبة التوريث مع النوازع الكامنة في النفس البشرية والرغبة الجامحة باستمرار الاسم وروابط الدم. 

درس المفكر فالح عبد الجبار تحولات المجتمع المدني العراقي وولاداته المتعسرة بعناية، وتعريف المجتمع المدني برؤية عبد الجبار يتلخص بكونه مجتمعاً متحرراً من قواعد القرابة والوراثة ويتشكل من اتحادات طواعية غير قرابية ويعمل كمجتمع وسيط بين الأفراد والدولة، ومهمته تتمثل في ملء المجال العام الذي قد تشغله القبيلة في الحالات الأقرب للبدائية وقد تشغله الدولة في الأنظمة الديكتاتورية. 

ولم تترسخ جذور المجتمع المدني في العراق وتعثر أكثر من مرة نتيجة نموه البطيء وقصر فترته التاريخية، إذ أنه بدأ يتشكل مع نهايات الدولة العثمانية وبدايات الدولة العراقية الحديثة مع نمو طبقات اجتماعية حديثة مثل الصناعيين والتجار والمتعلمين والعسكر وملاك الأرض، بدلاً من طرق الإنتاج القديمة القائمة على الإنتاج الرعوي والزراعي المحدود، واختتمت سلسلة تعثراته نتيجة التقلبات السياسية في عقد التسعينيات من القرن الماضي في ظل العقوبات الاقتصادية وديكتاتورية نظام البعث. 

وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى بلغت نسبتها 54 بالمئة من سكان المدن في عام 1990 بعد أن كانت تمثل 1 بالمئة منهم عام 1900، إلا أن 90 بالمئة من أفراد هذه الطبقة كانوا من قطاع موظفي الدولة، أي لم يكن لهم دور في النمو المفترض للمجتمع المدني. 

وتسببت العقوبات الاقتصادية بخسارات كبيرة للطبقة الوسطى نتيجة اعتمادها شبه الكامل على الدولة، وأدى ذلك إلى أمر وصفه عبد الجبار في كتابه “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب” بـ”الأمر الخطير”، وهو عودة المجتمع المدني إلى شبكات تضامن محلية استندت غالبيتها إلى روابط القرابة في القبائل بالإضافة إلى إعادة الارتباط بالمؤسسات الدينية. 

فالبعث قمع في بدايات تسلمه السلطة كل أشكال ومظاهر المجتمع المدني مثل التنظيمات الحزبية، واستحوذ على الاتحادات والنقابات والنوادي وغيرها ودمجها قسرياً مع الدولة، وما إن ضعفت سلطة الدولة بعد الحصار لم يجد المجتمع المدني بقايا لشيء من مظاهره السابقة، فلجأ إلى القبيلة والمؤسسة الدينية. 

وهكذا ابتدأت التجربة الديمقراطية عام 2003 وهي تفتقد إحدى أهم ركائزها المتمثلة بالمجتمع المدني المتحرر من القبائلية وروابط الدم والقرابة، وبدلاً من أن تعمق التجارب الديمقراطية وتعزز قوة المجتمع المدني حدث العكس. 

واردات الدكان النفطي 

ترتكز العلاقة بين النائب في التجربة الديمقراطية بعد 2003 وبين ناخبيه وبيئته المحلية، على عوائد أنابيب النفط، حيث تتحكم مواردها وطرق توزيعها في مدى القبول والرفض، إذ أن الموارد النفطية تلك حولت الدولة ومؤسساتها إلى “دكان لبيع النفط والتصرف بموارده” كما عبر عنه عالم الاجتماع فالح عبد الجبار. 

وتحول قرار التصرف بتلك الموارد من مؤسسات الدولة إلى أعضاء مجلس النواب والمرشحين المتنفذين، وخاصة خلال الانتخابات، فتحولت بذلك العلاقة بين الناخب والمرشح إلى أسوأ أنواع المنفعة المتبادلة من ناحية تعلقها بالاحتياجات الأساسية للأفراد مثل الشوارع المعبدة أو منظومات المجاري أو توفير فرص العمل. 

ومن ناحية أخرى، تبنى هذه العلاقة النفعية غالباً على عدم الثقة، فالناخب يعلم أن المرشح الذي يغريه الآن بالوعود والامتيازات سيجد صعوبة بالغة في الوصول إليه بعد الفوز وصعوبة أكبر في تلبية احتياجاته، والمرشح يعلم أن الفائدة قد تذهب لغيره فيما لو حقق للأهالي مكاسب أكبر من المشاريع الخدمية. 

العلاقة من هذا النوع تقود أيضاً إلى غياب بعد النظر في القرار الانتخابي، إذ يفضل المواطنون، نتيجة سوء أوضاعهم المعيشية وغياب الخدمات الأساسية، منح أصواتهم لمن يوفر لهم تلك الاحتياجات الأساسية على المدى القصير، من دون اكتراث للمستقبل البعيد، مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. 

وبسبب ذلك، يجد بعض المرشحين من أحزاب مدنية أو توجهات اقتصادية حرة، أنفسهم في حرج كبير، إذ أن مصارحة الجمهور بأفكارهم الاقتصادية من ناحية، وعجزهم عن منافسة المرشحين الآخرين في تنفيذ المشاريع الخدمية من ناحية أخرى، سيجعلهم في مؤخرة السباق الانتخابي، أما إذا قرروا تقليد سلوك مرشحي الأحزاب التقليدية ذاته، فسيكونون بمثابة من يطلق الرصاص على نفسه ومشروعه وأفكاره. 

فصل آخر من القصة الانتخابية لم يُرو بعد، فالسلاح يحكم صناديق الاقتراع في عدد كبير من الأحياء والقرى ولو بشكل غير معلن، كما يقول العطافي الذي لمس تأثيره عندما تواصل مع “مجتمع خائف يخشى الظهور معنا في المؤتمرات العلنية”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

مثل الاستعداد لماراثون طويل ومرهق، يستعد 321 مرشحاً للفوز بعضوية مجلس محافظة ديالى في انتخابات كانون الأول، وهي أول انتخابات محلية تقام في المحافظة منذ أكثر من عشر سنوات. 

وكما في أي انتخابات أخرى، الفرص بين المتنافسين ليست متكافئة، وسبب عدم التكافؤ هذا ليس فقط نتيجة المال السياسي والسلطة والنفوذ وتأثير السلاح كما هو معتاد طيلة العقدين الماضيين، بل تسببت به ظاهرة بدت واضحة في السباق الانتخابي وتمثلت في نوع جديد من التوريث يمكن أن يسمى مجازاً “التوريث الديمقراطي”، إذ تصدر المشهد الانتخابي ما يشبه الفريق الرديف في الأندية الرياضية، وهو مؤلف من أشقاء أعضاء مجلس النواب وأزواجهم. 

يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب عن محافظة ديالى 14 نائباً، وفي الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 18 كانون الأول 2023، دفع ثمانية منهم بأحد أفراد عائلته للمشاركة فيها (سبعة دفعوا بأشقائهم ونائبة دفعت بزوجها) فيما اكتفى النواب الستة الآخرون بدعم مرشحين ضمن أحزابهم السياسية. 

ويواجه المرشحون عن الأحزاب المدنية صعوبات أكبر من المعتاد، إذ يشير أحمد كريم العطافي المرشح عن حزب أمارجي، إلى أن الفرص الانتخابية غير عادلة. 

“يتاح للمرشح عن العائلات السياسية مساحة كبيرة نتيجة المال السياسي والنفوذ والسلطة، بينما نحن كمدنيين لا نملك شيئاً غير ثقة الناس والمقبولية والشباب الطامح للتغيير” يقول العطافي لـ”جمّار”. 

لكن كيف يتأثر السباق الانتخابي بمرشحي العوائل؟ يجيب مصطفى الأوسي، الخبير في مجال الدعاية الانتخابية، عن ذلك بأكثر من اتجاه. 

يرى الأوسي أن امتلاك المرشح شقيقاً نائباً أو مسؤولاً تنفيذياً مؤثراً سيتيح له مزيداً من الدعم المالي لتمويل الحملة، بالإضافة للنفوذ الواسع الذي يسلط على دوائر الدولة وخاصة الخدمية للحصول على المشاريع والتسهيلات الإدارية وغيرها، وكل ذلك يمكّن المرشح من تقوية حظوظه ويضيف لرصيده الانتخابي مزيداً من الأصوات. 

مصطفى الأوسي -اختار هذا الاسم لنفسه بعد أن رفض الكشف عن هويته أو أي معلومات قد تسهّل معرفته- عمل قيادياً في ثلاث حملات انتخابية سابقة مع ثلاثة مرشحين مختلفين في ديالى. 

ويشير الأوسي إلى ميزة أخرى يتمتع بها مرشحو التوريث الديمقراطي تتجسد في ميل الناخبين إلى التصويت للمرشح المؤهل أو القريب من الفوز، ووجود شقيق نائب للمرشح يعزز من هذا الانطباع لدى الجمهور. 

بيئة مشجعة 

يحدث أيضاً أن يضطر سكان بعض المناطق، وخاصة الريفية، إلى التصويت لشقيق النائب تجنباً لخسارة المكتسبات والمزايا التي منحها لهم النائب. 

ويتفق الأوسي مع الرأي القائل بوجود عامل مساعد في تنامي هذه الظاهرة يتمثل بوجود بيئة عشائرية مشجعة على التوريث وترسيخ سلطة العوائل السياسية، ومتقبلة أكثر للمتاجرة بالمشاريع الخدمية والمساومة عليها انتخابياً. 

وتعد ديالى رابع المحافظات العراقية في نسبة سكان الأرياف والقرى، حيث تبلغ نسبتهم 50.8 بالمئة من مجموع السكان الكلي البالغ عددهم أكثر من مليون و700 ألف نسمة، بحسب بيانات وزارة التخطيط لعام 2020. 

ويبلغ عدد الناخبين الكلي في ديالى، بحسب علي كريم سعيد مدير مكتب مفوضية الانتخابات في المحافظة، 892 ألفاً و720 ناخباً في الاقتراع العام و57 ألفاً في الاقتراع الخاص، فيما يتوزع المرشحون الـ321 (وبينهم 92 امرأة) بين سبعة تحالفات وثمانية أحزاب ومرشح فردي واحد. 

ويبدو الترابط بين ترشيح الأسر السياسية والبيئات العشائرية واضحاً عند تتبع مناطق نفوذ وتواجد أعضاء مجلس النواب. 

في قضاءي المقدادية وبلدروز (اعتبرتا دائرة انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة) حيث البيئات العشائرية أكثر بروزاً، أقدم ثلاثة نواب يمثلون القضاءين على ترشيح أشقائهم لعضوية مجلس المحافظة، وهم المحافظ مثنى التميمي الشقيق الأكبر للنائب همام التميمي، وصباح زيني شقيق النائب صلاح زيني، بالإضافة إلى رشيدة الدايني شقيقة النائبة المخضرمة ناهدة الدايني. 

كما ترشح شقيقا عضوين في مجلس النواب عن قضاء خانقين منحدرين من العشائر العربية في نواحي جلولاء وقرة تبة والسعدية، وهما أحمد مظهر الجبوري ومضر الكروي (وشقيقاهما نافع مظهر وعمر الكروي). 

في الخالص أيضاً ينتسب مرشحون إلى بيئات عشائرية واسعة هما حردان المعموري شقيق النائب برهان المعموري ولؤي العبيدي زوج النائبة نورس العيسى. 

أما في بعقوبة، مركز المحافظة، فإن النائبة أسماء كمبش هي الوحيدة من نواب المدينة التي أقدمت على ترشيح شقيقتها ماجدة كمبش، وكلاهما شقيقتان لسعد كمبش رئيس ديوان الوقف السني السابق الذي أثارت قضية هروبه من السجن ووفاته لاحقاً جدلاً واسعاً خلال شهر نيسان 2023. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن النائبين في الدورة البرلمانية السابقة رياض التميمي وصلاح مزاحم الجبوري يجريان مراناً لإعادة الترشح في الانتخابات النيابية عن طريق ترشيح أشقاء لهم في الانتخابات المحلية المقبلة. 

وتجنباً للوقوع في شباك المخالفات القانونية لمفوضية الانتخابات، ترك المرشحون مهمة تبني المشاريع الخدمية ومتابعتها والترويج لها إعلامياً لأشقائهم من النواب، إذ أن صفحات أعضاء مجلس النواب على مواقع التواصل الاجتماعي مزدحمة بأخبار الاستجابة لمطالب الأهالي في تبليط الطرق أو ربط المحولات الكهربائية أو مد شبكات مياه الإسالة وغيرها. 

وجميع تلك الأعمال الخدمية تنفذها المؤسسات الحكومية، لكن يجري الإيعاز بها من قبل النواب الذين يمارسون نفوذاً هائلاً على دوائر الدولة. 

ولا يرى سعيد خلال حديثه لـ”جمّار” في ذلك ما يتعارض مع قانون الانتخابات، باعتبار أن الإشراف والرقابة من المهام الأساسية لأعضاء مجلس النواب، نافياً في الوقت ذاته ورود أي شكاوى إلى مفوضية ديالى تتعلق باستخدام المال العام في الدعاية الانتخابية. 

أما الشكاوى الواردة للمفوضية، والتي يقدرها سعيد لغاية 16 تشرين الثاني 2023 بـ15 شكوى، فجميعها تتعلق بمخالفات للأماكن المحددة لوضع اللافتات التعريفية للمرشحين. 

شراء كل من يمكن شراؤه 

منجم آخر من الأصوات الانتخابية اكتشفه المتنفذون، وهو ملف المتقدمين للشمول بشبكة الحماية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إذ يجمع بعض النواب معاملات المواطنين الراغبين بالحصول على المنح الشهرية التي تقدمها الشبكة للعاطلين عن العمل ويستغلون ذلك انتخابياً. 

وليس غريباً إذن أن تشهد الأشهر الأخيرة ظهور ثلاث وجبات تضمنت آلاف الأسماء التي حصلت الموافقة على شمولها بالمنح الشهرية. 

وتحافظ المنح الشهرية تلك (والتي تقدر بنحو 200 دولار) على العوائل من التدحرج تحت خط الفقر، كما أنها تحافظ على النفوذ السياسي للنواب وذويهم وتسهّل لهم الحصول على آلاف الأصوات بسهولة ومن دون إنفاق مالي من حملاتهم الانتخابية. 

وللأوسي معرفة واسعة أيضاً بأسرار الحملات الانتخابية وحجم تكاليفها المالية وآلية شراء الأصوات وموظفي المفوضية. 

قاد الأوسي بنفسه في إحدى الانتخابات السابقة مهمة شراء الأصوات عن طريق ممثلي كيان المرشح الذي يعمل معه، إذ يدفع 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً) لممثلي الكيان السياسي مقابل كل صوت يأتي به من أفراد عائلته أو ممن يثق بهم، إضافة إلى المبلغ الممنوح لممثل الكيان لمراقبة الانتخابات. 

ويحمل ممثلو الكيانات السياسية صفة قانونية في يوم الانتخابات، إذ يتيح قانون الانتخابات اختيار المرشح أو الكيان السياسي عدداً غير محدد من الممثلين للتواجد في المراكز والمحطات الانتخابية لمراقبة العملية الانتخابية وتسجيل الخروق وتقديم الطعون ومراقبة إجراءات العد والفرز ونتائج المحطة الانتخابية، لكن لممثل الكيانات دوراً آخر أكثر أهمية، إذ يسخر وجودهم لاستقبال أقاربهم أو أصدقائهم أو من يثقون بهم للتذكير بتسلسل المرشح ورقم قائمته بالإضافة للدخول إلى كابينة الانتخابات نيابة عن ذويهم أو كبار السن أو من يجهلون آلية الانتخاب. 

يقدر الأوسي عدد الأصوات التي اشتراها بنفسه خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بين 250 و300 صوت، وقد أنقذت تلك الأصوات مع الأصوات الأخرى التي اشتراها زملاؤه، والتي يقدرها بنحو ألفي صوت، المرشح من خسارة محققة نتيجة تقارب النتائج مع المنافسين. 

ولا يجد حرجاً أيضاً من كشف الآلية التي تتم بها استمالة مديري المحطات والمراكز الانتخابية من خلال دفع مبالغ توازي ما يتسلمونه رسمياً من مفوضية الانتخابات مقابل تسهيل مهمة ممثلي الكيانات السياسية في شراء أصوات أقاربهم ومن يثقون بهم والسماح لهم بالدخول إلى كابينة الانتخاب وتأشير ورقة الناخب بدلاً منه. 

ويشير الأوسي إلى أن ذلك يتم من دون أن يفهم مدير المحطة أنه يرتكب مخالفة، إذ يتم إقناعه بأن الناخبين هم جمهور للمرشح الفلاني لكنهم لا يعرفون كيف ينتخبون. 

ويتسلم مدير المحطة الانتخابية ما لا يقل عن 200 ألف دينار (نحو 127 دولاراً) مقابل السماح لممثل الكيان بدخول الكابينة مع الناخب، ويتم إخباره بأن المبلغ “هدية” كما يصفها الأوسي الذي يحتفي هو وزملاؤه بأي عدد من الأصوات يأتي بهذا المبلغ حتى لو كان خمسة أصوات فقط. 

طريقة شراء الأصوات هذه، بحسب الأوسي، متبعة وناجحة لدى كثير من المرشحين الأقوياء الذين عادة ما يدخرون 150-200 مليون دينار من أموال الحملة الانتخابية لتمويل عمليات الشراء في يوم الانتخابات. 

ويقدر الأوسي المبالغ المصروفة لتمويل حملة انتخابية لتحالف سياسي من 30 مرشحاً بـ15-20 مليار دينار، وذلك فضلاً عن تلقي بعض المرشحين تمويلاً إضافياً من داعمين آخرين مثل مسؤولين أو مقاولين أو عن طريق بيع عقاراتهم الشخصية. 

وخسارة الانتخابات بالنسبة للمرشحين لا تعني النهاية، إذ أن المرشح الفائز ملزم بتعويض المرشحين معه في القائمة ممن سهّلوا له الفوز نتيجة استفادة القائمة من أصواتهم، بجزء من العقود والصفقات التي تتم بعد وصوله للمجلس النيابي أو المحلي. 

جذور التوريث 

لا يكتمل فهم ظاهرة “التوريث الديمقراطي” -المصطلح الذي تبدو مفردتاه متناقضتين- من دون فهم مسبباته وجذوره الاجتماعية، حيث تتجاذب رغبة التوريث مع النوازع الكامنة في النفس البشرية والرغبة الجامحة باستمرار الاسم وروابط الدم. 

درس المفكر فالح عبد الجبار تحولات المجتمع المدني العراقي وولاداته المتعسرة بعناية، وتعريف المجتمع المدني برؤية عبد الجبار يتلخص بكونه مجتمعاً متحرراً من قواعد القرابة والوراثة ويتشكل من اتحادات طواعية غير قرابية ويعمل كمجتمع وسيط بين الأفراد والدولة، ومهمته تتمثل في ملء المجال العام الذي قد تشغله القبيلة في الحالات الأقرب للبدائية وقد تشغله الدولة في الأنظمة الديكتاتورية. 

ولم تترسخ جذور المجتمع المدني في العراق وتعثر أكثر من مرة نتيجة نموه البطيء وقصر فترته التاريخية، إذ أنه بدأ يتشكل مع نهايات الدولة العثمانية وبدايات الدولة العراقية الحديثة مع نمو طبقات اجتماعية حديثة مثل الصناعيين والتجار والمتعلمين والعسكر وملاك الأرض، بدلاً من طرق الإنتاج القديمة القائمة على الإنتاج الرعوي والزراعي المحدود، واختتمت سلسلة تعثراته نتيجة التقلبات السياسية في عقد التسعينيات من القرن الماضي في ظل العقوبات الاقتصادية وديكتاتورية نظام البعث. 

وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى بلغت نسبتها 54 بالمئة من سكان المدن في عام 1990 بعد أن كانت تمثل 1 بالمئة منهم عام 1900، إلا أن 90 بالمئة من أفراد هذه الطبقة كانوا من قطاع موظفي الدولة، أي لم يكن لهم دور في النمو المفترض للمجتمع المدني. 

وتسببت العقوبات الاقتصادية بخسارات كبيرة للطبقة الوسطى نتيجة اعتمادها شبه الكامل على الدولة، وأدى ذلك إلى أمر وصفه عبد الجبار في كتابه “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب” بـ”الأمر الخطير”، وهو عودة المجتمع المدني إلى شبكات تضامن محلية استندت غالبيتها إلى روابط القرابة في القبائل بالإضافة إلى إعادة الارتباط بالمؤسسات الدينية. 

فالبعث قمع في بدايات تسلمه السلطة كل أشكال ومظاهر المجتمع المدني مثل التنظيمات الحزبية، واستحوذ على الاتحادات والنقابات والنوادي وغيرها ودمجها قسرياً مع الدولة، وما إن ضعفت سلطة الدولة بعد الحصار لم يجد المجتمع المدني بقايا لشيء من مظاهره السابقة، فلجأ إلى القبيلة والمؤسسة الدينية. 

وهكذا ابتدأت التجربة الديمقراطية عام 2003 وهي تفتقد إحدى أهم ركائزها المتمثلة بالمجتمع المدني المتحرر من القبائلية وروابط الدم والقرابة، وبدلاً من أن تعمق التجارب الديمقراطية وتعزز قوة المجتمع المدني حدث العكس. 

واردات الدكان النفطي 

ترتكز العلاقة بين النائب في التجربة الديمقراطية بعد 2003 وبين ناخبيه وبيئته المحلية، على عوائد أنابيب النفط، حيث تتحكم مواردها وطرق توزيعها في مدى القبول والرفض، إذ أن الموارد النفطية تلك حولت الدولة ومؤسساتها إلى “دكان لبيع النفط والتصرف بموارده” كما عبر عنه عالم الاجتماع فالح عبد الجبار. 

وتحول قرار التصرف بتلك الموارد من مؤسسات الدولة إلى أعضاء مجلس النواب والمرشحين المتنفذين، وخاصة خلال الانتخابات، فتحولت بذلك العلاقة بين الناخب والمرشح إلى أسوأ أنواع المنفعة المتبادلة من ناحية تعلقها بالاحتياجات الأساسية للأفراد مثل الشوارع المعبدة أو منظومات المجاري أو توفير فرص العمل. 

ومن ناحية أخرى، تبنى هذه العلاقة النفعية غالباً على عدم الثقة، فالناخب يعلم أن المرشح الذي يغريه الآن بالوعود والامتيازات سيجد صعوبة بالغة في الوصول إليه بعد الفوز وصعوبة أكبر في تلبية احتياجاته، والمرشح يعلم أن الفائدة قد تذهب لغيره فيما لو حقق للأهالي مكاسب أكبر من المشاريع الخدمية. 

العلاقة من هذا النوع تقود أيضاً إلى غياب بعد النظر في القرار الانتخابي، إذ يفضل المواطنون، نتيجة سوء أوضاعهم المعيشية وغياب الخدمات الأساسية، منح أصواتهم لمن يوفر لهم تلك الاحتياجات الأساسية على المدى القصير، من دون اكتراث للمستقبل البعيد، مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. 

وبسبب ذلك، يجد بعض المرشحين من أحزاب مدنية أو توجهات اقتصادية حرة، أنفسهم في حرج كبير، إذ أن مصارحة الجمهور بأفكارهم الاقتصادية من ناحية، وعجزهم عن منافسة المرشحين الآخرين في تنفيذ المشاريع الخدمية من ناحية أخرى، سيجعلهم في مؤخرة السباق الانتخابي، أما إذا قرروا تقليد سلوك مرشحي الأحزاب التقليدية ذاته، فسيكونون بمثابة من يطلق الرصاص على نفسه ومشروعه وأفكاره. 

فصل آخر من القصة الانتخابية لم يُرو بعد، فالسلاح يحكم صناديق الاقتراع في عدد كبير من الأحياء والقرى ولو بشكل غير معلن، كما يقول العطافي الذي لمس تأثيره عندما تواصل مع “مجتمع خائف يخشى الظهور معنا في المؤتمرات العلنية”. 

مثل الاستعداد لماراثون طويل ومرهق، يستعد 321 مرشحاً للفوز بعضوية مجلس محافظة ديالى في انتخابات كانون الأول، وهي أول انتخابات محلية تقام في المحافظة منذ أكثر من عشر سنوات. 

وكما في أي انتخابات أخرى، الفرص بين المتنافسين ليست متكافئة، وسبب عدم التكافؤ هذا ليس فقط نتيجة المال السياسي والسلطة والنفوذ وتأثير السلاح كما هو معتاد طيلة العقدين الماضيين، بل تسببت به ظاهرة بدت واضحة في السباق الانتخابي وتمثلت في نوع جديد من التوريث يمكن أن يسمى مجازاً “التوريث الديمقراطي”، إذ تصدر المشهد الانتخابي ما يشبه الفريق الرديف في الأندية الرياضية، وهو مؤلف من أشقاء أعضاء مجلس النواب وأزواجهم. 

يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب عن محافظة ديالى 14 نائباً، وفي الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 18 كانون الأول 2023، دفع ثمانية منهم بأحد أفراد عائلته للمشاركة فيها (سبعة دفعوا بأشقائهم ونائبة دفعت بزوجها) فيما اكتفى النواب الستة الآخرون بدعم مرشحين ضمن أحزابهم السياسية. 

ويواجه المرشحون عن الأحزاب المدنية صعوبات أكبر من المعتاد، إذ يشير أحمد كريم العطافي المرشح عن حزب أمارجي، إلى أن الفرص الانتخابية غير عادلة. 

“يتاح للمرشح عن العائلات السياسية مساحة كبيرة نتيجة المال السياسي والنفوذ والسلطة، بينما نحن كمدنيين لا نملك شيئاً غير ثقة الناس والمقبولية والشباب الطامح للتغيير” يقول العطافي لـ”جمّار”. 

لكن كيف يتأثر السباق الانتخابي بمرشحي العوائل؟ يجيب مصطفى الأوسي، الخبير في مجال الدعاية الانتخابية، عن ذلك بأكثر من اتجاه. 

يرى الأوسي أن امتلاك المرشح شقيقاً نائباً أو مسؤولاً تنفيذياً مؤثراً سيتيح له مزيداً من الدعم المالي لتمويل الحملة، بالإضافة للنفوذ الواسع الذي يسلط على دوائر الدولة وخاصة الخدمية للحصول على المشاريع والتسهيلات الإدارية وغيرها، وكل ذلك يمكّن المرشح من تقوية حظوظه ويضيف لرصيده الانتخابي مزيداً من الأصوات. 

مصطفى الأوسي -اختار هذا الاسم لنفسه بعد أن رفض الكشف عن هويته أو أي معلومات قد تسهّل معرفته- عمل قيادياً في ثلاث حملات انتخابية سابقة مع ثلاثة مرشحين مختلفين في ديالى. 

ويشير الأوسي إلى ميزة أخرى يتمتع بها مرشحو التوريث الديمقراطي تتجسد في ميل الناخبين إلى التصويت للمرشح المؤهل أو القريب من الفوز، ووجود شقيق نائب للمرشح يعزز من هذا الانطباع لدى الجمهور. 

بيئة مشجعة 

يحدث أيضاً أن يضطر سكان بعض المناطق، وخاصة الريفية، إلى التصويت لشقيق النائب تجنباً لخسارة المكتسبات والمزايا التي منحها لهم النائب. 

ويتفق الأوسي مع الرأي القائل بوجود عامل مساعد في تنامي هذه الظاهرة يتمثل بوجود بيئة عشائرية مشجعة على التوريث وترسيخ سلطة العوائل السياسية، ومتقبلة أكثر للمتاجرة بالمشاريع الخدمية والمساومة عليها انتخابياً. 

وتعد ديالى رابع المحافظات العراقية في نسبة سكان الأرياف والقرى، حيث تبلغ نسبتهم 50.8 بالمئة من مجموع السكان الكلي البالغ عددهم أكثر من مليون و700 ألف نسمة، بحسب بيانات وزارة التخطيط لعام 2020. 

ويبلغ عدد الناخبين الكلي في ديالى، بحسب علي كريم سعيد مدير مكتب مفوضية الانتخابات في المحافظة، 892 ألفاً و720 ناخباً في الاقتراع العام و57 ألفاً في الاقتراع الخاص، فيما يتوزع المرشحون الـ321 (وبينهم 92 امرأة) بين سبعة تحالفات وثمانية أحزاب ومرشح فردي واحد. 

ويبدو الترابط بين ترشيح الأسر السياسية والبيئات العشائرية واضحاً عند تتبع مناطق نفوذ وتواجد أعضاء مجلس النواب. 

في قضاءي المقدادية وبلدروز (اعتبرتا دائرة انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة) حيث البيئات العشائرية أكثر بروزاً، أقدم ثلاثة نواب يمثلون القضاءين على ترشيح أشقائهم لعضوية مجلس المحافظة، وهم المحافظ مثنى التميمي الشقيق الأكبر للنائب همام التميمي، وصباح زيني شقيق النائب صلاح زيني، بالإضافة إلى رشيدة الدايني شقيقة النائبة المخضرمة ناهدة الدايني. 

كما ترشح شقيقا عضوين في مجلس النواب عن قضاء خانقين منحدرين من العشائر العربية في نواحي جلولاء وقرة تبة والسعدية، وهما أحمد مظهر الجبوري ومضر الكروي (وشقيقاهما نافع مظهر وعمر الكروي). 

في الخالص أيضاً ينتسب مرشحون إلى بيئات عشائرية واسعة هما حردان المعموري شقيق النائب برهان المعموري ولؤي العبيدي زوج النائبة نورس العيسى. 

أما في بعقوبة، مركز المحافظة، فإن النائبة أسماء كمبش هي الوحيدة من نواب المدينة التي أقدمت على ترشيح شقيقتها ماجدة كمبش، وكلاهما شقيقتان لسعد كمبش رئيس ديوان الوقف السني السابق الذي أثارت قضية هروبه من السجن ووفاته لاحقاً جدلاً واسعاً خلال شهر نيسان 2023. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن النائبين في الدورة البرلمانية السابقة رياض التميمي وصلاح مزاحم الجبوري يجريان مراناً لإعادة الترشح في الانتخابات النيابية عن طريق ترشيح أشقاء لهم في الانتخابات المحلية المقبلة. 

وتجنباً للوقوع في شباك المخالفات القانونية لمفوضية الانتخابات، ترك المرشحون مهمة تبني المشاريع الخدمية ومتابعتها والترويج لها إعلامياً لأشقائهم من النواب، إذ أن صفحات أعضاء مجلس النواب على مواقع التواصل الاجتماعي مزدحمة بأخبار الاستجابة لمطالب الأهالي في تبليط الطرق أو ربط المحولات الكهربائية أو مد شبكات مياه الإسالة وغيرها. 

وجميع تلك الأعمال الخدمية تنفذها المؤسسات الحكومية، لكن يجري الإيعاز بها من قبل النواب الذين يمارسون نفوذاً هائلاً على دوائر الدولة. 

ولا يرى سعيد خلال حديثه لـ”جمّار” في ذلك ما يتعارض مع قانون الانتخابات، باعتبار أن الإشراف والرقابة من المهام الأساسية لأعضاء مجلس النواب، نافياً في الوقت ذاته ورود أي شكاوى إلى مفوضية ديالى تتعلق باستخدام المال العام في الدعاية الانتخابية. 

أما الشكاوى الواردة للمفوضية، والتي يقدرها سعيد لغاية 16 تشرين الثاني 2023 بـ15 شكوى، فجميعها تتعلق بمخالفات للأماكن المحددة لوضع اللافتات التعريفية للمرشحين. 

شراء كل من يمكن شراؤه 

منجم آخر من الأصوات الانتخابية اكتشفه المتنفذون، وهو ملف المتقدمين للشمول بشبكة الحماية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إذ يجمع بعض النواب معاملات المواطنين الراغبين بالحصول على المنح الشهرية التي تقدمها الشبكة للعاطلين عن العمل ويستغلون ذلك انتخابياً. 

وليس غريباً إذن أن تشهد الأشهر الأخيرة ظهور ثلاث وجبات تضمنت آلاف الأسماء التي حصلت الموافقة على شمولها بالمنح الشهرية. 

وتحافظ المنح الشهرية تلك (والتي تقدر بنحو 200 دولار) على العوائل من التدحرج تحت خط الفقر، كما أنها تحافظ على النفوذ السياسي للنواب وذويهم وتسهّل لهم الحصول على آلاف الأصوات بسهولة ومن دون إنفاق مالي من حملاتهم الانتخابية. 

وللأوسي معرفة واسعة أيضاً بأسرار الحملات الانتخابية وحجم تكاليفها المالية وآلية شراء الأصوات وموظفي المفوضية. 

قاد الأوسي بنفسه في إحدى الانتخابات السابقة مهمة شراء الأصوات عن طريق ممثلي كيان المرشح الذي يعمل معه، إذ يدفع 50 ألف دينار (نحو 32 دولاراً) لممثلي الكيان السياسي مقابل كل صوت يأتي به من أفراد عائلته أو ممن يثق بهم، إضافة إلى المبلغ الممنوح لممثل الكيان لمراقبة الانتخابات. 

ويحمل ممثلو الكيانات السياسية صفة قانونية في يوم الانتخابات، إذ يتيح قانون الانتخابات اختيار المرشح أو الكيان السياسي عدداً غير محدد من الممثلين للتواجد في المراكز والمحطات الانتخابية لمراقبة العملية الانتخابية وتسجيل الخروق وتقديم الطعون ومراقبة إجراءات العد والفرز ونتائج المحطة الانتخابية، لكن لممثل الكيانات دوراً آخر أكثر أهمية، إذ يسخر وجودهم لاستقبال أقاربهم أو أصدقائهم أو من يثقون بهم للتذكير بتسلسل المرشح ورقم قائمته بالإضافة للدخول إلى كابينة الانتخابات نيابة عن ذويهم أو كبار السن أو من يجهلون آلية الانتخاب. 

يقدر الأوسي عدد الأصوات التي اشتراها بنفسه خلال الانتخابات النيابية الأخيرة بين 250 و300 صوت، وقد أنقذت تلك الأصوات مع الأصوات الأخرى التي اشتراها زملاؤه، والتي يقدرها بنحو ألفي صوت، المرشح من خسارة محققة نتيجة تقارب النتائج مع المنافسين. 

ولا يجد حرجاً أيضاً من كشف الآلية التي تتم بها استمالة مديري المحطات والمراكز الانتخابية من خلال دفع مبالغ توازي ما يتسلمونه رسمياً من مفوضية الانتخابات مقابل تسهيل مهمة ممثلي الكيانات السياسية في شراء أصوات أقاربهم ومن يثقون بهم والسماح لهم بالدخول إلى كابينة الانتخاب وتأشير ورقة الناخب بدلاً منه. 

ويشير الأوسي إلى أن ذلك يتم من دون أن يفهم مدير المحطة أنه يرتكب مخالفة، إذ يتم إقناعه بأن الناخبين هم جمهور للمرشح الفلاني لكنهم لا يعرفون كيف ينتخبون. 

ويتسلم مدير المحطة الانتخابية ما لا يقل عن 200 ألف دينار (نحو 127 دولاراً) مقابل السماح لممثل الكيان بدخول الكابينة مع الناخب، ويتم إخباره بأن المبلغ “هدية” كما يصفها الأوسي الذي يحتفي هو وزملاؤه بأي عدد من الأصوات يأتي بهذا المبلغ حتى لو كان خمسة أصوات فقط. 

طريقة شراء الأصوات هذه، بحسب الأوسي، متبعة وناجحة لدى كثير من المرشحين الأقوياء الذين عادة ما يدخرون 150-200 مليون دينار من أموال الحملة الانتخابية لتمويل عمليات الشراء في يوم الانتخابات. 

ويقدر الأوسي المبالغ المصروفة لتمويل حملة انتخابية لتحالف سياسي من 30 مرشحاً بـ15-20 مليار دينار، وذلك فضلاً عن تلقي بعض المرشحين تمويلاً إضافياً من داعمين آخرين مثل مسؤولين أو مقاولين أو عن طريق بيع عقاراتهم الشخصية. 

وخسارة الانتخابات بالنسبة للمرشحين لا تعني النهاية، إذ أن المرشح الفائز ملزم بتعويض المرشحين معه في القائمة ممن سهّلوا له الفوز نتيجة استفادة القائمة من أصواتهم، بجزء من العقود والصفقات التي تتم بعد وصوله للمجلس النيابي أو المحلي. 

جذور التوريث 

لا يكتمل فهم ظاهرة “التوريث الديمقراطي” -المصطلح الذي تبدو مفردتاه متناقضتين- من دون فهم مسبباته وجذوره الاجتماعية، حيث تتجاذب رغبة التوريث مع النوازع الكامنة في النفس البشرية والرغبة الجامحة باستمرار الاسم وروابط الدم. 

درس المفكر فالح عبد الجبار تحولات المجتمع المدني العراقي وولاداته المتعسرة بعناية، وتعريف المجتمع المدني برؤية عبد الجبار يتلخص بكونه مجتمعاً متحرراً من قواعد القرابة والوراثة ويتشكل من اتحادات طواعية غير قرابية ويعمل كمجتمع وسيط بين الأفراد والدولة، ومهمته تتمثل في ملء المجال العام الذي قد تشغله القبيلة في الحالات الأقرب للبدائية وقد تشغله الدولة في الأنظمة الديكتاتورية. 

ولم تترسخ جذور المجتمع المدني في العراق وتعثر أكثر من مرة نتيجة نموه البطيء وقصر فترته التاريخية، إذ أنه بدأ يتشكل مع نهايات الدولة العثمانية وبدايات الدولة العراقية الحديثة مع نمو طبقات اجتماعية حديثة مثل الصناعيين والتجار والمتعلمين والعسكر وملاك الأرض، بدلاً من طرق الإنتاج القديمة القائمة على الإنتاج الرعوي والزراعي المحدود، واختتمت سلسلة تعثراته نتيجة التقلبات السياسية في عقد التسعينيات من القرن الماضي في ظل العقوبات الاقتصادية وديكتاتورية نظام البعث. 

وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى بلغت نسبتها 54 بالمئة من سكان المدن في عام 1990 بعد أن كانت تمثل 1 بالمئة منهم عام 1900، إلا أن 90 بالمئة من أفراد هذه الطبقة كانوا من قطاع موظفي الدولة، أي لم يكن لهم دور في النمو المفترض للمجتمع المدني. 

وتسببت العقوبات الاقتصادية بخسارات كبيرة للطبقة الوسطى نتيجة اعتمادها شبه الكامل على الدولة، وأدى ذلك إلى أمر وصفه عبد الجبار في كتابه “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب” بـ”الأمر الخطير”، وهو عودة المجتمع المدني إلى شبكات تضامن محلية استندت غالبيتها إلى روابط القرابة في القبائل بالإضافة إلى إعادة الارتباط بالمؤسسات الدينية. 

فالبعث قمع في بدايات تسلمه السلطة كل أشكال ومظاهر المجتمع المدني مثل التنظيمات الحزبية، واستحوذ على الاتحادات والنقابات والنوادي وغيرها ودمجها قسرياً مع الدولة، وما إن ضعفت سلطة الدولة بعد الحصار لم يجد المجتمع المدني بقايا لشيء من مظاهره السابقة، فلجأ إلى القبيلة والمؤسسة الدينية. 

وهكذا ابتدأت التجربة الديمقراطية عام 2003 وهي تفتقد إحدى أهم ركائزها المتمثلة بالمجتمع المدني المتحرر من القبائلية وروابط الدم والقرابة، وبدلاً من أن تعمق التجارب الديمقراطية وتعزز قوة المجتمع المدني حدث العكس. 

واردات الدكان النفطي 

ترتكز العلاقة بين النائب في التجربة الديمقراطية بعد 2003 وبين ناخبيه وبيئته المحلية، على عوائد أنابيب النفط، حيث تتحكم مواردها وطرق توزيعها في مدى القبول والرفض، إذ أن الموارد النفطية تلك حولت الدولة ومؤسساتها إلى “دكان لبيع النفط والتصرف بموارده” كما عبر عنه عالم الاجتماع فالح عبد الجبار. 

وتحول قرار التصرف بتلك الموارد من مؤسسات الدولة إلى أعضاء مجلس النواب والمرشحين المتنفذين، وخاصة خلال الانتخابات، فتحولت بذلك العلاقة بين الناخب والمرشح إلى أسوأ أنواع المنفعة المتبادلة من ناحية تعلقها بالاحتياجات الأساسية للأفراد مثل الشوارع المعبدة أو منظومات المجاري أو توفير فرص العمل. 

ومن ناحية أخرى، تبنى هذه العلاقة النفعية غالباً على عدم الثقة، فالناخب يعلم أن المرشح الذي يغريه الآن بالوعود والامتيازات سيجد صعوبة بالغة في الوصول إليه بعد الفوز وصعوبة أكبر في تلبية احتياجاته، والمرشح يعلم أن الفائدة قد تذهب لغيره فيما لو حقق للأهالي مكاسب أكبر من المشاريع الخدمية. 

العلاقة من هذا النوع تقود أيضاً إلى غياب بعد النظر في القرار الانتخابي، إذ يفضل المواطنون، نتيجة سوء أوضاعهم المعيشية وغياب الخدمات الأساسية، منح أصواتهم لمن يوفر لهم تلك الاحتياجات الأساسية على المدى القصير، من دون اكتراث للمستقبل البعيد، مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. 

وبسبب ذلك، يجد بعض المرشحين من أحزاب مدنية أو توجهات اقتصادية حرة، أنفسهم في حرج كبير، إذ أن مصارحة الجمهور بأفكارهم الاقتصادية من ناحية، وعجزهم عن منافسة المرشحين الآخرين في تنفيذ المشاريع الخدمية من ناحية أخرى، سيجعلهم في مؤخرة السباق الانتخابي، أما إذا قرروا تقليد سلوك مرشحي الأحزاب التقليدية ذاته، فسيكونون بمثابة من يطلق الرصاص على نفسه ومشروعه وأفكاره. 

فصل آخر من القصة الانتخابية لم يُرو بعد، فالسلاح يحكم صناديق الاقتراع في عدد كبير من الأحياء والقرى ولو بشكل غير معلن، كما يقول العطافي الذي لمس تأثيره عندما تواصل مع “مجتمع خائف يخشى الظهور معنا في المؤتمرات العلنية”.