110 أعوام على ولادة "العلّامة": لاهاي عبد الحسين تشرح علي الوردي
23 تشرين الأول 2023
استطاعت كتب علي الوردي في علم الاجتماع التي عرض وحلّل فيها المجتمع العراقي، الدخول إلى البيوت البسيطة. تلاقف كتبه شبّانٌ حاولوا فهم المجتمع الذي يعيشون فيه. وبقي الوردي، بالنسبة للكتاب والصحفيين والباحثين والمثقفين، المصدر الأساس للتوغل في المجتمع والتاريخ العراقيين، رغم أن "العلّامة" لم يكن مؤرخاً.. 110 أعوام على ولادة "العلامة"... لاهاي عبد الحسين تشرح علي الوردي.
في 23 تشرين الأوّل 2023، تمرّ 110 أعوام على ولادة علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي الرائد والأبرز، الذي استطاعت كتبه في علم الاجتماع التي عرض وحلّل فيها المجتمع العراقي، الدخول إلى البيوت البسيطة. تلاقف كتبه شبّان حاولوا فهم المجتمع الذي يعيشون فيه. وبقي الوردي، بالنسبة للكتاب والصحفيين والباحثين والمثقفين، المصدر الأساس للتوغل في المجتمع والتاريخ العراقيين.
كانت طموحات “العلامة” غير محدودة، وكتاباته أيضاً. جلب علوماً محضة إلى علم الاجتماع، ليزيد من أدوات تحليله للجماعات البشرية، وأنماط حياتها. أراد التوغّل في النفس البشرية، وفي تفكيك السلطة، وعلاقة الناس بها. كان الدين أيضاً أحد أكبر شواغله، وقدّم قراءات مختلفة لتاريخ الإسلام وحاضره، كما لرجال الدين وتأثيرهم على البسطاء، وتخادمهم مع السلطات السياسية.
أراد علي الوردي الكتابة عن المجتمع، أنّى استطاع، وغالباً ما نجح بذلك.
نحاور هنا، د. لاهاي عبد الحسين، عالمة الاجتماع والأستاذة المتمرسة في علم الانثروبولوجيا في جامعة بغداد، عن علي الوردي، حياته وفكره ومنهجه.
كتبت عبد الحسين عن الوردي، واستفادت من أطروحاته، كما نقدته في أكثر من مرّة، لكنها ظلت تُدافع، دائماً، عن أهميّة “العلّامة” وعن ضرورة التفريق بين نقده والتهجّم عليه. لكن هل نستفيد من أفكار الوردي اليوم؟ وكيف قُرئ الورديّ وكيف أعيدت قراءته؟ هل كان مصيباً في أبحاثه وكتاباته؟ هل كانت هناك مشكلات في بعض أطروحاته؟ وما هي سيرته وتأثيرها على مسيرته
- حدثينا عن نشأة علي الوردي، وطفولته، وخلفيّته الاجتماعية؟
- ولد علي الوردي عام 1913 في منطقة الكاظمية بقلب بغداد. في طفولته لم تكن هناك مدارس، لكنه أظهر قابلية ممتازة للتعلم عندما التحق بالمدرسة بعمر 14 عاماً، كان يحب القراءة كما يبدو من صغرِه. عائلته اعتيادية، بالحقيقة كل معلوماتنا عن حياته هو من حكاها وتحدّث عنها. يصف نفسه بأنه من أبناء الأزقّة الفقيرة، ومع ذلك هذه مسألة خاصة بمجتمع كامل، المجتمع كله وقتها كان فقيراً، وليست بالضرورة حالة خاصة بالوردي أثرت به شخصياً.
هو كان من عامة الناس، يمكن أن يقال كان على “قد حاله”. أبوه كان صائغا، والصائغ آنذاك شيء وسطي، ليس غنيا وليس فقيرا.
عمل هو أيضاً بالعطارة في سن مبكرة، قبل ذهابه إلى المدرسة، تبعاً لرغبة والده، الذي كان بمنظوره أن العطارة: “شي يوّكل خبز”.
تصوّر والده كان أن مستقبل هذا الفتى الذي اسمه علي، عطّار، لكن الفتى الصغير، أظهر من ذاك العمر المبكر حوالي 9 – 8 سنوات، أنه لم يكن مهتماً بالعمل. كان يعير الانتباه أكثر لكتاب يجلبه إلى المحل ليقرأ فيه.
صاحب المحل غضب منه وطرده. ثم قام أبوه بفتح محل عطارة خاص له، وهذا بحد ذاته بنظري يعني أنّ وضعه المادي حَسِن.
شكّلت توجهات علي الوردي مصدر إزعاج بالنسبة للوالد، لأنه لم يستطع التمسك بمهنة العطارة، وأراده أن يتعلم. ما تسبب بخسارة المحل بسبب انشغاله عنه بالقراءة. حيث كان يحضر الكتب ويجلس للقراءة، وأحياناً يغلق باب المحل ليحظى بالهدوء. لاحظ أبوه هذا الفعل أكثر من مرة وغضب منه جداً.
- كيف توجه لعلم الاجتماع تحديداً. هل كان هذا بسبب قراءاته السابقة؟
- بعد أن أظهر هذا الولع الكبير بالقراءة والتعلم والتأثر بمظاهر الحضارة، يبدو أنه حصل على معدل جيد وتمكن من دخول الجامعة بإرسالية من ِقبل الحكومة العراقية آنذاك. كان عدد الخريجين قليلا والمدارس قليلة. كانت هناك فرصة للطالب المتفّوق للحصول على منحة دراسية.
أُرسل من قبل الحكومة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت بداية الأربعينيات. لم يكن هناك علم اجتماع في العراق وقتها. والمجال نفسه لم يكن منتشراً بل كان في بداياته في العالم العربي والعالم. بمعنى أن أول قسم علم اجتماع أسسه عالم اجتماع روسي وآخر أمريكي كان عام 1924، أي أن المجال نفسه لم يكن معروفاً بصفته تخصصاً، لكن كانت هناك تصورات عامة حوله، وعلي الوردي أظهر رغبة في تعلم هذا العلم، وعندما عاد إلى بغداد، أرسلته الحكومة مرة أخرى ببعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، جامعة تكساس. هناك درس الماجستير. وقدم بحث علم الاجتماع في الإسلام.
- عندما بدأ حياته العلمية والبحثية، كيف تعامل مع موضوع المنهجية، هل اتِباعه لأسلوب الالتقاء بالناس والتعرف عليهم والحديث معهم، ثم تدوينه ملاحظات واستنتاجات، يعتبر مثلاً منهجا استقرائيا بشكل مبسط؟
- هو كان يكتب أبحاثه من خلال الملاحظات العامة لسلوك الباعة والمشترين، والقادمين والراحلين. خاصة وأن منطقته تعتبر منطقة حيوية ومركزا دينيا مهما، يأتيها الناس لزيارة مرقد الإمام الكاظم من كل مكان. لفتت نظره سلوكيات الناس وأهواءهم وقيمهم. وبات يختلط بهم وينخرط في التجمعات البشرية المختلفة والمتنوعة. وتخضع هذه الملاحظات لما تعلمه. بالطبع اختلطت في كتاباته المعرفة الشخصية بالمعرفة العلمية.
للحصول على شهادة الدكتوراه أرسل أيضاً إلى الجامعة نفسها. قدم رسالة الدكتوراه “ابن خلدون دراسة في علم اجتماع المعرفة”، أنجزها خلال عامين وحصل على جائزة المدينة حينها، كونه طالبا أجنبيا متفوقا.
حظي برعاية الأستاذ في قسمه آنذاك، وخصوصًا مع اهتمامه بالإسلام وحضارة المجتمع الذي جاء منه.
في ذلك الوقت كانت النظريات السائدة، النظرية الوظيفية ونظرية التفاعل الرمزي، فهذا كل ما قرأ عنه.
هناك مؤشران رئيسيان في كتب الوردي، هما المدرسة الوظيفية والتفاعل الرمزي. الوظيفية مدرسة تميل إلى المحافظة أساساً، والبحث في العلاقات الاجتماعية والقيم الاجتماعية والمعايير وما إلى ذلك. والحداثة أيضاً.
عاد إلى العراق وتعيّن في كلية الملكة عالية للبنات. وذلك أيضاً لم يسعد والده، الذي قال له: “يعني بعد كل هذا السفر والتعب والدراسة ترجع تتعين أستاذ بكلية للبنات”. اعتبره ضيّع عمره. كان هناك نوع من النزاع. ولو اشتغل عطارا، بنظر أبيه، لكان أفضل.
هذا الكلام عام 1950، بعد أربع سنوات التحق عالم اجتماع آخر بعلي الوردي. الدكتور عبد الجليل طاهر الذي كان مرسلاً إلى فرنسا. ثم نقل إلى الولايات المتحدة جامعة شيكاغو.
عندما عاد عبد الجليل طاهر، التحق مع الوردي. ويبدو وقتها أن الحكومة كانت تعتزم افتتاح جامعة، فطُرحت فكرة تأسيس قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، في كلية الآداب. وتمكّن الوردي وطاهر من تأسيس القسم وافتتاحه. ثم استقطبا الطلبة الذين ابتعثوا أيضاً. ودرسوا في الخارج من جديد في الستينيات مثل حاتم الكعبي وقيس النوري وفيما بعد متعب السامرائي ويونس التكريتي وآخرين، بدأ القسم ينمو ويتطور.
نعود للدكتور علي الوردي، في تلك الظروف، نتكلم عن مجتمع نامٍ، لم تكن هناك إمكانات للجامعات أو مختبرات. كانت الطريقة التي استخدمها، من خلال مفهومه لعلم الاجتماع، بأنه علم حياة الناس، فكانت الطريقة التي استخدمها -وهي متطورة بالنسبة لفترة الخمسينات- هي التواصل مع الناس.
بدأ الوردي يرتاد المقاهي ويذهب للزيارة في الإمام الكاظم، في منطقته، ويجلس لساعات طويلة يختلط مع الناس ويستنطقهم، ويتكلم معهم بمختلف القضايا.
بدأ، بعدها، بتطوير أفكاره، وشكل هزة للمجتمع العراقي بطروحاته. عام 1950 وهو مدرس في كلية الملكة عالية، قدم محاضرة عنوانها شخصية الفرد العراقي.
من خلال أطروحة شخصية الفرد العراقي، قدم مفهومات عن أنها شخصية تعاني من ازدواج وتناشز اجتماعي.
كان يتكلم في تلك المحاضرة مع مجتمع ليس لديه فكرة عن علم الاجتماع، حتى المختصون لم يكونوا متمرسين جداً حينها، لم يتكلم الوردي بشيء معتاد مثل الاقتصاد والسياسة، تكلم عن الفرد وقيمه وتوجهاته وما إلى ذلك، وهذه مسألة مهمة جداً، ذلك أنه أحيانا يساء فهم فكرة التناشز الاجتماعي والازدواج بالشخصية، يفهمها الناس أنها نوع من الإساءة للإنسان العراقي.
ولكنها ليست كذلك، هي مسألة علمية تفسّر الإنسان الذي يكون تحت وطأة منظومتين قيَميتين مختلفتين؛ وبهذه الحالة هي القيم الريفية والبدوية مقابلها قيم الحداثة والمدنية التي بدأت تشق طريقها بالعالم، والعراق جزء من هذا العالم. خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تكلم الوردي عن التناشز الاجتماعي والازدواج بالشخصية باعتبارها شيئاً لا يقوم به الإنسان العراقي متقصداً أو متعمداً، إنما تجري بشكل طبيعي، بمعنى أن الوردي لم يقصد بقوله إن الفرد يعاني من تناشز وازدواج، وأن الإنسان العراقي منافق، كما قيل في ما بعد.
فسر في كتبه أن المنافق يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر، وهو يعلم بذلك. أما التناشز والازدواج فهي مسألة تجري دون وعي وقصدية مسبقة. نتيجة وقوع الإنسان تحت وطأة منظومتين مختلفتين، من هذا المنطلق.
بطبيعة الحال، لم تتوفر للوردي فرص للقيام بدراسات واستفتاءات كما يحدث اليوم، وحتى اليوم ما زالت هذه المسألة ضعيفة جداً. اهتمام الأنظمة المتعددة التي تعاقبت على حكم العراق لم تتطور لتمنح للأكاديميين والتدريسيين فرصة للقيام ببحوث. هو نفسه في الكثير من كتبه كان يعد بالقيام بدراسات أكثر علمية.
- يعني أن علي الوردي كان واعياً بأن المنهج العلمي لديه فيه قصور بشكل ما؟
طبعا. ليس فقط واعياً، هو أحس بذلك أيضاً في قسم علم الاجتماع. وليس هو فقط، فعندما قدمت في التسعينات إلى (العمل الجامعي) حاولت أن أقوم ببحوث علمية، لكن دون أن نشعر، نتحول إلى تدريسيين، ووقتنا كله يمضي بمحاضرات مكثفة وهذا شغلنا من حيث الأساس.
أما جهدنا على صعيد البحوث العلمية، هو جهد ذاتي، يعتمد على الإنسان وقدرته، وأحياناً يشعر الإنسان أنه استهلك بالمحاضرة، خصوصا على مستوى الجامعة.
الجامعة تقرر أن هناك تخصيصا بنسبة 50 بالمئة من جهد الأستاذ للبحوث، والباقي للمحاضرة. بهدف أن تكون المحاضرة غنية، يجب أن تدعم ببحوث ميدانية.
والمشكلة نرى أن هناك تخلفاً كبيراً بمجال البحث. التوجه كله صار للمحاضرات واستهلك المدرسون، كان الوردي أحد هؤلاء، لكن نتيجة نزعته للبحث ورغبته فيه، اختار طريق البحث والكتابة، وقدم ما استطاع تقديمه.
- فترة السبعينات اشتهرت بأنها فترة بحث علمي في العراق، هل كانت بحث علمي فقط بالعلوم الطبيعية أكثر من الإنسانية. أم هناك سبب آخر وراء غياب أبحاث الوردي في هذه الفترة التي وفرّت بيئة مهيأة للبحث؟
- معظم إنجاز علي الوردي كان في الخمسينيات؛ فمثلاً عام 1950 قدم محاضرة شخصية الفرد العراقي التي طبعت في ما بعد ولاقت رواجاً، وهي قصيرة من 20 أو 25 صفحة. في ما بعد 1952، أنتج كتاب خوارق اللاشعور، ودخل بموضوع آخر يتكلم على قضية الوعي الكامن أو العقل الباطن، في محاولة توفيق بين علم النفس وعلم الاجتماع.
في كل كتاب من كتبه قدم أطروحة ضمن النظام العام لأبحاثه.
ثم عام 1955 أنتج كتاب مهزلة العقل البشري. هذا الكتاب هو أيضاً أطروحة وجه من خلالها النقد الشديد لعلم الفلسفة بشكل عام، لأنه يرى أن الفلاسفة منشغلون بالمثاليات ومهتمون بالتجريد، لا ينزلون للواقع وما إلى ذلك. وانتقد، بالذات، المنهج الأرسطي.
عام 1956، أنتج كتاب وعّاظ السلاطين، وهي أطروحة تحكي العلاقة بين الدين والدولة، ورجع إلى تاريخ الإسلام، وكان هذا نوعاً من الموجة الشائعة حينها. خلص إلى نتيجة أن الدين والدولة لا يلتقيان، كما لو أنهما الماء والنار.
ثم كتاب يقول إنه أنتجه عام 1957، ولكنه تباطأ في إصداره حتى 1959، عنوانه الأحلام بين العلم والعقيدة، وهنا أيضاً قدم أطروحة عن الأحلام، ومن خلالها انتقد وجهات النظر التقليدية السائدة التي غالباً ما تفسر الأحلام من منطلقات دينية. الذي فعله أنه تناول الأحلام من وجهة نظر علمية غير غيبية.
صدر هذا الكتاب بعد ظهور الجمهورية وثورة 14 تموز. هو بالمناسبة كان من الناس المرحبين بثورة 14 تموز ومتفائلين بها شأنه شأن الناس آنذاك. كان متذمراً من النظام الملكي.
عام 1965، أصدر دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، وهي جزء من مشروع كبير يمكن أن يعمّم فيما بعد لدراسة المجتمع العربي الأكبر. كانت وقتها الأجواء القومية والوطنية منتشرة.
كانت هذه الدراسة تعتبر علمية وجيدة، واعتمد بها على ملاحظاته وبصيرته وما يرصده في سلوكيات الناس، لكن رغم ذلك لم يتمكن من القيام بعمل علمي دقيق جدّاً، لأنه لم تكن الإمكانات متوفرة حينها. خاصة وأنه يعتبر من الرواد.
عام 1972، قّدم الوردي على تقاعد مبكر، وقد حصل على لقب الأستاذية بصعوبة، بسبب مواقف الزملاء والأساتذة منه نتيجة مواقفه النقدية للمجتمع العراقي، ويسميّها البعض بـ”التقريع”. وهي قراءة نقدية للمجتمع، فعندما اشتغل على المشروع الآخر الذي عنونه لمحات من تاريخ العراق الحديث، وأنتج منه ستة مجلدات مع ملحقين بمثابة كتابين، وكانت بالمحصلة النهائية ثمانية مجلدات، كل واحد منها يتراوح حجمه بين 300 إلى 350 صفحة.
أنجز الوردي هذا العمل بداية السبعينات. انتهى من المجلدات الستة مع كتابين، تناول فيها تاريخ المجتمع العراقي من زمن العثمانيين، وصولاً إلى بداية السبعينات. وصل الوردي إلى هذه المرحلة، ونستطيع القول إن الإنتاج العلمي كإصدار كتب وما إلى ذلك توقف.
لكنه بعدها دخل في سياق كتابة مقالات، مرات يستكتب من قبل مجلات، ويحضر محاضرات. قبل السبعينات كان يذهب للمحاضرات، لكن خلالها بدأ يكثف من حضوره المجالس.
لذلك، عندما نقول عن فترة السبعينات، توصف بشكل عام بأنها فترة أفضل من غيرها، لأنها قدمت هدوءاً نسبياً للعمل. (لكن) بالنسبة للدكتور علي الوردي فقد كان مشروعه الرئيسي قد وصل إلى نهايته؛ أي أن غيابه لا يتعلق بظروف خارجة بقدر ما تعلقت باكتمال مُنجزه.
بالمحصلة النهائية، ما فعله علي الوردي في كتابه لمحات أنه استخدم التاريخ مادة، وهو السؤال الذي بدأنا فيه.
لم يقم ببحث علمي معين، باستخدام مسوح بل اختار التاريخ كمنهج نظري. وبيّن إلى أي درجة كان العراق فعلاً ضحية لهذا النوع من التضارب بالقيم. صراع الحضارة والبداوة.
دعم الوردي فكرة أن تاريخ العراق الحديث تأثر بهذه المنظومات أكثر من غيرها، وهذا الذي يميزه عن غيره.
- هل ترين أن قراءة علي الوردي يتم اجتزاؤها، من قبل ناقديه ومن يتبنى أفكاره. بمعنى أن معظم قارئيه يأخذون أفكارها مقتبسة، جمل شهيرة، لقاءات، محاضرات، وليس دراسة فعلية لهذا المنجز..
- بالضبط، هذه واحدة من مشاكل التعامل مع كتاباته.
هناك قضية لم أذكرها، كل مطبوعات علي الوردي، شخصية الفرد العراقي، الخوارق، السلاطين، الأحلام، ودراسة طبيعة المجتمع، وثمانية مجلدات، 14 عمل، هذه كلها كان يطبعها على حسابه الخاص، لم يكن هناك دعم له، كان يذهب للمطابع، ووقتها لم يكن هناك كمبيوتر، فكان يبذل جهدا كبيرا جداً في طباعتها. كان لديه إيمان بنفسه ورسالته. كان يطبعها على نفقته الخاصة، رغم أنه ليس ثريا، هو بالنهاية أستاذ جامعي.
لكن من حمله على ذلك هم القراء الذين أعجبوا بأفكاره، رغم أنه أثار غضب البعض وانتقادات حادة من البعض. لم يوقفه هذا، بل كان يرد عليهم. رد على كثيرين بشكل منطقي وعلمي.
نسينا كتاباً آخر، أسطورة الأدب الرفيع. أيضاً في الخمسينات، هي فترة ازدهار كبير. الكتاب عبارة عن مقالات ينتقد فيها علماء اللغة العربية بالذات، لماذا، لأنهم أشبه ما يكونون بوعاظ السلاطين ورجال الدين.
هم غالباً ما ينصرون الحاكم ويتركون المحكوم. هذه فكرته الأساسية. أما قضية الاقتباسات من ناس غير مختصين يأخذون عبارات تنسجم مع توجههم ويرونها مؤثرة، فهذه، بالمحصلة، تحدث حتى مع مختصين، فهناك تبسيط وتسطيح لأفكاره.
عندما نقرأ علي الوردي بشكل مسؤول وأكاديمي صحيح، نتكلم هنا عن عدد من الأطروحات في الأدب، والتاريخ، وعلم النفس، والسياسة. نتكلم عن أطروحات متعددة لها نظام. لكن العامة يأخذون ما يناسبهم ويمتعهم.
هم ليسوا على خطأ، هو يتكلم بلغة مألوفة وبسيطة. وجميلة، هذه واحدة من انتقاداته للأدباء ومآخذه عليهم، يقول أنتم تتحذلقون كثيراً، وتستخدمون عبارات منمقة، لكنكم لا تواجهون الواقع.
الناس أعجبوا بأسلوبه من هذه الناحية، والبعض لم يعجبه، لكنه في النهاية بذل جهد كبير، وجمهوره متجدد. فها نحن نتحدث عنه بعد حوالي ثلاثة عقود على رحيله. ولا يزال يعتبر عالم اجتماع مميزا في العراق.
- هذا الوجود المستمر بين القرّاء، خاصة هذه الفترة من الاضطراب السياسي والاجتماعي، وعند الشباب تحديداً، هل ترين أنه جزء من اعتراضه على مفاهيم السلطة المعرفية السياسية ونقدها، وهذا الجيل مثلاً شعر بشكل ما أن هذا الخطاب يعبر عنه، ونقد الديمقراطية أيضاً، الذي كتب عنه الوردي..؟
- دكتور علي الوردي بالحقيقة لديه أفكار عظيمة لم تطور كما يجب، ولم تبذل مساعٍ علمية دقيقة لتطويرها. نحن حتى الآن لا نستطيع القول إن لدينا مدرسة لعلم اجتماع عراقي. في العراق حريّ بنا أن يكون لدينا مدرسة، والوردي هو المؤسس.
فالجيل الجديد مازال ينظر ويرى ويستشهد بكتاب مضى عليه تقريبا 70 عاماً، ولكن أفكاره ما تزال صحيحة من حيث تناول قضايا مثل الطائفية باعتبارها مشكلة أمام التطور الاجتماعي والعشائرية كذلك.
الوردي، بالمناسبة، يستخدم الكثير من عبارات الاستهزاء بشكل قوي. وعلينا العودة هنا إلى مسألة دور النشر وقتها، إذ لم يكن هناك محررون، وكان ينشر على حسابه، ويطرح الكتاب في السوق، ويتم شراؤه.
وعندما يتكلم الوردي عن معنى التحول الديموقراطي. هل نستطيع مثلاً أن نتحوّل ديموقراطياً، مثلما حصل عام 2003 من احتلال عسكري ونظام جديد.. وهكذا دخلنا الديموقراطية؟
حصلت الكثير من الاختناقات والمشاكل والتضحيات التي قدمها المجتمع العراقي، ولو انتبه هؤلاء المشتغلون والقائمون على السياسة، لعلي الوردي لعرفوا أن لديه فكرة مهمة وجوهرية طرحها منذ الخمسينات، وهي أنه لا يمكن لمجتمع أن ينتقل من نظام دكتاتوري استبدادي نحو الديموقراطية مرة واحدة، وإنما لا بد من مرحلة انتقالية يكون فيها نظام تقوم عليه نخبة مؤهلة بالعمل السياسي، تمهد للانتقال الديمقراطي.
هذه واحدة من التضحيات التي عانيناها كمجتمع، ذلك أنه لم يُسمع للوردي ولم يقرأ بشكل جيد، وإذا ما قرئ فيأخذون ما يعتقدون أنه يسيء إليهم، وبالنهاية خسروا من علي الوردي الكثير.
- لنعد إلى فكرة سابقة في كلامه عن منظومتين متناقضتين، هل أسهم وجود المنظومتين بتعطيل وجود جمهورية حقيقية وإدامة الصراع واستمرار هذه المنظومة الهجينة؟
- بالضبط. هو غالباً ما يتم التركيز على المفاهيم الشائعة لها، التناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية، بينما هو لديه مفهومات أخرى مهمة، واحد منها مفهوم “الخطية” باللهجة العراقية، هو تدخل الناس نتيجة العطف على المذنب والمخالف، هو بنظره لا يمكن لدولة أن تنشأ وتقوم في مجتمع يتعامل مع المذنب باعتبار خطية مسكين “خلي نعفو عنه”، أو نجد طريقة لتخليصه من المسؤولية.
الوردي مع القانون ومع فكرة أن لا يمكن للدولة أن تقوم من دون أن تقوم على قوانين وتشريعات وقدرة على تطبيق التشريعات بشكل صحيح وعادل ومتساوٍ على الجميع بدون استثناءات.
- عودة إلى سؤال في رؤيته للمجتمع والتفريق بين ذمه ونقده عند الوردي، يتبع البعض مبدأ من لا يستطيع انتقاد السلطة ينتقد الناس، مثل القول هؤلاء غير متحضرين، لا يحترمون القانون، وأحياناً متخلفون لا يجيدون التصرف. فيما يتجه جزء آخر لنقد السلطة بشكل تام دون الالتفات لدور المجتمع، أين الوردي من هذه الطروحات؟
- هو أحيانا يحمّل الدولة والنظام المسؤولية الكبرى، لأن المجتمع محكوم، وإذا ما أردنا لهذا المجتمع أن ينهض، لا بد من مؤسسات، ومؤسسات مستقرة.
لكن المشكلة أننا عندما ننظر للمجتمع على مدى تاريخه الحديث، عبر المئة سنة الأخيرة، فنحن لدينا مؤسسات، جامعات ومدارس ومصارف وأجهزة إعلامية. كلها موجودة. لكن المشكلة لا يوجد استقرار.
لم نعش استقرارا حقيقيا. وأيضا الفرد يتصرف وفق مرجعياته العشائرية والطائفية بسبب غياب سلطة قانونية حازمة وحاسمة ومركزية. الذي يحدث أن الفرد ينزلق إلى مرجعياته الذاتية. هذا تعدد مركزيّات محيطة بالفرد نفسه. وهو يذهب لما يناسبه.
لو كان هناك نظام مستقر. لاحظوا كم نظام جاء على العراق، الملكية وأعوام 1953 و1958 و1963، ثم الاحتلال ثم بعد ذلك. لم يكن هناك استقرار أبداً. حتى في ظل 35 سنة من نظام صدام حسين، لم يكن هناك استقرار إلا بقدر ما يتعلق بالسلطة. غير ذلك دائما تغييرات. وعين المواطن على المراسيم الجمهورية.
ما يرتبط بالفرد هنا أحياناً نقول -وأعتقد أن هذه وجهة نظر الوردي- أنه لو تأسست المؤسسات بشكل حيادي ومستقل، بحيث غياب الفرد لا يشكل أزمة ويبقى النظام مستمراً، والعمل المؤسسي مستمراً والأمور ترتبط بالعمل والمؤسسة لا الفرد الذي يشتغل بها، لو حدث ذلك لكان بإمكان المجتمع أن يتطور بشكل طبيعي.
لكن في الوقت نفسه هناك تفاعل. علي الوردي لديه مفهوم جديد، لم يحظَ بالانتشار، وهو يتكلم عن هذه المسألة تحديداً: الفرد والمؤسسة. أحيانا الفرد يفرض إرادته بسبب مرجعيته الدينية والعشائرية والطائفية والسياسية، وما يمثلها من حوامل بنيوية لهذه المرجعيات، وذلك عندما تكون المؤسسات غير مستقرة.
لكن تأثير الفرد أحياناً يجر المؤسسة باتجاه معين، والمؤسسة تقاوم، وهذه يسميها سببية دورية، يمكن تسميتها بالمفهومات العلمية المتعارف عليها، الدائرة الشريرة، أو تدوير المجتمع، بحيث يعيد إنتاج نفسه، بسبب انعدام الحسم بين الفرد والمؤسسة.
- هذه فكرة أخرى تفسّر انتشار مقولات علي الوردي بين الشباب، نفس الصراعات تعيد تدوير نفسها بسبب غياب الحسم.
- إيه، وتأخذ أشكالا عدّة. كتبت دراسة سميتها صراع الحضارة والبداوة في العراق في الانتخابات النيابية في العراق 2014، وألهمت فيها من جانب علي الوردي، وأيضاً من نظريات علم الاجتماع المعاصرة.
نظريات علم الاجتماع المعاصرة تقول، إنه عندما يحدث تحول ديمقراطي، فالمفترض أن المجتمع يتصاعد في دوره واهتمامه، بحيث يتقبل التنوع، يتقبل الاختلاف، ويتحول نحو الديمقراطية، ويكون قادرا على التعايش مع بعضه، برغم الاختلافات.
لكن نتائج الانتخابات أنتجت ماذا؟ (النتائج) في الحقيقة هي تدعيم لنظرية الوردي عن صراع الحضارة والبداوة.
دراستي تعتبر تحديثاً أو تطبيقاً لأحدث نظريات علي الوردي، وهي أن نتائج الانتخابات أدت إلى إدامة النسق غير المناسب.
بالمحصلة، لم يتغير الكثير، ولم توضع معالجات. عندما نرى في ضوء هذه الأفكار، لماذا الأحزاب تقتصر على جماعات من الطائفة نفسها، هذي بحد ذاتها عبارة عن تكريس لكل ما رفضه علي الوردي.
ولكن ما نحاول نحن الأجيال اللاحقة أيضا أن نؤكد عليه، أنه عندما تُقبَل الأحزاب ذات المرجعيات الدينية والطائفية والعرقية، فإن المجتمع بالتأكيد سيعيد إنتاج نفسه.
هذه المشكلة، المجتمع عندما يريد إحداث تغيير حقيقي، لا يسمح للأحزاب ذات مرجعية دينية وطائفية وما إلى ذلك، ويحاسبها. يعني، بالتالي يكون المجتمع قادرا على أن يدير دفة الجماعة بشكل صحيح، لكن عندما يتماهى المجتمع ويغض النظر، ويعطّل صوت القضاء، فإن المجتمع يصبح على هواه، والأهواء لا تبني دولا.
- باعتبار علي الوردي سافر للدراسة خارجاً، وعاد إلى العراق وبدأ بالكتابة في علم الاجتماع وأسس قسماً جامعيا لتدريسه. هل يمكن اعتبار الوردي من رواد مفكري النهضة العربية، ولو أنه متأخر عن فترة مفكري النهضة؟
- علي الوردي عالم حداثوي وعلماني وتحرري وليبرالي. يعني منذ النظام الملكي قبل ثورة ١٤ تموز 1958، ساهم في رفع مذكرات احتجاج، سلمت إلى رئيس الوزراء في وقتها، نوري السعيد.
سجلوا بيان احتجاج مثلاً على إلغاء عقد مجلة معينة للصدور، أو منع جريدة ما من الصدور وما إلى ذلك، باسم ماذا، باسم المطالبة بالحرية والتعبير عن الرأي واحترام الرأي العام، فهو من هذه الجماعات.
جماعة النهضة لربما قديمة، لكن بالتأكيد هي نفس التوجه العام، يعني التوجه نحو الحداثة، لكن حداثة بدون قوانين بدون ضوابط، بدون قدرة على تعزيز القانون.
اليوم حتى المجتمعات الأكثر تقدما تنزلق بسهولة. بعيداً عن القيم السليمة، لكن ماذا سيحدث لو أن المجتمع لديه حركات، ولديه حرية تعبير عن الرأي، ولديه إعلام قوي؟
سيواجه كل هذا ويحاصره. في مجتمعاتنا والمجتمع العراقي بالذات، بسبب انعدام الاستقرار السياسي، والأزمات التي تأخذ أحيانا شكلاً دموياً، فإن دور المثقف أحياناً بالتأكيد يكون محدوداً. يجبر على أن ينزوي وينسحب أو يصمت.
- أخيراً..
- أخيراً علي الوردي ضد النزاعات الدموية. والتحيزات، كما أنه ليس كما يقال عنه يقرّع المجتمع، بل ينتقده بشكل علمي ولو شابته بعض الملاحظات الشخصية. والغباء السياسي تسبب بمنع كتبه أوقات كثيرة. أنا عندما كنت طالبة كنت أذهب للبحث عن كتبه وأجدها ممنوعة.
- أعدتنا هنا لسؤال سابق، بشأن اجتزاء مقولاته..
- ضمن سياقه التاريخي هو يستخدم لغة قريبة من الناس فيها من الاستهزاء والنقد الساخر. في وحدة من أمثلته، التي شرحها بشكل واضح، ينتقد العداء بين الشيعة والسنة. في بغداد الشيعة والسنة في منطقتين متقاربتين، يفصل بينهما نهر دجلة وجسر الأئمة، الإمام الكاظم في الكرخ والإمام أبو حنيفة في الرصافة.
يسخر الوردي ويستخدم مرات عبارات مثل، أنظروا إلى هؤلاء، يتقاتلون ويتخاصمون ويدخلون في صراعات بينما الأئمة الذين يستلهمونهم كانوا متعاونين ومتضامنين مع بعضهم.
هؤلاء تاريخياً كانوا أقرب إلى بعضهم مما حدث في ما بعد في أجيال لاحقة، تشمت الوردي بهم. هو يذكر كثير من التفاصيل من هذا النوع. وأيضا في الوقت نفسه هناك ملاحظات على كتب الدكتور علي الوردي، مثل أنه غالبا ما نجد أطروحة عنده تقع في ٨٠ – ٩٠ صفحة من الكتاب، والبقية يكتب فيها أمورا سبق أن نشرها أو إضافات أو شيئا من هذا النوع.
يمكننا القول إن هناك نوعاً من الخلل المهني، لكن نعود ونقول أيضاً إن هذا لا يقلل من مساهمته، وأطروحاته الأساسية.
لم تكن هناك دراسة حقيقية لمنجز علي الوردي، والبناء عليها. أنا مع النقد البنّاء الذي يتعرض على الوردي أو أي عالم آخر، لكن بالطريقة التي تقوم على أسس علمية، وليس مجرد آراء أو أحكام وما إلى ذلك.
كان ممكناً -وهذه المسألة أيضا ترتبط بالمؤسسة الجامعة وقسم علم الاجتماع- لو كانت هناك جهود مخلصة لاستطعنا أن نطور فكر علي الوردي ونكون أكثر مساهمة في بناء المجتمع وحل مشكلاته.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
في 23 تشرين الأوّل 2023، تمرّ 110 أعوام على ولادة علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي الرائد والأبرز، الذي استطاعت كتبه في علم الاجتماع التي عرض وحلّل فيها المجتمع العراقي، الدخول إلى البيوت البسيطة. تلاقف كتبه شبّان حاولوا فهم المجتمع الذي يعيشون فيه. وبقي الوردي، بالنسبة للكتاب والصحفيين والباحثين والمثقفين، المصدر الأساس للتوغل في المجتمع والتاريخ العراقيين.
كانت طموحات “العلامة” غير محدودة، وكتاباته أيضاً. جلب علوماً محضة إلى علم الاجتماع، ليزيد من أدوات تحليله للجماعات البشرية، وأنماط حياتها. أراد التوغّل في النفس البشرية، وفي تفكيك السلطة، وعلاقة الناس بها. كان الدين أيضاً أحد أكبر شواغله، وقدّم قراءات مختلفة لتاريخ الإسلام وحاضره، كما لرجال الدين وتأثيرهم على البسطاء، وتخادمهم مع السلطات السياسية.
أراد علي الوردي الكتابة عن المجتمع، أنّى استطاع، وغالباً ما نجح بذلك.
نحاور هنا، د. لاهاي عبد الحسين، عالمة الاجتماع والأستاذة المتمرسة في علم الانثروبولوجيا في جامعة بغداد، عن علي الوردي، حياته وفكره ومنهجه.
كتبت عبد الحسين عن الوردي، واستفادت من أطروحاته، كما نقدته في أكثر من مرّة، لكنها ظلت تُدافع، دائماً، عن أهميّة “العلّامة” وعن ضرورة التفريق بين نقده والتهجّم عليه. لكن هل نستفيد من أفكار الوردي اليوم؟ وكيف قُرئ الورديّ وكيف أعيدت قراءته؟ هل كان مصيباً في أبحاثه وكتاباته؟ هل كانت هناك مشكلات في بعض أطروحاته؟ وما هي سيرته وتأثيرها على مسيرته
- حدثينا عن نشأة علي الوردي، وطفولته، وخلفيّته الاجتماعية؟
- ولد علي الوردي عام 1913 في منطقة الكاظمية بقلب بغداد. في طفولته لم تكن هناك مدارس، لكنه أظهر قابلية ممتازة للتعلم عندما التحق بالمدرسة بعمر 14 عاماً، كان يحب القراءة كما يبدو من صغرِه. عائلته اعتيادية، بالحقيقة كل معلوماتنا عن حياته هو من حكاها وتحدّث عنها. يصف نفسه بأنه من أبناء الأزقّة الفقيرة، ومع ذلك هذه مسألة خاصة بمجتمع كامل، المجتمع كله وقتها كان فقيراً، وليست بالضرورة حالة خاصة بالوردي أثرت به شخصياً.
هو كان من عامة الناس، يمكن أن يقال كان على “قد حاله”. أبوه كان صائغا، والصائغ آنذاك شيء وسطي، ليس غنيا وليس فقيرا.
عمل هو أيضاً بالعطارة في سن مبكرة، قبل ذهابه إلى المدرسة، تبعاً لرغبة والده، الذي كان بمنظوره أن العطارة: “شي يوّكل خبز”.
تصوّر والده كان أن مستقبل هذا الفتى الذي اسمه علي، عطّار، لكن الفتى الصغير، أظهر من ذاك العمر المبكر حوالي 9 – 8 سنوات، أنه لم يكن مهتماً بالعمل. كان يعير الانتباه أكثر لكتاب يجلبه إلى المحل ليقرأ فيه.
صاحب المحل غضب منه وطرده. ثم قام أبوه بفتح محل عطارة خاص له، وهذا بحد ذاته بنظري يعني أنّ وضعه المادي حَسِن.
شكّلت توجهات علي الوردي مصدر إزعاج بالنسبة للوالد، لأنه لم يستطع التمسك بمهنة العطارة، وأراده أن يتعلم. ما تسبب بخسارة المحل بسبب انشغاله عنه بالقراءة. حيث كان يحضر الكتب ويجلس للقراءة، وأحياناً يغلق باب المحل ليحظى بالهدوء. لاحظ أبوه هذا الفعل أكثر من مرة وغضب منه جداً.
- كيف توجه لعلم الاجتماع تحديداً. هل كان هذا بسبب قراءاته السابقة؟
- بعد أن أظهر هذا الولع الكبير بالقراءة والتعلم والتأثر بمظاهر الحضارة، يبدو أنه حصل على معدل جيد وتمكن من دخول الجامعة بإرسالية من ِقبل الحكومة العراقية آنذاك. كان عدد الخريجين قليلا والمدارس قليلة. كانت هناك فرصة للطالب المتفّوق للحصول على منحة دراسية.
أُرسل من قبل الحكومة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت بداية الأربعينيات. لم يكن هناك علم اجتماع في العراق وقتها. والمجال نفسه لم يكن منتشراً بل كان في بداياته في العالم العربي والعالم. بمعنى أن أول قسم علم اجتماع أسسه عالم اجتماع روسي وآخر أمريكي كان عام 1924، أي أن المجال نفسه لم يكن معروفاً بصفته تخصصاً، لكن كانت هناك تصورات عامة حوله، وعلي الوردي أظهر رغبة في تعلم هذا العلم، وعندما عاد إلى بغداد، أرسلته الحكومة مرة أخرى ببعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، جامعة تكساس. هناك درس الماجستير. وقدم بحث علم الاجتماع في الإسلام.
- عندما بدأ حياته العلمية والبحثية، كيف تعامل مع موضوع المنهجية، هل اتِباعه لأسلوب الالتقاء بالناس والتعرف عليهم والحديث معهم، ثم تدوينه ملاحظات واستنتاجات، يعتبر مثلاً منهجا استقرائيا بشكل مبسط؟
- هو كان يكتب أبحاثه من خلال الملاحظات العامة لسلوك الباعة والمشترين، والقادمين والراحلين. خاصة وأن منطقته تعتبر منطقة حيوية ومركزا دينيا مهما، يأتيها الناس لزيارة مرقد الإمام الكاظم من كل مكان. لفتت نظره سلوكيات الناس وأهواءهم وقيمهم. وبات يختلط بهم وينخرط في التجمعات البشرية المختلفة والمتنوعة. وتخضع هذه الملاحظات لما تعلمه. بالطبع اختلطت في كتاباته المعرفة الشخصية بالمعرفة العلمية.
للحصول على شهادة الدكتوراه أرسل أيضاً إلى الجامعة نفسها. قدم رسالة الدكتوراه “ابن خلدون دراسة في علم اجتماع المعرفة”، أنجزها خلال عامين وحصل على جائزة المدينة حينها، كونه طالبا أجنبيا متفوقا.
حظي برعاية الأستاذ في قسمه آنذاك، وخصوصًا مع اهتمامه بالإسلام وحضارة المجتمع الذي جاء منه.
في ذلك الوقت كانت النظريات السائدة، النظرية الوظيفية ونظرية التفاعل الرمزي، فهذا كل ما قرأ عنه.
هناك مؤشران رئيسيان في كتب الوردي، هما المدرسة الوظيفية والتفاعل الرمزي. الوظيفية مدرسة تميل إلى المحافظة أساساً، والبحث في العلاقات الاجتماعية والقيم الاجتماعية والمعايير وما إلى ذلك. والحداثة أيضاً.
عاد إلى العراق وتعيّن في كلية الملكة عالية للبنات. وذلك أيضاً لم يسعد والده، الذي قال له: “يعني بعد كل هذا السفر والتعب والدراسة ترجع تتعين أستاذ بكلية للبنات”. اعتبره ضيّع عمره. كان هناك نوع من النزاع. ولو اشتغل عطارا، بنظر أبيه، لكان أفضل.
هذا الكلام عام 1950، بعد أربع سنوات التحق عالم اجتماع آخر بعلي الوردي. الدكتور عبد الجليل طاهر الذي كان مرسلاً إلى فرنسا. ثم نقل إلى الولايات المتحدة جامعة شيكاغو.
عندما عاد عبد الجليل طاهر، التحق مع الوردي. ويبدو وقتها أن الحكومة كانت تعتزم افتتاح جامعة، فطُرحت فكرة تأسيس قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، في كلية الآداب. وتمكّن الوردي وطاهر من تأسيس القسم وافتتاحه. ثم استقطبا الطلبة الذين ابتعثوا أيضاً. ودرسوا في الخارج من جديد في الستينيات مثل حاتم الكعبي وقيس النوري وفيما بعد متعب السامرائي ويونس التكريتي وآخرين، بدأ القسم ينمو ويتطور.
نعود للدكتور علي الوردي، في تلك الظروف، نتكلم عن مجتمع نامٍ، لم تكن هناك إمكانات للجامعات أو مختبرات. كانت الطريقة التي استخدمها، من خلال مفهومه لعلم الاجتماع، بأنه علم حياة الناس، فكانت الطريقة التي استخدمها -وهي متطورة بالنسبة لفترة الخمسينات- هي التواصل مع الناس.
بدأ الوردي يرتاد المقاهي ويذهب للزيارة في الإمام الكاظم، في منطقته، ويجلس لساعات طويلة يختلط مع الناس ويستنطقهم، ويتكلم معهم بمختلف القضايا.
بدأ، بعدها، بتطوير أفكاره، وشكل هزة للمجتمع العراقي بطروحاته. عام 1950 وهو مدرس في كلية الملكة عالية، قدم محاضرة عنوانها شخصية الفرد العراقي.
من خلال أطروحة شخصية الفرد العراقي، قدم مفهومات عن أنها شخصية تعاني من ازدواج وتناشز اجتماعي.
كان يتكلم في تلك المحاضرة مع مجتمع ليس لديه فكرة عن علم الاجتماع، حتى المختصون لم يكونوا متمرسين جداً حينها، لم يتكلم الوردي بشيء معتاد مثل الاقتصاد والسياسة، تكلم عن الفرد وقيمه وتوجهاته وما إلى ذلك، وهذه مسألة مهمة جداً، ذلك أنه أحيانا يساء فهم فكرة التناشز الاجتماعي والازدواج بالشخصية، يفهمها الناس أنها نوع من الإساءة للإنسان العراقي.
ولكنها ليست كذلك، هي مسألة علمية تفسّر الإنسان الذي يكون تحت وطأة منظومتين قيَميتين مختلفتين؛ وبهذه الحالة هي القيم الريفية والبدوية مقابلها قيم الحداثة والمدنية التي بدأت تشق طريقها بالعالم، والعراق جزء من هذا العالم. خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تكلم الوردي عن التناشز الاجتماعي والازدواج بالشخصية باعتبارها شيئاً لا يقوم به الإنسان العراقي متقصداً أو متعمداً، إنما تجري بشكل طبيعي، بمعنى أن الوردي لم يقصد بقوله إن الفرد يعاني من تناشز وازدواج، وأن الإنسان العراقي منافق، كما قيل في ما بعد.
فسر في كتبه أن المنافق يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر، وهو يعلم بذلك. أما التناشز والازدواج فهي مسألة تجري دون وعي وقصدية مسبقة. نتيجة وقوع الإنسان تحت وطأة منظومتين مختلفتين، من هذا المنطلق.
بطبيعة الحال، لم تتوفر للوردي فرص للقيام بدراسات واستفتاءات كما يحدث اليوم، وحتى اليوم ما زالت هذه المسألة ضعيفة جداً. اهتمام الأنظمة المتعددة التي تعاقبت على حكم العراق لم تتطور لتمنح للأكاديميين والتدريسيين فرصة للقيام ببحوث. هو نفسه في الكثير من كتبه كان يعد بالقيام بدراسات أكثر علمية.
- يعني أن علي الوردي كان واعياً بأن المنهج العلمي لديه فيه قصور بشكل ما؟
طبعا. ليس فقط واعياً، هو أحس بذلك أيضاً في قسم علم الاجتماع. وليس هو فقط، فعندما قدمت في التسعينات إلى (العمل الجامعي) حاولت أن أقوم ببحوث علمية، لكن دون أن نشعر، نتحول إلى تدريسيين، ووقتنا كله يمضي بمحاضرات مكثفة وهذا شغلنا من حيث الأساس.
أما جهدنا على صعيد البحوث العلمية، هو جهد ذاتي، يعتمد على الإنسان وقدرته، وأحياناً يشعر الإنسان أنه استهلك بالمحاضرة، خصوصا على مستوى الجامعة.
الجامعة تقرر أن هناك تخصيصا بنسبة 50 بالمئة من جهد الأستاذ للبحوث، والباقي للمحاضرة. بهدف أن تكون المحاضرة غنية، يجب أن تدعم ببحوث ميدانية.
والمشكلة نرى أن هناك تخلفاً كبيراً بمجال البحث. التوجه كله صار للمحاضرات واستهلك المدرسون، كان الوردي أحد هؤلاء، لكن نتيجة نزعته للبحث ورغبته فيه، اختار طريق البحث والكتابة، وقدم ما استطاع تقديمه.
- فترة السبعينات اشتهرت بأنها فترة بحث علمي في العراق، هل كانت بحث علمي فقط بالعلوم الطبيعية أكثر من الإنسانية. أم هناك سبب آخر وراء غياب أبحاث الوردي في هذه الفترة التي وفرّت بيئة مهيأة للبحث؟
- معظم إنجاز علي الوردي كان في الخمسينيات؛ فمثلاً عام 1950 قدم محاضرة شخصية الفرد العراقي التي طبعت في ما بعد ولاقت رواجاً، وهي قصيرة من 20 أو 25 صفحة. في ما بعد 1952، أنتج كتاب خوارق اللاشعور، ودخل بموضوع آخر يتكلم على قضية الوعي الكامن أو العقل الباطن، في محاولة توفيق بين علم النفس وعلم الاجتماع.
في كل كتاب من كتبه قدم أطروحة ضمن النظام العام لأبحاثه.
ثم عام 1955 أنتج كتاب مهزلة العقل البشري. هذا الكتاب هو أيضاً أطروحة وجه من خلالها النقد الشديد لعلم الفلسفة بشكل عام، لأنه يرى أن الفلاسفة منشغلون بالمثاليات ومهتمون بالتجريد، لا ينزلون للواقع وما إلى ذلك. وانتقد، بالذات، المنهج الأرسطي.
عام 1956، أنتج كتاب وعّاظ السلاطين، وهي أطروحة تحكي العلاقة بين الدين والدولة، ورجع إلى تاريخ الإسلام، وكان هذا نوعاً من الموجة الشائعة حينها. خلص إلى نتيجة أن الدين والدولة لا يلتقيان، كما لو أنهما الماء والنار.
ثم كتاب يقول إنه أنتجه عام 1957، ولكنه تباطأ في إصداره حتى 1959، عنوانه الأحلام بين العلم والعقيدة، وهنا أيضاً قدم أطروحة عن الأحلام، ومن خلالها انتقد وجهات النظر التقليدية السائدة التي غالباً ما تفسر الأحلام من منطلقات دينية. الذي فعله أنه تناول الأحلام من وجهة نظر علمية غير غيبية.
صدر هذا الكتاب بعد ظهور الجمهورية وثورة 14 تموز. هو بالمناسبة كان من الناس المرحبين بثورة 14 تموز ومتفائلين بها شأنه شأن الناس آنذاك. كان متذمراً من النظام الملكي.
عام 1965، أصدر دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، وهي جزء من مشروع كبير يمكن أن يعمّم فيما بعد لدراسة المجتمع العربي الأكبر. كانت وقتها الأجواء القومية والوطنية منتشرة.
كانت هذه الدراسة تعتبر علمية وجيدة، واعتمد بها على ملاحظاته وبصيرته وما يرصده في سلوكيات الناس، لكن رغم ذلك لم يتمكن من القيام بعمل علمي دقيق جدّاً، لأنه لم تكن الإمكانات متوفرة حينها. خاصة وأنه يعتبر من الرواد.
عام 1972، قّدم الوردي على تقاعد مبكر، وقد حصل على لقب الأستاذية بصعوبة، بسبب مواقف الزملاء والأساتذة منه نتيجة مواقفه النقدية للمجتمع العراقي، ويسميّها البعض بـ”التقريع”. وهي قراءة نقدية للمجتمع، فعندما اشتغل على المشروع الآخر الذي عنونه لمحات من تاريخ العراق الحديث، وأنتج منه ستة مجلدات مع ملحقين بمثابة كتابين، وكانت بالمحصلة النهائية ثمانية مجلدات، كل واحد منها يتراوح حجمه بين 300 إلى 350 صفحة.
أنجز الوردي هذا العمل بداية السبعينات. انتهى من المجلدات الستة مع كتابين، تناول فيها تاريخ المجتمع العراقي من زمن العثمانيين، وصولاً إلى بداية السبعينات. وصل الوردي إلى هذه المرحلة، ونستطيع القول إن الإنتاج العلمي كإصدار كتب وما إلى ذلك توقف.
لكنه بعدها دخل في سياق كتابة مقالات، مرات يستكتب من قبل مجلات، ويحضر محاضرات. قبل السبعينات كان يذهب للمحاضرات، لكن خلالها بدأ يكثف من حضوره المجالس.
لذلك، عندما نقول عن فترة السبعينات، توصف بشكل عام بأنها فترة أفضل من غيرها، لأنها قدمت هدوءاً نسبياً للعمل. (لكن) بالنسبة للدكتور علي الوردي فقد كان مشروعه الرئيسي قد وصل إلى نهايته؛ أي أن غيابه لا يتعلق بظروف خارجة بقدر ما تعلقت باكتمال مُنجزه.
بالمحصلة النهائية، ما فعله علي الوردي في كتابه لمحات أنه استخدم التاريخ مادة، وهو السؤال الذي بدأنا فيه.
لم يقم ببحث علمي معين، باستخدام مسوح بل اختار التاريخ كمنهج نظري. وبيّن إلى أي درجة كان العراق فعلاً ضحية لهذا النوع من التضارب بالقيم. صراع الحضارة والبداوة.
دعم الوردي فكرة أن تاريخ العراق الحديث تأثر بهذه المنظومات أكثر من غيرها، وهذا الذي يميزه عن غيره.
- هل ترين أن قراءة علي الوردي يتم اجتزاؤها، من قبل ناقديه ومن يتبنى أفكاره. بمعنى أن معظم قارئيه يأخذون أفكارها مقتبسة، جمل شهيرة، لقاءات، محاضرات، وليس دراسة فعلية لهذا المنجز..
- بالضبط، هذه واحدة من مشاكل التعامل مع كتاباته.
هناك قضية لم أذكرها، كل مطبوعات علي الوردي، شخصية الفرد العراقي، الخوارق، السلاطين، الأحلام، ودراسة طبيعة المجتمع، وثمانية مجلدات، 14 عمل، هذه كلها كان يطبعها على حسابه الخاص، لم يكن هناك دعم له، كان يذهب للمطابع، ووقتها لم يكن هناك كمبيوتر، فكان يبذل جهدا كبيرا جداً في طباعتها. كان لديه إيمان بنفسه ورسالته. كان يطبعها على نفقته الخاصة، رغم أنه ليس ثريا، هو بالنهاية أستاذ جامعي.
لكن من حمله على ذلك هم القراء الذين أعجبوا بأفكاره، رغم أنه أثار غضب البعض وانتقادات حادة من البعض. لم يوقفه هذا، بل كان يرد عليهم. رد على كثيرين بشكل منطقي وعلمي.
نسينا كتاباً آخر، أسطورة الأدب الرفيع. أيضاً في الخمسينات، هي فترة ازدهار كبير. الكتاب عبارة عن مقالات ينتقد فيها علماء اللغة العربية بالذات، لماذا، لأنهم أشبه ما يكونون بوعاظ السلاطين ورجال الدين.
هم غالباً ما ينصرون الحاكم ويتركون المحكوم. هذه فكرته الأساسية. أما قضية الاقتباسات من ناس غير مختصين يأخذون عبارات تنسجم مع توجههم ويرونها مؤثرة، فهذه، بالمحصلة، تحدث حتى مع مختصين، فهناك تبسيط وتسطيح لأفكاره.
عندما نقرأ علي الوردي بشكل مسؤول وأكاديمي صحيح، نتكلم هنا عن عدد من الأطروحات في الأدب، والتاريخ، وعلم النفس، والسياسة. نتكلم عن أطروحات متعددة لها نظام. لكن العامة يأخذون ما يناسبهم ويمتعهم.
هم ليسوا على خطأ، هو يتكلم بلغة مألوفة وبسيطة. وجميلة، هذه واحدة من انتقاداته للأدباء ومآخذه عليهم، يقول أنتم تتحذلقون كثيراً، وتستخدمون عبارات منمقة، لكنكم لا تواجهون الواقع.
الناس أعجبوا بأسلوبه من هذه الناحية، والبعض لم يعجبه، لكنه في النهاية بذل جهد كبير، وجمهوره متجدد. فها نحن نتحدث عنه بعد حوالي ثلاثة عقود على رحيله. ولا يزال يعتبر عالم اجتماع مميزا في العراق.
- هذا الوجود المستمر بين القرّاء، خاصة هذه الفترة من الاضطراب السياسي والاجتماعي، وعند الشباب تحديداً، هل ترين أنه جزء من اعتراضه على مفاهيم السلطة المعرفية السياسية ونقدها، وهذا الجيل مثلاً شعر بشكل ما أن هذا الخطاب يعبر عنه، ونقد الديمقراطية أيضاً، الذي كتب عنه الوردي..؟
- دكتور علي الوردي بالحقيقة لديه أفكار عظيمة لم تطور كما يجب، ولم تبذل مساعٍ علمية دقيقة لتطويرها. نحن حتى الآن لا نستطيع القول إن لدينا مدرسة لعلم اجتماع عراقي. في العراق حريّ بنا أن يكون لدينا مدرسة، والوردي هو المؤسس.
فالجيل الجديد مازال ينظر ويرى ويستشهد بكتاب مضى عليه تقريبا 70 عاماً، ولكن أفكاره ما تزال صحيحة من حيث تناول قضايا مثل الطائفية باعتبارها مشكلة أمام التطور الاجتماعي والعشائرية كذلك.
الوردي، بالمناسبة، يستخدم الكثير من عبارات الاستهزاء بشكل قوي. وعلينا العودة هنا إلى مسألة دور النشر وقتها، إذ لم يكن هناك محررون، وكان ينشر على حسابه، ويطرح الكتاب في السوق، ويتم شراؤه.
وعندما يتكلم الوردي عن معنى التحول الديموقراطي. هل نستطيع مثلاً أن نتحوّل ديموقراطياً، مثلما حصل عام 2003 من احتلال عسكري ونظام جديد.. وهكذا دخلنا الديموقراطية؟
حصلت الكثير من الاختناقات والمشاكل والتضحيات التي قدمها المجتمع العراقي، ولو انتبه هؤلاء المشتغلون والقائمون على السياسة، لعلي الوردي لعرفوا أن لديه فكرة مهمة وجوهرية طرحها منذ الخمسينات، وهي أنه لا يمكن لمجتمع أن ينتقل من نظام دكتاتوري استبدادي نحو الديموقراطية مرة واحدة، وإنما لا بد من مرحلة انتقالية يكون فيها نظام تقوم عليه نخبة مؤهلة بالعمل السياسي، تمهد للانتقال الديمقراطي.
هذه واحدة من التضحيات التي عانيناها كمجتمع، ذلك أنه لم يُسمع للوردي ولم يقرأ بشكل جيد، وإذا ما قرئ فيأخذون ما يعتقدون أنه يسيء إليهم، وبالنهاية خسروا من علي الوردي الكثير.
- لنعد إلى فكرة سابقة في كلامه عن منظومتين متناقضتين، هل أسهم وجود المنظومتين بتعطيل وجود جمهورية حقيقية وإدامة الصراع واستمرار هذه المنظومة الهجينة؟
- بالضبط. هو غالباً ما يتم التركيز على المفاهيم الشائعة لها، التناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية، بينما هو لديه مفهومات أخرى مهمة، واحد منها مفهوم “الخطية” باللهجة العراقية، هو تدخل الناس نتيجة العطف على المذنب والمخالف، هو بنظره لا يمكن لدولة أن تنشأ وتقوم في مجتمع يتعامل مع المذنب باعتبار خطية مسكين “خلي نعفو عنه”، أو نجد طريقة لتخليصه من المسؤولية.
الوردي مع القانون ومع فكرة أن لا يمكن للدولة أن تقوم من دون أن تقوم على قوانين وتشريعات وقدرة على تطبيق التشريعات بشكل صحيح وعادل ومتساوٍ على الجميع بدون استثناءات.
- عودة إلى سؤال في رؤيته للمجتمع والتفريق بين ذمه ونقده عند الوردي، يتبع البعض مبدأ من لا يستطيع انتقاد السلطة ينتقد الناس، مثل القول هؤلاء غير متحضرين، لا يحترمون القانون، وأحياناً متخلفون لا يجيدون التصرف. فيما يتجه جزء آخر لنقد السلطة بشكل تام دون الالتفات لدور المجتمع، أين الوردي من هذه الطروحات؟
- هو أحيانا يحمّل الدولة والنظام المسؤولية الكبرى، لأن المجتمع محكوم، وإذا ما أردنا لهذا المجتمع أن ينهض، لا بد من مؤسسات، ومؤسسات مستقرة.
لكن المشكلة أننا عندما ننظر للمجتمع على مدى تاريخه الحديث، عبر المئة سنة الأخيرة، فنحن لدينا مؤسسات، جامعات ومدارس ومصارف وأجهزة إعلامية. كلها موجودة. لكن المشكلة لا يوجد استقرار.
لم نعش استقرارا حقيقيا. وأيضا الفرد يتصرف وفق مرجعياته العشائرية والطائفية بسبب غياب سلطة قانونية حازمة وحاسمة ومركزية. الذي يحدث أن الفرد ينزلق إلى مرجعياته الذاتية. هذا تعدد مركزيّات محيطة بالفرد نفسه. وهو يذهب لما يناسبه.
لو كان هناك نظام مستقر. لاحظوا كم نظام جاء على العراق، الملكية وأعوام 1953 و1958 و1963، ثم الاحتلال ثم بعد ذلك. لم يكن هناك استقرار أبداً. حتى في ظل 35 سنة من نظام صدام حسين، لم يكن هناك استقرار إلا بقدر ما يتعلق بالسلطة. غير ذلك دائما تغييرات. وعين المواطن على المراسيم الجمهورية.
ما يرتبط بالفرد هنا أحياناً نقول -وأعتقد أن هذه وجهة نظر الوردي- أنه لو تأسست المؤسسات بشكل حيادي ومستقل، بحيث غياب الفرد لا يشكل أزمة ويبقى النظام مستمراً، والعمل المؤسسي مستمراً والأمور ترتبط بالعمل والمؤسسة لا الفرد الذي يشتغل بها، لو حدث ذلك لكان بإمكان المجتمع أن يتطور بشكل طبيعي.
لكن في الوقت نفسه هناك تفاعل. علي الوردي لديه مفهوم جديد، لم يحظَ بالانتشار، وهو يتكلم عن هذه المسألة تحديداً: الفرد والمؤسسة. أحيانا الفرد يفرض إرادته بسبب مرجعيته الدينية والعشائرية والطائفية والسياسية، وما يمثلها من حوامل بنيوية لهذه المرجعيات، وذلك عندما تكون المؤسسات غير مستقرة.
لكن تأثير الفرد أحياناً يجر المؤسسة باتجاه معين، والمؤسسة تقاوم، وهذه يسميها سببية دورية، يمكن تسميتها بالمفهومات العلمية المتعارف عليها، الدائرة الشريرة، أو تدوير المجتمع، بحيث يعيد إنتاج نفسه، بسبب انعدام الحسم بين الفرد والمؤسسة.
- هذه فكرة أخرى تفسّر انتشار مقولات علي الوردي بين الشباب، نفس الصراعات تعيد تدوير نفسها بسبب غياب الحسم.
- إيه، وتأخذ أشكالا عدّة. كتبت دراسة سميتها صراع الحضارة والبداوة في العراق في الانتخابات النيابية في العراق 2014، وألهمت فيها من جانب علي الوردي، وأيضاً من نظريات علم الاجتماع المعاصرة.
نظريات علم الاجتماع المعاصرة تقول، إنه عندما يحدث تحول ديمقراطي، فالمفترض أن المجتمع يتصاعد في دوره واهتمامه، بحيث يتقبل التنوع، يتقبل الاختلاف، ويتحول نحو الديمقراطية، ويكون قادرا على التعايش مع بعضه، برغم الاختلافات.
لكن نتائج الانتخابات أنتجت ماذا؟ (النتائج) في الحقيقة هي تدعيم لنظرية الوردي عن صراع الحضارة والبداوة.
دراستي تعتبر تحديثاً أو تطبيقاً لأحدث نظريات علي الوردي، وهي أن نتائج الانتخابات أدت إلى إدامة النسق غير المناسب.
بالمحصلة، لم يتغير الكثير، ولم توضع معالجات. عندما نرى في ضوء هذه الأفكار، لماذا الأحزاب تقتصر على جماعات من الطائفة نفسها، هذي بحد ذاتها عبارة عن تكريس لكل ما رفضه علي الوردي.
ولكن ما نحاول نحن الأجيال اللاحقة أيضا أن نؤكد عليه، أنه عندما تُقبَل الأحزاب ذات المرجعيات الدينية والطائفية والعرقية، فإن المجتمع بالتأكيد سيعيد إنتاج نفسه.
هذه المشكلة، المجتمع عندما يريد إحداث تغيير حقيقي، لا يسمح للأحزاب ذات مرجعية دينية وطائفية وما إلى ذلك، ويحاسبها. يعني، بالتالي يكون المجتمع قادرا على أن يدير دفة الجماعة بشكل صحيح، لكن عندما يتماهى المجتمع ويغض النظر، ويعطّل صوت القضاء، فإن المجتمع يصبح على هواه، والأهواء لا تبني دولا.
- باعتبار علي الوردي سافر للدراسة خارجاً، وعاد إلى العراق وبدأ بالكتابة في علم الاجتماع وأسس قسماً جامعيا لتدريسه. هل يمكن اعتبار الوردي من رواد مفكري النهضة العربية، ولو أنه متأخر عن فترة مفكري النهضة؟
- علي الوردي عالم حداثوي وعلماني وتحرري وليبرالي. يعني منذ النظام الملكي قبل ثورة ١٤ تموز 1958، ساهم في رفع مذكرات احتجاج، سلمت إلى رئيس الوزراء في وقتها، نوري السعيد.
سجلوا بيان احتجاج مثلاً على إلغاء عقد مجلة معينة للصدور، أو منع جريدة ما من الصدور وما إلى ذلك، باسم ماذا، باسم المطالبة بالحرية والتعبير عن الرأي واحترام الرأي العام، فهو من هذه الجماعات.
جماعة النهضة لربما قديمة، لكن بالتأكيد هي نفس التوجه العام، يعني التوجه نحو الحداثة، لكن حداثة بدون قوانين بدون ضوابط، بدون قدرة على تعزيز القانون.
اليوم حتى المجتمعات الأكثر تقدما تنزلق بسهولة. بعيداً عن القيم السليمة، لكن ماذا سيحدث لو أن المجتمع لديه حركات، ولديه حرية تعبير عن الرأي، ولديه إعلام قوي؟
سيواجه كل هذا ويحاصره. في مجتمعاتنا والمجتمع العراقي بالذات، بسبب انعدام الاستقرار السياسي، والأزمات التي تأخذ أحيانا شكلاً دموياً، فإن دور المثقف أحياناً بالتأكيد يكون محدوداً. يجبر على أن ينزوي وينسحب أو يصمت.
- أخيراً..
- أخيراً علي الوردي ضد النزاعات الدموية. والتحيزات، كما أنه ليس كما يقال عنه يقرّع المجتمع، بل ينتقده بشكل علمي ولو شابته بعض الملاحظات الشخصية. والغباء السياسي تسبب بمنع كتبه أوقات كثيرة. أنا عندما كنت طالبة كنت أذهب للبحث عن كتبه وأجدها ممنوعة.
- أعدتنا هنا لسؤال سابق، بشأن اجتزاء مقولاته..
- ضمن سياقه التاريخي هو يستخدم لغة قريبة من الناس فيها من الاستهزاء والنقد الساخر. في وحدة من أمثلته، التي شرحها بشكل واضح، ينتقد العداء بين الشيعة والسنة. في بغداد الشيعة والسنة في منطقتين متقاربتين، يفصل بينهما نهر دجلة وجسر الأئمة، الإمام الكاظم في الكرخ والإمام أبو حنيفة في الرصافة.
يسخر الوردي ويستخدم مرات عبارات مثل، أنظروا إلى هؤلاء، يتقاتلون ويتخاصمون ويدخلون في صراعات بينما الأئمة الذين يستلهمونهم كانوا متعاونين ومتضامنين مع بعضهم.
هؤلاء تاريخياً كانوا أقرب إلى بعضهم مما حدث في ما بعد في أجيال لاحقة، تشمت الوردي بهم. هو يذكر كثير من التفاصيل من هذا النوع. وأيضا في الوقت نفسه هناك ملاحظات على كتب الدكتور علي الوردي، مثل أنه غالبا ما نجد أطروحة عنده تقع في ٨٠ – ٩٠ صفحة من الكتاب، والبقية يكتب فيها أمورا سبق أن نشرها أو إضافات أو شيئا من هذا النوع.
يمكننا القول إن هناك نوعاً من الخلل المهني، لكن نعود ونقول أيضاً إن هذا لا يقلل من مساهمته، وأطروحاته الأساسية.
لم تكن هناك دراسة حقيقية لمنجز علي الوردي، والبناء عليها. أنا مع النقد البنّاء الذي يتعرض على الوردي أو أي عالم آخر، لكن بالطريقة التي تقوم على أسس علمية، وليس مجرد آراء أو أحكام وما إلى ذلك.
كان ممكناً -وهذه المسألة أيضا ترتبط بالمؤسسة الجامعة وقسم علم الاجتماع- لو كانت هناك جهود مخلصة لاستطعنا أن نطور فكر علي الوردي ونكون أكثر مساهمة في بناء المجتمع وحل مشكلاته.