"خلق الوحش".. عن معاداة السلطة والمجتمع للمثليين 

أبرار المير طه

12 تشرين الأول 2023

المثليون الآن تحت مذبحة الدولة الرسمية، فبعد التهميش والإقصاء من المنازل والشوارع ومواقع التواصل، فَقَدَ أفراد مجتمع الميم عين حقهم بالتعبير عن أنفسهم أو حتى البوح بأحقيتهم في تقرير مصيرهم في بلدهم، وحقهم في الحياة حتى داخل منازلهم ودوائرهم الخاصة.. عن "وحش" تخلقه السلطة يقتل المثليين وفئات أخرى من المجتمع..

ثلاث رصاصات في الرقبة والبطن قضت على “نور بي إم”، البلوغر وخبير التجميل العراقي، في الخامس والعشرين من آب الماضي. قَتَلَهُ مسلح مجهول يستقل دراجة نارية في منطقة المنصور وسط بغداد. كان مشهداً قاسياً، لكنه كان متوقعاً، خاصةً مع تصاعد خطاب كراهية معادٍ لمجتمع الميم عين في العراق يدعو للعنف ضدهم. 

وُثِّق مقتل نور بي إم بفيديو مراقبة، وسرعان ما تحوّل إلى مقاطع “ريلز” جرى تداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي. 

كان نور البالغ من العمر 23 عاماً، يعرف نفسه كـ”مودل” و”ميكب آرتست” وصانع محتوى يملك أكثر من مئة ألف متابع على منصة “انستغرام”. وأثناء حياته، أثار نور بي إم الجدل بعد ظهوره بمظهر ولباس مُغايرين، إذ عدّ كثيرون ممارسته لحريّته تعدياً صارخاً على ثوابت المجتمع ومعاييره. 

ونتيجة للهجمات عليه، انسحب نور من السوشيال ميديا لفترة، ولم يعد ينشر صوراً ومقاطع فيديو إلا لماماً. 

“معيار الرجولة” 

على أيّة حال، لم يكن نور خاضعاً للمعايير التنميطية للمجتمع، بشعره الطويل واستخدامه مساحيق التجميل، والتي عدها نور جزءاً من عمله في مجال عرض الأزياء و”المودلنك” و”الميكب آرتست”، وهو ما وضعه ضمن فئة “المفتقرين للرجولة” ضمن قائمة المعايير القبلية الأبوية؛ وهذه المعايير تجعل الواقِعين في فئاتها عرضة للإقصاء، وهي من جعلت نور فريسة سهلة لحملات الكراهية التي طالته حتى بعد مقتله، إذ ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات يحتفي الكثير منها بالجريمة “انتصاراً للقيم والأخلاق”. 

فقد صارت صور موت نور وظهوره قتيلاً بنظر فئات من المجتمع أهون من منظر تخليه عن رجولته وتشبهه بالنساء، حسب ما كتب البعض على منصات التواصل الاجتماعي. 

والحقيقة، لم يكن مقتل نور الجريمة الأولى التي يكتب مصير الموت فيها لمن لا يخضعون للمعايير الجندرية في العراق، فقد هزت جريمة قتل العابرة جنسياً دوسكي آزاد -23 عاماً- الرأي العام العراقي بعد أن أفرغ شقيقها رصاصات في جسدها في كانون الثاني 2022 انتصاراً لـ”شرف العائلة”. 

كراهية المنابر 

الكراهية تجاه المثليين والعابرين وغير الخاضعين للمعايير الجندرية والمجتمعية جزء من الثقافة الذكورية للدولة العراقية الحديثة، التي تغذت على خطب رجال الدين، أولئك الذين استخدموا المنابر لتكريس “الفحولة القبلية”، وبث خطابات كراهية وصلت حد التحريض على القتل، كما في حالة السيد صباح شبّر، رجل الدين المعمم، الذي خصص محاضرة لما سمّاه “الاغتصاب واللواط”، وقال إن الشرع لا يفّرق بين المسلم وغيره في حكم اللواط الذي يبيح “القتل”، تلتها ندوة عمار الحكيم، السياسي الشيعي، في اليوم الاسلامي لمناهضة العنف ضد المرأة، التي دعا فيها الجهات التشريعية والتنفيذية والقضائية لمكافحة “الانحرافات والأجندات التي تستهدف الطبيعة والفطرة البشرية” على حد قوله، وقد توغلت هذه الخطابات في المجتمع لتعيد صياغة مفهومي الخطيئة والعار لإطلاق حكم الإعدام بالمثليين، أو بأفضل الأحوال تبرير العنف ضدهم. 

أما الدولة، فإن العقلية الأبوية الدينية المتوغلة بعمق في كافة مؤسساتها لم تكن أقل شراً، حيث ناقش البرلمان العراقي منتصف آب الماضي، تعديلاً على قانون مكافحة الدعارة لعام 1988، وينص على “عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد”، لأي شخص “أقام علاقة شذوذ مثلي” حسب ما يسميها بعض نواب البرلمان العراقي، وسارعت هيئة الإعلام والاتصالات إلى توجيه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في العراق بعدم استخدام مصطلح المثلية الجنسية واستبداله بـ”بالشذوذ الجنسي”،  فيما قالت إنها تسعى من خلال التوجيه إلى حماية المجتمع وقيمه الأصيلة من المصطلحات الدخيلة.  

الحملة السياسية تجاه أفراد مجتمع الميم عين ليست جديدة، فقد قدم النائب سوران عمر سعيد مقترح قانون “حظر الدعاية ونشر المثلية” وذلك بعد البيان الذي نشره زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في تشرين الثاني 2022، ودعا فيه العالم لمناهضة “المجتمع الميمي”، وفق تسميته. 

ويخضع تعديل القانون الهادف إلى إعدام المثليين، إلى توجهات دينية ومحافظة، “ويشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وفلسفة القانون التي تُعاقب من سبب فعله ضرراً للمجتمع”، يشرح محمد جمعة، المحامي الذي يترافع في القضايا المدنية، وهو يؤشر إلى خطورة القانون. و”المثلية هي حرية فردية لا تسبب ضرراً عاماً”، بحسب قوله.  

ففي الوقت الذي تحتاج هذه الفئات التي تتعرض لعنف اجتماعي وإقصاء إلى حماية قانونية ترفع عنهم مخالب الهيمنة الدينية والأبوية، يساهم هذا التعديل في إباحة العنف القانوني ضد المثليين، بالإضافة إلى قمع النشاط الداعم لحقوقهم، والتحريض من خلال تعبئة المجتمع ضدهم وخلق رغبة في الانتقام من منهم والإيقاع بهم، لأنه سريعاً ما سيجد مبرراته الاجتماعية والقانونية والدينية. 

عدو جديد 

حقيقة الأمر، التحريض تجاه الأقليات الجندرية مُربح للأحزاب السياسية، وخاصة مع بنية ثقافية للمجتمع مستعدة لاستقباله. فالخوف من عدو محتمل يهدّد القيم الاجتماعية لقاعدة عريضة من المجتمع، يخلق حالة من الفزع الأخلاقي. وهذا الفزع، يستطيع إزاحة التركيز، ولو مؤقتاً، عن القضايا المعيشية اليومية والتهديدات المستقبلية. 

فليس بجديد على الأحزاب المبنية على أساس طائفي في العراق، والتي تعودت استخدام خطابات طائفية وعرقية لتأجيج الرأي العام وكسب تأييد فئة من المجتمع على حساب فئات أخرى، ليس جديداً أن تستخدم حياة المثليين هذه المرة مادة للتغطية على فشلها بإيجاد حلول ومعالجات لقضايا مُلحّة، مثل الخدمات العامة، والفساد، وانهيار العملة، والعنف ضد المرأة. 

عداء المثليين ليس جديداً 

في بلدٍ يزخم بالحروب والنزاعات والعنف منذ عقدين، كان للأشخاص الأكثر هشاشة مصيرٌ أكثر عنفاً، حيث شهد أفراد مجتمع الميم عين، والأشخاص غير النمطيين، حملات كراهية وعنف وعمليات قتل وإخفاء قسري على يد أفراد من الميليشيات العراقية، وكانت تجاور حلقة عنف للسيارات الملغمة والقنابل والرصاص التي طالت البلد في أكثر فتراته دموية. 

فبين عامي 2009-2015، تفاقمت عمليات الاختطاف والقتل لرجال مثليين على يد أعضاء ميليشيات عراقية منها “سرايا الغضب” و”عصائب أهل الحق”، قابلتها الحكومة بلامبالاة وإنكار متوقعين. وكان أيضاً عمليات تصفية الأشخاص المصنفين ضمن ثقافة “الإيمو”، خلال 2011 و2012، وهي نمط يربطه النقاد بموسيقى “الروك” و”البانك”، يتميز أفرادها بملابس سوداء وشعر طويل أحياناً فيه خصلات ملونة، والفتيات منهم تميزن بثياب سوداء وماكياج بألوان داكنة، وهو ما جعلهم عرضة لحملات تشهير وملاحقة وقتل من الميليشيات، بررته وزارة الداخلية، آنذاك، بـ”خشية العراقيين من انتشار العلاقات المثلية والانتحار بسبب هؤلاء الايمو”. ولم تنته الحملات بجريمة قتل الفنان المسرحي كرار نوشي عام 2017 بسبب الاشتباه بمثليته بناءً على مظهره وشعره الطويل. 

ولا تفرق رصاصة الميليشيات بين كون الشخص مثلياً حقاً وبين الاشتباه بمثليته، فكل من لا يطابق الصورة المرسومة له مسبقاً، نهايته واحدة. 

هيجان جماعي 

لكن الهجمة على “نور بي إم” التي أعقبت مقتله، أوضحت حجم التماهي المجتمعي مع الخطابات السياسية والدينية والإعلامية المحرضة على المثليين/ات. فوسم #ابو_الدلفري الذي تصدر صفحات التواصل الاجتماعي في العراق كان مرفقاً “بخفة دم” محملة بكراهية وتحريض شاركت فيها بعض الوجوه المعروفة بالعراق. 

فقد قتل نور بي أم شخص كان يقود دراجة هوائية، يستخدمها عادة عمّال الدليفري في العراق، إلا أن الهيجان الجماعي حوّل مقتل إنسان إلى “نكتة سمجة” وحوّل سائق الدلفري الذي يكدّ بجهد كبير إلى قاتل وميليشياوي. 

كما كانت خفة الدم هذه غطاء للهوموفوبيا التي تحدث بها الفنان العراقي ذو الفقار خضر عن جريمة مقتل نور واصفاً إياه بـ”المستخنث”، وذلك عبر منشور على صفحته على “انستغرام”. 

قبل ذلك، امتلأت الفضاءات الإلكترونية العراقية بهيجان جماعي شارك فيه إعلاميون وفنانون وشخصيات عامة، أحدها تصريحات المخرج علي فاضل، الذي قال “أنا لست مع المثلية ولا أرتضيها لنفسي، ولا لعائلتي، ولا للمجتمع الذي أعيش به”، والتي كانت إجابة على سؤال طرحه السينمائي صلاح منسي في بودكاست شي منسي. إجابة بدت كتبرير طال انتظاره على تصريحات سابقة له في برنامج شباب توك أبدى فيها موقف غير رافض للمثلية، بيد أنه قال إن تصريحاته السابقة محرفة ومجتزءة من مقدم البرنامج والذي فعل ذلك قاصداً تعريضَ حياة الفنانين العراقيين للخطر. 

والحال هذه، فإن كلام علي فاضل غير بعيد عن واقع يعرض حياة أفراد مجتمع الميم عين والمؤيدين لهم لخطر رصاصات مجهولة. 

ومع كل هذه المواقف العدائية المتنامية، ينخفض سقف الحريات في العراق أكثر، ويتوحد الخصوم ليقضوا على أي أمل في بناء دولة مدنية تكفل الحريات الفردية. 

فسياسات الموت والإفقار واستغفال الناس بقضايا مثل المحتوى الهابط وشيطنة مصطلح الجندر ومحاربة الحريات وتشريع قوانين تجعل حياة المواطنين في آخر سُلم الأولويات، وسيطرة ميليشيات تبنت العنف واستخدمته وسيلة لإسكات المعارضين وترهيب المختلفين.. وسط كل هذا، صار المثليون/ات في هذا المشهد تحت مذبحة الدولة الرسمية، فبعد التهميش والإقصاء من المنازل والشوارع ومواقع التواصل، فَقَدَ أفراد مجتمع الميم عين حقهم بالتعبير عن أنفسهم أو حتى البوح بأحقيتهم بتقرير مصيرهم في بلدهم، وحقهم بالحياة حتى داخل منازلهم ودوائرهم الخاصة دون تطويقهم -بمباركة الدولة- بأطواق الكراهية والموت بسبب جنسانيتهم. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

ثلاث رصاصات في الرقبة والبطن قضت على “نور بي إم”، البلوغر وخبير التجميل العراقي، في الخامس والعشرين من آب الماضي. قَتَلَهُ مسلح مجهول يستقل دراجة نارية في منطقة المنصور وسط بغداد. كان مشهداً قاسياً، لكنه كان متوقعاً، خاصةً مع تصاعد خطاب كراهية معادٍ لمجتمع الميم عين في العراق يدعو للعنف ضدهم. 

وُثِّق مقتل نور بي إم بفيديو مراقبة، وسرعان ما تحوّل إلى مقاطع “ريلز” جرى تداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي. 

كان نور البالغ من العمر 23 عاماً، يعرف نفسه كـ”مودل” و”ميكب آرتست” وصانع محتوى يملك أكثر من مئة ألف متابع على منصة “انستغرام”. وأثناء حياته، أثار نور بي إم الجدل بعد ظهوره بمظهر ولباس مُغايرين، إذ عدّ كثيرون ممارسته لحريّته تعدياً صارخاً على ثوابت المجتمع ومعاييره. 

ونتيجة للهجمات عليه، انسحب نور من السوشيال ميديا لفترة، ولم يعد ينشر صوراً ومقاطع فيديو إلا لماماً. 

“معيار الرجولة” 

على أيّة حال، لم يكن نور خاضعاً للمعايير التنميطية للمجتمع، بشعره الطويل واستخدامه مساحيق التجميل، والتي عدها نور جزءاً من عمله في مجال عرض الأزياء و”المودلنك” و”الميكب آرتست”، وهو ما وضعه ضمن فئة “المفتقرين للرجولة” ضمن قائمة المعايير القبلية الأبوية؛ وهذه المعايير تجعل الواقِعين في فئاتها عرضة للإقصاء، وهي من جعلت نور فريسة سهلة لحملات الكراهية التي طالته حتى بعد مقتله، إذ ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات يحتفي الكثير منها بالجريمة “انتصاراً للقيم والأخلاق”. 

فقد صارت صور موت نور وظهوره قتيلاً بنظر فئات من المجتمع أهون من منظر تخليه عن رجولته وتشبهه بالنساء، حسب ما كتب البعض على منصات التواصل الاجتماعي. 

والحقيقة، لم يكن مقتل نور الجريمة الأولى التي يكتب مصير الموت فيها لمن لا يخضعون للمعايير الجندرية في العراق، فقد هزت جريمة قتل العابرة جنسياً دوسكي آزاد -23 عاماً- الرأي العام العراقي بعد أن أفرغ شقيقها رصاصات في جسدها في كانون الثاني 2022 انتصاراً لـ”شرف العائلة”. 

كراهية المنابر 

الكراهية تجاه المثليين والعابرين وغير الخاضعين للمعايير الجندرية والمجتمعية جزء من الثقافة الذكورية للدولة العراقية الحديثة، التي تغذت على خطب رجال الدين، أولئك الذين استخدموا المنابر لتكريس “الفحولة القبلية”، وبث خطابات كراهية وصلت حد التحريض على القتل، كما في حالة السيد صباح شبّر، رجل الدين المعمم، الذي خصص محاضرة لما سمّاه “الاغتصاب واللواط”، وقال إن الشرع لا يفّرق بين المسلم وغيره في حكم اللواط الذي يبيح “القتل”، تلتها ندوة عمار الحكيم، السياسي الشيعي، في اليوم الاسلامي لمناهضة العنف ضد المرأة، التي دعا فيها الجهات التشريعية والتنفيذية والقضائية لمكافحة “الانحرافات والأجندات التي تستهدف الطبيعة والفطرة البشرية” على حد قوله، وقد توغلت هذه الخطابات في المجتمع لتعيد صياغة مفهومي الخطيئة والعار لإطلاق حكم الإعدام بالمثليين، أو بأفضل الأحوال تبرير العنف ضدهم. 

أما الدولة، فإن العقلية الأبوية الدينية المتوغلة بعمق في كافة مؤسساتها لم تكن أقل شراً، حيث ناقش البرلمان العراقي منتصف آب الماضي، تعديلاً على قانون مكافحة الدعارة لعام 1988، وينص على “عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد”، لأي شخص “أقام علاقة شذوذ مثلي” حسب ما يسميها بعض نواب البرلمان العراقي، وسارعت هيئة الإعلام والاتصالات إلى توجيه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في العراق بعدم استخدام مصطلح المثلية الجنسية واستبداله بـ”بالشذوذ الجنسي”،  فيما قالت إنها تسعى من خلال التوجيه إلى حماية المجتمع وقيمه الأصيلة من المصطلحات الدخيلة.  

الحملة السياسية تجاه أفراد مجتمع الميم عين ليست جديدة، فقد قدم النائب سوران عمر سعيد مقترح قانون “حظر الدعاية ونشر المثلية” وذلك بعد البيان الذي نشره زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في تشرين الثاني 2022، ودعا فيه العالم لمناهضة “المجتمع الميمي”، وفق تسميته. 

ويخضع تعديل القانون الهادف إلى إعدام المثليين، إلى توجهات دينية ومحافظة، “ويشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وفلسفة القانون التي تُعاقب من سبب فعله ضرراً للمجتمع”، يشرح محمد جمعة، المحامي الذي يترافع في القضايا المدنية، وهو يؤشر إلى خطورة القانون. و”المثلية هي حرية فردية لا تسبب ضرراً عاماً”، بحسب قوله.  

ففي الوقت الذي تحتاج هذه الفئات التي تتعرض لعنف اجتماعي وإقصاء إلى حماية قانونية ترفع عنهم مخالب الهيمنة الدينية والأبوية، يساهم هذا التعديل في إباحة العنف القانوني ضد المثليين، بالإضافة إلى قمع النشاط الداعم لحقوقهم، والتحريض من خلال تعبئة المجتمع ضدهم وخلق رغبة في الانتقام من منهم والإيقاع بهم، لأنه سريعاً ما سيجد مبرراته الاجتماعية والقانونية والدينية. 

عدو جديد 

حقيقة الأمر، التحريض تجاه الأقليات الجندرية مُربح للأحزاب السياسية، وخاصة مع بنية ثقافية للمجتمع مستعدة لاستقباله. فالخوف من عدو محتمل يهدّد القيم الاجتماعية لقاعدة عريضة من المجتمع، يخلق حالة من الفزع الأخلاقي. وهذا الفزع، يستطيع إزاحة التركيز، ولو مؤقتاً، عن القضايا المعيشية اليومية والتهديدات المستقبلية. 

فليس بجديد على الأحزاب المبنية على أساس طائفي في العراق، والتي تعودت استخدام خطابات طائفية وعرقية لتأجيج الرأي العام وكسب تأييد فئة من المجتمع على حساب فئات أخرى، ليس جديداً أن تستخدم حياة المثليين هذه المرة مادة للتغطية على فشلها بإيجاد حلول ومعالجات لقضايا مُلحّة، مثل الخدمات العامة، والفساد، وانهيار العملة، والعنف ضد المرأة. 

عداء المثليين ليس جديداً 

في بلدٍ يزخم بالحروب والنزاعات والعنف منذ عقدين، كان للأشخاص الأكثر هشاشة مصيرٌ أكثر عنفاً، حيث شهد أفراد مجتمع الميم عين، والأشخاص غير النمطيين، حملات كراهية وعنف وعمليات قتل وإخفاء قسري على يد أفراد من الميليشيات العراقية، وكانت تجاور حلقة عنف للسيارات الملغمة والقنابل والرصاص التي طالت البلد في أكثر فتراته دموية. 

فبين عامي 2009-2015، تفاقمت عمليات الاختطاف والقتل لرجال مثليين على يد أعضاء ميليشيات عراقية منها “سرايا الغضب” و”عصائب أهل الحق”، قابلتها الحكومة بلامبالاة وإنكار متوقعين. وكان أيضاً عمليات تصفية الأشخاص المصنفين ضمن ثقافة “الإيمو”، خلال 2011 و2012، وهي نمط يربطه النقاد بموسيقى “الروك” و”البانك”، يتميز أفرادها بملابس سوداء وشعر طويل أحياناً فيه خصلات ملونة، والفتيات منهم تميزن بثياب سوداء وماكياج بألوان داكنة، وهو ما جعلهم عرضة لحملات تشهير وملاحقة وقتل من الميليشيات، بررته وزارة الداخلية، آنذاك، بـ”خشية العراقيين من انتشار العلاقات المثلية والانتحار بسبب هؤلاء الايمو”. ولم تنته الحملات بجريمة قتل الفنان المسرحي كرار نوشي عام 2017 بسبب الاشتباه بمثليته بناءً على مظهره وشعره الطويل. 

ولا تفرق رصاصة الميليشيات بين كون الشخص مثلياً حقاً وبين الاشتباه بمثليته، فكل من لا يطابق الصورة المرسومة له مسبقاً، نهايته واحدة. 

هيجان جماعي 

لكن الهجمة على “نور بي إم” التي أعقبت مقتله، أوضحت حجم التماهي المجتمعي مع الخطابات السياسية والدينية والإعلامية المحرضة على المثليين/ات. فوسم #ابو_الدلفري الذي تصدر صفحات التواصل الاجتماعي في العراق كان مرفقاً “بخفة دم” محملة بكراهية وتحريض شاركت فيها بعض الوجوه المعروفة بالعراق. 

فقد قتل نور بي أم شخص كان يقود دراجة هوائية، يستخدمها عادة عمّال الدليفري في العراق، إلا أن الهيجان الجماعي حوّل مقتل إنسان إلى “نكتة سمجة” وحوّل سائق الدلفري الذي يكدّ بجهد كبير إلى قاتل وميليشياوي. 

كما كانت خفة الدم هذه غطاء للهوموفوبيا التي تحدث بها الفنان العراقي ذو الفقار خضر عن جريمة مقتل نور واصفاً إياه بـ”المستخنث”، وذلك عبر منشور على صفحته على “انستغرام”. 

قبل ذلك، امتلأت الفضاءات الإلكترونية العراقية بهيجان جماعي شارك فيه إعلاميون وفنانون وشخصيات عامة، أحدها تصريحات المخرج علي فاضل، الذي قال “أنا لست مع المثلية ولا أرتضيها لنفسي، ولا لعائلتي، ولا للمجتمع الذي أعيش به”، والتي كانت إجابة على سؤال طرحه السينمائي صلاح منسي في بودكاست شي منسي. إجابة بدت كتبرير طال انتظاره على تصريحات سابقة له في برنامج شباب توك أبدى فيها موقف غير رافض للمثلية، بيد أنه قال إن تصريحاته السابقة محرفة ومجتزءة من مقدم البرنامج والذي فعل ذلك قاصداً تعريضَ حياة الفنانين العراقيين للخطر. 

والحال هذه، فإن كلام علي فاضل غير بعيد عن واقع يعرض حياة أفراد مجتمع الميم عين والمؤيدين لهم لخطر رصاصات مجهولة. 

ومع كل هذه المواقف العدائية المتنامية، ينخفض سقف الحريات في العراق أكثر، ويتوحد الخصوم ليقضوا على أي أمل في بناء دولة مدنية تكفل الحريات الفردية. 

فسياسات الموت والإفقار واستغفال الناس بقضايا مثل المحتوى الهابط وشيطنة مصطلح الجندر ومحاربة الحريات وتشريع قوانين تجعل حياة المواطنين في آخر سُلم الأولويات، وسيطرة ميليشيات تبنت العنف واستخدمته وسيلة لإسكات المعارضين وترهيب المختلفين.. وسط كل هذا، صار المثليون/ات في هذا المشهد تحت مذبحة الدولة الرسمية، فبعد التهميش والإقصاء من المنازل والشوارع ومواقع التواصل، فَقَدَ أفراد مجتمع الميم عين حقهم بالتعبير عن أنفسهم أو حتى البوح بأحقيتهم بتقرير مصيرهم في بلدهم، وحقهم بالحياة حتى داخل منازلهم ودوائرهم الخاصة دون تطويقهم -بمباركة الدولة- بأطواق الكراهية والموت بسبب جنسانيتهم.