خارطة الأحزاب والحركات الكرديّة: صراعات وتنافس ومعارك وجود 

نوروز سنجاري

08 تشرين الأول 2023

سيبقى الكرد في حيرة، حيرةٌ من الأحزاب والحركات المتنافسة والمتخبّطة في فضاء من الفوضى.. سيبقى مصير الكرد حائراً، يتشابه في البلدان الأربعة؛ العراق وسوريا وإيران وتركيا.. عن تاريخ الكرد الطويل في التنظيم السياسي..

في ١٩ أيلول الماضي، أعلنت “اللجنة العليا لتنفيذ الاتفاق الأمني المشترك” بين طهران وبغداد، إخلاء مقرات مجاميع المعارضة الإيرانية الكردية في المناطق الحدودية مع إيران داخل إقليم كردستان العراق، بشكل نهائي. 

قبلها بستة أشهر بالضبط، زار علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني العاصمة بغداد ووقع مع قاسم الأعرجي مستشار الأمن القومي العراقي اتفاقاً هدّأ المدافع والصواريخ الإيرانية التي كانت تستهدف، بين حين وآخر، مواقع داخل الإقليم، وانتهى بإعلان أيلول وانتشار قوات حرس حدود مشتركة على نقاط حدودية أقصى الشمال الشرقي مع إيران؛ وبالتنسيق مع الديمقراطي الكردستاني، نُزع سلاح بعض أعضاء حزب الحرية الكردستاني (PAK) في التون كوبري بمحافظة كركوك، ونقل أعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني من سيداكان. وجُرّد عناصر “كومله” الموجودون في منطقة زيرغويز بالسليمانية من سلاحهم بتنسيق مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وهناك عشرات القرى والمخيمات أخليت أو بانتظار الإخلاء. 

الأسئلة القديمة 

في الدول التي يعيشون فيها وخلال الأزمات، يتجدد الحديث عن دور الكرد والأحزاب الكردية المعارضة، مؤججاً أسئلة عن أوضاع تلك الأحزاب وقدراتها وبنيتها التنظيمية وخلفياتها السياسية ومدى تأثيرها الداخلي والخارجي. 

ففي إيران، كثفت قيادات النظام الحاكم، داخلياً وخارجياً، من هجماتها ضد الأحزاب الكردية المعارضة، التي تنتشر مقراتُها في إقليم كردستان العراق، منذ اندلاع آخر موجة احتجاجات في أيلول 2022 بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد ما يعرف بـ”شرطة الأخلاق”، تغلّف طهران صواريخها بحجج دعم التظاهرات والاحتجاجات في الداخل الإيراني والوقوف وراء هجمات وأعمال عنف شهدتها مدن إيرانية مختلفة حتى تلك التي لا وجود كردياً فيها. 

لم تكن الهجمات بالصواريخ والمسيرات كافية لطهران، فهدّدت بشنّ هجوم بري. رغم أن قوى المعارضة الإيرانية التزمت، طوال عقدين من الزمن، بتعهداتها لحكومة وأحزاب الإقليم بعدم استخدام كردستان كمنطلق لشن الهجمات، لكن الاتفاق عقد، وسلبهم أسلحتهم ومقرّاتهم ومخيماتهم، بمقابل إيقاف القصف الإيراني، ليكون بمثابة انتصار سياسي لطهران. 

يتزامن ذلك مع رفع تركيا وتيرة عملياتها الهجومية في شمال العراق والمناطق التركية الجنوبية المحاذية، ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يطالب بالاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية للكرد في تركيا، فضلاً عن استهداف الأحزاب المقربة فكرياً وتنظيمياً من حزب العمال في العراق كحزب الحياة الحرة  الكردستاني (بيجاك) -حزب كردي إيراني موالٍ لحزب العمال تأسس 2004- ووحدات حماية سنجار الايزيدية العراقية، إلى جانب تصعيد عملياتها ضد حزب الاتحاد الديمقراطي السوري والأطراف الساندة له كمجلس سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا. كما كثفت من خطط التوغل في عمق إقليم كردستان وبناء عشرات المقرات الأمنية والعسكرية على طول الحدود العراقية وبأعماق تصل أحياناً إلى 40 كيلومترا. 

وفي سوريا، دفع الخلاف على المصالح والمصلحة المرحلية المتبادلة مع النظام بالعشائر العربية في دير الزور إلى مواجهات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مع ثابتٍ لم يتغير في معادلة الشمال الشرقي السوري، وهو استمرار الضغط التركي على الأرض بفصائل مسلحة موالية لأنقرة ومن السماء بالمسيرات والطائرات والصواريخ، في حين ينفذ تنظيم “داعش” عمليات متفرقة ضد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، تزامنا مع ضغط الجيش والفصائل الموالية لحكومة بشار الأسد بعد وقف شبه كلي لعملياتها في الشمال والغرب السوري ضد الفصائل المقربة من تركيا والتي تحتل إدلب وأجزاءً من حلب. 

وفي العراق، قتل 148 مدنياً في إقليم كردستان منذ آب 2015 وذلك جراء الهجمات التركية والإيرانية، فيما أصيب 221 آخرون، وفق منظمة CPT. بمقابل ذلك، تضغط حكومة تحالف إدارة الدولة، التي يقودها فعلياً وبشكل شبه مطلق قوى الإطار التنسيقي الشيعية، على الكرد في أكثر من ملف سواء بالمناطق المتنازع عليها في كركوك وسنجار -التي فشلت اتفاقية إعادة التوازن الأمني والإداري لها (اتفاقية سنجار) تحت ضغط مصالح الحشد الشيعي- أو بتعطيل مساعي الإقليم للاستقلال الاقتصادي عقب توقف مشروع بيع النفط من الإقليم بشكل مستقل إثر قرار محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس.  

عقود الصراع  

منذ منتصف القرن الماضي، برزت عدّة أحزاب كردية معارضة للأنظمة القومية والإسلامية التي تشكلت في تركيا (نظام أتاتورك القومي التركي) وسوريا (حزب البعث العربي) وإيران (الجمهورية الإسلامية وقبلها الشاهنشاهية)، كرد فعل على القمع الممنهج ضد الكُرد حدّ منع لغتهم، ورفعت، أغلب تلك الأحزاب، السلاح مطالبةً بحقوق ثقافية وسياسية، وبحكم ذاتي أو انفصال أحياناً. 

كانت الظروف السياسية تلعب دوراً بإيقاع الصراع ووتيرته: في إيران برزت الأحزاب الكردية في السبعينات والثمانينات، وفي تركيا اندلع النزاع المسلح في الثمانينات واشتدّ في التسعينات ودخل مراحل تفاوض وسلام، قبل تجدّده عام 2013، وفي سوريا صار للأحزاب الكردية دور بارز في أعقاب الانتفاضة السورية بعد عام 2011، وليس العراق بمعزل. 

من هم الكُرد؟ 

يعيش حوالي 40 مليون كردي في مناطق جبلية تمتد على حدود تركيا والعراق وسوريا وإيران وأرمينيا. يحلمون بالحصول على دولة قومية دائمة. ويشكلون مجتمعاً تربطه عناصر العرق والثقافة واللغة. 

مع بداية القرن العشرين، تزايد الحس القومي الكردي بشكل غير مسبوق، وبدأت مساعٍ نحو الحكم الذاتي وإنشاء دولة كردية مستلقة معترف بها دولياً، بمجابهة الحركات السياسية القومية المتنامية في المنطقة، خصوصاً بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق مع غيابهم عن طاولة معاهدة لوزان وفقراتها. 

وتلاحقت إحباطات مسعى الاستقلال التي كان آخرها استفتاء رأي في تشرين الأول 2017 بإقليم كردستان العراق، أُقيم بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وفشل متسبباً بخسارة أراضٍ كانت تحت سيطرة الإقليم لمصلحة سلطة بغداد في غضون أيام.  

كيف نشأت الاحزاب الكردية؟ 

تتأطر هوية ورؤية معظم الأحزاب الكردية التي نشأت مبكراً، بالحراك القومي الكردي ومعارضة الأنظمة الحاكمة، وأغلبها نشط بذراع عسكري ضد الدولة.   

وضع بعضها الحقوق والحريات والتمثيل السياسي هدفاً، وذهب بعض آخر إلى المطالبة بالحكم الذاتي، وحتى إنشاء دولة كردية مستقلة. 

تباعاً، تأسست في تركيا وإيران وسوريا والعراق، عشرات الأحزاب والحركات الكردية المعارضة، ووراء ذلك أسباب تتلخص بثلاثة: تنافس على السلطة والمكاسب، صناعة من الأحزاب الكبيرة بهدف تشتيت الرأي وضرب المنافسين، وإحباط الجماهير من سقطات الأحزاب ذات الشعبية الأوسع كالحزب الديمقراطي وحزب العمال الكردستانيين. 

تتوزع خارطة الأحزاب الكردية -الأبرز والأكثر تأثيراً- في الدول الأربع التي يعيشون فيها كالتالي: 

العراق: الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني في العراق، وجماعة العدل الاسلامية، والحزب الشيوعي الكردستاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني، والحركة الإسلامية، ويتواجد أيضا حزب العمال الكردستاني (البكك) اليساري في بعض المناطق الجبلية داخل العراق. 

تركيا: حزب العمال الكردستاني، وحزب الشعوب الديمقراطية (هدب)، وهو حزب رسمي في تركيا قريب من حزب العمال. وهودا بار الاسلامي -دعم اردوغان في الانتخابات الأخيرة 2023- والحزب الديمقراطي الكردستاني/ تركيا، وحزب هاك بار، وحزب الحرية الكردستاني  في تركيا، والحزب باك كرد، والحزب الديمقراطي التشاركي، والحزب الاشتراكي الكردستاني، وحزب الحرية والاشتراكية. 

إيران: حزب الحياة الحرة الكردستاني (بجاك) اليساري -أحد أجنحة حزب العمال الكردستاني- والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، حليف الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي. وحزب الجماعة الثورية لكادحي كردستان إيران (كوملة) ذو التوجه اليساري، وحزب الكفاح (خبات)، وحزب الحرية الكردستاني (باك) حليف الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق. 

سوريا: حزب الاتحاد الديمقراطي تأسس سنة 2003، -يساري ومنبثق من حزب العمال- والذي يقود السلطة الحاكمة في مناطق شمال شرقي سوريا، والحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، والحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، وحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)، وحزب يكيتي الكردي في سوريا. وتتشابه الأحزاب الكردية في سوريا في أسمائها، نتيجة الانشقاقات الكثيرة.  

التوجهات 

وعلى الرغم من وجود كل تلك الأحزاب، لكن يمكن تصنيفها في مجموعتين: 

الأولى ذات اتجاه يساري وقريبة من حزب العمال الكردستاني pkk، الذي تأسس عام 1978، ويتجاوز عدد مقاتليه 10 آلاف مقاتل موجودين على أراض تركية وعراقية، ويتحركون في مناطق شمال شرقي سوريا. اذ يعتبر حزب العمال أحد أكثر الأحزاب الكردية نفوذاً وشعبية على الإطلاق. وهناك أكثر من 10 أحزاب في تركيا وإيران وسوريا توالي حزب العمال في أيديولوجيتها وسياساتها ومواقفها. 

أما الثانية فيتقدمها الحزب الديمقراطي الكردستاني المعتدل ذو الطابع المحافظ مع الميل نحو الليبرالية. تأسس الديمقراطي عام 1946 في إيران على يد ملا مصطفى البرزاني وكان أول حزب يدعو للنضال القومي الكردي ضد النظام الحاكم في العراق، وشكّل قوات البيشمركة التي قاتلت ضد السلطة. وحصل على الحكم الذاتي لمناطق الاقليم في 1992، فيما يُعتبر أهم انجاز للحركة القومية الكردية حتى الآن. ومن أبرز الأحزاب التي تسير في طريق الديمقراطي أو تتبعه هي الحزب الديمقراطي الكردستاني/ إيران، الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، حزب الحرية الكردستاني (باك). 

كان هذان القطبان وما زالا في نزاع دائم، لاختلاف مواقفهما السياسية وأيضا لتنافسهما على مناطق السيطرة، خاصة على أراضي إقليم كردستان. فيمتد النزاع والخلاف الى الأحزاب التي تتبعهما. ويُعتبر قائدا هذين الحزبين، عبد الله أوجلان، الذي أسس حزب العمال، ومسعود بارزاني، ابن مؤسس الحزب الديمقراطي، أهم زعيمين كرديين اليوم. 

وفي الفضاء نفسه، هناك العديد من الأحزاب السياسية الكردية المؤثرة التي لا تتخندق ضمن الفئتين المذكورتين، ولها قواعدها الشعبية الخاصة بها، بما في ذلك الاتحاد الوطني الكردستاني، والأحزاب الإسلامية في كردستان العراق، وكذلك حزب كوملة في إيران، وأحزاب كثيرة صغيرة في مناطق سوريا الكردية. 

في العراق.. من المعارضة إلى الحكم 

على الرغم من أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني كانا معارضين للنظام العراقي السابق ويحاربانه، إلا أنهما لم يعودا معارضة في الوقت الحالي، ولا يطالبان بالانفصال كما سبق. إذ حكم الحزبان الديمقراطي والاتحاد الوطني الإقليم، ذاتياً، منذ 1992 بحكومة وبرلمان. وتنامت قوات البيشمركة حتى صار يقدر عدد مقاتليها من الطرفين معاً بحوالي 100 ألف مقاتل، بعضهم يخضع لوزارة البيشمركة في حكومة الإقليم، ومعظمهم يخضع لسيطرة الحزبين المباشرة، كقوات الوحدة 80 الخاضعة للديمقراطي، وقوات الوحدة 70 للاتحاد الوطني1

منذ منتصف التسعينات حتى 2003، كان الحزبان على خلاف شديد، أدى لاشتعال حرب أهلية بينهما، فتشكلت إدارتان داخل الإقليم، واحدة تتبع الاتحاد الوطني والثانية يحكمها الديمقراطي. 

نما الخلاف حتى صار حرباً داخلية اندلعت عام 1994 ودامت 4 سنوات، نتيجة رغبة كلّ منهما في الاستحواذ على الموارد المالية والسلطة، وفي ظل دفع إقليمي نحو الاقتتال -إيران دعمت الاتحاد الوطني (اليكتي) أما الديمقراطي (البارتي) كان أقرب لتركيا واستعان بسلطات صدام للسيطرة على أربيل وأدى الاقتتال إلى مقتل الآلاف وتشريد عشرات الآلاف من الكرد. 

في 31 آب 1996 استعاد الحزب الديمقراطي الكردستاني مدينة أربيل من الاتحاد الوطني الكردستاني بالتعاون مع قوات صدام حسين. ما دفع الاتحاد الوطني الكردستاني لوصفها بالـ”خيانة” حتى اليوم، بينما يصف الحزب الديمقراطي الكردستاني الحدث بأنه “تحرير” وخطوة نحو الاستقرار الكردي. واستمرت الحرب حتى أواسط 1998 حيث توسطت الولايات المتحدة بين الطرفين وأصرت على وقف المعارك. 

صورة تجمع مسعود بارزاني وجلال طالباني وهما يتصافحان 

يصطبغ الحزب الديمقراطي الكردستاني بالليبرالية المدنية، بينما تحرّكه القبلية ويرعاها؛ ويتزعمه مسعود برزاني الذي تأسس الحزب على يد أبيه ملا مصطفى، ولإبنه مسرور برزاني، رئيس حكومة الإقليم، دور كبير داخل أروقة الحزب ومناطق نفوذه في الإقليم بحكم كونه يشغل موقع نائب رئيس الحزب، ويسير ابنه الشاب “آرين مسرور برزاني” على خطى أبيه وأجداده فيظهر في اجتماعات وتجمعات داخل الاقليم أحياناً بحضور مسؤولين أجانب. ويعتمد قادة الحزب بشكل كبير على قاعدة جماهيرية تتمثل بقبائل كردية وزعماء قبائل.

بينما تتشكل قاعدة حزب الاتحاد الوطني، الذي أسسه جلال طالباني عام 1975 إثر خلافه مع الديمقراطي وانشقاقه عنه، من المثقفين والليبراليين، لكنه قاعدته تتآكل أيضاً. 

معارضة المعارضة 

شيئاً فشيئاً، ظهرت معارضة كردية داخل الإقليم مثل جماعة العدل في كردستان (الجماعة الإسلامية الكردستانية سابقا)، والاتحاد الإسلامي الكردستاني والحركة الإسلامية في كردستان العراق، وكذلك حركة التغيير الكردية التي أسست عام 2009 وكانت قوة معارضة ضد حكومة الإقليم ذات شعبية واسعة في بدايتها، ثم صارت شريكة في السلطة بعد تحالفها مع الاتحاد الوطني2.  

وبعد 2003، أصبح الحزبان شريكين في السلطة الاتحادية في بغداد. وعلى الرغم من الخلافات الكثيرة حول قضايا النفط والميزانية مع بغداد، لكنهما غادرا خانة المعارضة. 

خلال المراحل كلّها، لم يطوّر الكرد حِساً وطنياً وشعوراً بالانتماء تجاه العراق، وبالمقابل لم تعمل الحكومات والأنظمة العراقية، السابقة والحالية، بجدية على تطوير سياسات تفضي إلى دولة مواطنة تجمع مختلف المكونات تحت مظلة واحدة. فلم تشترك مكونات الشعب العراقي برؤية وهدف، حتى أن كلّ مكون، وخصوصاً الكرد، يشعر أن له خصوصيته التي تميزه عن المكونات الأخرى وأن معاناته أكبر وأهم من معاناة المكونات الأخرى وأن يد المكونات الأخرى عبثت وصنعتها. 

نتيجة ذلك، ظهرت الأحزاب الكردية وانشطرت وتكاثرت، بمساعدة الصراعات والتنافس على الموارد والنفوذ. 

العودة لبغداد 

مع حاجة الإقليم لبغداد، وفشله بتأمين احتياجاته وصولاً لعجزه عن سداد مرتّبات موظفيه دون مساعدة العاصمة، تجرّد من أوراق لعبه السياسية، خاصة بعد قرار المحكمة الاتحادية العراقية بعدم دستورية تمديد عمل برلمان كردستان لعام إضافي، بعد أن جدد البرلمان لنفسه فترة عمله في العام 2022، معتبرةً كلّ القرارات الصادرة عنه منذ ذلك التاريخ، باطلة. 

وفي تطور آخر لضغوط الحكومة الاتحادية على الإقليم، أصدرت المحكمة الاتحادية في بغداد، شباط 2022، حكماً اعتبر قانون النفط والغاز في إقليم كردستان غير دستوري، ما مهّد لحكم آخر، من محكمة التحكيم الدولية في باريس، لصالح الحكومة العراقية ضد تركيا، أدى لتعليق تصدير نفط إقليم كردستان عبر تركيا منذ 25 آذار 2023.  

ضرب هذا التطور الاستقلال الاقتصادي الذي عمل الإقليم سنوات من أجل الوصول إليه، وشجّعه، بقيادة الديمقراطي الكردستاني على إجراء استفتاء على الاستقلال في عام 2017. وفي الوقت نفسه، لا يحصل الإقليم على حصته، المتفق عليها سياسياً، من الموازنات الاتحادية، لعدم تسديده مردودات النفط والمنافذ الحدودية والخلافات بشأنها. 

يتزامن هذا مع تعمّق واشتداد الصراع بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وأحدث أوجه الخلاف بشأن انتخابات مجالس المحافظات المقبلة في العراق، حيث أراد الاتحاد الوطني الكردستاني تشكيل قائمة كردية موحدة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أن الأخير رفض. 

ووصل خلاف الحزبين، خلال السنوات الأخيرة، إلى مستوى غير مسبوق يشبه ما دفع لحربهما خلال تسعينيات القرن الماضي. وتتمثل أبرز نقاط هذه الخلافات في النزاع حول قانون انتخابات إقليم كردستان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وحصصهما في المناصب الحكومية، وأسباب أمنية تتعلق بانشقاق بعض أعضاء الاتحاد الوطني الكردستاني عن الحزب وطلبهم دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني3

ويتعمّق انقسام وحدات البيشمركة لدرجة دفعت التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة إلى تحذير الإقليم من احتمال قطع المساعدات التي تُقَدَم للبيشمركة إن لم تتوحد ويُعيَنُ لها وزير4

في إيران.. الموت أو الموت أيضاً  

في إيران، تتصدّر مشهدَ المعارضة الكردية أحزابٌ أبرزها (حزب كوملة الثوري للكادحين الكردستاني) ذو الاتجاه اليساري، أُسِّس عام 1969، وتتوزع شعبيته في مدن سنندج وكامياران. وحزب الحياة الحرة الكردستاني (بجاك) وهو امتداد إيراني لحزب العمال الكردستاني، وله توجه قومي ويطالب بالحكم الذاتي لـ”كردستان إيران”.  

والحزب الديمقراطي الكردستاني/ إيران (حدكا) الذي أسس في سنة 1987 وهو ذو شعبية واسعة خاصة في منطقة موكريان، التي تشمل مدن مهاباد وأشنوية وبوكان وسردشت، وحزب الحرية الكردستاني (باك)، وهو حزب قومي يسعى إلى الحصول على الحقوق الوطنية الكردية داخل جمهورية فدرالية ديمقراطية في إيران، وكلاهما قريبان جداً من الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، ويتلقيان دعماً مادياً منه بصورة مستمرة.  

تقع قواعد هذه الأحزاب في إقليم كردستان وتملك أذرعاً عسكرية، بالرغم من ندرة نشاطاتها ضد القوات الإيرانية في السنوات الأخيرة.  

ويضم حزب الحياة الحرة، الذي ينشط في جبال شمالي الإقليم والمناطق المجاورة داخل إيران، نحو 3 آلاف عضو، وقد يكون الحزب الكردي الأكثر شعبية في المناطق الكردية في إيران، اذ لا ينحصر نفوذه بمنطقة معينة، على عكس كوملة والديمقراطي. ويقدر عدد أعضاء كل حزب من الأخرى بين 1000 و2000 عنصر.  

تصنفُ طهران هذه الأحزاب، كلّها، على أنها “انفصالية” و”إرهابية”. وتكراراً، طالبت العراق وإقليم كردستان بنزع سلاحهم وطردهم، وصولاً إلى 19  من أيلول وإعلان تطبيق الاتفاق الذي لم يذكر طرفاه إلى أين سيذهب المرحّلون وفقه، وليس ممكناً ضمان إدامته؛ ببساطة لأن الطرف الاساسي المعنيّ لم يكن جزءاً فيه.  

بالمجمل، تعاني هذه الأحزاب تراجعاً بمناسيب جماهيريتها، مذ أدرك المجتمع الكردي الإيراني أنها عجزت، مراراً، عن الرد على بطش أجهزة الجمهورية الإسلامية حتى أن شرائح صارت تراهم عبئاً. 

في إيران لا توجه الدولة فوهات بنادقها ومدافعها نحو المعارضة فحسب، بل تمدّد قمعها حتى حظر الأنشطة الاجتماعية والسياسية، وتفرض عقوبات صارمة، تصل إلى الحكم بالإعدام، على من ينخرط -أو تشك أنه منخرط- في أيّ نشاط سياسي أو احتجاجي.  

قصف مقر لكومله في أربيل، إقليم كردستان العراق، عام 2019، المصدر: روداو 

شكّلت مقدمات الاتفاق، والاتفاق، ضغطاً على إقليم كردستان، فلم يكن بمقدوره صدّ صواريخ إيران أو التفكير بالوقوف في وجهها، ولن يُغفر، حتى بعد حين، اشتراكه بإجبارهم على الخروج من الإقليم والعودة لإيران، وليس مستعداً لتحمل تكاليف إعادة توطينهم في أماكن ترتضيها طهران. 

في تركيا.. لا نهائية المواجهة 

من تركيا كانت البداية، وإليها تعود جذور المعارضة الكردية، إذ ظهرت المطالب الكردية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، حين حُرم الكرد من دولة خاصة بهم، اندلعت واحدة من أبرز الاحتجاجات الكردية المعارضة بقيادة سيد رضا في تونجلي (درسيم)، حيث احتج الكرد ضد الحكومة التركية وخرجوا للشوارع عام 1937. فقابلتهم الدولة التركية بقمع شديد قُتل فيه المئات. 

لم تتحول هذه المعارضة إلى حزب حتى تأسس حزب العمال الكردستاني عام  9781 سرّاً على يد مجموعة من الطلاب الماركسيين غير المعروفين.  

بدأ الحزب نشاطه العسكري عام 1984، واتخذ مقاتلوه من إقليم كردستان منطقة لقواعدهم. ومنذ ذلك الحين قُتل أكثر من 40 ألفاً، بحسب تقديرات وكالات أنباء دولية. 

وفي حزيران 1990 تأسس أول حزب سياسي كردي بصورة رسمية وهو حزب العمل الشعبي (HEP)، واشترك في مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني. 

تشحّ الأحزاب والحركات الكردية في تركيا، فتغيب حالة التنافس على الجمهور أو الموارد والامتيازات كما هو الحال في الدول الأخرى. لكن دائماً ما كان هنالك حزب رسمي لتمثيل الناخبين الأكراد والمطالبة بحقوقهم، يشترك بالانتخابات وينتظر المصير المحتوم: الحظر بتهمة الإرهاب ودعم حزب العمال، ليتحرك السياسيون الكرد غير الملاحقين، أو من نجا من مقصلة الحظر، نحو تشكيل واحد جديد…  

حين تشكّل حزب الشعوب الديمقراطي عام 2012 ونجح في اجتياز عتبة البرلمان التركي، بدأت الحكومة التركية التضييق على اعضائه واعتقالهم بالمئات بتهم التورط في أعمال إرهابية والارتباط بحزب العمال الكردستاني كما حصل لرئيس الحزب المشترك السابق صلاح الدين دميرتاش. 

استعراض لحزب العمال الكردستاني عام 2008 

معضلة العمال  

منذ الثمانينات، تضع الدولة الكردية ملف حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه إرهابياً، على رأس أولوياتها، ولتنفيس مشاكلها الداخلية المتفاقمة، ترفع وتيرة عملياتها وإجراءاتها وخطابها تجاه الحزب في جنوب شرقي تركيا وشمالي العراق وشمال شرقي سوريا. 

مرّ الصراع بين أنقرة والعمّال بمراحل محتدمة، كسلسلة الاشتباكات التي بدأت في عام 2013 في مدينة نصيبين، والتي كاد الجيش التركي حينها، أن يهدم حوالي ربع المدينة، وبات، نتيجتها، عشرات الآلاف من سكان المدينة من دون مأوى. 

وفي اتجاه آخر، بُذلت محاولات عديدة للوصول إلى سلام ووقف إطلاق النار وفترات هدنة، ولكن لم تُفضِ إلى حلٍّ جذري، فتستمر تركيا باستهداف حزب العمال الكردستاني بعمليات قصف جوي شبه يومية، بالإضافة الى العمليات العسكرية البرّية التي تقوم بها ضد الحزب داخل الأراضي التركية وأيضاً شمالي العراق حيث توجد قواعد الحزب داخل أراضي الإقليم بالإضافة الى مناطق مخمور وسنجار، أو شمال شرقي سوريا. 

بحجة ملاحقة عناصر الحزب، توغلت تركيا لعمق 30 كيلومترا داخل أراضي إقليم كردستان العراق، وقصفت قرى مأهولة بالسكان، ومدتّ طرقاً وشيّدت مراكز أمنية جديدة في مواقع استراتيجية، وتتوغل على الحدود بصورة مستمرة، من دون أيّ ردٍّ يوقف صواريخها وتحركها. 

تستخدم تركيا حزب العمال الكردستاني حجة لهجماتها التي أثرت على حياة المدنيين، وقتلت العشرات من الكرد وحتى السياح العرب في الإقليم، وتسببت بإخلاء مئات القرى الحدودية من أهلها. وتستخدم العمليات، بطريقة أو بأخرى، كأداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية/ استثمارية في العراق. 

في سوريا.. الهوية والحكم الذاتي 

في سوريا، كان قمع واضطهاد الكرد سياسة ممتدة للدولة، بكل حكوماتها المنقلبة والمنتخبة منذ الانتداب الفرنسي، لدرجة أن الحكومة السورية لم تعترف بوجود الكرد، وحظرت اللغة الكردية، وتوحّشت حتى جردت 120 ألف كردي من الجنسية السورية في عام 1962، مما حرمهم من أبسط الحقوق كدخول الجامعات والحصول على فرص عمل وحيازة إجازة قيادة سيارة. 

بدأت قصة الأحزاب والحركات الكردية في سوريا عام  1957 حين تأسس أولها: الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا وهو الحزب الرئيسي في مظلة المجلس الوطني الكردي في سوريا، ورعاية الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي. 

وأنشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا قوات “بيشمركة روج” بإشراف الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وتنتشر قواعد “روج” في إقليم كردستان العراق. لكنهم لم ينفذوا أي عمليات ضد النظام السوري، بينما اشتركوا ببعض المعارك ضد تنظيم “داعش”.  

منذ 2013، أعلنت في مناطق شمال شرقي سوريا منطقة حكم ذاتي عرفت بالـ”الإدارة الذاتية” حكمها، منذ البداية، حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) المرتبط بحزب العمال الكردستاني، وساهم جناحه العسكري “وحدات حماية الشعب” مع وحدات وقادة معارك من حزب العمال، وبدعم كبير من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بدحر تنظيم “داعش”. وصار مقاتلوه يشكلون المكوّن الأكبر في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التابعة للإدارة الذاتية. 

على الرغم من تراجع شعبية الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، الذي يمتلك تاريخاً في معارضته للسلطات السورية، وصعود حزب الاتحاد الديمقراطي pyd  فليس الجميع راضياً عن طريقته بحكم مناطق الإدارة الذاتية. 

التوغل التركي في الشمال السوري  

بعد هزيمة “داعش” على يد وحدات حماية الشعب ذات الغالبية الكردية، شهدت مناطق سيطرة قسد عمليات تركية عسكرية وجوية مستمرة. إذ احتلت تركيا عفرين ذات الغالبية الكردية عام 2018 بمساعدة فصائل موالية لها مثل الحمزات والعمشات.. وكذلك غزت مناطق تل أبيض ورأس العين ذات الغالبية العربية في تشرين الأول 2019. 

وتستمر تركيا باستهداف مناطق شمالي وشرقي سوريا بضربات شبه يومية بحجة طرد “الإرهابيين” على محاور عدة في كوباني وريف منبج وشمال حلب. 

وتواصل تركيا تعزيز مواقعها العسكرية في شمال غربي سوريا، حيث تبعث برسائل  مفادها أن مناقشة مسألة الانسحاب من سوريا خط أحمر، حيث أكد مجلس الأمن القومي التركي أن تركيا ستواصل عمليات مكافحة الإرهاب داخل وخارج الحدود التركية. 

الحيرة الأبدية 

بالمجمل، قد تشترك الأحزاب والحركات الكردية بكل شيء وتختلف، في الوقت ذاته، بكل شيء أيضاً، قد تنمو أو تضمحل، قد تتحد أو تنشطر، قد تتحالف أو تتقاتل، في كل هذه الأحوال وأخرى، سيبقى مصير الكرد حائراً، يتشابه في البلدان الأربعة، أو يختلف لخصوصية كل منها، ليس واضحاً لأحد ما الذي سيحصل غداً، لكنه في غد أشياء واضحة، سيبقى حزب العمال مطارداً وفي حالة حرب حتى وإن وقع معاهدة سلام مع حكومة تركيا وكل أحزابها القومية والإسلامية التي ترفض الاعتراف بحقوق الكرد وتعتبرهم مواطنين من الدرجة الدنيا، وسيبقى ذريعة جيدة لتحرك تركيا في إقليمها الجنوبي الشرقي. وسيبقى قادة النظام الإيراني موصدين الأبواب بوجه مطالب الحرية والحقوق الكردية، كما سيبقى الكرد هناك بحالة رعب دائم. غدا سيكون كرد العراق بصراع أيضاً. سيتنافسون أيضاً، سينقسمون ويختلفون، قد تظهر أحزاب جديدة، وتتبخر أخرى، وبكلتا الحالتين سيكون إقليم كردستان على صفيح من الحرب المحتملة، والخلاف المحتمل. وفي سوريا، سيتلقى الكرد مزيداً من المسيّرات والقنابل التركية، وسيواجهون تنافسا محليا في فوضى الحرب أو بقاياها، ولن يتغير موقف النظام منهم أو من غيرهم وسيبقى رافضاً لأي تغيير بنهج حكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة والرجل الواحد. 

بالمجمل، سيبقى الكرد في حيرة، حيرة من الأحزاب والحركات المتنافسة والمتخبطة في فضاء من الفوضى. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”   

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في ١٩ أيلول الماضي، أعلنت “اللجنة العليا لتنفيذ الاتفاق الأمني المشترك” بين طهران وبغداد، إخلاء مقرات مجاميع المعارضة الإيرانية الكردية في المناطق الحدودية مع إيران داخل إقليم كردستان العراق، بشكل نهائي. 

قبلها بستة أشهر بالضبط، زار علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني العاصمة بغداد ووقع مع قاسم الأعرجي مستشار الأمن القومي العراقي اتفاقاً هدّأ المدافع والصواريخ الإيرانية التي كانت تستهدف، بين حين وآخر، مواقع داخل الإقليم، وانتهى بإعلان أيلول وانتشار قوات حرس حدود مشتركة على نقاط حدودية أقصى الشمال الشرقي مع إيران؛ وبالتنسيق مع الديمقراطي الكردستاني، نُزع سلاح بعض أعضاء حزب الحرية الكردستاني (PAK) في التون كوبري بمحافظة كركوك، ونقل أعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني من سيداكان. وجُرّد عناصر “كومله” الموجودون في منطقة زيرغويز بالسليمانية من سلاحهم بتنسيق مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وهناك عشرات القرى والمخيمات أخليت أو بانتظار الإخلاء. 

الأسئلة القديمة 

في الدول التي يعيشون فيها وخلال الأزمات، يتجدد الحديث عن دور الكرد والأحزاب الكردية المعارضة، مؤججاً أسئلة عن أوضاع تلك الأحزاب وقدراتها وبنيتها التنظيمية وخلفياتها السياسية ومدى تأثيرها الداخلي والخارجي. 

ففي إيران، كثفت قيادات النظام الحاكم، داخلياً وخارجياً، من هجماتها ضد الأحزاب الكردية المعارضة، التي تنتشر مقراتُها في إقليم كردستان العراق، منذ اندلاع آخر موجة احتجاجات في أيلول 2022 بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد ما يعرف بـ”شرطة الأخلاق”، تغلّف طهران صواريخها بحجج دعم التظاهرات والاحتجاجات في الداخل الإيراني والوقوف وراء هجمات وأعمال عنف شهدتها مدن إيرانية مختلفة حتى تلك التي لا وجود كردياً فيها. 

لم تكن الهجمات بالصواريخ والمسيرات كافية لطهران، فهدّدت بشنّ هجوم بري. رغم أن قوى المعارضة الإيرانية التزمت، طوال عقدين من الزمن، بتعهداتها لحكومة وأحزاب الإقليم بعدم استخدام كردستان كمنطلق لشن الهجمات، لكن الاتفاق عقد، وسلبهم أسلحتهم ومقرّاتهم ومخيماتهم، بمقابل إيقاف القصف الإيراني، ليكون بمثابة انتصار سياسي لطهران. 

يتزامن ذلك مع رفع تركيا وتيرة عملياتها الهجومية في شمال العراق والمناطق التركية الجنوبية المحاذية، ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يطالب بالاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية للكرد في تركيا، فضلاً عن استهداف الأحزاب المقربة فكرياً وتنظيمياً من حزب العمال في العراق كحزب الحياة الحرة  الكردستاني (بيجاك) -حزب كردي إيراني موالٍ لحزب العمال تأسس 2004- ووحدات حماية سنجار الايزيدية العراقية، إلى جانب تصعيد عملياتها ضد حزب الاتحاد الديمقراطي السوري والأطراف الساندة له كمجلس سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا. كما كثفت من خطط التوغل في عمق إقليم كردستان وبناء عشرات المقرات الأمنية والعسكرية على طول الحدود العراقية وبأعماق تصل أحياناً إلى 40 كيلومترا. 

وفي سوريا، دفع الخلاف على المصالح والمصلحة المرحلية المتبادلة مع النظام بالعشائر العربية في دير الزور إلى مواجهات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مع ثابتٍ لم يتغير في معادلة الشمال الشرقي السوري، وهو استمرار الضغط التركي على الأرض بفصائل مسلحة موالية لأنقرة ومن السماء بالمسيرات والطائرات والصواريخ، في حين ينفذ تنظيم “داعش” عمليات متفرقة ضد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، تزامنا مع ضغط الجيش والفصائل الموالية لحكومة بشار الأسد بعد وقف شبه كلي لعملياتها في الشمال والغرب السوري ضد الفصائل المقربة من تركيا والتي تحتل إدلب وأجزاءً من حلب. 

وفي العراق، قتل 148 مدنياً في إقليم كردستان منذ آب 2015 وذلك جراء الهجمات التركية والإيرانية، فيما أصيب 221 آخرون، وفق منظمة CPT. بمقابل ذلك، تضغط حكومة تحالف إدارة الدولة، التي يقودها فعلياً وبشكل شبه مطلق قوى الإطار التنسيقي الشيعية، على الكرد في أكثر من ملف سواء بالمناطق المتنازع عليها في كركوك وسنجار -التي فشلت اتفاقية إعادة التوازن الأمني والإداري لها (اتفاقية سنجار) تحت ضغط مصالح الحشد الشيعي- أو بتعطيل مساعي الإقليم للاستقلال الاقتصادي عقب توقف مشروع بيع النفط من الإقليم بشكل مستقل إثر قرار محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس.  

عقود الصراع  

منذ منتصف القرن الماضي، برزت عدّة أحزاب كردية معارضة للأنظمة القومية والإسلامية التي تشكلت في تركيا (نظام أتاتورك القومي التركي) وسوريا (حزب البعث العربي) وإيران (الجمهورية الإسلامية وقبلها الشاهنشاهية)، كرد فعل على القمع الممنهج ضد الكُرد حدّ منع لغتهم، ورفعت، أغلب تلك الأحزاب، السلاح مطالبةً بحقوق ثقافية وسياسية، وبحكم ذاتي أو انفصال أحياناً. 

كانت الظروف السياسية تلعب دوراً بإيقاع الصراع ووتيرته: في إيران برزت الأحزاب الكردية في السبعينات والثمانينات، وفي تركيا اندلع النزاع المسلح في الثمانينات واشتدّ في التسعينات ودخل مراحل تفاوض وسلام، قبل تجدّده عام 2013، وفي سوريا صار للأحزاب الكردية دور بارز في أعقاب الانتفاضة السورية بعد عام 2011، وليس العراق بمعزل. 

من هم الكُرد؟ 

يعيش حوالي 40 مليون كردي في مناطق جبلية تمتد على حدود تركيا والعراق وسوريا وإيران وأرمينيا. يحلمون بالحصول على دولة قومية دائمة. ويشكلون مجتمعاً تربطه عناصر العرق والثقافة واللغة. 

مع بداية القرن العشرين، تزايد الحس القومي الكردي بشكل غير مسبوق، وبدأت مساعٍ نحو الحكم الذاتي وإنشاء دولة كردية مستلقة معترف بها دولياً، بمجابهة الحركات السياسية القومية المتنامية في المنطقة، خصوصاً بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق مع غيابهم عن طاولة معاهدة لوزان وفقراتها. 

وتلاحقت إحباطات مسعى الاستقلال التي كان آخرها استفتاء رأي في تشرين الأول 2017 بإقليم كردستان العراق، أُقيم بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وفشل متسبباً بخسارة أراضٍ كانت تحت سيطرة الإقليم لمصلحة سلطة بغداد في غضون أيام.  

كيف نشأت الاحزاب الكردية؟ 

تتأطر هوية ورؤية معظم الأحزاب الكردية التي نشأت مبكراً، بالحراك القومي الكردي ومعارضة الأنظمة الحاكمة، وأغلبها نشط بذراع عسكري ضد الدولة.   

وضع بعضها الحقوق والحريات والتمثيل السياسي هدفاً، وذهب بعض آخر إلى المطالبة بالحكم الذاتي، وحتى إنشاء دولة كردية مستقلة. 

تباعاً، تأسست في تركيا وإيران وسوريا والعراق، عشرات الأحزاب والحركات الكردية المعارضة، ووراء ذلك أسباب تتلخص بثلاثة: تنافس على السلطة والمكاسب، صناعة من الأحزاب الكبيرة بهدف تشتيت الرأي وضرب المنافسين، وإحباط الجماهير من سقطات الأحزاب ذات الشعبية الأوسع كالحزب الديمقراطي وحزب العمال الكردستانيين. 

تتوزع خارطة الأحزاب الكردية -الأبرز والأكثر تأثيراً- في الدول الأربع التي يعيشون فيها كالتالي: 

العراق: الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني في العراق، وجماعة العدل الاسلامية، والحزب الشيوعي الكردستاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني، والحركة الإسلامية، ويتواجد أيضا حزب العمال الكردستاني (البكك) اليساري في بعض المناطق الجبلية داخل العراق. 

تركيا: حزب العمال الكردستاني، وحزب الشعوب الديمقراطية (هدب)، وهو حزب رسمي في تركيا قريب من حزب العمال. وهودا بار الاسلامي -دعم اردوغان في الانتخابات الأخيرة 2023- والحزب الديمقراطي الكردستاني/ تركيا، وحزب هاك بار، وحزب الحرية الكردستاني  في تركيا، والحزب باك كرد، والحزب الديمقراطي التشاركي، والحزب الاشتراكي الكردستاني، وحزب الحرية والاشتراكية. 

إيران: حزب الحياة الحرة الكردستاني (بجاك) اليساري -أحد أجنحة حزب العمال الكردستاني- والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، حليف الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي. وحزب الجماعة الثورية لكادحي كردستان إيران (كوملة) ذو التوجه اليساري، وحزب الكفاح (خبات)، وحزب الحرية الكردستاني (باك) حليف الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق. 

سوريا: حزب الاتحاد الديمقراطي تأسس سنة 2003، -يساري ومنبثق من حزب العمال- والذي يقود السلطة الحاكمة في مناطق شمال شرقي سوريا، والحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، والحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، وحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)، وحزب يكيتي الكردي في سوريا. وتتشابه الأحزاب الكردية في سوريا في أسمائها، نتيجة الانشقاقات الكثيرة.  

التوجهات 

وعلى الرغم من وجود كل تلك الأحزاب، لكن يمكن تصنيفها في مجموعتين: 

الأولى ذات اتجاه يساري وقريبة من حزب العمال الكردستاني pkk، الذي تأسس عام 1978، ويتجاوز عدد مقاتليه 10 آلاف مقاتل موجودين على أراض تركية وعراقية، ويتحركون في مناطق شمال شرقي سوريا. اذ يعتبر حزب العمال أحد أكثر الأحزاب الكردية نفوذاً وشعبية على الإطلاق. وهناك أكثر من 10 أحزاب في تركيا وإيران وسوريا توالي حزب العمال في أيديولوجيتها وسياساتها ومواقفها. 

أما الثانية فيتقدمها الحزب الديمقراطي الكردستاني المعتدل ذو الطابع المحافظ مع الميل نحو الليبرالية. تأسس الديمقراطي عام 1946 في إيران على يد ملا مصطفى البرزاني وكان أول حزب يدعو للنضال القومي الكردي ضد النظام الحاكم في العراق، وشكّل قوات البيشمركة التي قاتلت ضد السلطة. وحصل على الحكم الذاتي لمناطق الاقليم في 1992، فيما يُعتبر أهم انجاز للحركة القومية الكردية حتى الآن. ومن أبرز الأحزاب التي تسير في طريق الديمقراطي أو تتبعه هي الحزب الديمقراطي الكردستاني/ إيران، الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، حزب الحرية الكردستاني (باك). 

كان هذان القطبان وما زالا في نزاع دائم، لاختلاف مواقفهما السياسية وأيضا لتنافسهما على مناطق السيطرة، خاصة على أراضي إقليم كردستان. فيمتد النزاع والخلاف الى الأحزاب التي تتبعهما. ويُعتبر قائدا هذين الحزبين، عبد الله أوجلان، الذي أسس حزب العمال، ومسعود بارزاني، ابن مؤسس الحزب الديمقراطي، أهم زعيمين كرديين اليوم. 

وفي الفضاء نفسه، هناك العديد من الأحزاب السياسية الكردية المؤثرة التي لا تتخندق ضمن الفئتين المذكورتين، ولها قواعدها الشعبية الخاصة بها، بما في ذلك الاتحاد الوطني الكردستاني، والأحزاب الإسلامية في كردستان العراق، وكذلك حزب كوملة في إيران، وأحزاب كثيرة صغيرة في مناطق سوريا الكردية. 

في العراق.. من المعارضة إلى الحكم 

على الرغم من أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني كانا معارضين للنظام العراقي السابق ويحاربانه، إلا أنهما لم يعودا معارضة في الوقت الحالي، ولا يطالبان بالانفصال كما سبق. إذ حكم الحزبان الديمقراطي والاتحاد الوطني الإقليم، ذاتياً، منذ 1992 بحكومة وبرلمان. وتنامت قوات البيشمركة حتى صار يقدر عدد مقاتليها من الطرفين معاً بحوالي 100 ألف مقاتل، بعضهم يخضع لوزارة البيشمركة في حكومة الإقليم، ومعظمهم يخضع لسيطرة الحزبين المباشرة، كقوات الوحدة 80 الخاضعة للديمقراطي، وقوات الوحدة 70 للاتحاد الوطني1

منذ منتصف التسعينات حتى 2003، كان الحزبان على خلاف شديد، أدى لاشتعال حرب أهلية بينهما، فتشكلت إدارتان داخل الإقليم، واحدة تتبع الاتحاد الوطني والثانية يحكمها الديمقراطي. 

نما الخلاف حتى صار حرباً داخلية اندلعت عام 1994 ودامت 4 سنوات، نتيجة رغبة كلّ منهما في الاستحواذ على الموارد المالية والسلطة، وفي ظل دفع إقليمي نحو الاقتتال -إيران دعمت الاتحاد الوطني (اليكتي) أما الديمقراطي (البارتي) كان أقرب لتركيا واستعان بسلطات صدام للسيطرة على أربيل وأدى الاقتتال إلى مقتل الآلاف وتشريد عشرات الآلاف من الكرد. 

في 31 آب 1996 استعاد الحزب الديمقراطي الكردستاني مدينة أربيل من الاتحاد الوطني الكردستاني بالتعاون مع قوات صدام حسين. ما دفع الاتحاد الوطني الكردستاني لوصفها بالـ”خيانة” حتى اليوم، بينما يصف الحزب الديمقراطي الكردستاني الحدث بأنه “تحرير” وخطوة نحو الاستقرار الكردي. واستمرت الحرب حتى أواسط 1998 حيث توسطت الولايات المتحدة بين الطرفين وأصرت على وقف المعارك. 

صورة تجمع مسعود بارزاني وجلال طالباني وهما يتصافحان 

يصطبغ الحزب الديمقراطي الكردستاني بالليبرالية المدنية، بينما تحرّكه القبلية ويرعاها؛ ويتزعمه مسعود برزاني الذي تأسس الحزب على يد أبيه ملا مصطفى، ولإبنه مسرور برزاني، رئيس حكومة الإقليم، دور كبير داخل أروقة الحزب ومناطق نفوذه في الإقليم بحكم كونه يشغل موقع نائب رئيس الحزب، ويسير ابنه الشاب “آرين مسرور برزاني” على خطى أبيه وأجداده فيظهر في اجتماعات وتجمعات داخل الاقليم أحياناً بحضور مسؤولين أجانب. ويعتمد قادة الحزب بشكل كبير على قاعدة جماهيرية تتمثل بقبائل كردية وزعماء قبائل.

بينما تتشكل قاعدة حزب الاتحاد الوطني، الذي أسسه جلال طالباني عام 1975 إثر خلافه مع الديمقراطي وانشقاقه عنه، من المثقفين والليبراليين، لكنه قاعدته تتآكل أيضاً. 

معارضة المعارضة 

شيئاً فشيئاً، ظهرت معارضة كردية داخل الإقليم مثل جماعة العدل في كردستان (الجماعة الإسلامية الكردستانية سابقا)، والاتحاد الإسلامي الكردستاني والحركة الإسلامية في كردستان العراق، وكذلك حركة التغيير الكردية التي أسست عام 2009 وكانت قوة معارضة ضد حكومة الإقليم ذات شعبية واسعة في بدايتها، ثم صارت شريكة في السلطة بعد تحالفها مع الاتحاد الوطني2.  

وبعد 2003، أصبح الحزبان شريكين في السلطة الاتحادية في بغداد. وعلى الرغم من الخلافات الكثيرة حول قضايا النفط والميزانية مع بغداد، لكنهما غادرا خانة المعارضة. 

خلال المراحل كلّها، لم يطوّر الكرد حِساً وطنياً وشعوراً بالانتماء تجاه العراق، وبالمقابل لم تعمل الحكومات والأنظمة العراقية، السابقة والحالية، بجدية على تطوير سياسات تفضي إلى دولة مواطنة تجمع مختلف المكونات تحت مظلة واحدة. فلم تشترك مكونات الشعب العراقي برؤية وهدف، حتى أن كلّ مكون، وخصوصاً الكرد، يشعر أن له خصوصيته التي تميزه عن المكونات الأخرى وأن معاناته أكبر وأهم من معاناة المكونات الأخرى وأن يد المكونات الأخرى عبثت وصنعتها. 

نتيجة ذلك، ظهرت الأحزاب الكردية وانشطرت وتكاثرت، بمساعدة الصراعات والتنافس على الموارد والنفوذ. 

العودة لبغداد 

مع حاجة الإقليم لبغداد، وفشله بتأمين احتياجاته وصولاً لعجزه عن سداد مرتّبات موظفيه دون مساعدة العاصمة، تجرّد من أوراق لعبه السياسية، خاصة بعد قرار المحكمة الاتحادية العراقية بعدم دستورية تمديد عمل برلمان كردستان لعام إضافي، بعد أن جدد البرلمان لنفسه فترة عمله في العام 2022، معتبرةً كلّ القرارات الصادرة عنه منذ ذلك التاريخ، باطلة. 

وفي تطور آخر لضغوط الحكومة الاتحادية على الإقليم، أصدرت المحكمة الاتحادية في بغداد، شباط 2022، حكماً اعتبر قانون النفط والغاز في إقليم كردستان غير دستوري، ما مهّد لحكم آخر، من محكمة التحكيم الدولية في باريس، لصالح الحكومة العراقية ضد تركيا، أدى لتعليق تصدير نفط إقليم كردستان عبر تركيا منذ 25 آذار 2023.  

ضرب هذا التطور الاستقلال الاقتصادي الذي عمل الإقليم سنوات من أجل الوصول إليه، وشجّعه، بقيادة الديمقراطي الكردستاني على إجراء استفتاء على الاستقلال في عام 2017. وفي الوقت نفسه، لا يحصل الإقليم على حصته، المتفق عليها سياسياً، من الموازنات الاتحادية، لعدم تسديده مردودات النفط والمنافذ الحدودية والخلافات بشأنها. 

يتزامن هذا مع تعمّق واشتداد الصراع بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وأحدث أوجه الخلاف بشأن انتخابات مجالس المحافظات المقبلة في العراق، حيث أراد الاتحاد الوطني الكردستاني تشكيل قائمة كردية موحدة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أن الأخير رفض. 

ووصل خلاف الحزبين، خلال السنوات الأخيرة، إلى مستوى غير مسبوق يشبه ما دفع لحربهما خلال تسعينيات القرن الماضي. وتتمثل أبرز نقاط هذه الخلافات في النزاع حول قانون انتخابات إقليم كردستان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وحصصهما في المناصب الحكومية، وأسباب أمنية تتعلق بانشقاق بعض أعضاء الاتحاد الوطني الكردستاني عن الحزب وطلبهم دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني3

ويتعمّق انقسام وحدات البيشمركة لدرجة دفعت التحالف الدولي لمحاربة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة إلى تحذير الإقليم من احتمال قطع المساعدات التي تُقَدَم للبيشمركة إن لم تتوحد ويُعيَنُ لها وزير4

في إيران.. الموت أو الموت أيضاً  

في إيران، تتصدّر مشهدَ المعارضة الكردية أحزابٌ أبرزها (حزب كوملة الثوري للكادحين الكردستاني) ذو الاتجاه اليساري، أُسِّس عام 1969، وتتوزع شعبيته في مدن سنندج وكامياران. وحزب الحياة الحرة الكردستاني (بجاك) وهو امتداد إيراني لحزب العمال الكردستاني، وله توجه قومي ويطالب بالحكم الذاتي لـ”كردستان إيران”.  

والحزب الديمقراطي الكردستاني/ إيران (حدكا) الذي أسس في سنة 1987 وهو ذو شعبية واسعة خاصة في منطقة موكريان، التي تشمل مدن مهاباد وأشنوية وبوكان وسردشت، وحزب الحرية الكردستاني (باك)، وهو حزب قومي يسعى إلى الحصول على الحقوق الوطنية الكردية داخل جمهورية فدرالية ديمقراطية في إيران، وكلاهما قريبان جداً من الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، ويتلقيان دعماً مادياً منه بصورة مستمرة.  

تقع قواعد هذه الأحزاب في إقليم كردستان وتملك أذرعاً عسكرية، بالرغم من ندرة نشاطاتها ضد القوات الإيرانية في السنوات الأخيرة.  

ويضم حزب الحياة الحرة، الذي ينشط في جبال شمالي الإقليم والمناطق المجاورة داخل إيران، نحو 3 آلاف عضو، وقد يكون الحزب الكردي الأكثر شعبية في المناطق الكردية في إيران، اذ لا ينحصر نفوذه بمنطقة معينة، على عكس كوملة والديمقراطي. ويقدر عدد أعضاء كل حزب من الأخرى بين 1000 و2000 عنصر.  

تصنفُ طهران هذه الأحزاب، كلّها، على أنها “انفصالية” و”إرهابية”. وتكراراً، طالبت العراق وإقليم كردستان بنزع سلاحهم وطردهم، وصولاً إلى 19  من أيلول وإعلان تطبيق الاتفاق الذي لم يذكر طرفاه إلى أين سيذهب المرحّلون وفقه، وليس ممكناً ضمان إدامته؛ ببساطة لأن الطرف الاساسي المعنيّ لم يكن جزءاً فيه.  

بالمجمل، تعاني هذه الأحزاب تراجعاً بمناسيب جماهيريتها، مذ أدرك المجتمع الكردي الإيراني أنها عجزت، مراراً، عن الرد على بطش أجهزة الجمهورية الإسلامية حتى أن شرائح صارت تراهم عبئاً. 

في إيران لا توجه الدولة فوهات بنادقها ومدافعها نحو المعارضة فحسب، بل تمدّد قمعها حتى حظر الأنشطة الاجتماعية والسياسية، وتفرض عقوبات صارمة، تصل إلى الحكم بالإعدام، على من ينخرط -أو تشك أنه منخرط- في أيّ نشاط سياسي أو احتجاجي.  

قصف مقر لكومله في أربيل، إقليم كردستان العراق، عام 2019، المصدر: روداو 

شكّلت مقدمات الاتفاق، والاتفاق، ضغطاً على إقليم كردستان، فلم يكن بمقدوره صدّ صواريخ إيران أو التفكير بالوقوف في وجهها، ولن يُغفر، حتى بعد حين، اشتراكه بإجبارهم على الخروج من الإقليم والعودة لإيران، وليس مستعداً لتحمل تكاليف إعادة توطينهم في أماكن ترتضيها طهران. 

في تركيا.. لا نهائية المواجهة 

من تركيا كانت البداية، وإليها تعود جذور المعارضة الكردية، إذ ظهرت المطالب الكردية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، حين حُرم الكرد من دولة خاصة بهم، اندلعت واحدة من أبرز الاحتجاجات الكردية المعارضة بقيادة سيد رضا في تونجلي (درسيم)، حيث احتج الكرد ضد الحكومة التركية وخرجوا للشوارع عام 1937. فقابلتهم الدولة التركية بقمع شديد قُتل فيه المئات. 

لم تتحول هذه المعارضة إلى حزب حتى تأسس حزب العمال الكردستاني عام  9781 سرّاً على يد مجموعة من الطلاب الماركسيين غير المعروفين.  

بدأ الحزب نشاطه العسكري عام 1984، واتخذ مقاتلوه من إقليم كردستان منطقة لقواعدهم. ومنذ ذلك الحين قُتل أكثر من 40 ألفاً، بحسب تقديرات وكالات أنباء دولية. 

وفي حزيران 1990 تأسس أول حزب سياسي كردي بصورة رسمية وهو حزب العمل الشعبي (HEP)، واشترك في مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني. 

تشحّ الأحزاب والحركات الكردية في تركيا، فتغيب حالة التنافس على الجمهور أو الموارد والامتيازات كما هو الحال في الدول الأخرى. لكن دائماً ما كان هنالك حزب رسمي لتمثيل الناخبين الأكراد والمطالبة بحقوقهم، يشترك بالانتخابات وينتظر المصير المحتوم: الحظر بتهمة الإرهاب ودعم حزب العمال، ليتحرك السياسيون الكرد غير الملاحقين، أو من نجا من مقصلة الحظر، نحو تشكيل واحد جديد…  

حين تشكّل حزب الشعوب الديمقراطي عام 2012 ونجح في اجتياز عتبة البرلمان التركي، بدأت الحكومة التركية التضييق على اعضائه واعتقالهم بالمئات بتهم التورط في أعمال إرهابية والارتباط بحزب العمال الكردستاني كما حصل لرئيس الحزب المشترك السابق صلاح الدين دميرتاش. 

استعراض لحزب العمال الكردستاني عام 2008 

معضلة العمال  

منذ الثمانينات، تضع الدولة الكردية ملف حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه إرهابياً، على رأس أولوياتها، ولتنفيس مشاكلها الداخلية المتفاقمة، ترفع وتيرة عملياتها وإجراءاتها وخطابها تجاه الحزب في جنوب شرقي تركيا وشمالي العراق وشمال شرقي سوريا. 

مرّ الصراع بين أنقرة والعمّال بمراحل محتدمة، كسلسلة الاشتباكات التي بدأت في عام 2013 في مدينة نصيبين، والتي كاد الجيش التركي حينها، أن يهدم حوالي ربع المدينة، وبات، نتيجتها، عشرات الآلاف من سكان المدينة من دون مأوى. 

وفي اتجاه آخر، بُذلت محاولات عديدة للوصول إلى سلام ووقف إطلاق النار وفترات هدنة، ولكن لم تُفضِ إلى حلٍّ جذري، فتستمر تركيا باستهداف حزب العمال الكردستاني بعمليات قصف جوي شبه يومية، بالإضافة الى العمليات العسكرية البرّية التي تقوم بها ضد الحزب داخل الأراضي التركية وأيضاً شمالي العراق حيث توجد قواعد الحزب داخل أراضي الإقليم بالإضافة الى مناطق مخمور وسنجار، أو شمال شرقي سوريا. 

بحجة ملاحقة عناصر الحزب، توغلت تركيا لعمق 30 كيلومترا داخل أراضي إقليم كردستان العراق، وقصفت قرى مأهولة بالسكان، ومدتّ طرقاً وشيّدت مراكز أمنية جديدة في مواقع استراتيجية، وتتوغل على الحدود بصورة مستمرة، من دون أيّ ردٍّ يوقف صواريخها وتحركها. 

تستخدم تركيا حزب العمال الكردستاني حجة لهجماتها التي أثرت على حياة المدنيين، وقتلت العشرات من الكرد وحتى السياح العرب في الإقليم، وتسببت بإخلاء مئات القرى الحدودية من أهلها. وتستخدم العمليات، بطريقة أو بأخرى، كأداة ضغط لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية/ استثمارية في العراق. 

في سوريا.. الهوية والحكم الذاتي 

في سوريا، كان قمع واضطهاد الكرد سياسة ممتدة للدولة، بكل حكوماتها المنقلبة والمنتخبة منذ الانتداب الفرنسي، لدرجة أن الحكومة السورية لم تعترف بوجود الكرد، وحظرت اللغة الكردية، وتوحّشت حتى جردت 120 ألف كردي من الجنسية السورية في عام 1962، مما حرمهم من أبسط الحقوق كدخول الجامعات والحصول على فرص عمل وحيازة إجازة قيادة سيارة. 

بدأت قصة الأحزاب والحركات الكردية في سوريا عام  1957 حين تأسس أولها: الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا وهو الحزب الرئيسي في مظلة المجلس الوطني الكردي في سوريا، ورعاية الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي. 

وأنشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا قوات “بيشمركة روج” بإشراف الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وتنتشر قواعد “روج” في إقليم كردستان العراق. لكنهم لم ينفذوا أي عمليات ضد النظام السوري، بينما اشتركوا ببعض المعارك ضد تنظيم “داعش”.  

منذ 2013، أعلنت في مناطق شمال شرقي سوريا منطقة حكم ذاتي عرفت بالـ”الإدارة الذاتية” حكمها، منذ البداية، حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) المرتبط بحزب العمال الكردستاني، وساهم جناحه العسكري “وحدات حماية الشعب” مع وحدات وقادة معارك من حزب العمال، وبدعم كبير من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بدحر تنظيم “داعش”. وصار مقاتلوه يشكلون المكوّن الأكبر في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التابعة للإدارة الذاتية. 

على الرغم من تراجع شعبية الحزب الديمقراطي الكردستاني/ سوريا، الذي يمتلك تاريخاً في معارضته للسلطات السورية، وصعود حزب الاتحاد الديمقراطي pyd  فليس الجميع راضياً عن طريقته بحكم مناطق الإدارة الذاتية. 

التوغل التركي في الشمال السوري  

بعد هزيمة “داعش” على يد وحدات حماية الشعب ذات الغالبية الكردية، شهدت مناطق سيطرة قسد عمليات تركية عسكرية وجوية مستمرة. إذ احتلت تركيا عفرين ذات الغالبية الكردية عام 2018 بمساعدة فصائل موالية لها مثل الحمزات والعمشات.. وكذلك غزت مناطق تل أبيض ورأس العين ذات الغالبية العربية في تشرين الأول 2019. 

وتستمر تركيا باستهداف مناطق شمالي وشرقي سوريا بضربات شبه يومية بحجة طرد “الإرهابيين” على محاور عدة في كوباني وريف منبج وشمال حلب. 

وتواصل تركيا تعزيز مواقعها العسكرية في شمال غربي سوريا، حيث تبعث برسائل  مفادها أن مناقشة مسألة الانسحاب من سوريا خط أحمر، حيث أكد مجلس الأمن القومي التركي أن تركيا ستواصل عمليات مكافحة الإرهاب داخل وخارج الحدود التركية. 

الحيرة الأبدية 

بالمجمل، قد تشترك الأحزاب والحركات الكردية بكل شيء وتختلف، في الوقت ذاته، بكل شيء أيضاً، قد تنمو أو تضمحل، قد تتحد أو تنشطر، قد تتحالف أو تتقاتل، في كل هذه الأحوال وأخرى، سيبقى مصير الكرد حائراً، يتشابه في البلدان الأربعة، أو يختلف لخصوصية كل منها، ليس واضحاً لأحد ما الذي سيحصل غداً، لكنه في غد أشياء واضحة، سيبقى حزب العمال مطارداً وفي حالة حرب حتى وإن وقع معاهدة سلام مع حكومة تركيا وكل أحزابها القومية والإسلامية التي ترفض الاعتراف بحقوق الكرد وتعتبرهم مواطنين من الدرجة الدنيا، وسيبقى ذريعة جيدة لتحرك تركيا في إقليمها الجنوبي الشرقي. وسيبقى قادة النظام الإيراني موصدين الأبواب بوجه مطالب الحرية والحقوق الكردية، كما سيبقى الكرد هناك بحالة رعب دائم. غدا سيكون كرد العراق بصراع أيضاً. سيتنافسون أيضاً، سينقسمون ويختلفون، قد تظهر أحزاب جديدة، وتتبخر أخرى، وبكلتا الحالتين سيكون إقليم كردستان على صفيح من الحرب المحتملة، والخلاف المحتمل. وفي سوريا، سيتلقى الكرد مزيداً من المسيّرات والقنابل التركية، وسيواجهون تنافسا محليا في فوضى الحرب أو بقاياها، ولن يتغير موقف النظام منهم أو من غيرهم وسيبقى رافضاً لأي تغيير بنهج حكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة والرجل الواحد. 

بالمجمل، سيبقى الكرد في حيرة، حيرة من الأحزاب والحركات المتنافسة والمتخبطة في فضاء من الفوضى. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”