"الحمى النزفية تستشرس".. مسؤولون للصحة العالمية: "القادم أسوأ"
06 تشرين الأول 2023
تحاول الجهات الصحية في العراق دائماً التقليل من مخاطر انتشار الحمى النزفية وتأكيد قدرتها على السيطرة عليها، لكن الواقع مختلف.. فالتوقعات تشير إلى أن "القادم أسوأ".. عن الحمى النزفية التي تستشرس في العراق..
داخل مجلس عزاء في محافظة ديالى، يجلس ذوو الشاب عمر العزاوي والحزن يملأ قلوبهم على رحيله.
لم يكن عمر يعاني من أي مرض، وكان يعمل منتسباً أمنياً في محافظة الأنبار غربي العراق.
لم يشعر سوى بارتفاع بسيط في درجات الحرارة قبل التحاقه بالعمل، ليعود بعد ذلك بثلاثة أيام ووضعه الصحي سيئ جداً.
عجزت الكوادر الصحية في المشفى القريب منهم عن تشخيص حالته، لذا تم تحويله إلى قسم أمراض الدم في مستشفى مدينة الطب بالعاصمة بغداد، وعلى الرغم من ذلك لم تظهر أغلب التحليلات التي أجريت له نوع المرض الذي يعاني منه.
“توفي هناك في مدينة الطب” يقول شقيقه علي لـ”جمّار”.
بعد يوم من رحيله، اتصلت إدارة المستشفى بعائلته لتبلغه بأن تحليلاً واحداً فقط أظهر إصابته بالحمى النزفية.
ولم ينفِ مدير دائرة صحة ديالى عدم القدرة على كشف إصابة عمر بالحمى النزفية، قائلاً إن الإصابة كانت غامضة وأن ليس بمقدور المؤسسات الطبية في المحافظة الكشف عن إصابات الحمى النزفية، ما يستدعي إرسال الحالات المشتبه بها إلى بغداد.
عمر ليس الوحيد الذي أنهت الحُمّى النزفية حياته من دون سابق إنذار، فأعداد الإصابات شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة بعد عدم تسجيل العراق سوى إصابة واحدة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، لتبقى الأرقام قليلة ونادرة حتى العام 2018، حين بدأ ناقوس الخطر يدق معلناً تسجيل العشرات من الوفيات والإصابات سنوياً، من دون قدرة الحكومة والمؤسسات الصحية على اتخاذ رد فعل لإيقاف استشراء المرض.
في النصف الأول من العام الحالي فقط، وصلت أعداد الوفيات إلى 35، بينما بلغ عدد الإصابات 225، وارتفعت نسبة الوفاة بالمرض إلى 40 بالمئة، وفقاً لمركز السيطرة على الأمراض الانتقالية في وزارة الصحة.
القراد اللادغ
ينتقل المرض عبر حشرة القراد التي تعيش متطفلة على الماشية وفي أماكن تربيتها.
ويلتقط الإنسان المرض عندما تلدغه الحشرة مباشرة أو عندما يلامس حيواناً ملدوغاً من دون ارتداء ملابس واقية من الإصابة، بحسب سنان غازي مديرة مركز السيطرة على الأمراض الانتقالية.
وكذلك ينتقل المرض عند التعامل مع سوائل الحيوان المصاب خلال الذبح والتعامل مع سوائل الإنسان المصاب.
ويجري تسجيل أكثر الإصابات في وسط وجنوب العراق، ولاسيما في محافظة ذي قار.
ويُعزى السبب في انتشار المرض إلى التغيرات البيئية التي تؤدي إلى ظهور حشرة القراد في غير أوقاتها المتعارف عليها في حزيران وتموز، فخلال السنتين الماضيتين كانت الحشرة تظهر حتى في كانون الثاني وشباط اللذين شهدا تسجيل إصابات.
ومن الأسباب التي تساهم أيضاً في انتشار الحمى النزفية، بحسب غازي، هي الهجرة من الريف إلى المدينة، فالفلاح يهاجر مع حيواناته ويعيش معها في المدينة، وبالتالي تصبح المدينة مكاناً آخر لظهور الإصابات.
ولا تظهر الإصابة بهذا المرض على الحيوانات، ما يجعل الحذر واجباً إزاء جميع المواشي لأن كل واحدة فيها من الممكن أن تكون مصابة.
معضلة الذبح العشوائي
عند مدخل بغداد تنتشر بسطات لبيع اللحوم من قبل جزّارين يذبحون الماشية بشكل مباشر ثم يبيعونها من دون رقابة.
ولا تقتصر ظاهرة الذبح العشوائي على مداخل وأطراف العاصمة، بل توجد في أغلب مناطقها، وبالأخص العشوائية منها، ويلجأ الناس لها لأسعارها المنخفضة مقارنة بأسعار محال بيع اللحوم المجازة.
ويقول علي حليم الطاهر، العضو السابق في الفريق الإعلامي لوزارة الصحة، إن هناك انتشاراً واضحاً للحمى النزفية في عدد من المحافظات العراقية، الأمر الذي يدعو إلى القلق لأن هذا المرض قاتل ويُدرج ضمن الأمراض الفتاكة في لوائح الصحة العالمية.
ويرى الطاهر أن أسباب المرض الرئيسة ترتبط بالذبح العشوائي المنتشر في شوارع المدن، والتقلّبات المناخية مع قلة مكافحة الحشرات من قبل وزارة الصحة.
ويوصي الطاهر بطبخ اللحوم جيداً مع استعمال القفازات عند لمسها والإسراع في معالجة أيّ جرح على الجلد.
وفي ظل هذا الانتشار، فإن وزارة الصحة والجهات المعنية الأخرى مطالبة بتنظيم إجراءات ذبح المواشي مع استخدام الطرق الوقائية المعروفة للحد من المرض، بحسب حليم.
“لا يوجد علاج فعّال ضد هذا المرض، وبالتالي ليس هناك حلول سوى الاهتمام بالوقاية لتلافي انتشاره وتحوله إلى وباء قد يصيب العراق” يقول حليم لـ”جمّار”.
وتفيد دائرة البيطرة في وزارة الزراعة بأن 40 بالمئة من الإصابات بالحمى النزفية مصدرها الذبح العشوائي، مشيرة إلى حاجة البلاد لـ300 مجزرة نظامية منها 34 في بغداد.
ولا توجد في العاصمة سوى ثماني مجازر نظامية أغلبها خارج الخدمة.
غياب المكافحة
يحمّل الطبيب البيطري ثامر الربيعي، وهو خبير في شؤون الوبائيات، الأجهزة الحكومية المتخصصة مسؤولية انتشار المرض كونها المسؤولة عن مكافحة حشرة القراد بشكل فاعل في مراحلها المبكرة خلال فصل الربيع.
كما ينتقد الربيعي عدم وجود رقابة حقيقية لأعمال الذبح خارج المجازر الرسمية أو حتى عقوبات رادعة بحق من يذبحون الماشية وسط الأحياء السكنية.
وينبه الطبيب إلى أن المرض خطير واحتمالية الوفاة فيه عالية جداً، إذا ما وصل المريض إلى مرحلة النزف من فتحات جسمه، كما أن عدم وجود لقاح أو علاج له حتى الآن، يزيد من خطورته، ما يستوجب مراجعة الطبيب مبكراً عند الشعور بالأعراض.
وكذلك يحمّل حازم البدري، عضو نقابة البيطريين العراقيين، وزارتي الصحة والزراعة مسؤولية عدم التخلص من المرض، بسبب إهمالهما الإجراءات الوقائية في عموم المحافظات.
“الجزر العشوائي، وساحات بيع المواشي، ووجود حظائر لتربيتها داخل المدن من دون أن تكون هناك أي ملاحقات قانونية لهؤلاء. لا يمكن أن يستمر هذا الإهمال لهذا الملف، والذي يدفع باتجاه استمرار تسجيل الإصابات وزيادتها” يقول البدري لـ”جمّار”.
الظهور الأول
يعد العراق من بين بلدان شرق المتوسط التي تتوطنها حمى القرم-الكونغو النزفية. وتم التبليغ للمرة الأولى عن هذه الحمى في البلاد عام 1979، عندما تم تشخيص إصابة عشرة أشخاص بالمرض لأول مرة.
ومنذ ذلك الحين، أُبلغ عن ست حالات في الفترة من عام 1989 إلى عام 2009؛ و11 حالة في عام 2010؛ كما أُبلغ عن ثلاث حالات مميتة في عام 2018؛ وفي الآونة الأخيرة، أُبلغ عن 33 حالة مؤكدة، بما فيها 13 حالة وفاة (بمعدل إماتة نسبته 39 بالمئة) في عام 2021.
وتعد تربية الأغنام والماشية شائعة جداً في العراق، وقد أظهرت بعض الدراسات أن هذه الحيوانات موبوءة بانتظام بمختلف أنواع القُراد، ولاسيما أنواع القراد الزجاجي العين (هيالوما)، وهو الناقل الرئيس للحمى النزفية.
وتُعالج حالات الإصابة البشرية عن طريق الرعاية الداعمة العامة بشكل أساس، وقد استُخدم دواء ريبافيرين المضاد للفيروسات، بالتركيبات التي تؤخذ عن طريق الفم والحقن الوريدي على السواء، في علاج حالات العدوى بالحمى النزفية.
ومع ذلك، لم تُثبت أي من البيانات المستمدة من التجارب المنضبطة فعالية ريبافيرين في علاج الحمى النزفية، ولا يوجد حالياً أي لقاح متاح سواء للبشر أو للحيوانات.
حذار من القادم
تحاول الجهات الصحية في العراق دائماً التقليل من مخاطر انتشار الحمى النزفية وتأكيد قدرتها على السيطرة عليها.
ولا يبدو الواقع كذلك.
يتحدث أسعد العيداني محافظ البصرة في تسريب صوتي حصل “جمّار” عليه مع أحد القادة الأمنيين في المحافظة، عن تحذير منظمة الصحة العالمية من انتشار “مخيف” للحمى النزفية في المحافظات الجنوبية، وذلك بعد انتهاء اجتماع بين المحافظ وممثلي المنظمة في العراق.
ويحذر العيداني في التسريب ذاته من أن العام المقبل سيكون أشد من العام الحالي من ناحية عدد الإصابات، فيما يطالب باتخاذ إجراءات مشددة لمنع دخول اللحوم والمواشي من محافظتي ميسان وذي قار المجاورتين للبصرة لتفشي المرض فيهما.
وشهد أكثر من 12 بلداً في الشرق الأوسط مؤخراً انتشاراً كبيراً للحمى الصفراء وحمى الوادي المتصدع وحمى الضنك الوخيمة وحمى القرم-الكونغو النزفية، بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية.
ولخصت المنظمة كيفية انتقال هذه الفيروسات بالتلامس المباشر مع المرضى الذين تظهر عليهم الأعراض، وعدم كفاية مكافحة العدوى في المستشفيات، وممارسات الذبح العشوائية، واستهلاك اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة أو الحليب غير المبستر، والتلامس المباشر مع القوارض أو استنشاق مواد ملوثة بفضلات القوارض أو ملامستها، ولدغات البعوض أو القراد.
وباء بعد التوطن
يعتقد جواد الديوان، أستاذ علم الأوبئة في جامعة بغداد، أن الحمى النزفية توطنت في العراق، وما يحصل اليوم هو وباء الحمى النزفية، مستدركاً “لكن النظام الصحي في البلاد قادر على مواجهة هذا التحدي، خصوصاً وأن الجهات المعنية تمتلك الأدوات التي تصارع هكذا نوع من الفيروسات”.
ويحمّل الديوان، المواطنين مسؤولية انتشار الفيروس، كونهم “أصبحوا يرعون الحيوانات بشكل كبير في الأحياء السكنية من دون رقابة، الأمر الذي ساعد على تفشي الوباء بهذا الشكل”، على حد تعبيره.
“الوقاية من الحمى النزفية يعتمد على وعي المجتمع وتجاوز عادات الذبح العشوائي، وتطبيق الأنظمة والتعليمات بخصوص تربية الحيوانات والجزر خارج المجازر وغيرها”، يقول لـ”جمّار”.
وينتقل المرض من الإنسان المصاب إلى السليم بطرق متعددة، منها عند التقرب من المريض بلا ملابس واقية، كما هو الحال خلال جائحة كورونا.
كما ينتقل عن طريق سوائل المريض (اللعاب والبول والبراز والدم) وكذلك عن طريق ملامسة المصاب.
كورونا لها دور
يعزو ثامر حبيب مدير عام دائرة البيطرة في وزارة الزراعة، أسباب زيادة الإصابات خلال العامين الماضيين إلى ارتفاع نسبة التصحر وعدم استخدام المبيدات خلال جائحة كورونا.
يقول حبيب إن تاريخ الحمى النزفية في العراق يعود إلى عام 1979، ومنذ ذلك الحين تقوم دوائر البيطرة برش وتعقيم الأماكن التي يوجد فيها القراد الناقل للمرض، ولكن منذ جائحة كورونا توقفت هذه الإجراءات لمدة عام ونصف عام، ما أدى إلى ازدياد أعداد القراد بشكل كبير، فضلاً عن أن زيادة نسبة التصحر وقلة الأمطار كان لهما دور في انتشار القراد، إضافة إلى قلة الوعي الصحي للمصابين وعدم مراجعة المراكز الصحية والإصرار على شراء اللحوم من المجازر العشوائية.
ويحث على مراجعة المراكز الصحية عند الشعور بالأعراض المتمثلة في ارتفاع درجة الحرارة وآلام المفاصل والقيء لمعالجة المرض قبل استفحاله.
“لدينا 293 فرقة جوالة تضم أطباء ومنتسبين تتولى عملية الرش والتعقيم للأماكن التي تضم حظائر الحيوانات، وفرقنا تصل إلى أية بقعة في البلاد لضرب طوق حول الموقع الذي يُرصد فيه المرض” يضيف حبيب لـ”جمّار”.
ويبين أيضاً أنه لا توجد مجازر رسمية كافية، فعددها 48 مجزرة في عموم العراق، بينما من المفترض أن تكون 200 مجزرة.
“لم تُبنَ مجزرة واحدة مجهزة منذ 30 عاماً، أما الموجودة فلا تضم أجهزة حديثة”.
فيروس مجهول
يورد موقع “مايو كلينك” الطبي أن الحمى النزفية هي تسمية تشمل أنواعاً عدة من الإصابات الفيروسية المعدية التي يمكن أن تهدد الحياة.
ويضرب المرض جدران الأوعية الدموية الصغيرة، ما يتسبب في تلفها وجعل الشخص المصاب ينزف، ويمكن أن يعيق قدرة الدم على التجلط.
وعادة لا يكون النزيف الداخلي الذي ينتج عن هذه الحالة مهدداً للحياة، لكن الأمراض نفسها التي تسبب الحمى النزفية يمكن أن تعرض حياة المصاب للخطر.
يقول الموقع إن بعض أنواع الحمى النزفية الفيروسية تتضمن حمى الضنك، وحمى الإيبولا، وحمى لاسا، وحمى ماربورغ، والحمى الصفراء.
ويضيف أن هذه الأمراض تنتشر غالباً في المناطق الاستوائية، كما أنه لا يوجد علاج لأنواع الحمى النزفية الفيروسية، ولكن توجد لقاحات لعدد قليل منها.
ومن غير المعروف أي فيروس يسبب هذه الإصابات في العراق، إذ أن الحمى النزفية قد تنتج عن الإصابة بواحد من فيروسات عدة.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية، ترتبط الحميات النزفية الفيروسية الأساسية، في إقليم شرق المتوسط، بالحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وحمى الضنك، وحمى القرم-الكونغو النزفية، ومرض فيروس الإيبولا.
وتحذر المنظمة من أن الحمى النزفية الفيروسية قد تؤدي إلى حدوث أوبئة كبرى ذات معدلات وفيات مرتفعة بسبب عدم وجود تدابير طبية مضادة محددة مثل اللقاحات أو مضادات الفيروسات، باستثناء الحمى الصفراء.
كما أن غياب التشخيص المختبري في الوقت المناسب والممارسات غير الملائمة لمكافحة العدوى في مرافق الرعاية الصحية، وضعف برامج مكافحة نواقل المرض، يمكن أن يؤدي أيضاً إلى إطالة أمد فاشيات الحمى النزفية، وفقا للمنظمة.
وشهد إقليم شرق المتوسط، بحسب المنظمة، فاشيات كبرى وحالات متقطعة من الحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وحمى الضنك الوخيمة، وحمى القرم-الكونغو النزفية، في أكثر من 12 بلداً.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
داخل مجلس عزاء في محافظة ديالى، يجلس ذوو الشاب عمر العزاوي والحزن يملأ قلوبهم على رحيله.
لم يكن عمر يعاني من أي مرض، وكان يعمل منتسباً أمنياً في محافظة الأنبار غربي العراق.
لم يشعر سوى بارتفاع بسيط في درجات الحرارة قبل التحاقه بالعمل، ليعود بعد ذلك بثلاثة أيام ووضعه الصحي سيئ جداً.
عجزت الكوادر الصحية في المشفى القريب منهم عن تشخيص حالته، لذا تم تحويله إلى قسم أمراض الدم في مستشفى مدينة الطب بالعاصمة بغداد، وعلى الرغم من ذلك لم تظهر أغلب التحليلات التي أجريت له نوع المرض الذي يعاني منه.
“توفي هناك في مدينة الطب” يقول شقيقه علي لـ”جمّار”.
بعد يوم من رحيله، اتصلت إدارة المستشفى بعائلته لتبلغه بأن تحليلاً واحداً فقط أظهر إصابته بالحمى النزفية.
ولم ينفِ مدير دائرة صحة ديالى عدم القدرة على كشف إصابة عمر بالحمى النزفية، قائلاً إن الإصابة كانت غامضة وأن ليس بمقدور المؤسسات الطبية في المحافظة الكشف عن إصابات الحمى النزفية، ما يستدعي إرسال الحالات المشتبه بها إلى بغداد.
عمر ليس الوحيد الذي أنهت الحُمّى النزفية حياته من دون سابق إنذار، فأعداد الإصابات شهدت ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة بعد عدم تسجيل العراق سوى إصابة واحدة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، لتبقى الأرقام قليلة ونادرة حتى العام 2018، حين بدأ ناقوس الخطر يدق معلناً تسجيل العشرات من الوفيات والإصابات سنوياً، من دون قدرة الحكومة والمؤسسات الصحية على اتخاذ رد فعل لإيقاف استشراء المرض.
في النصف الأول من العام الحالي فقط، وصلت أعداد الوفيات إلى 35، بينما بلغ عدد الإصابات 225، وارتفعت نسبة الوفاة بالمرض إلى 40 بالمئة، وفقاً لمركز السيطرة على الأمراض الانتقالية في وزارة الصحة.
القراد اللادغ
ينتقل المرض عبر حشرة القراد التي تعيش متطفلة على الماشية وفي أماكن تربيتها.
ويلتقط الإنسان المرض عندما تلدغه الحشرة مباشرة أو عندما يلامس حيواناً ملدوغاً من دون ارتداء ملابس واقية من الإصابة، بحسب سنان غازي مديرة مركز السيطرة على الأمراض الانتقالية.
وكذلك ينتقل المرض عند التعامل مع سوائل الحيوان المصاب خلال الذبح والتعامل مع سوائل الإنسان المصاب.
ويجري تسجيل أكثر الإصابات في وسط وجنوب العراق، ولاسيما في محافظة ذي قار.
ويُعزى السبب في انتشار المرض إلى التغيرات البيئية التي تؤدي إلى ظهور حشرة القراد في غير أوقاتها المتعارف عليها في حزيران وتموز، فخلال السنتين الماضيتين كانت الحشرة تظهر حتى في كانون الثاني وشباط اللذين شهدا تسجيل إصابات.
ومن الأسباب التي تساهم أيضاً في انتشار الحمى النزفية، بحسب غازي، هي الهجرة من الريف إلى المدينة، فالفلاح يهاجر مع حيواناته ويعيش معها في المدينة، وبالتالي تصبح المدينة مكاناً آخر لظهور الإصابات.
ولا تظهر الإصابة بهذا المرض على الحيوانات، ما يجعل الحذر واجباً إزاء جميع المواشي لأن كل واحدة فيها من الممكن أن تكون مصابة.
معضلة الذبح العشوائي
عند مدخل بغداد تنتشر بسطات لبيع اللحوم من قبل جزّارين يذبحون الماشية بشكل مباشر ثم يبيعونها من دون رقابة.
ولا تقتصر ظاهرة الذبح العشوائي على مداخل وأطراف العاصمة، بل توجد في أغلب مناطقها، وبالأخص العشوائية منها، ويلجأ الناس لها لأسعارها المنخفضة مقارنة بأسعار محال بيع اللحوم المجازة.
ويقول علي حليم الطاهر، العضو السابق في الفريق الإعلامي لوزارة الصحة، إن هناك انتشاراً واضحاً للحمى النزفية في عدد من المحافظات العراقية، الأمر الذي يدعو إلى القلق لأن هذا المرض قاتل ويُدرج ضمن الأمراض الفتاكة في لوائح الصحة العالمية.
ويرى الطاهر أن أسباب المرض الرئيسة ترتبط بالذبح العشوائي المنتشر في شوارع المدن، والتقلّبات المناخية مع قلة مكافحة الحشرات من قبل وزارة الصحة.
ويوصي الطاهر بطبخ اللحوم جيداً مع استعمال القفازات عند لمسها والإسراع في معالجة أيّ جرح على الجلد.
وفي ظل هذا الانتشار، فإن وزارة الصحة والجهات المعنية الأخرى مطالبة بتنظيم إجراءات ذبح المواشي مع استخدام الطرق الوقائية المعروفة للحد من المرض، بحسب حليم.
“لا يوجد علاج فعّال ضد هذا المرض، وبالتالي ليس هناك حلول سوى الاهتمام بالوقاية لتلافي انتشاره وتحوله إلى وباء قد يصيب العراق” يقول حليم لـ”جمّار”.
وتفيد دائرة البيطرة في وزارة الزراعة بأن 40 بالمئة من الإصابات بالحمى النزفية مصدرها الذبح العشوائي، مشيرة إلى حاجة البلاد لـ300 مجزرة نظامية منها 34 في بغداد.
ولا توجد في العاصمة سوى ثماني مجازر نظامية أغلبها خارج الخدمة.
غياب المكافحة
يحمّل الطبيب البيطري ثامر الربيعي، وهو خبير في شؤون الوبائيات، الأجهزة الحكومية المتخصصة مسؤولية انتشار المرض كونها المسؤولة عن مكافحة حشرة القراد بشكل فاعل في مراحلها المبكرة خلال فصل الربيع.
كما ينتقد الربيعي عدم وجود رقابة حقيقية لأعمال الذبح خارج المجازر الرسمية أو حتى عقوبات رادعة بحق من يذبحون الماشية وسط الأحياء السكنية.
وينبه الطبيب إلى أن المرض خطير واحتمالية الوفاة فيه عالية جداً، إذا ما وصل المريض إلى مرحلة النزف من فتحات جسمه، كما أن عدم وجود لقاح أو علاج له حتى الآن، يزيد من خطورته، ما يستوجب مراجعة الطبيب مبكراً عند الشعور بالأعراض.
وكذلك يحمّل حازم البدري، عضو نقابة البيطريين العراقيين، وزارتي الصحة والزراعة مسؤولية عدم التخلص من المرض، بسبب إهمالهما الإجراءات الوقائية في عموم المحافظات.
“الجزر العشوائي، وساحات بيع المواشي، ووجود حظائر لتربيتها داخل المدن من دون أن تكون هناك أي ملاحقات قانونية لهؤلاء. لا يمكن أن يستمر هذا الإهمال لهذا الملف، والذي يدفع باتجاه استمرار تسجيل الإصابات وزيادتها” يقول البدري لـ”جمّار”.
الظهور الأول
يعد العراق من بين بلدان شرق المتوسط التي تتوطنها حمى القرم-الكونغو النزفية. وتم التبليغ للمرة الأولى عن هذه الحمى في البلاد عام 1979، عندما تم تشخيص إصابة عشرة أشخاص بالمرض لأول مرة.
ومنذ ذلك الحين، أُبلغ عن ست حالات في الفترة من عام 1989 إلى عام 2009؛ و11 حالة في عام 2010؛ كما أُبلغ عن ثلاث حالات مميتة في عام 2018؛ وفي الآونة الأخيرة، أُبلغ عن 33 حالة مؤكدة، بما فيها 13 حالة وفاة (بمعدل إماتة نسبته 39 بالمئة) في عام 2021.
وتعد تربية الأغنام والماشية شائعة جداً في العراق، وقد أظهرت بعض الدراسات أن هذه الحيوانات موبوءة بانتظام بمختلف أنواع القُراد، ولاسيما أنواع القراد الزجاجي العين (هيالوما)، وهو الناقل الرئيس للحمى النزفية.
وتُعالج حالات الإصابة البشرية عن طريق الرعاية الداعمة العامة بشكل أساس، وقد استُخدم دواء ريبافيرين المضاد للفيروسات، بالتركيبات التي تؤخذ عن طريق الفم والحقن الوريدي على السواء، في علاج حالات العدوى بالحمى النزفية.
ومع ذلك، لم تُثبت أي من البيانات المستمدة من التجارب المنضبطة فعالية ريبافيرين في علاج الحمى النزفية، ولا يوجد حالياً أي لقاح متاح سواء للبشر أو للحيوانات.
حذار من القادم
تحاول الجهات الصحية في العراق دائماً التقليل من مخاطر انتشار الحمى النزفية وتأكيد قدرتها على السيطرة عليها.
ولا يبدو الواقع كذلك.
يتحدث أسعد العيداني محافظ البصرة في تسريب صوتي حصل “جمّار” عليه مع أحد القادة الأمنيين في المحافظة، عن تحذير منظمة الصحة العالمية من انتشار “مخيف” للحمى النزفية في المحافظات الجنوبية، وذلك بعد انتهاء اجتماع بين المحافظ وممثلي المنظمة في العراق.
ويحذر العيداني في التسريب ذاته من أن العام المقبل سيكون أشد من العام الحالي من ناحية عدد الإصابات، فيما يطالب باتخاذ إجراءات مشددة لمنع دخول اللحوم والمواشي من محافظتي ميسان وذي قار المجاورتين للبصرة لتفشي المرض فيهما.
وشهد أكثر من 12 بلداً في الشرق الأوسط مؤخراً انتشاراً كبيراً للحمى الصفراء وحمى الوادي المتصدع وحمى الضنك الوخيمة وحمى القرم-الكونغو النزفية، بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية.
ولخصت المنظمة كيفية انتقال هذه الفيروسات بالتلامس المباشر مع المرضى الذين تظهر عليهم الأعراض، وعدم كفاية مكافحة العدوى في المستشفيات، وممارسات الذبح العشوائية، واستهلاك اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة أو الحليب غير المبستر، والتلامس المباشر مع القوارض أو استنشاق مواد ملوثة بفضلات القوارض أو ملامستها، ولدغات البعوض أو القراد.
وباء بعد التوطن
يعتقد جواد الديوان، أستاذ علم الأوبئة في جامعة بغداد، أن الحمى النزفية توطنت في العراق، وما يحصل اليوم هو وباء الحمى النزفية، مستدركاً “لكن النظام الصحي في البلاد قادر على مواجهة هذا التحدي، خصوصاً وأن الجهات المعنية تمتلك الأدوات التي تصارع هكذا نوع من الفيروسات”.
ويحمّل الديوان، المواطنين مسؤولية انتشار الفيروس، كونهم “أصبحوا يرعون الحيوانات بشكل كبير في الأحياء السكنية من دون رقابة، الأمر الذي ساعد على تفشي الوباء بهذا الشكل”، على حد تعبيره.
“الوقاية من الحمى النزفية يعتمد على وعي المجتمع وتجاوز عادات الذبح العشوائي، وتطبيق الأنظمة والتعليمات بخصوص تربية الحيوانات والجزر خارج المجازر وغيرها”، يقول لـ”جمّار”.
وينتقل المرض من الإنسان المصاب إلى السليم بطرق متعددة، منها عند التقرب من المريض بلا ملابس واقية، كما هو الحال خلال جائحة كورونا.
كما ينتقل عن طريق سوائل المريض (اللعاب والبول والبراز والدم) وكذلك عن طريق ملامسة المصاب.
كورونا لها دور
يعزو ثامر حبيب مدير عام دائرة البيطرة في وزارة الزراعة، أسباب زيادة الإصابات خلال العامين الماضيين إلى ارتفاع نسبة التصحر وعدم استخدام المبيدات خلال جائحة كورونا.
يقول حبيب إن تاريخ الحمى النزفية في العراق يعود إلى عام 1979، ومنذ ذلك الحين تقوم دوائر البيطرة برش وتعقيم الأماكن التي يوجد فيها القراد الناقل للمرض، ولكن منذ جائحة كورونا توقفت هذه الإجراءات لمدة عام ونصف عام، ما أدى إلى ازدياد أعداد القراد بشكل كبير، فضلاً عن أن زيادة نسبة التصحر وقلة الأمطار كان لهما دور في انتشار القراد، إضافة إلى قلة الوعي الصحي للمصابين وعدم مراجعة المراكز الصحية والإصرار على شراء اللحوم من المجازر العشوائية.
ويحث على مراجعة المراكز الصحية عند الشعور بالأعراض المتمثلة في ارتفاع درجة الحرارة وآلام المفاصل والقيء لمعالجة المرض قبل استفحاله.
“لدينا 293 فرقة جوالة تضم أطباء ومنتسبين تتولى عملية الرش والتعقيم للأماكن التي تضم حظائر الحيوانات، وفرقنا تصل إلى أية بقعة في البلاد لضرب طوق حول الموقع الذي يُرصد فيه المرض” يضيف حبيب لـ”جمّار”.
ويبين أيضاً أنه لا توجد مجازر رسمية كافية، فعددها 48 مجزرة في عموم العراق، بينما من المفترض أن تكون 200 مجزرة.
“لم تُبنَ مجزرة واحدة مجهزة منذ 30 عاماً، أما الموجودة فلا تضم أجهزة حديثة”.
فيروس مجهول
يورد موقع “مايو كلينك” الطبي أن الحمى النزفية هي تسمية تشمل أنواعاً عدة من الإصابات الفيروسية المعدية التي يمكن أن تهدد الحياة.
ويضرب المرض جدران الأوعية الدموية الصغيرة، ما يتسبب في تلفها وجعل الشخص المصاب ينزف، ويمكن أن يعيق قدرة الدم على التجلط.
وعادة لا يكون النزيف الداخلي الذي ينتج عن هذه الحالة مهدداً للحياة، لكن الأمراض نفسها التي تسبب الحمى النزفية يمكن أن تعرض حياة المصاب للخطر.
يقول الموقع إن بعض أنواع الحمى النزفية الفيروسية تتضمن حمى الضنك، وحمى الإيبولا، وحمى لاسا، وحمى ماربورغ، والحمى الصفراء.
ويضيف أن هذه الأمراض تنتشر غالباً في المناطق الاستوائية، كما أنه لا يوجد علاج لأنواع الحمى النزفية الفيروسية، ولكن توجد لقاحات لعدد قليل منها.
ومن غير المعروف أي فيروس يسبب هذه الإصابات في العراق، إذ أن الحمى النزفية قد تنتج عن الإصابة بواحد من فيروسات عدة.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية، ترتبط الحميات النزفية الفيروسية الأساسية، في إقليم شرق المتوسط، بالحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وحمى الضنك، وحمى القرم-الكونغو النزفية، ومرض فيروس الإيبولا.
وتحذر المنظمة من أن الحمى النزفية الفيروسية قد تؤدي إلى حدوث أوبئة كبرى ذات معدلات وفيات مرتفعة بسبب عدم وجود تدابير طبية مضادة محددة مثل اللقاحات أو مضادات الفيروسات، باستثناء الحمى الصفراء.
كما أن غياب التشخيص المختبري في الوقت المناسب والممارسات غير الملائمة لمكافحة العدوى في مرافق الرعاية الصحية، وضعف برامج مكافحة نواقل المرض، يمكن أن يؤدي أيضاً إلى إطالة أمد فاشيات الحمى النزفية، وفقا للمنظمة.
وشهد إقليم شرق المتوسط، بحسب المنظمة، فاشيات كبرى وحالات متقطعة من الحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وحمى الضنك الوخيمة، وحمى القرم-الكونغو النزفية، في أكثر من 12 بلداً.