"السّلطة تعلم".. عن دائرة الموت العراقية المُحكَمة
30 أيلول 2023
يُترك العراقيُّ ليموت، وعندما يُصارع للنجاة لا يجد يداً تنقذه، وإذا ما أُنقذ فإن علاجه يبدو أمراً شبه مستحيل.. فاجعة الحمدانية ومسؤولية السلطة عنها.. عن دائرة الموت العراقية المُحكمَة.
تفاعلت المؤسسات الحكومية العراقيّة مع حريق قاعة الأعراس في الموصل وكأنه مفاجأة غير ممكنة الحدوث، وسرعان ما ألحقتها بتوجيهات للحصول على إجابات لأسئلة، تتكدّس إجاباتها، بالأساس، في أدراج طارحيها، التنفيذيين والتشريعيين: الدفاع المدني، وزارة الداخلية، جميع الوزارات، ورئيس مجلس الوزراء.
يعلم المسؤولون، تمامَ العلم، أن أجساداً بشرية ستنصهر بينما يحاول أصحابها استراق ساعة فرح في حفل زفاف، يعلمون ومؤسساتهم أن حريقاً سيلتهم عشرات بينما يحاولون النجاة من مرض، يدركون ووثائقهم، أن جمعاً من الناس، على ظهر عبّارة ما بلحظة ما فوق نهرٍ ما، سيغرقون.
كان المسؤولون يعرفون، ولا تنقصهم اليوم أيّ معرفة. أما القرارات والتوجيهات التي تصدر من محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، بإجراء الفحص الميداني لجميع المباني كالمطاعم والمقاهي والفنادق والمدارس وغيرها، فهي تهدف إلى التملّص من المسؤولية.
أما المؤسسات التي تقول إنها بدأت، فوراً، بتنفيذ التوجيهات، فهي تشارك في مسرحية غايتها إيهام الجميع بأن فاجعة أسقطتها السماء علينا، وعلينا محاولة فعل شيء لعدم تكرار حدوثها.
ما الذي تعرفه السلطة؟
تعرف السلطات بمؤسساتها ومسؤوليها، بأن أبنية ستنهار أو تحترق بسرعة هائلة، وأن بشراً سيموتون تفحّماً أو تحت أنقاض، تعرف أيضاً أنهم لن يجدوا من يسعفهم في الوقت المناسب وأن لا مستشفيات ستعالجهم إن أصيبوا..
الجميع يعلم بالضبط أي الأبنية، الأهلية والحكومية، معرّضة للخطر، وإلى أيّ حدّ تشكّل خطورة على الأفراد التي تأهلها أو تستخدمها.
فالدفاع المدني، وفق العميد حسن إبراهيم، معاون مدير المديرية، يُجري كشفاً على جميع المشاريع الخاصة مرتين في العام، ومرة على المباني الحكومية بشكل أولي لمعرفة متطلبات الوقاية والسلامة.
تتحول الكشوفات إلى تقرير سنوي يوقّع من وزارة الداخلية ويُعمم على جميع الوزارات لتحديد المشاريع والأبنية المخالفة لشروط الوقاية والسلامة العامة واتخاذ ما يلزم.
في العراق، هناك نحو 7 آلاف مشروع مخالف لشروط السلامة، بينها مطاعم ومدارس وشركات ومتاجر ومستشفيات… أحصاها جميعاً الدفاعُ المدني، ووضعها في تقرير يطلع عليه كلٌ من وزير الداخلية ورئيس الوزراء والوزراء.
وبالتفصيل، كان المسؤولون التنفيذيون، جميعهم، يعرفون:
وفق اللواء كاظم بوهان، مدير عام الدفاع المدني السابق، فإن 95 بالمئة من مؤسسات الدولة، المتهالكة والبشعة، تفتقر لمراكز دفاع مدني تحتوي على معدات إنقاذ، ما يُمكن أن يعرِّض موظفيها ومراجعيها للموت انصهاراً.
ويؤشر التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية لعام 2022، أن 70 بالمئة من المستشفيات أجرت أعمالَ توسعة وتطوير لا تراعي متطلبات السلامة، أي أنها يمكن أن تواجه مصير مستشفى ابن الخطيب ببغداد ومستشفى الحسين في الناصرية.
وبحسب التقرير نفسه، فإن عدداً من كليات الجامعة المستنصرية وبعض أقسام الطلاب الداخلية، مُعرّضة لأن تقع فيها حوادث مميتة لاستخدامها موادَّ سريعة الاشتعال في البناء والديكور، أي أن النيران يمكن أن تلتهم قاعات دراسية وغرف نوم للطلبة، بسرعة تشابه تلك التي فحّمت صالة عرس الحمدانية، بمن فيها، وحولتها إلى رماد.
ماذا يفعلون بهذه المعرفة؟
بحكم القانون، فإن تقارير الرقابة المالية، شديدة الأهميّة، تعمّم على مكتب رئيس الوزراء والمؤسسات ذات الصلة، لكن محتواها الخطير لم يدفع إلى أي خطوات عملية احترازية لاحتواء الأضرار أو منعها أو حتى التحذير منها.
بدلاً من ذلك، تنشغل السلطة، برؤوسها الكثيرة، في أمور أخرى تأتي، بطبيعة الحال، على حساب “الأمن المجتمعي” الذي يتسابقون على ادّعاء الدفاع عنه. فانهمك القضاء والداخلية بشن حملات كالتي أطلقوا عليها “المحتوى الهابط”، وكمّموا بها بعض الأفواه، وأرعبوا أخرى.
انشغلت الحكومة والبرلمان أيضاً بشن حروب على فئات مجتمعية مثل النساء و”الكويريين”، وأخذت توجه الضربة تلو الأخرى لهم، معرّضة حياتهم للخطر والموت.
شاع الموت في أماكن عديدة وداخل دائرة مُحكمة سُجن فيها العراقي.. حيث الصدفة وحدها يمكنها أن تخرجه منها.
بمواجهة كل مخاطر الأبنية الأهلية والحكومية المهدّدة بالانهيارات والحرائق، يمتلك العراق فرق إنقاذ بحاجة لإنقاذ، مؤسسة دفاع مدني مُنهكة نتيجة كثرة العمل وقلّة الكوادر وضعف التمويل والتدريب وتخلّف المعدات.
وليس ذلك بخفيٍِّ على السلطة نفسها.
“هذا لا يُمكن أن يستمر”، قال كاظم بوهان مدير الدفاع المدني السابق في تشرين الأوّل عام 2022، وكانت مديريته تواجه ارتفاعاً يومياً في أعداد الحرائق، الكبير منها والصغير. شكا حينها من أن أَقلّ رجال الإطفاء عمراً يبلغ 42 عاماً وثلثي كادره تجاوزوا سنّ 50 عاماً؛ ومنذ عام 2007 لم تُوَظَّف في المديرية كوادر جديدة.
الكل كان يعلم بإمكانية حصول حوادث مميتة ولم يردعها، ولم يسعَ حتّى إلى التقليل من ضررها على الناس، من خلال تدعيم الدفاع المدني والمؤسسات المعنية بالإنقاذ والإسعاف.
أعضاء البرلمان الذين يُحلّلون أسباب الحرائق في البرامج السياسيّة التلفزيونية، كانوا يعلمون بأن قانوناً مُحدثاً للسلامة والدفاع المدني يُمكنه أن يحدّ، ولو قليلاً، من الحوادث.
تبلغ أقصى غرامة لمخالفة قواعد السلامة نحو مليون دينار عراقي، بحسب الدفاع المدني، ما يعادل نحو 665 دولاراً وحتى هذه التي لا تساوي شيئاً لبعض المشاريع الاستثمارية الضخمة، تزول برشوة.
منظومة الصدمة من القضاء والقدر
كان الإطار التنسيقي قد سوّق السوداني في بداية طريق ترشيحه لرئاسة الحكومة على أنه “ابن هذي الناس وهذا المجتمع”. “يعرف شيريدون”، كما قال نائب مرّة في حوار تلفزيوني، لكن ما يعرفه لم يستفد أحد منه. وفعلاً كان الرجل، عندما يخرج على شاشات التلفزيون، عارفاً بما يحدث ومشخصاً للمشكلات والعلل.
إلا أنه عندما يواجهها اليوم، يتصرّف وكأنه يسمع عنها لأوّل مرّة. كان أكثر من يُفاجِئ عندما يُفاجَأ، وككل سابقيه، يتحرّك بسرعة لتشكيل لجان أو إصدار أوامر وتوجيهات يعرف الجميع أنها لن تكون إلّا خاوية كالتي سبقتها.
ولكن قبل السوداني، كان هيكل الفساد الطاغي (يعرف)، وبالتفصيل:
كانوا يعلمون بأن أجهزة كشف المتفجّرات الفاسدة ستتسبّب بقتل الناس وتحويلهم أشلاء وسمحوا لسنوات بوجودها.
كانوا يعلمون بأن الموصل على وشك السقوط، بعد أن فسد الجيش والشرطة، وتوسّعت حلقات المجموعات الجهادية، وأوغل الظلم على الناس. كانت النتيجة الأكثر احتمالاً هي حصول فوضى، لكن ما حصل كارثة ومأساة نعيشها ونعيش آثارها إلى اليوم، كما نعيش الاستثمار فيها.
كانوا يعلمون بمقتل الشبّان في تشرين، ويمتلكون اليوم معلومات وإحصاءات عما حصل ولا يكشفونها. يخفونها عن الناس، كما يحاولون إخفاء مسؤوليتهم اليوم عن مقتل أكثر من مئة شخص وإصابة آخرين.
تخبرنا الحكومة بأنها ستشكل لجاناً للوقوف على الأسباب، أو تصدر توجيهات لـ”عدم تكرار الحدث المؤلم”، وترمي باللوم على من سبقها، وتنجو بلا محاسبة، ومن ثم يتكرّر الحدث، كأنما في كل مرة يحدث فجأة، يسقط علينا من السماء المملوءة بالغضب علينا.
يُترك العراقي ليموت، وعندما يُصارع للنجاة لا يجد يداً تنقذه، وإذا ما أُنقذ فإن علاجه يبدو أمراً شبه مستحيل، في ظلّ مؤسسات صحيّة متهاوية تفتقر أحياناً لأدوية المسكنات، لكن رأساً ما، سيزوره في مستشفى ما، يلتقط معه صورة ما، وخلفهما سيظهر حائط ما، سيكون من “الكوبوند”، ينتظر الاحتراق هو الآخر.
إنها دائرة موت مُحكمة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
تفاعلت المؤسسات الحكومية العراقيّة مع حريق قاعة الأعراس في الموصل وكأنه مفاجأة غير ممكنة الحدوث، وسرعان ما ألحقتها بتوجيهات للحصول على إجابات لأسئلة، تتكدّس إجاباتها، بالأساس، في أدراج طارحيها، التنفيذيين والتشريعيين: الدفاع المدني، وزارة الداخلية، جميع الوزارات، ورئيس مجلس الوزراء.
يعلم المسؤولون، تمامَ العلم، أن أجساداً بشرية ستنصهر بينما يحاول أصحابها استراق ساعة فرح في حفل زفاف، يعلمون ومؤسساتهم أن حريقاً سيلتهم عشرات بينما يحاولون النجاة من مرض، يدركون ووثائقهم، أن جمعاً من الناس، على ظهر عبّارة ما بلحظة ما فوق نهرٍ ما، سيغرقون.
كان المسؤولون يعرفون، ولا تنقصهم اليوم أيّ معرفة. أما القرارات والتوجيهات التي تصدر من محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، بإجراء الفحص الميداني لجميع المباني كالمطاعم والمقاهي والفنادق والمدارس وغيرها، فهي تهدف إلى التملّص من المسؤولية.
أما المؤسسات التي تقول إنها بدأت، فوراً، بتنفيذ التوجيهات، فهي تشارك في مسرحية غايتها إيهام الجميع بأن فاجعة أسقطتها السماء علينا، وعلينا محاولة فعل شيء لعدم تكرار حدوثها.
ما الذي تعرفه السلطة؟
تعرف السلطات بمؤسساتها ومسؤوليها، بأن أبنية ستنهار أو تحترق بسرعة هائلة، وأن بشراً سيموتون تفحّماً أو تحت أنقاض، تعرف أيضاً أنهم لن يجدوا من يسعفهم في الوقت المناسب وأن لا مستشفيات ستعالجهم إن أصيبوا..
الجميع يعلم بالضبط أي الأبنية، الأهلية والحكومية، معرّضة للخطر، وإلى أيّ حدّ تشكّل خطورة على الأفراد التي تأهلها أو تستخدمها.
فالدفاع المدني، وفق العميد حسن إبراهيم، معاون مدير المديرية، يُجري كشفاً على جميع المشاريع الخاصة مرتين في العام، ومرة على المباني الحكومية بشكل أولي لمعرفة متطلبات الوقاية والسلامة.
تتحول الكشوفات إلى تقرير سنوي يوقّع من وزارة الداخلية ويُعمم على جميع الوزارات لتحديد المشاريع والأبنية المخالفة لشروط الوقاية والسلامة العامة واتخاذ ما يلزم.
في العراق، هناك نحو 7 آلاف مشروع مخالف لشروط السلامة، بينها مطاعم ومدارس وشركات ومتاجر ومستشفيات… أحصاها جميعاً الدفاعُ المدني، ووضعها في تقرير يطلع عليه كلٌ من وزير الداخلية ورئيس الوزراء والوزراء.
وبالتفصيل، كان المسؤولون التنفيذيون، جميعهم، يعرفون:
وفق اللواء كاظم بوهان، مدير عام الدفاع المدني السابق، فإن 95 بالمئة من مؤسسات الدولة، المتهالكة والبشعة، تفتقر لمراكز دفاع مدني تحتوي على معدات إنقاذ، ما يُمكن أن يعرِّض موظفيها ومراجعيها للموت انصهاراً.
ويؤشر التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية لعام 2022، أن 70 بالمئة من المستشفيات أجرت أعمالَ توسعة وتطوير لا تراعي متطلبات السلامة، أي أنها يمكن أن تواجه مصير مستشفى ابن الخطيب ببغداد ومستشفى الحسين في الناصرية.
وبحسب التقرير نفسه، فإن عدداً من كليات الجامعة المستنصرية وبعض أقسام الطلاب الداخلية، مُعرّضة لأن تقع فيها حوادث مميتة لاستخدامها موادَّ سريعة الاشتعال في البناء والديكور، أي أن النيران يمكن أن تلتهم قاعات دراسية وغرف نوم للطلبة، بسرعة تشابه تلك التي فحّمت صالة عرس الحمدانية، بمن فيها، وحولتها إلى رماد.
ماذا يفعلون بهذه المعرفة؟
بحكم القانون، فإن تقارير الرقابة المالية، شديدة الأهميّة، تعمّم على مكتب رئيس الوزراء والمؤسسات ذات الصلة، لكن محتواها الخطير لم يدفع إلى أي خطوات عملية احترازية لاحتواء الأضرار أو منعها أو حتى التحذير منها.
بدلاً من ذلك، تنشغل السلطة، برؤوسها الكثيرة، في أمور أخرى تأتي، بطبيعة الحال، على حساب “الأمن المجتمعي” الذي يتسابقون على ادّعاء الدفاع عنه. فانهمك القضاء والداخلية بشن حملات كالتي أطلقوا عليها “المحتوى الهابط”، وكمّموا بها بعض الأفواه، وأرعبوا أخرى.
انشغلت الحكومة والبرلمان أيضاً بشن حروب على فئات مجتمعية مثل النساء و”الكويريين”، وأخذت توجه الضربة تلو الأخرى لهم، معرّضة حياتهم للخطر والموت.
شاع الموت في أماكن عديدة وداخل دائرة مُحكمة سُجن فيها العراقي.. حيث الصدفة وحدها يمكنها أن تخرجه منها.
بمواجهة كل مخاطر الأبنية الأهلية والحكومية المهدّدة بالانهيارات والحرائق، يمتلك العراق فرق إنقاذ بحاجة لإنقاذ، مؤسسة دفاع مدني مُنهكة نتيجة كثرة العمل وقلّة الكوادر وضعف التمويل والتدريب وتخلّف المعدات.
وليس ذلك بخفيٍِّ على السلطة نفسها.
“هذا لا يُمكن أن يستمر”، قال كاظم بوهان مدير الدفاع المدني السابق في تشرين الأوّل عام 2022، وكانت مديريته تواجه ارتفاعاً يومياً في أعداد الحرائق، الكبير منها والصغير. شكا حينها من أن أَقلّ رجال الإطفاء عمراً يبلغ 42 عاماً وثلثي كادره تجاوزوا سنّ 50 عاماً؛ ومنذ عام 2007 لم تُوَظَّف في المديرية كوادر جديدة.
الكل كان يعلم بإمكانية حصول حوادث مميتة ولم يردعها، ولم يسعَ حتّى إلى التقليل من ضررها على الناس، من خلال تدعيم الدفاع المدني والمؤسسات المعنية بالإنقاذ والإسعاف.
أعضاء البرلمان الذين يُحلّلون أسباب الحرائق في البرامج السياسيّة التلفزيونية، كانوا يعلمون بأن قانوناً مُحدثاً للسلامة والدفاع المدني يُمكنه أن يحدّ، ولو قليلاً، من الحوادث.
تبلغ أقصى غرامة لمخالفة قواعد السلامة نحو مليون دينار عراقي، بحسب الدفاع المدني، ما يعادل نحو 665 دولاراً وحتى هذه التي لا تساوي شيئاً لبعض المشاريع الاستثمارية الضخمة، تزول برشوة.
منظومة الصدمة من القضاء والقدر
كان الإطار التنسيقي قد سوّق السوداني في بداية طريق ترشيحه لرئاسة الحكومة على أنه “ابن هذي الناس وهذا المجتمع”. “يعرف شيريدون”، كما قال نائب مرّة في حوار تلفزيوني، لكن ما يعرفه لم يستفد أحد منه. وفعلاً كان الرجل، عندما يخرج على شاشات التلفزيون، عارفاً بما يحدث ومشخصاً للمشكلات والعلل.
إلا أنه عندما يواجهها اليوم، يتصرّف وكأنه يسمع عنها لأوّل مرّة. كان أكثر من يُفاجِئ عندما يُفاجَأ، وككل سابقيه، يتحرّك بسرعة لتشكيل لجان أو إصدار أوامر وتوجيهات يعرف الجميع أنها لن تكون إلّا خاوية كالتي سبقتها.
ولكن قبل السوداني، كان هيكل الفساد الطاغي (يعرف)، وبالتفصيل:
كانوا يعلمون بأن أجهزة كشف المتفجّرات الفاسدة ستتسبّب بقتل الناس وتحويلهم أشلاء وسمحوا لسنوات بوجودها.
كانوا يعلمون بأن الموصل على وشك السقوط، بعد أن فسد الجيش والشرطة، وتوسّعت حلقات المجموعات الجهادية، وأوغل الظلم على الناس. كانت النتيجة الأكثر احتمالاً هي حصول فوضى، لكن ما حصل كارثة ومأساة نعيشها ونعيش آثارها إلى اليوم، كما نعيش الاستثمار فيها.
كانوا يعلمون بمقتل الشبّان في تشرين، ويمتلكون اليوم معلومات وإحصاءات عما حصل ولا يكشفونها. يخفونها عن الناس، كما يحاولون إخفاء مسؤوليتهم اليوم عن مقتل أكثر من مئة شخص وإصابة آخرين.
تخبرنا الحكومة بأنها ستشكل لجاناً للوقوف على الأسباب، أو تصدر توجيهات لـ”عدم تكرار الحدث المؤلم”، وترمي باللوم على من سبقها، وتنجو بلا محاسبة، ومن ثم يتكرّر الحدث، كأنما في كل مرة يحدث فجأة، يسقط علينا من السماء المملوءة بالغضب علينا.
يُترك العراقي ليموت، وعندما يُصارع للنجاة لا يجد يداً تنقذه، وإذا ما أُنقذ فإن علاجه يبدو أمراً شبه مستحيل، في ظلّ مؤسسات صحيّة متهاوية تفتقر أحياناً لأدوية المسكنات، لكن رأساً ما، سيزوره في مستشفى ما، يلتقط معه صورة ما، وخلفهما سيظهر حائط ما، سيكون من “الكوبوند”، ينتظر الاحتراق هو الآخر.
إنها دائرة موت مُحكمة.