انتظرنا "ماتركس" ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً
20 أيلول 2023
نحن الأطفال كنا الهدف الأساس. كنا بيادق رغبوا في كسبها لتحريكها. أفكارهم كنا نسمعها عبر مكبرات الصوت وفي الشوارع، منتشرين في كل مكان. كان أهلنا يعاودون تنظيف آذاننا وأدمغتنا في نهاية اليوم من كل ما أجبرنا على سماعه.. عن انتظار "ماتركس" ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً ..
في الوقت الممتدّ ما بين نهاية آذار وبداية نيسان 2003، كانت عمّتي تمد غطاءها الصغير الذي لا يتسع لأنصاف أجسادنا، لتخفي بين ثناياه ثمانية من أطفال أخيها.
حين كان ضوء الانفجار يسطع ويتسلّل نوره من تحت الغطاء، جَعلتنَا نتسابق لمعرفة عدد الإضاءات، وفي بعض الأحيان كانت تقول إن الإله يلتقط لنا صورة جماعية، وعلينا الابتسام حتى تبقى تلك الصورة محفوظة لديه لنراها في ما بعد.
بأنفاسها المتقطعة نتيجة المرض والحمل، وبذراعيها الصغيرتين وقدرتها على إزالة رعبنا لتحيله إلى طمأنينة، استطاعت تحويل تلك الطلقات والانفجارات إلى لعبة نجونا منها جميعنا.. تقريباً.
قبيل الغزو
مثل طفل ضغط على زر التوقف في منتصف فيلم رعب عند أشد المشاهد خطورة، هكذا كانت الأيام التي سبقت احتلال العراق في نيسان 2003.
توقفت الحياة والمدارس والدوائر الحكومية.
كنت حينها قد تجاوزت عتبة الستة أعوام بأيام. كان الخوف يهيمن على ديالى، وتحديداً عاصمتها مدينة بعقوبة.
بدأ “الرفاق البعثيون” وقتها في صنع الثكنات العسكرية. أكياس ورمل وحفر وسلاح، باتت كلها مكونات أساسية لصنع الثكنة. أجبر أبناء المناطق السكنية على حمل السلاح وأصبح اللون الزيتوني لون الشوارع. وضعوا الرشاشات والأسلحة المتوسطة على أسطح المعامل والدوائر الحكومية، ونصبونا نحن دروعاً بشرية لهم.
حفظت أسماء كل سلاح يُطلق النار، وعرفنا أفعالها، لكثرة ما تداول الكبار صفاتها ومواصفاتها.
وسرعان ما شاع خبر عن صدور قرار من البعث يقضي بتجنيد جميع من هم فوق 15 عاماً، فهرب غالبية المراهقين والشباب الذين كانت الشوارع تزدحم بهم حتى ذلك الوقت خوفاً من التجنيد، والبعض ودع أهله وسط عويل الأمهات. لم تكن جراح العراقيين قد شفيت بعد من حروب صدام.
تبين لاحقاً أن ما تلك سوى خطة أعدها “الرفاق” لتهريب بعض المسؤولين إلى محافظة صلاح الدين، منهم العالمة هدى صالح مهدي عماش1 التي لقبتها قوات الاحتلال الأمريكي بـ”سيدة الجمرة الخبيثة”، إذ أن كثرة الشباب في الشوارع عنت أنه سيكون شهود كثر على عمليات التهريب.
ليست إشاعة التجنيد الإجباري وحدها ما بعثت الخوف فينا.
كانت الأمور كلها متوجهة نحو الموت والبشارات والوعود تتوالى بأن “صدام لن يسلم العراق إلا وهو تراب”. أدركنا وقتها مستقبلنا.. دماء مختلطة بالتراب الذي سيتركه صدام لأمريكا.
ديالى “الدجاجة البيضاء”
أطلق الصاروخ الأول باتجاه محافظتنا على دائرة المخابرات في منطقة بعقوبة الجديدة، وأعقبه آخر على دائرة عسكرية أخرى، ثم كراج البحيرة فمعسكر سعد القريب من بيتنا، لتعلن بذلك بدء ساعة الصفر.
لم تقاوم ديالى.
كل تلك الاستعراضات من “الرفاق” قبل دخول الأمريكان، استمرت لأيام قليلة ولم تسفر عن شيء. لم تحتج قوات الاحتلال لأكثر من يومين للسيطرة عليها.
أطلق أهالي الجنوب الذين خاضوا المعارك ضد الاحتلال تسمية “الدجاجة البيضاء” على محافظة ديالى، أي الدجاجة لكونها فقيرة وجبانة ولا تقاوم وبيضاء تدعي السلام. كانت ديالى “سمحة” مع الأمريكان، أسوة بمحافظات أخرى تشبهها، وحظيت بالتسمية ذاتها، واسط والسماوة، ومناطق مختلفة في المدن الكبيرة.
كانت ديالى تريد عبور هذه الفترة من دون فقدان أحد أبنائها، رغم أنها فقدت الكثير وأصاب أبناؤها الرعب لهول ما حدث بعدها.
بيد أن المأساة كانت مضاعفة علينا نحن الساكنين في المناطق القريبة من معسكر سعد الواقع في بعقوبة، مركز محافظة ديالى، بعد دخول الأمريكان.
قيل في وقتها إن المعسكر يحتوي على صواريخ، وقيل إن بين جدرانه ثمة أسلحة دمار شامل ونووي، وقيل إنه يحتوي على الجن. لذلك، ارتأى الأمريكان تطهيره وتطهيرنا منه بتفجير الأسلحة فيهِ للتخلص من لعناتها.
“اطلعوا من بيوتكم”، كانوا يبلغوننا عبر مكبرات الصوت قبل التفجير.
البعض منا كان يهرب إلى القرى البعيدة، مثل حد مزيد وشهربان وقرية السواعد. تتكدس كل ثلاث عوائل أو أربع في بيت واحد، أما الآخرون ممن ليس لديهم مأوى، فيخاطرون ويقررون البقاء.
كانت عائلتي المكونة من 11 فرداً تهرب في البداية إلى قرية حد مزيد التي تبعد عن منطقتنا 15 كيلومتراً. ورغم بعد المسافة، إلا أن أصوات التفجيرات كانت تصلنا.
شكّل الهروب نحو القرى في ذاكرة جيلي على أنه الفترة الأجمل، ونحن الذين كنا غير واعين لما يحدث أو لا نعير اهتماماً للأحداث، بقدر اهتمام الكبار المنشغلين بقناة “العالم”2 التي تخبرهم عن مدى ضخامة الجيش الأمريكي وجهوزيته للقضاء على النظام. كان الأجمل لأن في وقتها ما يهمنا هو اجتماعنا جميعاً مع بعض وتوقف المدارس واستمرار اللعب دون توقف حتى الفجر.
بقينا نتنقل بين القرى لما يقارب الشهر.
ولأن أمثالنا لا يستطيعون العيش خارج منازلهم لعدم كفاية ما بجيوبهم، قررنا العودة والخيار كان بين الموت بأحد تلك الانفجارات أو انتظار انتهاء تطهيرهم.
الدليل الكامل للنجاة
في هذه الأثناء، كبرنا، كل يوم. لاحظنا ذلك من تعلمنا السريع لأساليب الحماية: كيف نصم آذاننا وكيف نستبدل زجاج الشبابيك بأكياس التراب حتى لا يقتل الشظايا أحد. كيف نستعين عند غياب الأساس بالبدائل، نجمع الحطب من الأماكن البعيدة أنا وأخوتي ونذهب بهِ إلى والدتي لتخبز لنا في تنور طين جارتنا.
كان أخوتي أجرأ مني، يذهبون في النهار باتجاه المعسكر ليفرغوا الصناديق من عتادها ويأتوا بها الى البيت لنكسرها معاً. المخاطرة تستحق لأن الصناديق الخضراء تلك من أجود أنواع الخشب وتختصر الكثير من الجهد في البحث عن أعواد وكراتين لتحويلها إلى حطب. أما الطعام فكان يطبخ على نار بدائية، نضع طابوق3 ونصنع دائرة ثم نشعل الحطب تحت الطعام.
كنت أنا، بالإضافة إلى عملي كجامعة للحطب في أوقات فراغي بعد توقف المدرسة وأنا في المرحلة الأولى من الابتدائية، ألعب لعبتي المفضلة التي كانت الهروب باتجاه الدبابات في النهار لضربها بالحجار. كنا تأثرنا بمقتل محمد الدرة، وكنا نريد المقاومة مثل الفلسطينيين، لكن تحويل فوهة الدبابة نحوي كانت كفيلة بإعادتي إلى أرض الواقع وجعلي أدرك مدى صغري أمامها.
أضواء خضراء قبل الانفجار وطيارة أطلقنا عليها تسمية (شبح) فوق منازلنا تصاحب الحدث، وبين الإشارتين هناك أصوات الأطفال الذين يصرخون من الرعب، وبيتنا الذي ساد عليهِ صوت عمتي المطمئن وقدرتنا على اتخاذ الحذر بعد تعلمنا كيفية حماية أنفسنا ما أن فقدنا جميع الشبابيك التي تكسرت من الحرارة التي تصاحب الانفجار، لذا نفتح ما تبقى من هذه الشبابيك، نخرج إلى الحديقة، نجلس في الوسط ونختبئ تحت “عباية” العمة وننتظر انتهاء التفجيرات.
النجاة من حبل المشنقة
جميعنا في المنزل، يركض أبي والدموع في عينيه ويصرخ “لقد سقط النظام، سقط صدام”. هلّلتا والدتي وعمتي، وبكى كبار العائلة. لم نكن نعلم نحن الصغار ماذا حدث ولماذا كل هذا البكاء حتى جاء عمي بعد يومين وجلس على الكرسي، وقال بصوت هادئ: لقد وضعت حول رقابنا الحبال ودخل الأمريكان إلى المقر ليحررونا.
كان بيننا وبين الموت نفس واحد. عرفنا بعدها أن والدي وعمي وأولاد عمي جميعهم من المعارضة منذ سنوات، ولأن للحيطان آذاناً كما تعلمنا في زمن صدام، لم يُناقش الأمر أمامنا يوماً. عاد عمي إلى بيتهِ وهو سعيد بانتصار قضيتهِ التي أفنى سنوات من عمرهِ عليها، لكن بعد يوم واحد قتل بثلاثين طلقة في الرأس ببندقية أحد الرفاق.
بيتنا في ظل القضية الأشهر
ذهب الناس نحو الدوائر والمعسكرات والمصارف والمخازن الغذائية لنهب ما بها لاعتبارات الحق العام للمواطن أو كرهاً وبغضاً بنظام البعث، فما هو للدولة بالضرورة هو ملك المواطن، وما هو عائد لصدام هو ملك للشعب، وقد وصل الأمر عند بعض الأشخاص بسحب الأسرة من تحت مرضى المستشفيات.
فتحت أسواق جديدة خاصة بتجارة السلاح، وبدأت معها الإطلاقات العشوائية، والصراعات. داخل بعقوبة، نشأت معركة بين عصابتين أدت إلى قتل ثلاثة أفراد، لتصدر بعدها فتوى دينية تمنع السرقة وتعتبر كل ما أؤخذ حراما ويجب إعادته.
فتحت الجوامع أبوابها ليس للعبادة، وإنما لاستقبال ما سُرق.
قرر أخي قبل صدور الفتوى الاستفادة من الفوضى وسرق سلاح (نص أخمص)، وعند عودته، اندلعت معركة بينه وبين والدي الذي أجبره على تسليم البندقية. كان والدي ضد نظام البعث، لكنه لم يكن ضد الدولة، وكثيرون مثله رفضوا نهب المؤسسات الحكومية.
آمن أبي ومن يشبهه بأن العراق سيتغير للأفضل، خصوصاً مع خفوت الحرب بعد شهرين وفتح الاستيراد ودخول بضائع لم نعرفها، وتسليم رواتب الموظفين بالدولار الأمريكي بدل الدينار العراقي. كانت رؤية “الشايب الأمريكي” على العملة الخضراء بدل وجه صدام على العملة العراقية هي الصورة التي رسمت الفرحة على وجوه الكثيرين.
“الماتركس“ في بيتنا
بالنسبة لنا نحن الصغار، كان الحدث الأبرز هو دخول التلفاز الملون والأقراص المدورة. لأعوام كنا نستأجر هذه الأجهزة ليلة الخميس، لنجتمع جميعنا محدقين نحو الشاشة الصغيرة لنشاهد كيف يصد البطل بيديه الفارغتين كل الطلقات النارية.
صار عندنا جهاز خاص.
كان أخي الأصغر يقول إننا نحتاج إلى ”ماتركس” في العراق ليصد كل تلك الطلقات التي نسمع صوتها ونعرف من خلال الكبار ما تفعله بالبشر. كنا نهز رؤوسنا موافقين، وحده أبي كان يضحك من قلبهِ لسذاجتنا.
كانت قصة الماتركس تدور حول الشخص المنتظر الذي سوف يقاوم الأشرار، وخارج المنزل كان هناك أشخاص يعدون خطة كاملة لتحويلنا من أطفال إلى جنود لإقناعنا أننا يجب أن نحارب الشر.
آنذاك، ظهرت مقرات وجوامع تدعو الأطفال إلى حفظ الأقران، وتمنحهم هدايا مقابل مثابرتهم. بعد انتشار الخبر بين أقراني، قرّرت الذهاب لاكتشاف الأمر. كان أشبه بالتجنيد، فقد أعطوني حجاباً وعلموني كيف أقرأ الآيات، وبدأت المعلمة بالحديث عن الصلاة والصوم ومحاربة الكافرين. عدت يومها إلى والدي وتحدثت له وترك الخيار لي. لم يستغرقني الأمر كثيراً حتى قررت الامتناع عنهم، لكن، وللصدفة، فإن من بقي مثابراً على تلك المقار، كان من ضمن الذين انضموا إلى “القاعدة” عام 2006.
أخذ المجتمع يتشبّع بالخوف والرهبة، وكانت ديالى قد غادرت مرحلة “الدجاجة” لتنخرط في جوٍّ تهيمن عليه أفكار دينية متطرفة. اكتسحت الشوارع الأقراص الدينية، وبدأت الكثير من الجوامع والمراكز باستقطاب الأطفال والمراهقين لتجهيزهم بأفكار جهادية.
كانت المجموعات الشيعية والسنية، على حدّ سواء، تعمل في المنهجية نفسها.
نحن الأطفال كنا الهدف الأساس. كنا بيادق رغبوا في كسبها لتحريكها. أفكارهم كنا نسمعها عبر مكبرات الصوت وفي الشوارع، منتشرين في كل مكان. كان أهلنا يعاودون تنظيف آذاننا وأدمغتنا في نهاية اليوم من كل ما أجبرنا على سماعه.
تأثر الكثير منا وانضموا إلى الحركات الجهادية التي تشكلت من بقايا خلايا البعث، ومن مجموعات مسلحة جديدة مثل كتائب ثورة العشرين والحركة النقشبندية وغيرهم..
ردّ الجيش الأمريكي بحملة اعتقالات عشوائية، وسيق مراهقون وشُبّان إلى سجونهم التي بُنيت على عجالة.
كثيرون دخلوا أطفالاً مترددين بين الجهاد أو الانسحاب منه، فخرج أغلبهم أشد فتكاً، أو أكثر ضعفاً.
وسط هذا كلّه، كان صوت عمّتي وكلماتها يقدّمان لنا الحماية ويحيطاننا بالأمان، رغم أنّها كانت أوّل المتضررين من الحرب: الجنين الذي كان في أحشائها توفي من شدة هلعها، لتلتحق هي الأخرى به بعد فترة قصيرة.
- يندرج هذا النص ضمن دفتر “عشرون عاماً على الحرب على العراق” بمشاركة موقع “السفير العربي” وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في الوقت الممتدّ ما بين نهاية آذار وبداية نيسان 2003، كانت عمّتي تمد غطاءها الصغير الذي لا يتسع لأنصاف أجسادنا، لتخفي بين ثناياه ثمانية من أطفال أخيها.
حين كان ضوء الانفجار يسطع ويتسلّل نوره من تحت الغطاء، جَعلتنَا نتسابق لمعرفة عدد الإضاءات، وفي بعض الأحيان كانت تقول إن الإله يلتقط لنا صورة جماعية، وعلينا الابتسام حتى تبقى تلك الصورة محفوظة لديه لنراها في ما بعد.
بأنفاسها المتقطعة نتيجة المرض والحمل، وبذراعيها الصغيرتين وقدرتها على إزالة رعبنا لتحيله إلى طمأنينة، استطاعت تحويل تلك الطلقات والانفجارات إلى لعبة نجونا منها جميعنا.. تقريباً.
قبيل الغزو
مثل طفل ضغط على زر التوقف في منتصف فيلم رعب عند أشد المشاهد خطورة، هكذا كانت الأيام التي سبقت احتلال العراق في نيسان 2003.
توقفت الحياة والمدارس والدوائر الحكومية.
كنت حينها قد تجاوزت عتبة الستة أعوام بأيام. كان الخوف يهيمن على ديالى، وتحديداً عاصمتها مدينة بعقوبة.
بدأ “الرفاق البعثيون” وقتها في صنع الثكنات العسكرية. أكياس ورمل وحفر وسلاح، باتت كلها مكونات أساسية لصنع الثكنة. أجبر أبناء المناطق السكنية على حمل السلاح وأصبح اللون الزيتوني لون الشوارع. وضعوا الرشاشات والأسلحة المتوسطة على أسطح المعامل والدوائر الحكومية، ونصبونا نحن دروعاً بشرية لهم.
حفظت أسماء كل سلاح يُطلق النار، وعرفنا أفعالها، لكثرة ما تداول الكبار صفاتها ومواصفاتها.
وسرعان ما شاع خبر عن صدور قرار من البعث يقضي بتجنيد جميع من هم فوق 15 عاماً، فهرب غالبية المراهقين والشباب الذين كانت الشوارع تزدحم بهم حتى ذلك الوقت خوفاً من التجنيد، والبعض ودع أهله وسط عويل الأمهات. لم تكن جراح العراقيين قد شفيت بعد من حروب صدام.
تبين لاحقاً أن ما تلك سوى خطة أعدها “الرفاق” لتهريب بعض المسؤولين إلى محافظة صلاح الدين، منهم العالمة هدى صالح مهدي عماش1 التي لقبتها قوات الاحتلال الأمريكي بـ”سيدة الجمرة الخبيثة”، إذ أن كثرة الشباب في الشوارع عنت أنه سيكون شهود كثر على عمليات التهريب.
ليست إشاعة التجنيد الإجباري وحدها ما بعثت الخوف فينا.
كانت الأمور كلها متوجهة نحو الموت والبشارات والوعود تتوالى بأن “صدام لن يسلم العراق إلا وهو تراب”. أدركنا وقتها مستقبلنا.. دماء مختلطة بالتراب الذي سيتركه صدام لأمريكا.
ديالى “الدجاجة البيضاء”
أطلق الصاروخ الأول باتجاه محافظتنا على دائرة المخابرات في منطقة بعقوبة الجديدة، وأعقبه آخر على دائرة عسكرية أخرى، ثم كراج البحيرة فمعسكر سعد القريب من بيتنا، لتعلن بذلك بدء ساعة الصفر.
لم تقاوم ديالى.
كل تلك الاستعراضات من “الرفاق” قبل دخول الأمريكان، استمرت لأيام قليلة ولم تسفر عن شيء. لم تحتج قوات الاحتلال لأكثر من يومين للسيطرة عليها.
أطلق أهالي الجنوب الذين خاضوا المعارك ضد الاحتلال تسمية “الدجاجة البيضاء” على محافظة ديالى، أي الدجاجة لكونها فقيرة وجبانة ولا تقاوم وبيضاء تدعي السلام. كانت ديالى “سمحة” مع الأمريكان، أسوة بمحافظات أخرى تشبهها، وحظيت بالتسمية ذاتها، واسط والسماوة، ومناطق مختلفة في المدن الكبيرة.
كانت ديالى تريد عبور هذه الفترة من دون فقدان أحد أبنائها، رغم أنها فقدت الكثير وأصاب أبناؤها الرعب لهول ما حدث بعدها.
بيد أن المأساة كانت مضاعفة علينا نحن الساكنين في المناطق القريبة من معسكر سعد الواقع في بعقوبة، مركز محافظة ديالى، بعد دخول الأمريكان.
قيل في وقتها إن المعسكر يحتوي على صواريخ، وقيل إن بين جدرانه ثمة أسلحة دمار شامل ونووي، وقيل إنه يحتوي على الجن. لذلك، ارتأى الأمريكان تطهيره وتطهيرنا منه بتفجير الأسلحة فيهِ للتخلص من لعناتها.
“اطلعوا من بيوتكم”، كانوا يبلغوننا عبر مكبرات الصوت قبل التفجير.
البعض منا كان يهرب إلى القرى البعيدة، مثل حد مزيد وشهربان وقرية السواعد. تتكدس كل ثلاث عوائل أو أربع في بيت واحد، أما الآخرون ممن ليس لديهم مأوى، فيخاطرون ويقررون البقاء.
كانت عائلتي المكونة من 11 فرداً تهرب في البداية إلى قرية حد مزيد التي تبعد عن منطقتنا 15 كيلومتراً. ورغم بعد المسافة، إلا أن أصوات التفجيرات كانت تصلنا.
شكّل الهروب نحو القرى في ذاكرة جيلي على أنه الفترة الأجمل، ونحن الذين كنا غير واعين لما يحدث أو لا نعير اهتماماً للأحداث، بقدر اهتمام الكبار المنشغلين بقناة “العالم”2 التي تخبرهم عن مدى ضخامة الجيش الأمريكي وجهوزيته للقضاء على النظام. كان الأجمل لأن في وقتها ما يهمنا هو اجتماعنا جميعاً مع بعض وتوقف المدارس واستمرار اللعب دون توقف حتى الفجر.
بقينا نتنقل بين القرى لما يقارب الشهر.
ولأن أمثالنا لا يستطيعون العيش خارج منازلهم لعدم كفاية ما بجيوبهم، قررنا العودة والخيار كان بين الموت بأحد تلك الانفجارات أو انتظار انتهاء تطهيرهم.
الدليل الكامل للنجاة
في هذه الأثناء، كبرنا، كل يوم. لاحظنا ذلك من تعلمنا السريع لأساليب الحماية: كيف نصم آذاننا وكيف نستبدل زجاج الشبابيك بأكياس التراب حتى لا يقتل الشظايا أحد. كيف نستعين عند غياب الأساس بالبدائل، نجمع الحطب من الأماكن البعيدة أنا وأخوتي ونذهب بهِ إلى والدتي لتخبز لنا في تنور طين جارتنا.
كان أخوتي أجرأ مني، يذهبون في النهار باتجاه المعسكر ليفرغوا الصناديق من عتادها ويأتوا بها الى البيت لنكسرها معاً. المخاطرة تستحق لأن الصناديق الخضراء تلك من أجود أنواع الخشب وتختصر الكثير من الجهد في البحث عن أعواد وكراتين لتحويلها إلى حطب. أما الطعام فكان يطبخ على نار بدائية، نضع طابوق3 ونصنع دائرة ثم نشعل الحطب تحت الطعام.
كنت أنا، بالإضافة إلى عملي كجامعة للحطب في أوقات فراغي بعد توقف المدرسة وأنا في المرحلة الأولى من الابتدائية، ألعب لعبتي المفضلة التي كانت الهروب باتجاه الدبابات في النهار لضربها بالحجار. كنا تأثرنا بمقتل محمد الدرة، وكنا نريد المقاومة مثل الفلسطينيين، لكن تحويل فوهة الدبابة نحوي كانت كفيلة بإعادتي إلى أرض الواقع وجعلي أدرك مدى صغري أمامها.
أضواء خضراء قبل الانفجار وطيارة أطلقنا عليها تسمية (شبح) فوق منازلنا تصاحب الحدث، وبين الإشارتين هناك أصوات الأطفال الذين يصرخون من الرعب، وبيتنا الذي ساد عليهِ صوت عمتي المطمئن وقدرتنا على اتخاذ الحذر بعد تعلمنا كيفية حماية أنفسنا ما أن فقدنا جميع الشبابيك التي تكسرت من الحرارة التي تصاحب الانفجار، لذا نفتح ما تبقى من هذه الشبابيك، نخرج إلى الحديقة، نجلس في الوسط ونختبئ تحت “عباية” العمة وننتظر انتهاء التفجيرات.
النجاة من حبل المشنقة
جميعنا في المنزل، يركض أبي والدموع في عينيه ويصرخ “لقد سقط النظام، سقط صدام”. هلّلتا والدتي وعمتي، وبكى كبار العائلة. لم نكن نعلم نحن الصغار ماذا حدث ولماذا كل هذا البكاء حتى جاء عمي بعد يومين وجلس على الكرسي، وقال بصوت هادئ: لقد وضعت حول رقابنا الحبال ودخل الأمريكان إلى المقر ليحررونا.
كان بيننا وبين الموت نفس واحد. عرفنا بعدها أن والدي وعمي وأولاد عمي جميعهم من المعارضة منذ سنوات، ولأن للحيطان آذاناً كما تعلمنا في زمن صدام، لم يُناقش الأمر أمامنا يوماً. عاد عمي إلى بيتهِ وهو سعيد بانتصار قضيتهِ التي أفنى سنوات من عمرهِ عليها، لكن بعد يوم واحد قتل بثلاثين طلقة في الرأس ببندقية أحد الرفاق.
بيتنا في ظل القضية الأشهر
ذهب الناس نحو الدوائر والمعسكرات والمصارف والمخازن الغذائية لنهب ما بها لاعتبارات الحق العام للمواطن أو كرهاً وبغضاً بنظام البعث، فما هو للدولة بالضرورة هو ملك المواطن، وما هو عائد لصدام هو ملك للشعب، وقد وصل الأمر عند بعض الأشخاص بسحب الأسرة من تحت مرضى المستشفيات.
فتحت أسواق جديدة خاصة بتجارة السلاح، وبدأت معها الإطلاقات العشوائية، والصراعات. داخل بعقوبة، نشأت معركة بين عصابتين أدت إلى قتل ثلاثة أفراد، لتصدر بعدها فتوى دينية تمنع السرقة وتعتبر كل ما أؤخذ حراما ويجب إعادته.
فتحت الجوامع أبوابها ليس للعبادة، وإنما لاستقبال ما سُرق.
قرر أخي قبل صدور الفتوى الاستفادة من الفوضى وسرق سلاح (نص أخمص)، وعند عودته، اندلعت معركة بينه وبين والدي الذي أجبره على تسليم البندقية. كان والدي ضد نظام البعث، لكنه لم يكن ضد الدولة، وكثيرون مثله رفضوا نهب المؤسسات الحكومية.
آمن أبي ومن يشبهه بأن العراق سيتغير للأفضل، خصوصاً مع خفوت الحرب بعد شهرين وفتح الاستيراد ودخول بضائع لم نعرفها، وتسليم رواتب الموظفين بالدولار الأمريكي بدل الدينار العراقي. كانت رؤية “الشايب الأمريكي” على العملة الخضراء بدل وجه صدام على العملة العراقية هي الصورة التي رسمت الفرحة على وجوه الكثيرين.
“الماتركس“ في بيتنا
بالنسبة لنا نحن الصغار، كان الحدث الأبرز هو دخول التلفاز الملون والأقراص المدورة. لأعوام كنا نستأجر هذه الأجهزة ليلة الخميس، لنجتمع جميعنا محدقين نحو الشاشة الصغيرة لنشاهد كيف يصد البطل بيديه الفارغتين كل الطلقات النارية.
صار عندنا جهاز خاص.
كان أخي الأصغر يقول إننا نحتاج إلى ”ماتركس” في العراق ليصد كل تلك الطلقات التي نسمع صوتها ونعرف من خلال الكبار ما تفعله بالبشر. كنا نهز رؤوسنا موافقين، وحده أبي كان يضحك من قلبهِ لسذاجتنا.
كانت قصة الماتركس تدور حول الشخص المنتظر الذي سوف يقاوم الأشرار، وخارج المنزل كان هناك أشخاص يعدون خطة كاملة لتحويلنا من أطفال إلى جنود لإقناعنا أننا يجب أن نحارب الشر.
آنذاك، ظهرت مقرات وجوامع تدعو الأطفال إلى حفظ الأقران، وتمنحهم هدايا مقابل مثابرتهم. بعد انتشار الخبر بين أقراني، قرّرت الذهاب لاكتشاف الأمر. كان أشبه بالتجنيد، فقد أعطوني حجاباً وعلموني كيف أقرأ الآيات، وبدأت المعلمة بالحديث عن الصلاة والصوم ومحاربة الكافرين. عدت يومها إلى والدي وتحدثت له وترك الخيار لي. لم يستغرقني الأمر كثيراً حتى قررت الامتناع عنهم، لكن، وللصدفة، فإن من بقي مثابراً على تلك المقار، كان من ضمن الذين انضموا إلى “القاعدة” عام 2006.
أخذ المجتمع يتشبّع بالخوف والرهبة، وكانت ديالى قد غادرت مرحلة “الدجاجة” لتنخرط في جوٍّ تهيمن عليه أفكار دينية متطرفة. اكتسحت الشوارع الأقراص الدينية، وبدأت الكثير من الجوامع والمراكز باستقطاب الأطفال والمراهقين لتجهيزهم بأفكار جهادية.
كانت المجموعات الشيعية والسنية، على حدّ سواء، تعمل في المنهجية نفسها.
نحن الأطفال كنا الهدف الأساس. كنا بيادق رغبوا في كسبها لتحريكها. أفكارهم كنا نسمعها عبر مكبرات الصوت وفي الشوارع، منتشرين في كل مكان. كان أهلنا يعاودون تنظيف آذاننا وأدمغتنا في نهاية اليوم من كل ما أجبرنا على سماعه.
تأثر الكثير منا وانضموا إلى الحركات الجهادية التي تشكلت من بقايا خلايا البعث، ومن مجموعات مسلحة جديدة مثل كتائب ثورة العشرين والحركة النقشبندية وغيرهم..
ردّ الجيش الأمريكي بحملة اعتقالات عشوائية، وسيق مراهقون وشُبّان إلى سجونهم التي بُنيت على عجالة.
كثيرون دخلوا أطفالاً مترددين بين الجهاد أو الانسحاب منه، فخرج أغلبهم أشد فتكاً، أو أكثر ضعفاً.
وسط هذا كلّه، كان صوت عمّتي وكلماتها يقدّمان لنا الحماية ويحيطاننا بالأمان، رغم أنّها كانت أوّل المتضررين من الحرب: الجنين الذي كان في أحشائها توفي من شدة هلعها، لتلتحق هي الأخرى به بعد فترة قصيرة.
- يندرج هذا النص ضمن دفتر “عشرون عاماً على الحرب على العراق” بمشاركة موقع “السفير العربي” وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.