"لا نريد الجانب المظلم من بغداد".. هل انطلقت "السينما الموجّهة" في العراق؟
05 أيلول 2023
اشترط "مهرجان بغداد للفيلم العربي" أن تُظهر الأفلام المشاركة "مواقع الجمال والحضارة العراقية"، لقبول عرضها، بينما يرى مخرجون أن هذا الشرط يتعارض مع وظيفة السينما.. "لا نريد الجانب المظلم من بغداد".. هل انطلقت "السينما الموجهة" في العراق؟
منذ نشأتها، اعتمدت السينما في العراق على المجهودات الفردية، إلا في بعض محاولات من منتجين وتجار بين حين وآخر، عملوا على تأسيس شركات إنتاجية، لم تستمر أيٌّ منها أكثر من سنوات قليلة.
أما الدعم الحكومي أو الرعاية أو حتى عدم التغوّل، لم يكن نهجاً عند أي حكومة عراقية أو نظام إلى الآن. وربما التهميش وعدم الالتفات للسينما أفضل ما تفعله حكوماتنا.
مع زوال النظام السابق استبشر أناس كثيرون بأفق مليء بالحرية، يمكن أن يظهر بعد توقف الحرب. مرت السنين وخلقت بعض الهوامش التي مكّنت صنّاع الأفلام من العمل في حرية، بفترات استقرار اغتنموها خلال العشرين سنة الماضية. رغم غياب الدعم والرعاية الحكومية، وفي أغلب الأحيان غياب إمكانية التمثيل الرسمي للأفلام العراقية.
بعض مخرجي الأفلام صنعوا أفلامهم وقدموها في مهرجانات دولية باسم العراق، وحازوا على جوائز عدة، بشكل فردي تماماً، حتى يكاد لا يعلم بهذه الإنجازات سوى أصدقائهم. وبعضهم حصلوا على قليل من الحفاوة الإعلامية بعد تحقيق جائزة ما.
أفاد هؤلاء الصنّاع من رواج السينما المستقلة والسينما البديلة عالمياً، وتلك الأنواع السينمائية التي ظهرت أساساً في دول أخرى للعمل على الهامش، بعيداً عن السلطات القمعية أو بعيداً عن القطاع الكبير الذي يصعب دخوله بشكل متدرج أو بعيداً عن التنافس التجاري المهول وثيمات السوق.
يختلف وضع هؤلاء في العراق. فلا وجود لسينما أساسية بصفتها قطاع كبير ومسيطر لا يسهّل الأمر لتجارب جديدة، ليخرج البعض منه نحو النوع المستقل أو البديل. هؤلاء الصنّاع انتموا لهذه الأنواع بسبب غياب القطاع بشكل صحيح أصلاً.
إلا أن ما صنعوه، يكاد يتحوّل إلى ضدّهم اليوم.
فعلى الرغم من أنها المرّة الأولى التي يُخصص بها العراق مبلغَ ملياري دينار لإقامة مهرجان سينمائي دولي، إلا أن سينمائيين كُثراً اتخذوا قراراً بمقاطعة المهرجان، وبدا بعضهم متردداً من المشاركة والتواجد فيه من عدمه.
حصل المهرجان على تمويل بقرار من مجلس الوزراء، وتشرف عليه نقابة الفنانين العراقيين، ويتصدر نقيبها، جبار جودي، الحديث عن هذا الحدث وأهميته.
بحسب ما ترشّح، فإن المهرجان يتكوّن من 3 أقسام، وهي: مسابقة الأفلام الروائية العربية الطويلة، ومسابقة الأفلام العربية القصيرة التي تشمل الأفلام الروائية، وأفلام الأنيميشن، والأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى مسابقة الأفلام المنتجة من قبل المهرجان. وتبلغ قيمة جوائز المسابقة الأولى 20 ألف دولار موزعة على 3 جوائز: 10 آلاف للأولى، و6 آلاف للثانية، و4 آلاف للثالثة.
وتضم المسابقة الثانية 4 جوائز تبلغ قيمتها 20 ألف دولار، وهي جائزة أفضل فيلم روائي قصير، وأفضل فيلم وثائقي قصير، وأفضل فيلم أنيميشن، إضافةً إلى جائزة إنجاز العمر.
لكنّ هذا الإعلان جاء مشروطاً بتوجه لا يخرج عن سياقات الرقابة السابقةـ بل يرسخها وينميها ويدخل ضمنها كلاعب جديد.
دعم مشروط يخيب آمال العاملين في المجال، ويعيد لهم تاريخ سينما حافلاً إما بالتهميش أو التغوّل.
فقد اشترط “مهرجان بغداد للفيلم العربي” أن تُظهر الأفلام المشاركة “مواقع الجمال والحضارة العراقية”، لقبول عرضها في الأيام التي حُدّدت بين 15 و20 كانون الأول 2023.
أثار هذا الشرط الخوف من استبعاد الأفلام النقدية العراقية، التي عالجت الأزمات المتفجّرة التي شهدها العراق طوال العقود الماضية أو تطرقت لها، واستبعاد الأفلام العراقية التي عملت على تدوين بعض الأحداث التي حصلت في تاريخ العراق الحديث، وغالبها دموي.
أفلام سردت رواية العراقي لقصته، تظهر صوته تجاه أحداث وظروف عايشها وتأثر بها. وتظهر بيئته وظروف معيشته خلال الفترات السابقة والحالية المليئة بالمتغيّرات السريعة.
“لا يوجد هكذا شرط إنتاجي إلا في الدول الشمولية”، يردّ مهند حيال، مخرج فيلم “شارع حيفا” الذي حاز الجائزة الأولى في قسم مسابقة التيارات الجديدة، في مهرجان بوسان السينمائي الدولي عام 2019.
“هذه الشروط يمكن أن تكون لأفلام دعاية عن السياحة”، يضيف حيال، “لكن ليست وظيفة المهرجانات السينمائية أن تضع توجيهات بشأن المحتوى الذي تريده”.
أحدث الشرط نقاشاً عاماً في الأوساط السينمائية والثقافية، ورأى فيه البعض تجاوزاً حتّى على التعريف العلمي للسينما، وترسيخاً لزمن تسخير الفن والإعلام في خدمة السلطة، أو تحجيم السينما لتصبح أداة إعلانية تخدم قطاع السياحة.
يعتقد حيّال أن مثل هذه الشروط “تحدّ من الإبداع والحرية الشخصية التي نص عليها دستور العراق”، فيما طالب الحكومة ونقابة الفنانين بأهمية مراجعة الشروط.
“وجهة نظر شخصية“
“أنا لا أطالب السينمائيين بأي محدّدات، سوى الابتعاد عن الاستجداء بالأفلام السينمائية وإظهار بغداد وكأنها قندهار (..)، هذا غير معقول. بغداد مليئة بالحيوية والجمال، والعراق بأكمله مفعم بالطاقات ومفعم بالإبداع”.
يعتقد جودي أنّ في منطق البعض، يجب أن تظهر بغداد قذرة، وفيها نفايات وأطفال معاقون، حتى نقول إن العراق لديه سينما جيدة. وينفي اعتراضه على ظهور البيئة الفقيرة وكذلك ينفي وجود محددات للإبداع.
لكن وجهة النظر الشخصية هذه التي بني عليها وضع شرط عام يحدد محتوى الأفلام، على فرض أن أصحابها يرونها ثيمة متقصدة في معظم الأعمال، لم تأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأفلام تروي قصة الفرد في العراق وما يعايشه من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم صانعي هذه الأفلام عملوا ضمن الظروف المتوفرة.
لكن بحسبه، فإن النقابة ضد ما يصفه بالاستجداء، الذي يقوم به صانعو الأفلام بنظره، دون تحديد ممن يستجدي هؤلاء السينمائيون، أو كيف يوظّف إظهار واقع فقير وسيئ في السينما في الاستجداء؟
“سلوك بعثي“
يمكن لفيلم “جنائن معلقة” لأحمد ياسين أن يكون مخالفاً لشروط المهرجان، على الرغم من أنه حقّق جوائز دولية عديدة هذا العام.
تجري أحداث الفيلم في مكب نفايات أسطوري يعرف باسم “جنائن بابل المعلقة”، حيث طه وأسعد، الشقيقان، يبحثان عن لقمة العيش عبر جمع المعادن والبلاستيك.
يعثر أسعد في المكب على دمية مطاطية مهملة خلّفها الجيش الأمريكي، ويقرر إحضارها إلى المنزل، لتدور أحداث وتفاصيل تكشف عن مآزق وأسئلة عديدة يمر بها الفرد والمجتمع العراقي بشكل عام.
ما يحصل “سلوك بعثي صدّامي”، يقول ياسين.
بالنسبة لياسين، جعلت هذه الشروط العراق في وضع مثير للسخرية.
“إن منح مبلغ من المال لدعم السينما، لا يسوّغ أن تتم مطالبة السينمائي والإملاء عليه بأن يصور فيلماً بهذه الطريقة، أو بهذا المعلم الحضاري”.
يعتبر ياسين أيضاً أن مثل هذه المشاريع لا يمكن أن توضع في وسط سوق السينما الدولي، لأن السينما حرة ولا يمكن أن تصبح أداة لأي نظام.
تغيير وظيفة السينما
يشرح حكمت البيضاني، مدير المهرجان، بشأن اختيار “أماكن مميزة” في بغداد بالقول، إن إدارة المهرجان لا تريد الجانب المظلم للمدينة، وإظهارها دائما بصفتها مدينة سيئة.
وقال “هناك رخص في الصورة”.
كانت الصورة، في الأفلام المستقلة، ستبدو أكثر فنية لو توفرت لها مقومات إنتاج صورة عالية المستوى، في حال كان الاعتراض بالأساس على المستوى الفني لها.
“الشروط لا تقييد فيها إطلاقاً، ولا نريد هذا، نحن لا نخدم أجندة حكومية”، تابع البيضاني، فـ”النتيجة النهائية للفيلم إذا كانت متكاملة ومميزة، لا ضير في تمريره”.
بحسبه، النتيجة هي من يحكم.
يذكر المخرج ياسين أن هذه الفعاليات لا تمثله، بالنسبة له وضع شروط بهذه الطريقة شيء مرفوض تماماً، ويشير إلى أن الحكومة إذا أرادت بث دعاية لنفسها، فيمكنها إقامة نشاطات ثقافية وإقامة مهرجانات. لكن -بنظره- لا يمكنها تسمية مثل هذه الأنشطة مهرجانات سينمائية.
دعم قطاع السينما أم استخدامه للدعاية
يُخرِج ياسين الأعمال الموجهة من التصنيف السينمائي، ويعتبر المهرجانات التي تحتفي بها، شبيهة بالمهرجانات غير المؤثرة، التي تقام في العراق لشراء الذمم أو الولاءات، أو للحصول على الدعم من أجل الانتخابات، فضلاً عن أنها محاولات لتبييض بعض الوجوه.
يذهب قتيبة الجنابي، المخرج العراقي الذي أنتج أفلاماً تروي رحلات الآلام العراقية، إلى أن شروط مهرجان بغداد تُخرج الأفلام عن صفة السينما.
“شرط المهرجان يجعله بصدد إنتاج أفلام سياحية، وأفلام إعلانية تخدم وتشجع النظام والسياحة”.
وظيفة الفيلم السينمائي مختلفة، كما يقول، وهي إظهار الواقع بخط درامي يعكس آراء وأحاسيس المخرج بالتعاون مع طاقم العمل الإبداعي. أما هذه الشروط: “أفلام مقاولات ودعاية إعلامية”.
واقع الحال، بيئة بغداد وغيرها من المدن، هي بيئة فيها الكثير من المشاكل التي تجعلها مليئة بالتلوث البصري والسمعي: أكوام من الأسلاك الممتدة في كل مكان، مجموعات منها معطلة ومتروكة منذ زمن، تعلوها أكوام أسلاك أخرى وضعت لإيصال الكهرباء بعد تلف الأولى.
أصوات مولدات كهربائية تهدر في كل حي، وتعلو على أي صوت طبيعي في المدينة.
وحتى لو كانت الأفلام دعائية، فهي لن تجد البيئة المشروطة، فأي مشهد يوضع في لوحة صورية، إما أن يُصوّر عن قرب شديد، أو يُجزأ بأسلاك كثيرة، تخترقه أصوات ضجيج لا يمكن معالجتها حتى في المونتاج احياناً.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
منذ نشأتها، اعتمدت السينما في العراق على المجهودات الفردية، إلا في بعض محاولات من منتجين وتجار بين حين وآخر، عملوا على تأسيس شركات إنتاجية، لم تستمر أيٌّ منها أكثر من سنوات قليلة.
أما الدعم الحكومي أو الرعاية أو حتى عدم التغوّل، لم يكن نهجاً عند أي حكومة عراقية أو نظام إلى الآن. وربما التهميش وعدم الالتفات للسينما أفضل ما تفعله حكوماتنا.
مع زوال النظام السابق استبشر أناس كثيرون بأفق مليء بالحرية، يمكن أن يظهر بعد توقف الحرب. مرت السنين وخلقت بعض الهوامش التي مكّنت صنّاع الأفلام من العمل في حرية، بفترات استقرار اغتنموها خلال العشرين سنة الماضية. رغم غياب الدعم والرعاية الحكومية، وفي أغلب الأحيان غياب إمكانية التمثيل الرسمي للأفلام العراقية.
بعض مخرجي الأفلام صنعوا أفلامهم وقدموها في مهرجانات دولية باسم العراق، وحازوا على جوائز عدة، بشكل فردي تماماً، حتى يكاد لا يعلم بهذه الإنجازات سوى أصدقائهم. وبعضهم حصلوا على قليل من الحفاوة الإعلامية بعد تحقيق جائزة ما.
أفاد هؤلاء الصنّاع من رواج السينما المستقلة والسينما البديلة عالمياً، وتلك الأنواع السينمائية التي ظهرت أساساً في دول أخرى للعمل على الهامش، بعيداً عن السلطات القمعية أو بعيداً عن القطاع الكبير الذي يصعب دخوله بشكل متدرج أو بعيداً عن التنافس التجاري المهول وثيمات السوق.
يختلف وضع هؤلاء في العراق. فلا وجود لسينما أساسية بصفتها قطاع كبير ومسيطر لا يسهّل الأمر لتجارب جديدة، ليخرج البعض منه نحو النوع المستقل أو البديل. هؤلاء الصنّاع انتموا لهذه الأنواع بسبب غياب القطاع بشكل صحيح أصلاً.
إلا أن ما صنعوه، يكاد يتحوّل إلى ضدّهم اليوم.
فعلى الرغم من أنها المرّة الأولى التي يُخصص بها العراق مبلغَ ملياري دينار لإقامة مهرجان سينمائي دولي، إلا أن سينمائيين كُثراً اتخذوا قراراً بمقاطعة المهرجان، وبدا بعضهم متردداً من المشاركة والتواجد فيه من عدمه.
حصل المهرجان على تمويل بقرار من مجلس الوزراء، وتشرف عليه نقابة الفنانين العراقيين، ويتصدر نقيبها، جبار جودي، الحديث عن هذا الحدث وأهميته.
بحسب ما ترشّح، فإن المهرجان يتكوّن من 3 أقسام، وهي: مسابقة الأفلام الروائية العربية الطويلة، ومسابقة الأفلام العربية القصيرة التي تشمل الأفلام الروائية، وأفلام الأنيميشن، والأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى مسابقة الأفلام المنتجة من قبل المهرجان. وتبلغ قيمة جوائز المسابقة الأولى 20 ألف دولار موزعة على 3 جوائز: 10 آلاف للأولى، و6 آلاف للثانية، و4 آلاف للثالثة.
وتضم المسابقة الثانية 4 جوائز تبلغ قيمتها 20 ألف دولار، وهي جائزة أفضل فيلم روائي قصير، وأفضل فيلم وثائقي قصير، وأفضل فيلم أنيميشن، إضافةً إلى جائزة إنجاز العمر.
لكنّ هذا الإعلان جاء مشروطاً بتوجه لا يخرج عن سياقات الرقابة السابقةـ بل يرسخها وينميها ويدخل ضمنها كلاعب جديد.
دعم مشروط يخيب آمال العاملين في المجال، ويعيد لهم تاريخ سينما حافلاً إما بالتهميش أو التغوّل.
فقد اشترط “مهرجان بغداد للفيلم العربي” أن تُظهر الأفلام المشاركة “مواقع الجمال والحضارة العراقية”، لقبول عرضها في الأيام التي حُدّدت بين 15 و20 كانون الأول 2023.
أثار هذا الشرط الخوف من استبعاد الأفلام النقدية العراقية، التي عالجت الأزمات المتفجّرة التي شهدها العراق طوال العقود الماضية أو تطرقت لها، واستبعاد الأفلام العراقية التي عملت على تدوين بعض الأحداث التي حصلت في تاريخ العراق الحديث، وغالبها دموي.
أفلام سردت رواية العراقي لقصته، تظهر صوته تجاه أحداث وظروف عايشها وتأثر بها. وتظهر بيئته وظروف معيشته خلال الفترات السابقة والحالية المليئة بالمتغيّرات السريعة.
“لا يوجد هكذا شرط إنتاجي إلا في الدول الشمولية”، يردّ مهند حيال، مخرج فيلم “شارع حيفا” الذي حاز الجائزة الأولى في قسم مسابقة التيارات الجديدة، في مهرجان بوسان السينمائي الدولي عام 2019.
“هذه الشروط يمكن أن تكون لأفلام دعاية عن السياحة”، يضيف حيال، “لكن ليست وظيفة المهرجانات السينمائية أن تضع توجيهات بشأن المحتوى الذي تريده”.
أحدث الشرط نقاشاً عاماً في الأوساط السينمائية والثقافية، ورأى فيه البعض تجاوزاً حتّى على التعريف العلمي للسينما، وترسيخاً لزمن تسخير الفن والإعلام في خدمة السلطة، أو تحجيم السينما لتصبح أداة إعلانية تخدم قطاع السياحة.
يعتقد حيّال أن مثل هذه الشروط “تحدّ من الإبداع والحرية الشخصية التي نص عليها دستور العراق”، فيما طالب الحكومة ونقابة الفنانين بأهمية مراجعة الشروط.
“وجهة نظر شخصية“
“أنا لا أطالب السينمائيين بأي محدّدات، سوى الابتعاد عن الاستجداء بالأفلام السينمائية وإظهار بغداد وكأنها قندهار (..)، هذا غير معقول. بغداد مليئة بالحيوية والجمال، والعراق بأكمله مفعم بالطاقات ومفعم بالإبداع”.
يعتقد جودي أنّ في منطق البعض، يجب أن تظهر بغداد قذرة، وفيها نفايات وأطفال معاقون، حتى نقول إن العراق لديه سينما جيدة. وينفي اعتراضه على ظهور البيئة الفقيرة وكذلك ينفي وجود محددات للإبداع.
لكن وجهة النظر الشخصية هذه التي بني عليها وضع شرط عام يحدد محتوى الأفلام، على فرض أن أصحابها يرونها ثيمة متقصدة في معظم الأعمال، لم تأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأفلام تروي قصة الفرد في العراق وما يعايشه من جهة، ومن جهة أخرى فإن معظم صانعي هذه الأفلام عملوا ضمن الظروف المتوفرة.
لكن بحسبه، فإن النقابة ضد ما يصفه بالاستجداء، الذي يقوم به صانعو الأفلام بنظره، دون تحديد ممن يستجدي هؤلاء السينمائيون، أو كيف يوظّف إظهار واقع فقير وسيئ في السينما في الاستجداء؟
“سلوك بعثي“
يمكن لفيلم “جنائن معلقة” لأحمد ياسين أن يكون مخالفاً لشروط المهرجان، على الرغم من أنه حقّق جوائز دولية عديدة هذا العام.
تجري أحداث الفيلم في مكب نفايات أسطوري يعرف باسم “جنائن بابل المعلقة”، حيث طه وأسعد، الشقيقان، يبحثان عن لقمة العيش عبر جمع المعادن والبلاستيك.
يعثر أسعد في المكب على دمية مطاطية مهملة خلّفها الجيش الأمريكي، ويقرر إحضارها إلى المنزل، لتدور أحداث وتفاصيل تكشف عن مآزق وأسئلة عديدة يمر بها الفرد والمجتمع العراقي بشكل عام.
ما يحصل “سلوك بعثي صدّامي”، يقول ياسين.
بالنسبة لياسين، جعلت هذه الشروط العراق في وضع مثير للسخرية.
“إن منح مبلغ من المال لدعم السينما، لا يسوّغ أن تتم مطالبة السينمائي والإملاء عليه بأن يصور فيلماً بهذه الطريقة، أو بهذا المعلم الحضاري”.
يعتبر ياسين أيضاً أن مثل هذه المشاريع لا يمكن أن توضع في وسط سوق السينما الدولي، لأن السينما حرة ولا يمكن أن تصبح أداة لأي نظام.
تغيير وظيفة السينما
يشرح حكمت البيضاني، مدير المهرجان، بشأن اختيار “أماكن مميزة” في بغداد بالقول، إن إدارة المهرجان لا تريد الجانب المظلم للمدينة، وإظهارها دائما بصفتها مدينة سيئة.
وقال “هناك رخص في الصورة”.
كانت الصورة، في الأفلام المستقلة، ستبدو أكثر فنية لو توفرت لها مقومات إنتاج صورة عالية المستوى، في حال كان الاعتراض بالأساس على المستوى الفني لها.
“الشروط لا تقييد فيها إطلاقاً، ولا نريد هذا، نحن لا نخدم أجندة حكومية”، تابع البيضاني، فـ”النتيجة النهائية للفيلم إذا كانت متكاملة ومميزة، لا ضير في تمريره”.
بحسبه، النتيجة هي من يحكم.
يذكر المخرج ياسين أن هذه الفعاليات لا تمثله، بالنسبة له وضع شروط بهذه الطريقة شيء مرفوض تماماً، ويشير إلى أن الحكومة إذا أرادت بث دعاية لنفسها، فيمكنها إقامة نشاطات ثقافية وإقامة مهرجانات. لكن -بنظره- لا يمكنها تسمية مثل هذه الأنشطة مهرجانات سينمائية.
دعم قطاع السينما أم استخدامه للدعاية
يُخرِج ياسين الأعمال الموجهة من التصنيف السينمائي، ويعتبر المهرجانات التي تحتفي بها، شبيهة بالمهرجانات غير المؤثرة، التي تقام في العراق لشراء الذمم أو الولاءات، أو للحصول على الدعم من أجل الانتخابات، فضلاً عن أنها محاولات لتبييض بعض الوجوه.
يذهب قتيبة الجنابي، المخرج العراقي الذي أنتج أفلاماً تروي رحلات الآلام العراقية، إلى أن شروط مهرجان بغداد تُخرج الأفلام عن صفة السينما.
“شرط المهرجان يجعله بصدد إنتاج أفلام سياحية، وأفلام إعلانية تخدم وتشجع النظام والسياحة”.
وظيفة الفيلم السينمائي مختلفة، كما يقول، وهي إظهار الواقع بخط درامي يعكس آراء وأحاسيس المخرج بالتعاون مع طاقم العمل الإبداعي. أما هذه الشروط: “أفلام مقاولات ودعاية إعلامية”.
واقع الحال، بيئة بغداد وغيرها من المدن، هي بيئة فيها الكثير من المشاكل التي تجعلها مليئة بالتلوث البصري والسمعي: أكوام من الأسلاك الممتدة في كل مكان، مجموعات منها معطلة ومتروكة منذ زمن، تعلوها أكوام أسلاك أخرى وضعت لإيصال الكهرباء بعد تلف الأولى.
أصوات مولدات كهربائية تهدر في كل حي، وتعلو على أي صوت طبيعي في المدينة.
وحتى لو كانت الأفلام دعائية، فهي لن تجد البيئة المشروطة، فأي مشهد يوضع في لوحة صورية، إما أن يُصوّر عن قرب شديد، أو يُجزأ بأسلاك كثيرة، تخترقه أصوات ضجيج لا يمكن معالجتها حتى في المونتاج احياناً.