"مقابر أشبه بحدائق": أشجار للأموات والأحياء العراقيين 

علي محمود خضير

29 آب 2023

لماذا لا يزرع الناس بعض الأشجار في المقابر؟ لعلهم يخفّفون الموت عن الموتى. يكسرون لون الصحراء ببعض الأخضر وهديل الفواخت. إن صفاً من الأشجار وورد الدفلى بأرضية عشبيّة لن يكلّف شيئاً. وسيوفّر بالمقابل على الزائرين علاج ضربات الشمس وظلالاً يُفزع لها وسط حرارة فاقت 60 مئوي.. عن مقابر أشبه بحدائق وأشجار للأموات والأحياء العراقيين..

بين دوي الزوّار وضجيج الباعة في شارع الطوسيّ، وصمت ألواح الاسمنت الهامدة بشواهدها المغبرة خلف الأسوار، خلاصة الحياة والموت. كأنني لم أعبر محض شارع باتجاه مقبرة العائلة في وادي السلام، بل عبرت ذلك الجدار اللامرئي الفاصل بين الوجود والعدم. 

برفقة جمعٍ من الأقارب كنا صاعدين من البصرة إلى النجف، نزور جدّتي (فاطمة موسى) التي رحلت قبل أربعين يوماً. أعتاد العراقيون منذ أيام سومر وبابل على إقامة مأتم لميّتهم بعد الأربعين الأولى لرحيله. اعتقد القدامى أن روح المتوفى تظل أربعين ليلة عند أهلها في انتظار تعويض الإله انليل. كنا جماعة نطلب التعويض والعزاء بسفرنا الطويل عبر آماد الناصرية فالسماوة، مروراً بالديوانية، وانتهاء بالنجف حيث أكبر مقبرة بشريّة في العالم. 

المدخل فوضى. فوضى حياة العراقيّ تصحبه بعد وفاته أيضاً. بسطات تبيعك ماء الورد والبخور وكتيبات الأدعية. آخرون يبيعون التفاح والبرتقال. ثمة من يبيع قلائد من الورد والأغصان الاصطناعية يضعها بعض الزوار حول قبور أحبّتهم. لن تجد ورداً طبيعياً هنا. لم يكن قبر الجدّة بعيداً. لم تشأ إرهاقنا تحت شمس ألهبت الملابس فوق الجلود. العباءات السود تمتص الشعاع الشمسيّ كاملاً وتبثّه للأجساد المكلومة. سباخ كالحة. شوارع ترابية، بلا ظلال، بلا شجرة وبلا شجيرة ولا سقف، مخلّفات الزوار تملأ الفسح الصغيرة بين القبور، قناني ماء، مناديل ورق، قشور فواكه، حفاظات أطفال، أعقاب سكائر.  

مشهد جوّي لمقبرة وادي السلام في النجف. المصدر/ ويكبيديا 

السكون المهيب يخترق الحشد الصغير الذي يتقدّم. أمتار، ويعلو صوت البكاء. 

تحلّقت النسوة حول الضريح الملموم. كتلة من الطابوق والإسمنت، مستطيلة الشكل، تغلفها من الأعلى طبقة مرمر شاحبة. ولا شيء. 

قاطع صوت النسوة وحش الصمت المطبق بجناحيه على المكان. أوحشتني أن تتوسّد جدّتي هذا العراء الكابي والتراب المجرد، هي التي ولدت على ضفاف شط العرب وقضت معظم حياتها بين بساتين النخل والبمبر والنعناع.  

لكأن الموت بلا شجرة تحنو عليك، ولا عشب يهمس لك، أشد وحشة. لكأن العراء موت مضاعف. 

لماذا لا يزرع الناس بعض الأشجار هنا؟ لعلهم يخفّفون الموت عن الموتى. يكسرون لون الصحراء ببعض الأخضر وهديل الفواخت. إن صفاً من الأشجار وورد الدفلى بأرضية عشبيّة لن يكلّف شيئاً. وسيوفّر بالمقابل على الزائرين علاج ضربات الشمس وظلالاً يُفزع لها وسط حرارة فاقت 60 مئوي.  

أشجار في وادي السلام؟ 

واضحٌ أن المقبرة القديمة في مواجهة مصيرية مع التطور العمراني في مدينة النجف التي تعيش على اقتصاد السياحة الدينية. فقد تضاعف سكان المدينة مرتين خلال نصف قرن. مرتفعاً من 299783 نسمة عام 1965 إلى 1075053 نسمة عام 2010. هذه الزيادة البشرية بحاجة لأراضٍ. وبعد مواجهات بين سلطة المال وقوة الموتى بدا أن الموتى قادرون حتى الآن على حماية مثاويهم وصون الأرض. 

حماية الأرض بالمقابر ليست ابتكاراً شعرياً، ففي محمية “كايتي بريري” بهيوستن تعمل أليسا دونوفان على حماية 7200 هتكاراً من أراضي تكساس بتحويلها إلى مقبرة يتداخل فيها رفات المتوفين مع مروج الأعشاب والأشجار التي توفر بيئة مثالية لفصائل نادرة من الكائنات، مستوحية الفكرة من مذكرات كيت بريستروب “أنا هنا إن كنت بحاجة إلي”. تتحدّث بريستروب عن رفات مجهول عثر عليه في غابة تحلّل رفاته مع الوقت ونمت جواره شجرة كبيرة تشابكت جذورها مع الرفات. وإذا عرفنا أن مساحة مقبرة وادي السلام 9 كيلو مترات مربعة، ومساحة النجف 28 كيلومتر مربع، فأننا سنحمي بعملية تشجير المقبرة 32  بالمئة من مساحة الأرض، ونكون قد حولنا ثلث المدينة إلى مناطق خضراء! 

يقول الباحث علي المعموري، “إن الزراعة غير ممكنة في المقبرة القديمة لأكثر من سبب، بدءاً بانعدام المساحة، فالقبور هناك مزدحمة حتى صارت قبراً فوق قبر”. 

يُراقب المعموري ويكتب بشكل مستمر عن التحولات التي تشهدها محافظة النجف، ودائماً ما يُنشر صوراً ومعلومات تظهر إلى حدّ تتغير المحافظة ذات القدسية إلى الأسوأ. 

“من يسير في شوارع المقبرة سيرى القبور مبنية على حافّة الشارع، بلا مساحة لأي محاولة زرع. لكن الفكرة ممكنة في المقبرة الجديدة والمقبرة النموذجية (الاستثمارية) مع أخذ احتياطات”. 

ويضيف: “المرويات الدينية تشجع على الزراعة والتظليل في المقابر لكن لا توجد ثقافة مجتمعية تشجع على تنفيذ ذلك. الناس اليوم يقطعون أشجار حدائقهم ويحولونها الى كراج أو مشتمل، فكيف يزرعون؟”. 

ويؤكّد المعموري عدم وجود إدارة للمقبرة، الموضوع لا يتعدى مكتب استعلامات تابعاً للبلدية ومقرا لفوج الطوارئ ومخفر شرطة، ما يعرض المقبرة الى العشوائية والتجاوز والسرقة.  

“أنا شخصياً زرعت شجرة في مقبرة العائلة ووضعت خزّان ماء خاصاً بها، لكنه تعرّض للسرقة ثلاث مرات”. 

ويضيف “ليس من أولويات البلدية ولا الأجهزة الأمنية تنظيم شؤون المقبرة وحمايتها من العبث والتخريب. الوضع تايه”. 

ويخشى العراقيون ممن دفنوا أمواتهم في المقبرة القديمة -بالأخص محيطها الخارجي- من هدمها واستملاكها. ما يعرض قبور ذويهم إلى المحو. بالأخص من هاجر منهم خارج البلاد، ومن لا يستطيع نقل رفات ذويه لأسباب مالية، أو صحيّة تمنعه السفر ومعالجة الموضوع. 

 يذكر المعموري أن جزءاً من المقبرة القديمة -من ساحة ثورة العشرين وحتى ساحة الميدان- تحوّلت ملكيتها إلى العتبة العلويّة بين 2006 و2007 وتم استئذان المرجع الأعلى في تسوية المقبرة. نقلَ الناسُ أمواتَهم. أصبحت تلك الأجزاء مخازن وحدائق عامة. 

“تشجير المقابر فكرة ممتازة، لكن الأمر بحاجة لتوعية وتثقيف من تيارات دينيّة جماهيرية. وتوجيه من المراجع والقيادات الدينية بزرع شجرة ظليّة مقاومة في مقبرة كلّ عائلة. لكن قبل ذلك يجب تنظيم المقابر وتوفير حماية لها ومد أنابيب سقي لأن الخزانات لن تسلم من يد السرّاق”، يختم المعموري حديثه. 

قبور تتصالح مع الخضار 

في البصرة، وعلى بعد 25 كم غربي مركزها، وتحديداً في قضاء الزبير تقع واحدة من أقدم مقابر المسلمين. مقبرة الحسن البصري المتوفى سنة 110 هجرية. وفيها رفات عدد من الصحابة والتابعين والشعراء والسياسيين على مدار التاريخ العربي والإسلامي، بدءاً بالحسن البصري وابن سيرين ومالك بن دينار ورابعة العدوية والتستري وانتهاء بطالب النقيب وعبد الغفار الأخرس والسياب والبريكان، فضلاً عن قبور عوائل بصرية وضحايا حرب الخليج الأولى والثانية. 

مدخل مقبرة الحسن البصري في الزبير. تصوير كاتب المقال. 

ويبدو المشهد في المقبرة أكثر تصالحاً مع الخضرة. فأشجار الأثل العملاقة والسدر المعمّرة منتشرة بشكل واضح في أرجاء المكان. ويمكن سماع أصوات عصافير الدوريّ وحمام الفاخت البريّ اللائذ بالأغصان القريبة وهي تظلل الشواهد وتضفي على المكان شعوراً خاصاً. خسرت المقبرة جزءاً من أشجارها بفعل شح المياه في العقدين الأخيرين لكنها حافظت على قسم أساسٍ من حزامها الأخضر. 

غير أن المقبرة واجهت بين أعوام 2016 و2020 مساعيَ لتحويل قسم منها إلى منطقة استثماريّة وبناء 450 محلا تجاريّا على عمق 10 أمتار داخلها ما يعرّض القبور والأشجار، على سواء، إلى خطر الهدم والتجريف. لكن المساعي تلك قُوبلت برفض من شيوخ عشائر السعدون والسادة آل الطيار ومديريّة الوقف السنيّ في المدينة. 

يقول الكاتب هـ. ع، الذي فضل الإشارة إلى الأحرف الأولى من اسمه، إن البصرة وبحكم كونها مدينة بساتين وماء فقد كانت مقابرها مظللة منذ تأسيسها.  

يستعيد الكاتب لعبه مع رفاق طفولته ضمن مقتربات مقبرة الإنجليز في محلة الحكيمية ومقبرة الصابئة في المعقل واليهود بحي الشؤون، خلف مركز الشرطة بالبصرة القديمة.  

“كانت المقابر أشبه بحدائق واسعة متشابكة الأغصان، الشواهد فيها منسجمة مع المشهد الأخضر، حتى كأن المقبرة ساحة للنزهة أو اللعب لشدة تنظيمها وتوفر الظلال على طول ساعات النهار. لا أنسى أنني اقتربت في يوم من أمّ ظلت منكبة على قبر ولدها، تبكي وتبث شكواها. ورغم أن الوقت كان ظهيرة، والشمس في كبد السماء، فلم تصل أشعة الشمس لعباءة تلك الأم جرّاء كثافة الظلال المتداخلة”. 

ما تبقى من الأشجار في مقبرة الحسن البصري في الزبير. تصوير كاتب المقال. 

لكن الأشجار تناقصت حتى انمحت بفعل أزمة المياه المالحة المزمن الذي حطّم أرث المدينة العتيق مع الزراعة.  

تشير أرقام وزارة البلديات في العراق لعام 2016 إلى وجود 2000 مقبرة نظاميّة في البلاد و500 أخرى عشوائية غير معترف بها.1 ويرجّح ارتفاع أعداد المقابر في البلاد بعد تداعيات جائحة كورونا التي حصدت آلاف العراقيين بين عامي 2020-2021. 

تؤشّر توقّعات مختصين إلى دفن 200 جنازة في اليوم الواحد في مقبرة وادي السلام فحسب. 

وتكاد لا تخلو مدينة عراقيّة (بضمنها الأقضية والنواحي) من مقبرة، إذ يفرض القانون العراقيّ رقم (18) للعام 1938 أن يكون بعدها بما لا يقل عن كيلومتر واحد عن الأحياء السكنيّة وأن تكون مزوّدة بالكهرباء والماء وغرفة حراسة ومصلى. وأعتاد العراقيون ممن لا يطيقون كلف نقل موتاهم إلى النجف، اعتادوا على دفنهم في مدنهم، والأمر ينطبق على وفيات الأطفال من ذويهم في الغالب. 

مقابر المدن الصغيرة 

تقام مقابر المدن الصغيرة قرب أحد مراقد (الأولياء الصالحين) الذين ينتشرون في مناطق العراق، وبالأخص في الفرات الأوسط والجنوب. تكاد لا تخلو أي مدينة عراقية أقيمت على ضفاف دجلة والفرات من نهر، وسوق، ومرقد لإمام صالح. يدفن الفقراء والأطفال هناك: الفقراء لضيق اليد، والأطفال لأنهم لم يرتكبوا ذنباً بعد، يرجون الشفاعة بسببه، كما تواضعت الأقوال والروايات. 

ويكلّف بناء قبر جديد بين 300-500 ألف دينار عراقي، متضمّناً أجور حفر الأرض وبناء القبر بالطابوق وتغليفه بالمرمر بحسب محسن جاسب، وهو عامل في أحد مكاتب الدفن. 

حين سألت محسن: هل تطلب العوائل منك زراعة شجرة قرب القبر؟ ردّ بصوتٍ حاسم “قليل! كلش قليل! ما يصيرون ثنين لو ثلاث بالمية”.  

“هو وين أكو مكان؟ المكان الي نزرع بي شجرة خو نخلي مكانها كبر”. 

يطلب محسن من ذوي الميت سعر “شتلة” الشجرة (5-10 آلاف) مع أجور ثابتة تبلغ 25000 ألف دينار شهرياً لرعايتها وسقيها بالماء العذب.  

قرب ضريحٍ، بدا من رطوبة تربته أنه زير قريباً، أقرأُ شاهدةً: 

“البقاء لله 

المرحومة الشابة 

تاريخ الوفاة 25/2/2019″ 

يقول محسن إنها قضت بسرطان الثدي. تركت طفلة بعمر السنة. وزوجها يداوم على زيارتها والاعتناء بالمكان. 

فوق السطح الطيني للضريح أشرقت بتلات “زهرة الشيخ”، صُفراً، يانعات، عيونهن يتفرسن في السماء وجذورهن في قلب وحيدة.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بين دوي الزوّار وضجيج الباعة في شارع الطوسيّ، وصمت ألواح الاسمنت الهامدة بشواهدها المغبرة خلف الأسوار، خلاصة الحياة والموت. كأنني لم أعبر محض شارع باتجاه مقبرة العائلة في وادي السلام، بل عبرت ذلك الجدار اللامرئي الفاصل بين الوجود والعدم. 

برفقة جمعٍ من الأقارب كنا صاعدين من البصرة إلى النجف، نزور جدّتي (فاطمة موسى) التي رحلت قبل أربعين يوماً. أعتاد العراقيون منذ أيام سومر وبابل على إقامة مأتم لميّتهم بعد الأربعين الأولى لرحيله. اعتقد القدامى أن روح المتوفى تظل أربعين ليلة عند أهلها في انتظار تعويض الإله انليل. كنا جماعة نطلب التعويض والعزاء بسفرنا الطويل عبر آماد الناصرية فالسماوة، مروراً بالديوانية، وانتهاء بالنجف حيث أكبر مقبرة بشريّة في العالم. 

المدخل فوضى. فوضى حياة العراقيّ تصحبه بعد وفاته أيضاً. بسطات تبيعك ماء الورد والبخور وكتيبات الأدعية. آخرون يبيعون التفاح والبرتقال. ثمة من يبيع قلائد من الورد والأغصان الاصطناعية يضعها بعض الزوار حول قبور أحبّتهم. لن تجد ورداً طبيعياً هنا. لم يكن قبر الجدّة بعيداً. لم تشأ إرهاقنا تحت شمس ألهبت الملابس فوق الجلود. العباءات السود تمتص الشعاع الشمسيّ كاملاً وتبثّه للأجساد المكلومة. سباخ كالحة. شوارع ترابية، بلا ظلال، بلا شجرة وبلا شجيرة ولا سقف، مخلّفات الزوار تملأ الفسح الصغيرة بين القبور، قناني ماء، مناديل ورق، قشور فواكه، حفاظات أطفال، أعقاب سكائر.  

مشهد جوّي لمقبرة وادي السلام في النجف. المصدر/ ويكبيديا 

السكون المهيب يخترق الحشد الصغير الذي يتقدّم. أمتار، ويعلو صوت البكاء. 

تحلّقت النسوة حول الضريح الملموم. كتلة من الطابوق والإسمنت، مستطيلة الشكل، تغلفها من الأعلى طبقة مرمر شاحبة. ولا شيء. 

قاطع صوت النسوة وحش الصمت المطبق بجناحيه على المكان. أوحشتني أن تتوسّد جدّتي هذا العراء الكابي والتراب المجرد، هي التي ولدت على ضفاف شط العرب وقضت معظم حياتها بين بساتين النخل والبمبر والنعناع.  

لكأن الموت بلا شجرة تحنو عليك، ولا عشب يهمس لك، أشد وحشة. لكأن العراء موت مضاعف. 

لماذا لا يزرع الناس بعض الأشجار هنا؟ لعلهم يخفّفون الموت عن الموتى. يكسرون لون الصحراء ببعض الأخضر وهديل الفواخت. إن صفاً من الأشجار وورد الدفلى بأرضية عشبيّة لن يكلّف شيئاً. وسيوفّر بالمقابل على الزائرين علاج ضربات الشمس وظلالاً يُفزع لها وسط حرارة فاقت 60 مئوي.  

أشجار في وادي السلام؟ 

واضحٌ أن المقبرة القديمة في مواجهة مصيرية مع التطور العمراني في مدينة النجف التي تعيش على اقتصاد السياحة الدينية. فقد تضاعف سكان المدينة مرتين خلال نصف قرن. مرتفعاً من 299783 نسمة عام 1965 إلى 1075053 نسمة عام 2010. هذه الزيادة البشرية بحاجة لأراضٍ. وبعد مواجهات بين سلطة المال وقوة الموتى بدا أن الموتى قادرون حتى الآن على حماية مثاويهم وصون الأرض. 

حماية الأرض بالمقابر ليست ابتكاراً شعرياً، ففي محمية “كايتي بريري” بهيوستن تعمل أليسا دونوفان على حماية 7200 هتكاراً من أراضي تكساس بتحويلها إلى مقبرة يتداخل فيها رفات المتوفين مع مروج الأعشاب والأشجار التي توفر بيئة مثالية لفصائل نادرة من الكائنات، مستوحية الفكرة من مذكرات كيت بريستروب “أنا هنا إن كنت بحاجة إلي”. تتحدّث بريستروب عن رفات مجهول عثر عليه في غابة تحلّل رفاته مع الوقت ونمت جواره شجرة كبيرة تشابكت جذورها مع الرفات. وإذا عرفنا أن مساحة مقبرة وادي السلام 9 كيلو مترات مربعة، ومساحة النجف 28 كيلومتر مربع، فأننا سنحمي بعملية تشجير المقبرة 32  بالمئة من مساحة الأرض، ونكون قد حولنا ثلث المدينة إلى مناطق خضراء! 

يقول الباحث علي المعموري، “إن الزراعة غير ممكنة في المقبرة القديمة لأكثر من سبب، بدءاً بانعدام المساحة، فالقبور هناك مزدحمة حتى صارت قبراً فوق قبر”. 

يُراقب المعموري ويكتب بشكل مستمر عن التحولات التي تشهدها محافظة النجف، ودائماً ما يُنشر صوراً ومعلومات تظهر إلى حدّ تتغير المحافظة ذات القدسية إلى الأسوأ. 

“من يسير في شوارع المقبرة سيرى القبور مبنية على حافّة الشارع، بلا مساحة لأي محاولة زرع. لكن الفكرة ممكنة في المقبرة الجديدة والمقبرة النموذجية (الاستثمارية) مع أخذ احتياطات”. 

ويضيف: “المرويات الدينية تشجع على الزراعة والتظليل في المقابر لكن لا توجد ثقافة مجتمعية تشجع على تنفيذ ذلك. الناس اليوم يقطعون أشجار حدائقهم ويحولونها الى كراج أو مشتمل، فكيف يزرعون؟”. 

ويؤكّد المعموري عدم وجود إدارة للمقبرة، الموضوع لا يتعدى مكتب استعلامات تابعاً للبلدية ومقرا لفوج الطوارئ ومخفر شرطة، ما يعرض المقبرة الى العشوائية والتجاوز والسرقة.  

“أنا شخصياً زرعت شجرة في مقبرة العائلة ووضعت خزّان ماء خاصاً بها، لكنه تعرّض للسرقة ثلاث مرات”. 

ويضيف “ليس من أولويات البلدية ولا الأجهزة الأمنية تنظيم شؤون المقبرة وحمايتها من العبث والتخريب. الوضع تايه”. 

ويخشى العراقيون ممن دفنوا أمواتهم في المقبرة القديمة -بالأخص محيطها الخارجي- من هدمها واستملاكها. ما يعرض قبور ذويهم إلى المحو. بالأخص من هاجر منهم خارج البلاد، ومن لا يستطيع نقل رفات ذويه لأسباب مالية، أو صحيّة تمنعه السفر ومعالجة الموضوع. 

 يذكر المعموري أن جزءاً من المقبرة القديمة -من ساحة ثورة العشرين وحتى ساحة الميدان- تحوّلت ملكيتها إلى العتبة العلويّة بين 2006 و2007 وتم استئذان المرجع الأعلى في تسوية المقبرة. نقلَ الناسُ أمواتَهم. أصبحت تلك الأجزاء مخازن وحدائق عامة. 

“تشجير المقابر فكرة ممتازة، لكن الأمر بحاجة لتوعية وتثقيف من تيارات دينيّة جماهيرية. وتوجيه من المراجع والقيادات الدينية بزرع شجرة ظليّة مقاومة في مقبرة كلّ عائلة. لكن قبل ذلك يجب تنظيم المقابر وتوفير حماية لها ومد أنابيب سقي لأن الخزانات لن تسلم من يد السرّاق”، يختم المعموري حديثه. 

قبور تتصالح مع الخضار 

في البصرة، وعلى بعد 25 كم غربي مركزها، وتحديداً في قضاء الزبير تقع واحدة من أقدم مقابر المسلمين. مقبرة الحسن البصري المتوفى سنة 110 هجرية. وفيها رفات عدد من الصحابة والتابعين والشعراء والسياسيين على مدار التاريخ العربي والإسلامي، بدءاً بالحسن البصري وابن سيرين ومالك بن دينار ورابعة العدوية والتستري وانتهاء بطالب النقيب وعبد الغفار الأخرس والسياب والبريكان، فضلاً عن قبور عوائل بصرية وضحايا حرب الخليج الأولى والثانية. 

مدخل مقبرة الحسن البصري في الزبير. تصوير كاتب المقال. 

ويبدو المشهد في المقبرة أكثر تصالحاً مع الخضرة. فأشجار الأثل العملاقة والسدر المعمّرة منتشرة بشكل واضح في أرجاء المكان. ويمكن سماع أصوات عصافير الدوريّ وحمام الفاخت البريّ اللائذ بالأغصان القريبة وهي تظلل الشواهد وتضفي على المكان شعوراً خاصاً. خسرت المقبرة جزءاً من أشجارها بفعل شح المياه في العقدين الأخيرين لكنها حافظت على قسم أساسٍ من حزامها الأخضر. 

غير أن المقبرة واجهت بين أعوام 2016 و2020 مساعيَ لتحويل قسم منها إلى منطقة استثماريّة وبناء 450 محلا تجاريّا على عمق 10 أمتار داخلها ما يعرّض القبور والأشجار، على سواء، إلى خطر الهدم والتجريف. لكن المساعي تلك قُوبلت برفض من شيوخ عشائر السعدون والسادة آل الطيار ومديريّة الوقف السنيّ في المدينة. 

يقول الكاتب هـ. ع، الذي فضل الإشارة إلى الأحرف الأولى من اسمه، إن البصرة وبحكم كونها مدينة بساتين وماء فقد كانت مقابرها مظللة منذ تأسيسها.  

يستعيد الكاتب لعبه مع رفاق طفولته ضمن مقتربات مقبرة الإنجليز في محلة الحكيمية ومقبرة الصابئة في المعقل واليهود بحي الشؤون، خلف مركز الشرطة بالبصرة القديمة.  

“كانت المقابر أشبه بحدائق واسعة متشابكة الأغصان، الشواهد فيها منسجمة مع المشهد الأخضر، حتى كأن المقبرة ساحة للنزهة أو اللعب لشدة تنظيمها وتوفر الظلال على طول ساعات النهار. لا أنسى أنني اقتربت في يوم من أمّ ظلت منكبة على قبر ولدها، تبكي وتبث شكواها. ورغم أن الوقت كان ظهيرة، والشمس في كبد السماء، فلم تصل أشعة الشمس لعباءة تلك الأم جرّاء كثافة الظلال المتداخلة”. 

ما تبقى من الأشجار في مقبرة الحسن البصري في الزبير. تصوير كاتب المقال. 

لكن الأشجار تناقصت حتى انمحت بفعل أزمة المياه المالحة المزمن الذي حطّم أرث المدينة العتيق مع الزراعة.  

تشير أرقام وزارة البلديات في العراق لعام 2016 إلى وجود 2000 مقبرة نظاميّة في البلاد و500 أخرى عشوائية غير معترف بها.1 ويرجّح ارتفاع أعداد المقابر في البلاد بعد تداعيات جائحة كورونا التي حصدت آلاف العراقيين بين عامي 2020-2021. 

تؤشّر توقّعات مختصين إلى دفن 200 جنازة في اليوم الواحد في مقبرة وادي السلام فحسب. 

وتكاد لا تخلو مدينة عراقيّة (بضمنها الأقضية والنواحي) من مقبرة، إذ يفرض القانون العراقيّ رقم (18) للعام 1938 أن يكون بعدها بما لا يقل عن كيلومتر واحد عن الأحياء السكنيّة وأن تكون مزوّدة بالكهرباء والماء وغرفة حراسة ومصلى. وأعتاد العراقيون ممن لا يطيقون كلف نقل موتاهم إلى النجف، اعتادوا على دفنهم في مدنهم، والأمر ينطبق على وفيات الأطفال من ذويهم في الغالب. 

مقابر المدن الصغيرة 

تقام مقابر المدن الصغيرة قرب أحد مراقد (الأولياء الصالحين) الذين ينتشرون في مناطق العراق، وبالأخص في الفرات الأوسط والجنوب. تكاد لا تخلو أي مدينة عراقية أقيمت على ضفاف دجلة والفرات من نهر، وسوق، ومرقد لإمام صالح. يدفن الفقراء والأطفال هناك: الفقراء لضيق اليد، والأطفال لأنهم لم يرتكبوا ذنباً بعد، يرجون الشفاعة بسببه، كما تواضعت الأقوال والروايات. 

ويكلّف بناء قبر جديد بين 300-500 ألف دينار عراقي، متضمّناً أجور حفر الأرض وبناء القبر بالطابوق وتغليفه بالمرمر بحسب محسن جاسب، وهو عامل في أحد مكاتب الدفن. 

حين سألت محسن: هل تطلب العوائل منك زراعة شجرة قرب القبر؟ ردّ بصوتٍ حاسم “قليل! كلش قليل! ما يصيرون ثنين لو ثلاث بالمية”.  

“هو وين أكو مكان؟ المكان الي نزرع بي شجرة خو نخلي مكانها كبر”. 

يطلب محسن من ذوي الميت سعر “شتلة” الشجرة (5-10 آلاف) مع أجور ثابتة تبلغ 25000 ألف دينار شهرياً لرعايتها وسقيها بالماء العذب.  

قرب ضريحٍ، بدا من رطوبة تربته أنه زير قريباً، أقرأُ شاهدةً: 

“البقاء لله 

المرحومة الشابة 

تاريخ الوفاة 25/2/2019″ 

يقول محسن إنها قضت بسرطان الثدي. تركت طفلة بعمر السنة. وزوجها يداوم على زيارتها والاعتناء بالمكان. 

فوق السطح الطيني للضريح أشرقت بتلات “زهرة الشيخ”، صُفراً، يانعات، عيونهن يتفرسن في السماء وجذورهن في قلب وحيدة.