فجوة الأجيال في العراق: آباءٌ على الأرض.. أبناءٌ في الميديا 

إيهاب شغيدل

18 تموز 2023

يواجه الآباء صعوبة في فهم التكنولوجيا التي نضيع فيها ونتبضع منها ونعيش تحت تأثيرها.. وكلما تقدّمنا أكثر في الغوص بهواتفنا وتطبيقاتنا، يبقى الأهل على الأرض، ونفقد صلة التواصل معهم.. عن آباء ما زالوا على الأرض.. وأبناء يحلقون في الميديا.

أبي وخالي يكذبان 

لم تكنِ الحياةُ سهلةً كما هي الآن، في عام 1999 عندما ذهب أبي إلى لبيبا من أجل العمل، كانت الحياة واضحة وبطيئة. كان يرسل بين فترة وأخرى، وفي مناسبات معيّنة، رسائل عبر البريد ما زالت أمي تحتفظ بها حتى الآن.  

شكّلت تلك الظروف والطوابع وآثار أصابع الأب البعيد نوعاً من الحميمية بيني وبين الأوراق، فمن هناك عرفت شكل توقيع أبي. 

الرسائل الورقيّة لم تكن الطريقة الوحيدة للتواصل، فكنا نتلقى اتصالاته عبر الهاتف الأرضي في أوقات متقاربة، شبه أسبوعية. لكن أبي كان يكذب. فقد أعطاني مرة كارتاً صغيراً لا أتذكر لونه، وقال: “هذا أضعه في الهاتف كي أتصل بكم من هناك”. اتفقنا، أخي وأنا، أنه يكذب فكيف يُمكن لورقة مثل هذه أن تدخل إلى الهاتف الأرضي، إذ ليس من منفذ لدخول ذلك الكارت فيه، ونحن الذين في حينها لم نكن نعرف إلا النوع القديم من الهواتف. 

بعد شهرينِ من غزو العراق عام 2003، جاء الاتصال من أبي أخيراً بعد فترة من الانقطاع. لكنه اتصل بنا هذه المرّة من جهاز مختلف كلياً عمّا شهدناه. جهاز يسمى “ثريّا”، وعبر أحد أصدقاء خالي، جيء بالجهاز اللاسلكي إلى المنزل. والغريب في الأمر أن ذلك الهاتف لم يُربط بالكهرباء ولا يحتوي على أسلاك كما اعتدنا. 

ما هي إلا أشهر بعد أن هدأت الحرب، حتى بدأت شركات الاتصال تنظم عملها وتشتغل بشكل رسميّ. عمل خالي مبكراً في شركة “عراقنا” للاتصالات، وحينها شاهدت أول هاتف محمول “موبايل”. بعد أيام قليلة جاء أحد أقربائنا إلى خالي طالباً منه أن يُرسل رسالة إلى شخص ما، تهامزنا وتغامزنا، أخي وأنا، ثانية.. خالي يكذب، لا يمكن إرسال رسالة وإدخال ظرف ورقي في هذا الجهاز الصغير، فلم نكن نعرف طريقة وشكلاً للرسائل غير تلك التي كان يرسلها الأب من مكان عمله البعيد. 

أبي وخالي كانا يكذبان، الأول يدخل كارتاً في الهاتف والآخر يرسل رسالة من الهاتف، ما هذا السحر؟ أهذا معقول؟ 

ما يبدو بديهياً الآن، كان في وقت ما ضرباً من ضروب الخيال وخفة اليد. 

مع ذلك تعايشنا مع الهاتف المحمول، فلم يكن عسيراً. كنا صغاراً في العمر فحسب. امتلكت أول هاتف محمول في سن الخامسة عشرة كما أظن، هاتف جاءت بعده سلسلة من الهواتف الذكية والغبية أيضاً. وفي المقابل، فالكثير من الناس لاقوا صعوبة في فهم التقنية التي نضيع فيها ونتبضع منها ونعيش تحت تأثيرها، خصوصا ممن شهدوا ثورة الهواتف، وهم في عمر كبير نسبياً. التقيت العديد من هؤلاء، ممن لم يستوعبوا العملية في بادئ الأمر، والذين يخشون حتى الآن تصديق أن الهاتف مجرد جهاز صغير يربطك في كل بقاع العالم، ولا سيما الأشخاص الذين لم يتدربوا بشكل تدريجيّ على الهواتف الذكية، واقتحمت حياتهم بسرعة، عكس الشبان الذين نموا وعاشوا رفقة الهاتف. 

هذه ليست مدونة شخصية، إنها إحدى قصص مجتمع خرج من الحرب والحصار، ليدخل عنوة إلى اليوتيوب والفيسبوك، غير مكترثين بالفروقات بين العالمين أو لنقل دون مقدمات. 

أجساد كبيرة في جهاز صغير 

في منتصف عام 2004 فتح حسام الصعب (40 عاماً) عيناه على أقصاها، في الوقت الذي فتح له صديقه أحد المقاطع “البورنو” على الموبايل، إذ لم يكن يُصدق أن جهازاً بهذا الحجم يُمكنه أن يضم كل تلك الأثداء والأرداف والممارسات المتنوّعة، فاختلط عليه الشعور بالرعب -كما يقول- بشبح الرغبة، وقتها قال: “أين وصلت الحياة؟ هذا الجهاز صغير جداً وقادر على احتواء كل هذه الأفلام، صارت العملية أقل تعقيداً!”. 

لم يتردّد في اليوم التالي بالتخلي عن جهاز السي دي ورمي أقراصه الإباحية التي كان يجد صعوبة في تشغيلها، فالسي دي كما يرى حسام: “يحتاج مكاناً خاصاً وجهاز تلفاز وغيرها من التفاصيل، إضافة لمخاوف خروج الصوت أبعد من جدران الغرفة”. 

راح إلى أقرب سوق وجاء بالجهاز الجديد (موبايل)، لكنه مع ذلك لم تكن مهمّته يسيرة، فهو لا يعرف كيفية الدخول إلى تلك الحشود من الأجساد العارية فعاد ثانية إلى صديقه الخبير في هذا “الجهاز الملعون” كما صار يسميه لاحقاً؛ أخبره الصديق أن العملية أكثر تعقيداً مما يظن فهو يحتاج إلى “رام” يلمُّ كل تلك النساء دفعة واحدة. استغرق الأمر يومين، مع ذلك نجحت العملية وبات يشاهد الأفلام في أية خلوة صغيرة تحت غطاء النوم أو في الحمام. 

ليس حسام سوى عيّنة عشوائية من مئات الآلاف من العراقيين، الذين اقتحم الهاتف حياتهم فجأة، بل أكلها كما لو أنه حيوان ضخم وصغير في آن.. فهو يلتهم كل الوقت والجهد والطاقة رغم حجمه الصغير. 

هل يعلم الفيسبوك ما في القلوب؟  

ليست ثمة أكبر من الصدمة التي تعرّض لها السيد عباس حمود (54 عاماً)، الذي لا حياة ولا حديث له، غير ذكرياته عن حرب إيران، فهو يعيش كما لو أن حياته بدأت وانتهت هناك، وما أن تتحدث إليه حتى يدير الحديث عن الحرب، فالجبل والنهر والأصدقاء والضحك. وكل ما يدور في الحياة يذكره بوقوفه قبالة الموت لستّ سنوات، يعتبرها الأجمل في حياته. 

عباس من بسطاء هذا العالم القاسي، لكنه مع ذلك قرر عام 2020 الدخول إلى عالم الأرقام والحسابات، فقبلها كان مجرد شخص يمتلك جهازَ اتصال بسيط، لكن أزمة الجلوس الطويل في البيت، أيامَ انتشار فيروس “كورونا”، أجبرته على ادخار بعض المال من أجل شراء جهاز حديث، يمكّنه من التقاط الصور والفيديوهات، وعبر اقتراح أحد الاصدقاء، دخل إلى العالم الموازي الذي لم يكن يعرفه إلا من خلال الأحاديث العامة، وهذا العالم الموازي هو فيسبوك، إنستغرام، يوتيوب، وتيك توك، إلخ.  

لم يكن الدخول وعراً على حمود، فتعلّم بسهولة ويسر كيفية إضافة الأصدقاء والمشاركة ووضع التعليق، صدمته تكمن بالضبط أنه ما أن مسك زمام حسابه في فيسبوك حتى بدأ بالبحث عن رفقائه القدامى الجنود، الذين شاركوه الموضع والخوف والرصاص، والطعام، والحديث. 

يقول “بدأت أبحث عنهم وأكتب أسماءهم الثلاثية”، كما كان يُنادى عليهم في التعداد، “لكنني لم أعثر على أي منهم، لكن في اليوم التالي وقبل أن أذهب إلى الحمام، اقترح عليّ الفيسبوك أحدَ الجنود الذين بحثت عنهم، لكن باسم ثانٍ، فهو في حسابه وضع اسمه ولقب عشيرته فقط، قلت في نفسي: هل الفيسبوك يعلم ما في القلوب؟” 

لم يستوعب الأمر، وعاش حالة من الخوف والقلق، كما يقول، لكنه استقر أخيراً إلى تحليل مفاده أن الجهاز الصغير الذي بيده هو شيطان ينبغي احترامه واحترام ميزاته.  

لم أفهم أبنائي 

“أنا رجل بسيط، أعمل منتسباً في القوّات الأمنية، ولم أتعلم، ولا همَّ عندي غير تربية أولادي الثلاثة، يقول فاضل علي، “لكن في السنتين الأخيرتين، بدأت أشعر أنهم أكثر معرفة مني بأمور الحياة، لدي بنت عمرها تسعة عشر عاماً تتحدث أغلب الوقت باللغة الإنجليزية، وأنا أجد صعوبة بالقراءة العربية، وهذا الأمر مزعج بالنسبة لي، صارت بيننا مسافة كبيرة؛ إذ لا يبدو أن الفرق بيننا عشرون عاماً فقط، أما ابني الصغير لا أفهم أغلب كلماته.. قبل فترة صار يعلمني بعض مصطلحاته التي يتداولها مع رفقائه، وعرفت معنى “الاكس” تشير إلى الحبيب السابق، لا أعرف كيف تحول “حبيبي السابق” إلى “اكس”، مع ذلك أحاول قدر الإمكان تفهُّم عالمهم، لكن بالحقيقة أجد صعوبة، ابني الآن لديه عشرات الصديقات، وهذا الأمر اجتماعيا ليس مقبولاً. في الكثير من الأحيان أخشى أن يتورط، وفي أحيان أخرى أشعر أنه إنسان لطيف، ولا يمكن أن يذهب للخطأ، مرات عديدة يحدث بيننا خلاف وأتنازل لهم، مع ذلك أعترف، أنا أجد صعوبة في فهم أبنائي”. 

الأبناء: تجارة الإنستغرام 

حياة مضاءة باللايكات، تلك هي حياة آية برهان، التي لم تكمل الثامنة عشر، فهي تعمل في بيع وشراء الصفحات الرائجة على الإنستغرام، وبات لديها الكثير من الزبائن من المشاهير خصوصاً، فهي بيدها رفع متابعي أي حساب، أو سحب الدعم عنه.  

تقول آية، “لدي أكثر من 80 حساباً على الإنستغرام الآن، وبعت عشرات الصفحات، لمشاهير وفنانين ومطربين معروفين ولبعض الجهات السياسية حتى، هذا عملي الذي قد يبدو غريباً بالنسبة لمن حولي”. 

وصل سعر بعض الصفحات التي سبق أن باعتها إلى أربعة آلاف دولار، خصوصا في الانتخابات الماضية، وهذا نتاج تعب وجهد، فهي تسهر ليلَ نهار، كما تقول من أجل بناء صفحة واحدة فيها أكثر من “10 k” والمقصود هنا عشرة آلاف متابع، يتطلب الأمر شهوراً من العمل، رغم ذلك لكن ثمة معارضة من قبل الأهل لعمل آية، فقد يرون أنها “تبيع اللاشيء” على حدّ تعبير أمها. 

تعتبر آية أن عائلتها لا تفهم جيداً العالم الجديد، ولا تفهم طريقة تفكيرها، تقول: “أبي رجل كبير في السن إلى حد ما، وليس لديه حساب سوى على فيسبوك، وأمي ربّة منزل تقليدية، ليس لديهما أدنى تصور عن قيمة ما أفعله، إخوتي كاسبون ومتزوجون كبار، ذنبي أنني ولدت متأخرة، نحن في الغرفة نفسها لكن لكل منا عالمه، رغم ذلك في السنة الأخيرة صار قسم من العائلة يقدر ما أفعله وأنا فخورة بنفسي”. 

عشّاق رقميون 

وسط ضجيج الميديا، وحرب اللايكات، ثمة فئة جديرة بالعناية، وهم العشاق الرقميون، هؤلاء الذين تبدأ قصصهم وتنتهي في الدردشة، دونما لقاء أو قبلة حتى. 

يقول سجاد إنه تعرف إلى هدى من أربع سنوات، لكنهما حتى الآن لم يلتقيا؛ لأنها من مدينة بعيدة، وهي من عائلة محافظة، ولا يمكنها الخروج من باب المنزل حتى، يرى أن الحديث معها عبر الواتساب كافيا رغم أنهما عرفا بعضاً في الفيسبوك، يتحدث سجاد إلى هدى طوال الوقت ولم يحسما حتى الآن هذه القصة التي ربما ستستمر حتى نهاية الحياة كما يعبر مازحاً “بيننا الكثير من الأيقونات، ولدينا أطفال في الدردشة، أليس هذا كافيا؟!، ليس مهما أن نتزوج، أمي عادة تقول: لنذهب ونخطبها لكن هي ونحن نعرف الصعوبات وأن الأمر مستحيل”. 

لا أفضل أحاديث أمي وأبي 

ترى شمس ـ وهي طالبة في كلية الهندسة جامعة بغداد ـ أن مشاغل أهلها ليست ذات أهمية، ولا تحبّ حديثهم المستمر عن الآخرين أثناء الطعام وخارجه، تقول: “أمي لا حياة لديها سوى مراقبة عماتي وأعمامي وخالتي والجيران، أمي ماهرة في معرفة كل تفاصيل البيوت، وحقيقة لا أفضل ذلك، الأهم عندي حياتي، وكيف أنجح وكيف أحصل على عمل وأطور علاقتي وأفكاري، لذا أنا مختلفة عنهم تماماً”. 

بينما ترى، والدها ورغم تعليمه العالي، وعمله بمكان مرموق لكنه أيضا رجل تقليدي، تقول: “أبي رغم مكانته الاجتماعية، لكنه يشبه الآخرين، لا يتابع تطورات العلم ولا يشاهد مسلسلات ولا أفلاماً؛ أغلب وقته يكون مشغولاً بمتابعة السياسة، وهو يعرف جيداً أن السياسة هدر للوقت والجهد، في البيت أتواصل وأنسجم فقط مع أختي الأصغر مني لأنها تفهمني، ولدينا مشتركات كثيرة معها، أهلي لديهم اعتراض على ملابسي ولديهم تحفظ عليها، وهم يخشون كلام الناس على حساب سعادتنا؛ هذا مختصر حياتي”. 

هل سأبدو تقليدياً في نظرهم؟ 

لدينا في المنزل صبيان وأطفال، بعضهم من بدأ تواً مراهقته، ولدى بعضهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا أنظر لحجم هذه الفروق في التفكير، ولهذه الفجوات التي باتت تحكم الحياة حيث الآباء على الأرض يفكرون بالحروب والسياسة، مولعين بحكايات الحصار، وعقد المقارنات بين نظامين ضاعت بينهما حياتهم كما لو أنهما فكا ذئب، وبين أبناء “ميدويّين جدا” لديهم مشاغل وأفكار أكثر تحررا وانفتاحا، لديهم مخاوف أقل وطقوس أنستغرامية، حيث يحرسون الستوريات ويفتحون محالهم التفاعلية مبكرا، أفكر مليا بالفارق الشاسع بين طفولتي وطفولتهم، بين من كذب خاله وأبيه، ومن يعرف تشغيل الهاتف والذهاب لليوتيوب، وهو في سن الرابعة فقط، هل سأبدو تقليديا في نظرهم؟ هل التغيرات السريعة التي مررنا بها طبيعية؟ هل سأصبح قديما قبل دخولي الأربعين مقارنة بمن هم في سن العاشرة مثلاً؟ 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أبي وخالي يكذبان 

لم تكنِ الحياةُ سهلةً كما هي الآن، في عام 1999 عندما ذهب أبي إلى لبيبا من أجل العمل، كانت الحياة واضحة وبطيئة. كان يرسل بين فترة وأخرى، وفي مناسبات معيّنة، رسائل عبر البريد ما زالت أمي تحتفظ بها حتى الآن.  

شكّلت تلك الظروف والطوابع وآثار أصابع الأب البعيد نوعاً من الحميمية بيني وبين الأوراق، فمن هناك عرفت شكل توقيع أبي. 

الرسائل الورقيّة لم تكن الطريقة الوحيدة للتواصل، فكنا نتلقى اتصالاته عبر الهاتف الأرضي في أوقات متقاربة، شبه أسبوعية. لكن أبي كان يكذب. فقد أعطاني مرة كارتاً صغيراً لا أتذكر لونه، وقال: “هذا أضعه في الهاتف كي أتصل بكم من هناك”. اتفقنا، أخي وأنا، أنه يكذب فكيف يُمكن لورقة مثل هذه أن تدخل إلى الهاتف الأرضي، إذ ليس من منفذ لدخول ذلك الكارت فيه، ونحن الذين في حينها لم نكن نعرف إلا النوع القديم من الهواتف. 

بعد شهرينِ من غزو العراق عام 2003، جاء الاتصال من أبي أخيراً بعد فترة من الانقطاع. لكنه اتصل بنا هذه المرّة من جهاز مختلف كلياً عمّا شهدناه. جهاز يسمى “ثريّا”، وعبر أحد أصدقاء خالي، جيء بالجهاز اللاسلكي إلى المنزل. والغريب في الأمر أن ذلك الهاتف لم يُربط بالكهرباء ولا يحتوي على أسلاك كما اعتدنا. 

ما هي إلا أشهر بعد أن هدأت الحرب، حتى بدأت شركات الاتصال تنظم عملها وتشتغل بشكل رسميّ. عمل خالي مبكراً في شركة “عراقنا” للاتصالات، وحينها شاهدت أول هاتف محمول “موبايل”. بعد أيام قليلة جاء أحد أقربائنا إلى خالي طالباً منه أن يُرسل رسالة إلى شخص ما، تهامزنا وتغامزنا، أخي وأنا، ثانية.. خالي يكذب، لا يمكن إرسال رسالة وإدخال ظرف ورقي في هذا الجهاز الصغير، فلم نكن نعرف طريقة وشكلاً للرسائل غير تلك التي كان يرسلها الأب من مكان عمله البعيد. 

أبي وخالي كانا يكذبان، الأول يدخل كارتاً في الهاتف والآخر يرسل رسالة من الهاتف، ما هذا السحر؟ أهذا معقول؟ 

ما يبدو بديهياً الآن، كان في وقت ما ضرباً من ضروب الخيال وخفة اليد. 

مع ذلك تعايشنا مع الهاتف المحمول، فلم يكن عسيراً. كنا صغاراً في العمر فحسب. امتلكت أول هاتف محمول في سن الخامسة عشرة كما أظن، هاتف جاءت بعده سلسلة من الهواتف الذكية والغبية أيضاً. وفي المقابل، فالكثير من الناس لاقوا صعوبة في فهم التقنية التي نضيع فيها ونتبضع منها ونعيش تحت تأثيرها، خصوصا ممن شهدوا ثورة الهواتف، وهم في عمر كبير نسبياً. التقيت العديد من هؤلاء، ممن لم يستوعبوا العملية في بادئ الأمر، والذين يخشون حتى الآن تصديق أن الهاتف مجرد جهاز صغير يربطك في كل بقاع العالم، ولا سيما الأشخاص الذين لم يتدربوا بشكل تدريجيّ على الهواتف الذكية، واقتحمت حياتهم بسرعة، عكس الشبان الذين نموا وعاشوا رفقة الهاتف. 

هذه ليست مدونة شخصية، إنها إحدى قصص مجتمع خرج من الحرب والحصار، ليدخل عنوة إلى اليوتيوب والفيسبوك، غير مكترثين بالفروقات بين العالمين أو لنقل دون مقدمات. 

أجساد كبيرة في جهاز صغير 

في منتصف عام 2004 فتح حسام الصعب (40 عاماً) عيناه على أقصاها، في الوقت الذي فتح له صديقه أحد المقاطع “البورنو” على الموبايل، إذ لم يكن يُصدق أن جهازاً بهذا الحجم يُمكنه أن يضم كل تلك الأثداء والأرداف والممارسات المتنوّعة، فاختلط عليه الشعور بالرعب -كما يقول- بشبح الرغبة، وقتها قال: “أين وصلت الحياة؟ هذا الجهاز صغير جداً وقادر على احتواء كل هذه الأفلام، صارت العملية أقل تعقيداً!”. 

لم يتردّد في اليوم التالي بالتخلي عن جهاز السي دي ورمي أقراصه الإباحية التي كان يجد صعوبة في تشغيلها، فالسي دي كما يرى حسام: “يحتاج مكاناً خاصاً وجهاز تلفاز وغيرها من التفاصيل، إضافة لمخاوف خروج الصوت أبعد من جدران الغرفة”. 

راح إلى أقرب سوق وجاء بالجهاز الجديد (موبايل)، لكنه مع ذلك لم تكن مهمّته يسيرة، فهو لا يعرف كيفية الدخول إلى تلك الحشود من الأجساد العارية فعاد ثانية إلى صديقه الخبير في هذا “الجهاز الملعون” كما صار يسميه لاحقاً؛ أخبره الصديق أن العملية أكثر تعقيداً مما يظن فهو يحتاج إلى “رام” يلمُّ كل تلك النساء دفعة واحدة. استغرق الأمر يومين، مع ذلك نجحت العملية وبات يشاهد الأفلام في أية خلوة صغيرة تحت غطاء النوم أو في الحمام. 

ليس حسام سوى عيّنة عشوائية من مئات الآلاف من العراقيين، الذين اقتحم الهاتف حياتهم فجأة، بل أكلها كما لو أنه حيوان ضخم وصغير في آن.. فهو يلتهم كل الوقت والجهد والطاقة رغم حجمه الصغير. 

هل يعلم الفيسبوك ما في القلوب؟  

ليست ثمة أكبر من الصدمة التي تعرّض لها السيد عباس حمود (54 عاماً)، الذي لا حياة ولا حديث له، غير ذكرياته عن حرب إيران، فهو يعيش كما لو أن حياته بدأت وانتهت هناك، وما أن تتحدث إليه حتى يدير الحديث عن الحرب، فالجبل والنهر والأصدقاء والضحك. وكل ما يدور في الحياة يذكره بوقوفه قبالة الموت لستّ سنوات، يعتبرها الأجمل في حياته. 

عباس من بسطاء هذا العالم القاسي، لكنه مع ذلك قرر عام 2020 الدخول إلى عالم الأرقام والحسابات، فقبلها كان مجرد شخص يمتلك جهازَ اتصال بسيط، لكن أزمة الجلوس الطويل في البيت، أيامَ انتشار فيروس “كورونا”، أجبرته على ادخار بعض المال من أجل شراء جهاز حديث، يمكّنه من التقاط الصور والفيديوهات، وعبر اقتراح أحد الاصدقاء، دخل إلى العالم الموازي الذي لم يكن يعرفه إلا من خلال الأحاديث العامة، وهذا العالم الموازي هو فيسبوك، إنستغرام، يوتيوب، وتيك توك، إلخ.  

لم يكن الدخول وعراً على حمود، فتعلّم بسهولة ويسر كيفية إضافة الأصدقاء والمشاركة ووضع التعليق، صدمته تكمن بالضبط أنه ما أن مسك زمام حسابه في فيسبوك حتى بدأ بالبحث عن رفقائه القدامى الجنود، الذين شاركوه الموضع والخوف والرصاص، والطعام، والحديث. 

يقول “بدأت أبحث عنهم وأكتب أسماءهم الثلاثية”، كما كان يُنادى عليهم في التعداد، “لكنني لم أعثر على أي منهم، لكن في اليوم التالي وقبل أن أذهب إلى الحمام، اقترح عليّ الفيسبوك أحدَ الجنود الذين بحثت عنهم، لكن باسم ثانٍ، فهو في حسابه وضع اسمه ولقب عشيرته فقط، قلت في نفسي: هل الفيسبوك يعلم ما في القلوب؟” 

لم يستوعب الأمر، وعاش حالة من الخوف والقلق، كما يقول، لكنه استقر أخيراً إلى تحليل مفاده أن الجهاز الصغير الذي بيده هو شيطان ينبغي احترامه واحترام ميزاته.  

لم أفهم أبنائي 

“أنا رجل بسيط، أعمل منتسباً في القوّات الأمنية، ولم أتعلم، ولا همَّ عندي غير تربية أولادي الثلاثة، يقول فاضل علي، “لكن في السنتين الأخيرتين، بدأت أشعر أنهم أكثر معرفة مني بأمور الحياة، لدي بنت عمرها تسعة عشر عاماً تتحدث أغلب الوقت باللغة الإنجليزية، وأنا أجد صعوبة بالقراءة العربية، وهذا الأمر مزعج بالنسبة لي، صارت بيننا مسافة كبيرة؛ إذ لا يبدو أن الفرق بيننا عشرون عاماً فقط، أما ابني الصغير لا أفهم أغلب كلماته.. قبل فترة صار يعلمني بعض مصطلحاته التي يتداولها مع رفقائه، وعرفت معنى “الاكس” تشير إلى الحبيب السابق، لا أعرف كيف تحول “حبيبي السابق” إلى “اكس”، مع ذلك أحاول قدر الإمكان تفهُّم عالمهم، لكن بالحقيقة أجد صعوبة، ابني الآن لديه عشرات الصديقات، وهذا الأمر اجتماعيا ليس مقبولاً. في الكثير من الأحيان أخشى أن يتورط، وفي أحيان أخرى أشعر أنه إنسان لطيف، ولا يمكن أن يذهب للخطأ، مرات عديدة يحدث بيننا خلاف وأتنازل لهم، مع ذلك أعترف، أنا أجد صعوبة في فهم أبنائي”. 

الأبناء: تجارة الإنستغرام 

حياة مضاءة باللايكات، تلك هي حياة آية برهان، التي لم تكمل الثامنة عشر، فهي تعمل في بيع وشراء الصفحات الرائجة على الإنستغرام، وبات لديها الكثير من الزبائن من المشاهير خصوصاً، فهي بيدها رفع متابعي أي حساب، أو سحب الدعم عنه.  

تقول آية، “لدي أكثر من 80 حساباً على الإنستغرام الآن، وبعت عشرات الصفحات، لمشاهير وفنانين ومطربين معروفين ولبعض الجهات السياسية حتى، هذا عملي الذي قد يبدو غريباً بالنسبة لمن حولي”. 

وصل سعر بعض الصفحات التي سبق أن باعتها إلى أربعة آلاف دولار، خصوصا في الانتخابات الماضية، وهذا نتاج تعب وجهد، فهي تسهر ليلَ نهار، كما تقول من أجل بناء صفحة واحدة فيها أكثر من “10 k” والمقصود هنا عشرة آلاف متابع، يتطلب الأمر شهوراً من العمل، رغم ذلك لكن ثمة معارضة من قبل الأهل لعمل آية، فقد يرون أنها “تبيع اللاشيء” على حدّ تعبير أمها. 

تعتبر آية أن عائلتها لا تفهم جيداً العالم الجديد، ولا تفهم طريقة تفكيرها، تقول: “أبي رجل كبير في السن إلى حد ما، وليس لديه حساب سوى على فيسبوك، وأمي ربّة منزل تقليدية، ليس لديهما أدنى تصور عن قيمة ما أفعله، إخوتي كاسبون ومتزوجون كبار، ذنبي أنني ولدت متأخرة، نحن في الغرفة نفسها لكن لكل منا عالمه، رغم ذلك في السنة الأخيرة صار قسم من العائلة يقدر ما أفعله وأنا فخورة بنفسي”. 

عشّاق رقميون 

وسط ضجيج الميديا، وحرب اللايكات، ثمة فئة جديرة بالعناية، وهم العشاق الرقميون، هؤلاء الذين تبدأ قصصهم وتنتهي في الدردشة، دونما لقاء أو قبلة حتى. 

يقول سجاد إنه تعرف إلى هدى من أربع سنوات، لكنهما حتى الآن لم يلتقيا؛ لأنها من مدينة بعيدة، وهي من عائلة محافظة، ولا يمكنها الخروج من باب المنزل حتى، يرى أن الحديث معها عبر الواتساب كافيا رغم أنهما عرفا بعضاً في الفيسبوك، يتحدث سجاد إلى هدى طوال الوقت ولم يحسما حتى الآن هذه القصة التي ربما ستستمر حتى نهاية الحياة كما يعبر مازحاً “بيننا الكثير من الأيقونات، ولدينا أطفال في الدردشة، أليس هذا كافيا؟!، ليس مهما أن نتزوج، أمي عادة تقول: لنذهب ونخطبها لكن هي ونحن نعرف الصعوبات وأن الأمر مستحيل”. 

لا أفضل أحاديث أمي وأبي 

ترى شمس ـ وهي طالبة في كلية الهندسة جامعة بغداد ـ أن مشاغل أهلها ليست ذات أهمية، ولا تحبّ حديثهم المستمر عن الآخرين أثناء الطعام وخارجه، تقول: “أمي لا حياة لديها سوى مراقبة عماتي وأعمامي وخالتي والجيران، أمي ماهرة في معرفة كل تفاصيل البيوت، وحقيقة لا أفضل ذلك، الأهم عندي حياتي، وكيف أنجح وكيف أحصل على عمل وأطور علاقتي وأفكاري، لذا أنا مختلفة عنهم تماماً”. 

بينما ترى، والدها ورغم تعليمه العالي، وعمله بمكان مرموق لكنه أيضا رجل تقليدي، تقول: “أبي رغم مكانته الاجتماعية، لكنه يشبه الآخرين، لا يتابع تطورات العلم ولا يشاهد مسلسلات ولا أفلاماً؛ أغلب وقته يكون مشغولاً بمتابعة السياسة، وهو يعرف جيداً أن السياسة هدر للوقت والجهد، في البيت أتواصل وأنسجم فقط مع أختي الأصغر مني لأنها تفهمني، ولدينا مشتركات كثيرة معها، أهلي لديهم اعتراض على ملابسي ولديهم تحفظ عليها، وهم يخشون كلام الناس على حساب سعادتنا؛ هذا مختصر حياتي”. 

هل سأبدو تقليدياً في نظرهم؟ 

لدينا في المنزل صبيان وأطفال، بعضهم من بدأ تواً مراهقته، ولدى بعضهم حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا أنظر لحجم هذه الفروق في التفكير، ولهذه الفجوات التي باتت تحكم الحياة حيث الآباء على الأرض يفكرون بالحروب والسياسة، مولعين بحكايات الحصار، وعقد المقارنات بين نظامين ضاعت بينهما حياتهم كما لو أنهما فكا ذئب، وبين أبناء “ميدويّين جدا” لديهم مشاغل وأفكار أكثر تحررا وانفتاحا، لديهم مخاوف أقل وطقوس أنستغرامية، حيث يحرسون الستوريات ويفتحون محالهم التفاعلية مبكرا، أفكر مليا بالفارق الشاسع بين طفولتي وطفولتهم، بين من كذب خاله وأبيه، ومن يعرف تشغيل الهاتف والذهاب لليوتيوب، وهو في سن الرابعة فقط، هل سأبدو تقليديا في نظرهم؟ هل التغيرات السريعة التي مررنا بها طبيعية؟ هل سأصبح قديما قبل دخولي الأربعين مقارنة بمن هم في سن العاشرة مثلاً؟