في الركن السُّني السياسي: أكثر من مجرّد صراع 

حارث قدّوري

02 تموز 2023

أصبحت المحافظات السنية ساحة للصراعات السياسية وتصفية الحسابات، ومصدراً لتمويل أحزاب وفصائل مسلحة تراجعت شعبيتها بمناطق نفوذها في الوسط والجنوب، واستعاضت بالمناطق الغربية لتكون ساحة مفتوحة.. لكن أين القوى السياسية السنية في هذه المعادلات؟

لم تهدأ الساحة السياسيّة السنية العراقية حتى بعد أن حطّت الانتخابات النيابية المبكرة في تشرين الأول 2021 صناديقها ونتائجها، وأُعلِنَ انضواء “تقدم” و”عزم” تحت مظلة “السيادة”. 

لم تكن المظلة الإقليمية التي جمعت أكبر تكتلين سُنيين في الانتخابات، أكثر من قشرة خفيفة جمعت داخلها تناقضات ثقيلة، فكان انفجارها حتمياً. 

بدأ ذلك مبكراً بظهور منازعين لـ”الزعيم الشاب” محمد الحلبوسي في قلعته التي حصّنها بالدعاية الإعلامية، فأعدت المخاوف من سيناريو لطالما كان مدخلاً لإشعال الشارع وضرب رؤوسه ببعضها، حين استعانت بعض الشخصيات بأطراف في تحالف “الإطار التنسيقي” الشيعي الأشد قرباً لإيران، لتعلن الحرب على “محتكر النفوذ والقرار في محافظة الأنبار”، الذي جعل فلوجتها مركز القرار العربي السني في العراق. 

احتمى خصوم الحلبوسي الأنباريون بمتاريس العشيرة وحجج الدستور والقانون، لكن المحاولة لم تلق تجاوباً شعبياً كبيراً في محافظة ما تزال تعاني آثاراً ماديةً ونفسية وبشرية للحروب، لكن شرارة النزاع سرعان ما انتقلت إلى محافظات أخرى حيث تتشوّق جهات محلية مختلفة للتخلص من هيمنة “الفائز الأكبر” في الانتخابات، ووجدت فيها فرصة لوقف تمدده على خرائطها. 

تفاقم الصراع أكثر مع التحضير لانتخابات مجالس المحافظات التي حدد مجلس الوزراء 18 كانون الأول 2023 موعداً لإجرائها، ولا يبدو أن المحاولات الدولية/الإقليمية ستتمكن من إطفائه. 

الجذور 

حملت انتخابات 2018 إلى السلطة التشريعية وجهاً جديداً، كان نائباً في البرلمان منذ عام 2014، ثم محافظاً للأنبار، قبل أن يعتلي رئاسة البرلمان الاتحادي. 

خرج محمد الحلبوسي من عباءة “حركة الحل” التي يقودها آل الكربولي، الذين قدموه كـ”وجه واعد” وشاب أكثر براغماتية واستيعاباً للتعقيدات العراقية. 

لكن “أيام العسل” لم تطل بين الكرابلة ولاعبهم الشاب، فتطورت المناكفات الكلامية والتشنج الإعلامي إلى إعلان الحلبوسي تأسيس “حزب تقدم”، منسلخاً عن تنظيمات “الحل”، حتى زجّ، بعدها، بعرّابه السابق -جمال الكربولي- في السجن بتهمة الفساد، ولم يُفرج عنه إلا بتسوية وحالٍ صحية حرجة حسب مقرّبيه. 

وفي حلقة أخرى من خسارات الكرابلة، أخفق وجه “حركة الحل” الأبرز في بغداد محمد الكربولي ومرشحوه في الانتخابات النيابية المبكرة، ليتضخم الحلبوسي في مساحتهم أكثر، وتتفاقم القطيعة أكثر.  

وفي سياق غير منفصل؛ كان خميس الخنجر، الحليف الأبرز لقوى الإطار الحالية، يتطلع لتبوء الزعامة وملء الفراغ الذي لم يشغله أحد في المناطق السُنية، لكنه فوجئ بمطبات كثيرة من صنيعة الحلبوسي. وشعر أحمد الجبوري -أبو مازن- وآخرون، أن الحزب الفتيّ يقترب من ابتلاع مناطقهم. وظهر آخرون أرادوا استعادة نفوذهم “السليب”؛ كآل “أبو ريشة” وعلي حاتم السليمان في الأنبار، وآل “النجيفي” في نينوى -وإن كانوا أقل حدة في الصدام مع الحلبوسي وتقدمه- فتجمعت أسباب العداء. 

تشرين كفرصة 

بشكل مفاجئ وغير متوقع انفجرت تظاهرات تشرين 2019 مزلزلةً البناء السياسي التوافقي، لتحرج أعمدة محاصصته، والشيعة خصوصاً، على اعتبار أنها انبثقت وتمددت بحاضنات شيعية. 

وفي خضم التظاهرات والصدامات اليومية التي كان ميدانها قلب بغداد وبعض مدن الجنوب؛ كان محمد الحلبوسي يمضي في بناء مشروعه بهدوء، بعيداً عن صخب التظاهرات، فقدّم تجربته السياسية في الأنبار أولاً، ثم نينوى وبعض مناطق بغداد، وأحسن تسويقها إعلامياً، لتبدو مناطق نفوذه أشبه بـ”واحات استقرار” وسط فوضى لا حدود لها في مركز الدولة والجنوب. 

خلع الحلبوسي سترته وسط المتظاهرين واستقبل أعداداً منهم، فيما اعتبره خصومه “متاجرة بتشرين” وركوباً لموجتها، رغم أنه كان أحد الذين أصابتهم سهام الاحتجاجات، إلا أن جام غضب المتظاهرين انصب بشكل أكبر على الزعماء الشيعة، خصوصاً بعد دخول التيار الصدري على الخط، واشتعال نار تصفية حسابات المذهب الواحد. 

وحين استفاقت القوى الشيعية الكبرى من صدمة تشرين، كان الحلبوسي حقق نجاحاً بتقديم نفسه -محلياً وإقليمياً- كزعيم للعرب السنة، ومنقذ لهم من شتات وتفرّق دام سنوات. 

استطاع الحلبوسي أن يصفّر خلافاته السياسية خارج ساحته، وبنى جملة من العلاقات الوطيدة مع جميع جيران العراق، وقوى دولية مؤثرة، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا والخليج. 

فضلاً عن ذلك، جمعته شراكات وتحالفات بقوى شيعية مهيمنة، ظهرت نتائجها لاحقاً عند تشكّل الائتلافات الانتخابية، ثم عندما ضمن الولاية الثانية برئاسة البرلمان. 

سحابة صيف “صدرية” 

لم يكن فوز الكتلة الصدرية في انتخابات 2021 مفاجئاً: قدموا أنفسهم كـ”محاربين للفساد” مناغمين بذلك المشاعر الشعبية، كما استطاعوا فهم لعبة الدوائر الانتخابية التي فرضوها مع تشرين قانوناً انتخابياً على القوى السياسية، وحافظوا على تماسك القسم الأكبر من جمهورهم في الشارع، فحصدوا الثمار. 

لكن هذا الفوز فاقم الصراع الشيعي، وراح “الإطار التنسيقي” الذي تشكّل بعد الانتخابات، يطارد مقتدى الصدر وتياره بتهم الارتهان للخارج و”التطبيع”، والتبعية لبعض الأطراف الإقليمية، واشتعلت معركة قصف السفارات والبعثات الدولية، والدعوات لإخراج القوات الأمريكية من العراق. 

مجدداً، وجد الحلبوسي نفسه في فسحة من هذا الضغط كلّه، خاصة بعد تحالفه مع “عزم”، وترحيبه بفوز التيار الصدري في الانتخابات، وإعلانه العمل معه لتشكيل الكتلة الأكبر داخل مجلس النواب، بالتفاهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. 

لكن نيران غضب الإطار وصلت البيت السني أيضاً، وتعرضت مقار تابعة لـ”تقدم” لاعتداءات بقنابل صوتية بهدف زعزعة اتفاق الحلبوسي-الصدر. 

التزم تحالف “السيادة” الصمت إزاء هذه الاعتداءات، ولم يتهم أية جهة بالوقوف وراءها، فيما واصلت الكتلة الصدرية العمل على بناء جسور مع مسعود بارزاني أيضا -الفائز الكردي الأكبر-.  

وظهر بمرور الوقت أن الحكومة القادمة ستكون “تشاركية” بين ممثلي الشيعة والعرب السنة والأكراد، بمجابهة شيعة وسنة وأكراد آخرين وإجبارهم على المعارضة، لكن ذلك لم يكن أكثر من سحابة صيف عابرة، إذ سرعان ما أثمرت ضغوط “الإطار” انسحاب الصدر وكتلته من البرلمان الجديد، وانقضاض التحالف القريب من إيران على السلطة. 

وجدت أطراف “الإطار” نفسها مضطرة للتعامل مع الشريك السني الذي فرضته ظروف الأمر الواقع، رغم الحنق الشديد على تحالفه السابق مع غريمهم مقتدى الصدر. 

وبالرغم من إعلان الشراكة الجديدة، إلا أن الأجواء بين الطرفين شابها الكثير من الاحتقان وسوء النوايا، كما كشفت عن ذلك تسريبات نوري المالكي الصوتية في وقت لاحق. 

شركاء أعداء 

لم تكن مشكلة “تحالف السيادة” الجديد مع “الإطار” فقط، حيث أبدى نواب في “عزم” اعتراضهم على التوحد مع “تقدم”، وأعلنوا تشكيل تحالف جديد؛ حمل التسمية القديمة نفسها؛ بإضافة ألف ولام التعريف، فصار “العزم”، برئاسة مثنى السامرائي. 

ظهرت كذلك مشكلة بعض النواب الذين سُحبت عضويتهم في البرلمان لأسباب مختلفة مثل مشعان الجبوري وليث الدليمي، بالإضافة إلى اتهامات متفرقة بالانحياز لبعض المرشحين على حساب البعض الآخر، كما حصل مع حيدر الملا. 

كان إلغاء المحكمة الاتحادية عضوية مشعان الجبوري في مجلس النواب بتهمة “تزوير الشهادة الدراسية” بمثابة صافرة البداية لتجدد النزاع بشكل صارخ داخل الساحة السنية، بعد فترة هدوء نسبي. 

حمل مشعان أوراقه متجولاً بين الفضائيات، مهاجماً الحلبوسي، ومتهماً إياه بالاستبداد واحتكار القرار لنفسه داخل كتلة السيادة، ثم “التآمر على الشيعة”؛ بعد أن مدحه وتحالف معه في وقت سابق. 

بعض قوى الإطار وجدت في مشعان فرصة لتصفية خلافها غير الخفيّ مع الحلبوسي، فعملت وسائل إعلامها على استضافته وبعض الناقمين على “تقدم” بشكل دائم، ثم التحق بالركب أحمد الجبوري أبو مازن، وعلي حاتم السليمان وسطام أبو ريشة وخالد العبيدي وسليم الجبوري، وشخصيات أخرى. 

ورغم أن “السيادة” صمد كتحالف موحد تحت قبة البرلمان، إلا أنه سرعان ما ظهرت آثار الحرائق الجديدة، التي كلما أخمد واحد منها نشب الآخر في محافظة ذات أغلبية سنية أخرى. 

تسوية الحلبوسي للخلاف مع علي حاتم، وغض الطرف عن أبي مازن و”العزم”، لم تمنع من تحركات شقت صف تحالف الحلبوسي-الخنجر على أرض الواقع، ليولد ما يعرف بـ”تحالف السيادة الجديد”. 

التهيؤ للنزال 

في السياسة السنية العراقية، تجتمع قوى حزبية تحت يافطة واحدة داخل مؤسسة ما في الدولة، لكنها تصارع بعضها البعض في الشارع أو في مؤسسات أخرى. 

عملياً، لم يعد “تحالف السيادة” موجوداً إلا داخل البرلمان، أما خارجه فقد اختار الخنجر ما أسماه “تحالف السيادة الجديد”، ضم في صفوفه أعداداً من الناقمين على شريكه الحلبوسي، وبدأت أطراف هذا التكتل الجديد العمل استعداداً لمجالس المحافظات، فيما يتسرب أن الحلبوسي سيخوض الانتخابات المحلية تحت لافتة “تقدم” بمعزل عن “السيادة”. 

قد يبدو فوز الحلبوسي بولاية ثانية داخل البرلمان “سقطة” وخللا ينبغي معالجته، بعد أن أبدت قوى الإطار خشيتها من تضخم نفوذه وتأثيره وتمدده داخل جسد الدولة، ولعبه حتى داخل الساحة الشيعية أحياناً. 

قوى سياسية أخرى تستعد للمشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، بينها “المشروع الوطني” الذي يرأسه جمال الضاري، والذي نأى بنفسه خلال السنوات الماضية عن الصراع الداخلي بين القوى السنية، فضلاً عن “الحل” التي تريد رد اعتبارها وتعويض الخسائر. 

بموازاة ذلك، هناك شبه إجماع في الإطار التنسيقي، على إنهاء “حقبة الحلبوسي”، وقضم نفوذه حتى في الأنبار، وتجلى ذلك بإنشاء التحالف المضاد، الذي يترأسه رافع العيساوي، بعدما برّأه القضاء من التهم السابقة، فضلاً عن محاولة إقالة زعيم “تقدم” من رئاسة البرلمان، واستبداله بآخر من “العزم” التابع لمثنى السامرائي، في الوقت الذي بدأ فيه الأخير طرح أسماء نالت بعض الشعبية مؤخراً، كبدلاء للحلبوسي، مثل وزير الدفاع ثابت العباسي. 

مقربون من “العزم” يؤكدون أن العباسي يعمل على تأسيس تحالف يمثل محافظة نينوى خلال الفترة المقبلة، وقد استطاع اقناع المحافظ نجم الجبوري -المحسوب على “تقدم”- بالانضمام إليه، فيما تسعى جهات في “الإطار” إلى تسوية أوضاعها في المحافظات السنية، من أجل المحافظة على النسب التي تتقاضاها من المشاريع في تلك المحافظات. 

أموال بلا حدود! 

وبنظرة فاحصة على مجريات الأمور في المحافظات السنية؛ يتبين أن الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية، والقريبة من إيران على وجه الخصوص، هي العامل الأكثر تأثيراً في عمليات بناء التحالفات القادمة. 

محافظ نينوى نجم الجبوري كشف في مقابلة إذاعية سابقة أن بعض الجهات تحصل على نسب تتراوح بين 10 و20 بالمئة عن كل مشروع في المحافظة، ويسري الأمر نفسه على صلاح الدين وكركوك وديالى والأنبار، بنسب متفاوتة. 

وزير الدفاع الأسبق خالد العبيدي دخل على الخط، متهما محافظ نينوى الحالي بالتلكؤ في إنجاز المشاريع المقررة لإعمار المحافظة، مع تردد أنباء عن شمول الجبوري بقانون “المساءلة والعادلة” واحتمالية إبعاده خلال الفترة المقبلة. 

في الأنبار، أثيرت قضية قطع الأراضي في ناحية الوفاء التابعة للرمادي، مع حديث عن فساد تورط فيه مسؤولون محليون محسوبون على الحلبوسي، فيما تتطاير الاتهامات في صلاح الدين حول تورّط موظفين كبار، بفساد مالي وإداري، إلا أن إدانتهم تمضي بوتيرة أبطأ، بفضل “تفاهمات سياسية” مع القوى المسيطرة في بغداد. 

في ديالى تختلف الأمور بعض الشيء، لأن القوى السنية الفائزة في انتخابات 2021 ما تزال ترتب صفوفها استعداداً لاستعادة منصب المحافظ الذي فقدته في صفقة سياسية عقدها الائتلاف الشيعي مع سليم الجبوري مقابل بقائه رئيساً للبرلمان. 

أما في كركوك، فما زال العرب السنة يعيشون نشوة الانتصار الذي أهداه لهم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بعد إعادة المحافظة إلى إدارة المركز، كما أن حدة الانقسام القومي تجعل العرب هناك أكثر قابلية للتوحد أمام المحاولات الكردية لضم المدينة وقصباتها للإقليم. 

منتصرون وجائزة كبرى! 

بالإضافة لشرعنة السلاح، كانت “الجائزة الكبرى” التي حصلت عليها الفصائل والأحزاب الشيعية، بعد القضاء على داعش هي “المكاتب الاقتصادية” التي أنشأتها في المحافظات المحررة، وقاسمت بها الأهالي كل دينار يدخل من الموازنة إلى خزائن مدنهم وقراهم. 

سيطر الحشد الشعبي بأذرعه المحلية على الحياة العامة في تكريت وسامراء وأجزاء كبيرة من نينوى والأنبار فضلا عن ديالى، ويمكن حتى اليوم مشاهدة صور الخميني وخامنئي وقادة إيران معلقة بأحجام كبيرة على طول الطريق الذي يبدأ من بغداد باتجاه الشمال ومراكز مدنه، دون أن يجرؤ أحد على العبث بها أو رفعها من أماكنها. 

وبات مألوفاً أن تشاهد منتسبين للعصائب والكتائب ومنظمة بدر في مناطق سنية مغلقة، وأن تجد عمر وعثمان وسفيان يهتفون باسم الحشد و”المرجعية” ومحور المقاومة. 

ومع تزايد نفوذ “تقدم” ورغبتها في الهيمنة على الفضاءات العامة سياسياً واقتصادياً في تلك المحافظات، بدا أن غرق المركب حتمي، وتحوَّل صعود “الحلبوسي الذي نسي نفسه ومن أتى به” كما يتداول أنصار الإطار في مجالسهم الخاصة والعامة، تحول إلى مشروع لإقصائه، وتصفير الساحة السنية من جديد. 

تطوعت قوى محلية للمشاركة في المهمة، بعدما شعرت أنها خرجت خاوية اليدين من حصاد غنائم السنين الفائتة، فلا عقود إعمار ولا مقاولات ولا مناصب ذات شأن في المركز والمحافظات، بعدما حاز الحلبوسي القسم الأكبر منها. 

بدأ الحراك في ساحة الحلبوسي نفسها، عبر تأسيس “تحالف الأنبار الموحد” الذي جمع خاسرين في الانتخابات وملاحقين قضائيا تحت لافتة واحدة، تصدرها رافع العيساوي، الذي ظهر برفقة قادة الإطار في مناسبات عدة، بينها حفل ذكرى انتصار ثورة الخميني، الذي أقيم في سفارة طهران ببغداد، ليطرح تساؤلات عن الاتفاق الذي انعقد بين الطرفين، وطويت بموجبه حقبة طويلة من العداء المتبادل، حولت العراق في فترة ما إلى محرقة جماعية. 

يواجه الحلبوسي منذ مدّة العديد من المحاولات البرلمانية لإقالته من منصبه، يقودها أطراف في الإطار، فيما تفضل أطراف أخرى داخل الإطار نفسه، بقاءه حتى نهاية الدورة على أن يضعف أكثر، لاعتبارات إقليمية ودولية. 

وهكذا، أصبحت المحافظات السنية ساحة للصراعات السياسية وتصفية الحسابات، ومصدراً هاماً لتمويل أحزاب وفصائل المركز، التي تراجعت شعبيتها بمناطق نفوذها في محافظات الوسط والجنوب، لتستعيض بالمناطق الغربية. 

ستشتد الصراعات أكثر كلّما اقترب موعد انتخابات مجالس المحافظات، وستتخذ أشكالاً أكثر شراسة، لما تضمنه المجالس والمحافظات والسيطرة على مفاصلها، من نفوذ وسلطة وما تدرّه من مكاسب، ولن يكون غريباً أن تضمحلّ أطراف وتتضخّم أخرى، وبمعزل عن سباق الصناديق والمقاعد، لن تسمح القوى السياسية/المسلحة الشيعية بأن ينمو حزب أو تحالف أو سياسي سُنيّ حتى يصير ندّاً، ولن تكون مهمتها صعبة إذا كان هذا المتنامي يلعب بطريقتها وفوق حلباتها ويخطأ تحت أنظارها. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية  ”نيريج”  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لم تهدأ الساحة السياسيّة السنية العراقية حتى بعد أن حطّت الانتخابات النيابية المبكرة في تشرين الأول 2021 صناديقها ونتائجها، وأُعلِنَ انضواء “تقدم” و”عزم” تحت مظلة “السيادة”. 

لم تكن المظلة الإقليمية التي جمعت أكبر تكتلين سُنيين في الانتخابات، أكثر من قشرة خفيفة جمعت داخلها تناقضات ثقيلة، فكان انفجارها حتمياً. 

بدأ ذلك مبكراً بظهور منازعين لـ”الزعيم الشاب” محمد الحلبوسي في قلعته التي حصّنها بالدعاية الإعلامية، فأعدت المخاوف من سيناريو لطالما كان مدخلاً لإشعال الشارع وضرب رؤوسه ببعضها، حين استعانت بعض الشخصيات بأطراف في تحالف “الإطار التنسيقي” الشيعي الأشد قرباً لإيران، لتعلن الحرب على “محتكر النفوذ والقرار في محافظة الأنبار”، الذي جعل فلوجتها مركز القرار العربي السني في العراق. 

احتمى خصوم الحلبوسي الأنباريون بمتاريس العشيرة وحجج الدستور والقانون، لكن المحاولة لم تلق تجاوباً شعبياً كبيراً في محافظة ما تزال تعاني آثاراً ماديةً ونفسية وبشرية للحروب، لكن شرارة النزاع سرعان ما انتقلت إلى محافظات أخرى حيث تتشوّق جهات محلية مختلفة للتخلص من هيمنة “الفائز الأكبر” في الانتخابات، ووجدت فيها فرصة لوقف تمدده على خرائطها. 

تفاقم الصراع أكثر مع التحضير لانتخابات مجالس المحافظات التي حدد مجلس الوزراء 18 كانون الأول 2023 موعداً لإجرائها، ولا يبدو أن المحاولات الدولية/الإقليمية ستتمكن من إطفائه. 

الجذور 

حملت انتخابات 2018 إلى السلطة التشريعية وجهاً جديداً، كان نائباً في البرلمان منذ عام 2014، ثم محافظاً للأنبار، قبل أن يعتلي رئاسة البرلمان الاتحادي. 

خرج محمد الحلبوسي من عباءة “حركة الحل” التي يقودها آل الكربولي، الذين قدموه كـ”وجه واعد” وشاب أكثر براغماتية واستيعاباً للتعقيدات العراقية. 

لكن “أيام العسل” لم تطل بين الكرابلة ولاعبهم الشاب، فتطورت المناكفات الكلامية والتشنج الإعلامي إلى إعلان الحلبوسي تأسيس “حزب تقدم”، منسلخاً عن تنظيمات “الحل”، حتى زجّ، بعدها، بعرّابه السابق -جمال الكربولي- في السجن بتهمة الفساد، ولم يُفرج عنه إلا بتسوية وحالٍ صحية حرجة حسب مقرّبيه. 

وفي حلقة أخرى من خسارات الكرابلة، أخفق وجه “حركة الحل” الأبرز في بغداد محمد الكربولي ومرشحوه في الانتخابات النيابية المبكرة، ليتضخم الحلبوسي في مساحتهم أكثر، وتتفاقم القطيعة أكثر.  

وفي سياق غير منفصل؛ كان خميس الخنجر، الحليف الأبرز لقوى الإطار الحالية، يتطلع لتبوء الزعامة وملء الفراغ الذي لم يشغله أحد في المناطق السُنية، لكنه فوجئ بمطبات كثيرة من صنيعة الحلبوسي. وشعر أحمد الجبوري -أبو مازن- وآخرون، أن الحزب الفتيّ يقترب من ابتلاع مناطقهم. وظهر آخرون أرادوا استعادة نفوذهم “السليب”؛ كآل “أبو ريشة” وعلي حاتم السليمان في الأنبار، وآل “النجيفي” في نينوى -وإن كانوا أقل حدة في الصدام مع الحلبوسي وتقدمه- فتجمعت أسباب العداء. 

تشرين كفرصة 

بشكل مفاجئ وغير متوقع انفجرت تظاهرات تشرين 2019 مزلزلةً البناء السياسي التوافقي، لتحرج أعمدة محاصصته، والشيعة خصوصاً، على اعتبار أنها انبثقت وتمددت بحاضنات شيعية. 

وفي خضم التظاهرات والصدامات اليومية التي كان ميدانها قلب بغداد وبعض مدن الجنوب؛ كان محمد الحلبوسي يمضي في بناء مشروعه بهدوء، بعيداً عن صخب التظاهرات، فقدّم تجربته السياسية في الأنبار أولاً، ثم نينوى وبعض مناطق بغداد، وأحسن تسويقها إعلامياً، لتبدو مناطق نفوذه أشبه بـ”واحات استقرار” وسط فوضى لا حدود لها في مركز الدولة والجنوب. 

خلع الحلبوسي سترته وسط المتظاهرين واستقبل أعداداً منهم، فيما اعتبره خصومه “متاجرة بتشرين” وركوباً لموجتها، رغم أنه كان أحد الذين أصابتهم سهام الاحتجاجات، إلا أن جام غضب المتظاهرين انصب بشكل أكبر على الزعماء الشيعة، خصوصاً بعد دخول التيار الصدري على الخط، واشتعال نار تصفية حسابات المذهب الواحد. 

وحين استفاقت القوى الشيعية الكبرى من صدمة تشرين، كان الحلبوسي حقق نجاحاً بتقديم نفسه -محلياً وإقليمياً- كزعيم للعرب السنة، ومنقذ لهم من شتات وتفرّق دام سنوات. 

استطاع الحلبوسي أن يصفّر خلافاته السياسية خارج ساحته، وبنى جملة من العلاقات الوطيدة مع جميع جيران العراق، وقوى دولية مؤثرة، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا والخليج. 

فضلاً عن ذلك، جمعته شراكات وتحالفات بقوى شيعية مهيمنة، ظهرت نتائجها لاحقاً عند تشكّل الائتلافات الانتخابية، ثم عندما ضمن الولاية الثانية برئاسة البرلمان. 

سحابة صيف “صدرية” 

لم يكن فوز الكتلة الصدرية في انتخابات 2021 مفاجئاً: قدموا أنفسهم كـ”محاربين للفساد” مناغمين بذلك المشاعر الشعبية، كما استطاعوا فهم لعبة الدوائر الانتخابية التي فرضوها مع تشرين قانوناً انتخابياً على القوى السياسية، وحافظوا على تماسك القسم الأكبر من جمهورهم في الشارع، فحصدوا الثمار. 

لكن هذا الفوز فاقم الصراع الشيعي، وراح “الإطار التنسيقي” الذي تشكّل بعد الانتخابات، يطارد مقتدى الصدر وتياره بتهم الارتهان للخارج و”التطبيع”، والتبعية لبعض الأطراف الإقليمية، واشتعلت معركة قصف السفارات والبعثات الدولية، والدعوات لإخراج القوات الأمريكية من العراق. 

مجدداً، وجد الحلبوسي نفسه في فسحة من هذا الضغط كلّه، خاصة بعد تحالفه مع “عزم”، وترحيبه بفوز التيار الصدري في الانتخابات، وإعلانه العمل معه لتشكيل الكتلة الأكبر داخل مجلس النواب، بالتفاهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. 

لكن نيران غضب الإطار وصلت البيت السني أيضاً، وتعرضت مقار تابعة لـ”تقدم” لاعتداءات بقنابل صوتية بهدف زعزعة اتفاق الحلبوسي-الصدر. 

التزم تحالف “السيادة” الصمت إزاء هذه الاعتداءات، ولم يتهم أية جهة بالوقوف وراءها، فيما واصلت الكتلة الصدرية العمل على بناء جسور مع مسعود بارزاني أيضا -الفائز الكردي الأكبر-.  

وظهر بمرور الوقت أن الحكومة القادمة ستكون “تشاركية” بين ممثلي الشيعة والعرب السنة والأكراد، بمجابهة شيعة وسنة وأكراد آخرين وإجبارهم على المعارضة، لكن ذلك لم يكن أكثر من سحابة صيف عابرة، إذ سرعان ما أثمرت ضغوط “الإطار” انسحاب الصدر وكتلته من البرلمان الجديد، وانقضاض التحالف القريب من إيران على السلطة. 

وجدت أطراف “الإطار” نفسها مضطرة للتعامل مع الشريك السني الذي فرضته ظروف الأمر الواقع، رغم الحنق الشديد على تحالفه السابق مع غريمهم مقتدى الصدر. 

وبالرغم من إعلان الشراكة الجديدة، إلا أن الأجواء بين الطرفين شابها الكثير من الاحتقان وسوء النوايا، كما كشفت عن ذلك تسريبات نوري المالكي الصوتية في وقت لاحق. 

شركاء أعداء 

لم تكن مشكلة “تحالف السيادة” الجديد مع “الإطار” فقط، حيث أبدى نواب في “عزم” اعتراضهم على التوحد مع “تقدم”، وأعلنوا تشكيل تحالف جديد؛ حمل التسمية القديمة نفسها؛ بإضافة ألف ولام التعريف، فصار “العزم”، برئاسة مثنى السامرائي. 

ظهرت كذلك مشكلة بعض النواب الذين سُحبت عضويتهم في البرلمان لأسباب مختلفة مثل مشعان الجبوري وليث الدليمي، بالإضافة إلى اتهامات متفرقة بالانحياز لبعض المرشحين على حساب البعض الآخر، كما حصل مع حيدر الملا. 

كان إلغاء المحكمة الاتحادية عضوية مشعان الجبوري في مجلس النواب بتهمة “تزوير الشهادة الدراسية” بمثابة صافرة البداية لتجدد النزاع بشكل صارخ داخل الساحة السنية، بعد فترة هدوء نسبي. 

حمل مشعان أوراقه متجولاً بين الفضائيات، مهاجماً الحلبوسي، ومتهماً إياه بالاستبداد واحتكار القرار لنفسه داخل كتلة السيادة، ثم “التآمر على الشيعة”؛ بعد أن مدحه وتحالف معه في وقت سابق. 

بعض قوى الإطار وجدت في مشعان فرصة لتصفية خلافها غير الخفيّ مع الحلبوسي، فعملت وسائل إعلامها على استضافته وبعض الناقمين على “تقدم” بشكل دائم، ثم التحق بالركب أحمد الجبوري أبو مازن، وعلي حاتم السليمان وسطام أبو ريشة وخالد العبيدي وسليم الجبوري، وشخصيات أخرى. 

ورغم أن “السيادة” صمد كتحالف موحد تحت قبة البرلمان، إلا أنه سرعان ما ظهرت آثار الحرائق الجديدة، التي كلما أخمد واحد منها نشب الآخر في محافظة ذات أغلبية سنية أخرى. 

تسوية الحلبوسي للخلاف مع علي حاتم، وغض الطرف عن أبي مازن و”العزم”، لم تمنع من تحركات شقت صف تحالف الحلبوسي-الخنجر على أرض الواقع، ليولد ما يعرف بـ”تحالف السيادة الجديد”. 

التهيؤ للنزال 

في السياسة السنية العراقية، تجتمع قوى حزبية تحت يافطة واحدة داخل مؤسسة ما في الدولة، لكنها تصارع بعضها البعض في الشارع أو في مؤسسات أخرى. 

عملياً، لم يعد “تحالف السيادة” موجوداً إلا داخل البرلمان، أما خارجه فقد اختار الخنجر ما أسماه “تحالف السيادة الجديد”، ضم في صفوفه أعداداً من الناقمين على شريكه الحلبوسي، وبدأت أطراف هذا التكتل الجديد العمل استعداداً لمجالس المحافظات، فيما يتسرب أن الحلبوسي سيخوض الانتخابات المحلية تحت لافتة “تقدم” بمعزل عن “السيادة”. 

قد يبدو فوز الحلبوسي بولاية ثانية داخل البرلمان “سقطة” وخللا ينبغي معالجته، بعد أن أبدت قوى الإطار خشيتها من تضخم نفوذه وتأثيره وتمدده داخل جسد الدولة، ولعبه حتى داخل الساحة الشيعية أحياناً. 

قوى سياسية أخرى تستعد للمشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، بينها “المشروع الوطني” الذي يرأسه جمال الضاري، والذي نأى بنفسه خلال السنوات الماضية عن الصراع الداخلي بين القوى السنية، فضلاً عن “الحل” التي تريد رد اعتبارها وتعويض الخسائر. 

بموازاة ذلك، هناك شبه إجماع في الإطار التنسيقي، على إنهاء “حقبة الحلبوسي”، وقضم نفوذه حتى في الأنبار، وتجلى ذلك بإنشاء التحالف المضاد، الذي يترأسه رافع العيساوي، بعدما برّأه القضاء من التهم السابقة، فضلاً عن محاولة إقالة زعيم “تقدم” من رئاسة البرلمان، واستبداله بآخر من “العزم” التابع لمثنى السامرائي، في الوقت الذي بدأ فيه الأخير طرح أسماء نالت بعض الشعبية مؤخراً، كبدلاء للحلبوسي، مثل وزير الدفاع ثابت العباسي. 

مقربون من “العزم” يؤكدون أن العباسي يعمل على تأسيس تحالف يمثل محافظة نينوى خلال الفترة المقبلة، وقد استطاع اقناع المحافظ نجم الجبوري -المحسوب على “تقدم”- بالانضمام إليه، فيما تسعى جهات في “الإطار” إلى تسوية أوضاعها في المحافظات السنية، من أجل المحافظة على النسب التي تتقاضاها من المشاريع في تلك المحافظات. 

أموال بلا حدود! 

وبنظرة فاحصة على مجريات الأمور في المحافظات السنية؛ يتبين أن الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية، والقريبة من إيران على وجه الخصوص، هي العامل الأكثر تأثيراً في عمليات بناء التحالفات القادمة. 

محافظ نينوى نجم الجبوري كشف في مقابلة إذاعية سابقة أن بعض الجهات تحصل على نسب تتراوح بين 10 و20 بالمئة عن كل مشروع في المحافظة، ويسري الأمر نفسه على صلاح الدين وكركوك وديالى والأنبار، بنسب متفاوتة. 

وزير الدفاع الأسبق خالد العبيدي دخل على الخط، متهما محافظ نينوى الحالي بالتلكؤ في إنجاز المشاريع المقررة لإعمار المحافظة، مع تردد أنباء عن شمول الجبوري بقانون “المساءلة والعادلة” واحتمالية إبعاده خلال الفترة المقبلة. 

في الأنبار، أثيرت قضية قطع الأراضي في ناحية الوفاء التابعة للرمادي، مع حديث عن فساد تورط فيه مسؤولون محليون محسوبون على الحلبوسي، فيما تتطاير الاتهامات في صلاح الدين حول تورّط موظفين كبار، بفساد مالي وإداري، إلا أن إدانتهم تمضي بوتيرة أبطأ، بفضل “تفاهمات سياسية” مع القوى المسيطرة في بغداد. 

في ديالى تختلف الأمور بعض الشيء، لأن القوى السنية الفائزة في انتخابات 2021 ما تزال ترتب صفوفها استعداداً لاستعادة منصب المحافظ الذي فقدته في صفقة سياسية عقدها الائتلاف الشيعي مع سليم الجبوري مقابل بقائه رئيساً للبرلمان. 

أما في كركوك، فما زال العرب السنة يعيشون نشوة الانتصار الذي أهداه لهم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي بعد إعادة المحافظة إلى إدارة المركز، كما أن حدة الانقسام القومي تجعل العرب هناك أكثر قابلية للتوحد أمام المحاولات الكردية لضم المدينة وقصباتها للإقليم. 

منتصرون وجائزة كبرى! 

بالإضافة لشرعنة السلاح، كانت “الجائزة الكبرى” التي حصلت عليها الفصائل والأحزاب الشيعية، بعد القضاء على داعش هي “المكاتب الاقتصادية” التي أنشأتها في المحافظات المحررة، وقاسمت بها الأهالي كل دينار يدخل من الموازنة إلى خزائن مدنهم وقراهم. 

سيطر الحشد الشعبي بأذرعه المحلية على الحياة العامة في تكريت وسامراء وأجزاء كبيرة من نينوى والأنبار فضلا عن ديالى، ويمكن حتى اليوم مشاهدة صور الخميني وخامنئي وقادة إيران معلقة بأحجام كبيرة على طول الطريق الذي يبدأ من بغداد باتجاه الشمال ومراكز مدنه، دون أن يجرؤ أحد على العبث بها أو رفعها من أماكنها. 

وبات مألوفاً أن تشاهد منتسبين للعصائب والكتائب ومنظمة بدر في مناطق سنية مغلقة، وأن تجد عمر وعثمان وسفيان يهتفون باسم الحشد و”المرجعية” ومحور المقاومة. 

ومع تزايد نفوذ “تقدم” ورغبتها في الهيمنة على الفضاءات العامة سياسياً واقتصادياً في تلك المحافظات، بدا أن غرق المركب حتمي، وتحوَّل صعود “الحلبوسي الذي نسي نفسه ومن أتى به” كما يتداول أنصار الإطار في مجالسهم الخاصة والعامة، تحول إلى مشروع لإقصائه، وتصفير الساحة السنية من جديد. 

تطوعت قوى محلية للمشاركة في المهمة، بعدما شعرت أنها خرجت خاوية اليدين من حصاد غنائم السنين الفائتة، فلا عقود إعمار ولا مقاولات ولا مناصب ذات شأن في المركز والمحافظات، بعدما حاز الحلبوسي القسم الأكبر منها. 

بدأ الحراك في ساحة الحلبوسي نفسها، عبر تأسيس “تحالف الأنبار الموحد” الذي جمع خاسرين في الانتخابات وملاحقين قضائيا تحت لافتة واحدة، تصدرها رافع العيساوي، الذي ظهر برفقة قادة الإطار في مناسبات عدة، بينها حفل ذكرى انتصار ثورة الخميني، الذي أقيم في سفارة طهران ببغداد، ليطرح تساؤلات عن الاتفاق الذي انعقد بين الطرفين، وطويت بموجبه حقبة طويلة من العداء المتبادل، حولت العراق في فترة ما إلى محرقة جماعية. 

يواجه الحلبوسي منذ مدّة العديد من المحاولات البرلمانية لإقالته من منصبه، يقودها أطراف في الإطار، فيما تفضل أطراف أخرى داخل الإطار نفسه، بقاءه حتى نهاية الدورة على أن يضعف أكثر، لاعتبارات إقليمية ودولية. 

وهكذا، أصبحت المحافظات السنية ساحة للصراعات السياسية وتصفية الحسابات، ومصدراً هاماً لتمويل أحزاب وفصائل المركز، التي تراجعت شعبيتها بمناطق نفوذها في محافظات الوسط والجنوب، لتستعيض بالمناطق الغربية. 

ستشتد الصراعات أكثر كلّما اقترب موعد انتخابات مجالس المحافظات، وستتخذ أشكالاً أكثر شراسة، لما تضمنه المجالس والمحافظات والسيطرة على مفاصلها، من نفوذ وسلطة وما تدرّه من مكاسب، ولن يكون غريباً أن تضمحلّ أطراف وتتضخّم أخرى، وبمعزل عن سباق الصناديق والمقاعد، لن تسمح القوى السياسية/المسلحة الشيعية بأن ينمو حزب أو تحالف أو سياسي سُنيّ حتى يصير ندّاً، ولن تكون مهمتها صعبة إذا كان هذا المتنامي يلعب بطريقتها وفوق حلباتها ويخطأ تحت أنظارها. 

* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية  ”نيريج”