"مصنع السخرية": عراق الضاحكين إلى الأبد
25 حزيران 2023
تتّسع رقعة النكات السياسية، كلّما تمت محاصرة الإنسان العراقي.. بدءاً من نبي الله إبراهيم وصولاً إلى تشرين، استخدمت السخرية والضحك كسلاح في الصراعات السياسية والاجتماعية.. عن تاريخ عراقي مليء بالأذى والسخرية والضحك..
كان أبو همام بائع الصحف في الباب الشرقي يحكي نكاتاً بينما يمسح الصبي بسطية الأحذية الرياضية.. يمسح الغبار ويضحك، هو يفعل ذلك ليطرد الملل ويكسر الروتين الذي خيّم على ظهيرة ساخنة صيف عام 2000، نزلت للتو أغنية لأصالة نصري، ضجت بها التسجيلات، وبينما يريد الصبي سماع الأغنية، يقاطعه بائع الصحف وهو يفترش الأرض: فد يوم دليمي مرته حامل، ما يقبل تشرب مي ليش؟
الصبي: ليش؟
بائع الصحف: حتى لا يزنجر ابنه ابطنها هههههههههههه
الصبي: هههههههههههههه
بائع الصحف: فد يوم كردي أجّر تكسيين ليش؟
الصبي: ليش
بائع الصحف: لأن جان مستعجل هههههههههه
الصبي: هههههههههههههه
ذلك الصبي كان أنا.
من هناك كنت أنقل النكات إلى صبيان مدينة الثورة، أعود من الباب الشرقي محملاً بالنكات الجديدة عن الدليم والكرد.
“فد يوم دليمي”، “فد يوم كردي”، بهاتين العبارتين افتتحت غالبية نكات طفولتي. كان نزول نكتة جديدة على فد دليمي أو كردي يمثل حدثاً استثنائياً في أيامنا الشحيحة تلك، لم أكن أتصور يوماً أن الدليمي والكردي أناس مثلنا، غالباً لو أردت تخيلهما ستكون الصورة لكائنات أقل منزلة، أدمغتهم أصغر وحياتهم عبارة عن أخطاء وحماقات، ملابسهم مثيرة للسخرية وكل شيء فيهم غير منظم وغير لائق!
كان الكردي في النكات يُقلّب كل شيء، لديه ضعف عجيب في التصور، وعدم فهم أزلي، هذا هو سياق النكات التي يرد فيها، كأن يمسك الثلج ويبحث عن المكان الذي يجري منه الماء ظناً منه أن مكعب الثلج مثقوب، أو يسأل في مجلس العزاء عن الميت متى يعود من ميتته.
بينما الدليمي كائن تافه، غبي بالضرورة، لا يعرف معنى الأشياء، ويخطئ في تقييمها وفي تقديرها، كما أنه متخلف غير متحضر، فحين يحضر الدليمي أول مناسبة عيد ميلاد في حياته، ويعجب بالأجواء، يخبر الجميع: باجر عيد الميلاد يمي.
لم يكن في تصوري أن الكرد قومية عراقية تمثل ثلث سكان عراق. والدليم عشيرة عراقية كسائر القبائل العراقية الأخرى، ليس فيها مما تزعم النكات تلك، التي لم تتوان في هدم صورة الرجل الدليمي والحط من قدره.
في ذلك الوقت، كنت متلقياً وناقلاً جيداً لتلك النكات.. في الحقيقة كنت ضحية لنظام صارم أراد أن يحط من صورة الكرد والدليم، نظام أدار عمليات انتشار وتأليف تلك النكات لتوجيه الإهانة لفئات عراقية، لمواطنين فرقهم عنا هو الموقف السياسي فقط!
من هناك، من ذلك الطفل تبدأ الصورة أوضح، كيف تصبح ضحية للأنظمة، كيف تصبح وسيلة لضخ الكراهية والتمييز، كيف تتلقى الآخر وتسهم في تهشيم صورته، لكن على الجانب الآخر، ما هي النكات تاريخياً؟ متى بدأ يضحك الإنسان؟ لماذا يضحك في الأساس؟ لماذا تمر النكات سريعاً كما لو أنها نيزك أليف؟ ما هي السخرية وما هو التهكُّم؟ وهل في الضحك تنمر وتمييز بالضرورة؟ هل يمكن تجريد الضحك من عدوانيته الأصيلة؟
على الرغم من آليات اشتغال النكتة، إلا أنها تقوم على أساسين لا ثالث لهما: مفارقة أو كسر التابو “جنس/ دين/ سلطة.. إلخ”.
خيط من الضحك في كل شيء
يفتتح بيري ساندرز دارسته الموسعة عن الضحك بعبارة “في البدء كان الضحك”، الذي يؤكد فيها أن الضحك شيء أساسي ولا بد من ضمه إلى الحواس الخمس التقليدية.
ابتكر الإنسان علاجاته الكثيرة لكل الأمراض تقريباً أو ربما قريباً سيحدث ذلك، لكنه ما يزال يعالج الكآبة بالطريقة الأكثر قدماً وفاعلية: عبر الضحك. فالضحك أحد الممكنات البشرية، بل ميزة تقدمه على الحيوانات الأخرى، وبتعبير نيتشه، فإن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لأن البشر أعمق الموجودات ألماً، وكان لا بد من اختراع الضحك.
وإذا ما رصد الضحك، فيمكن من خلاله رسم تاريخ محاذٍ للإنسان، تاريخ غير هذا المرئي وغير رسمي، تاريخ مليء بنكات المقهورين والطبقات الدنيا من المجتمعات، تاريخ مغاير كلياً، ليس فيه صدام حسين وعزت الدوري ونوري المالكي سوى كائنات خفيفة وطرية، طافية على سطح اللسان، ليس فيه الأمن العامة أو غيرها من المؤسسات القمعية المخيفة سوى مكان مثير لموجة من الضحك.
لم يكن للضحك أن يستمر لو بقي ضحكاً من أجل الضحك، فالنتائج المترتبة عليه هو السر الذي يجعله لا نهائياً. يحل الضحك غالبية الخلافات البشرية عبر تقديم نوع من الإيجاز والحط من قدر/ قدرة الآخر، وهذا ما يجعله غير قابل للزوال.
تبتكر الشعوب حريات سرية، سرديات ساخرة وأنفاقاً من النكات والضحكات المضادة لكل ما هو رسمي، علبا مخدرة على شكل جمل منفلتة ذات إيقاع سحري، يبتكر المرء الصورة هزيلة عن الآخر من أجل حسم صراع الأفضلية.
لعب الضحك دورا فعالاً في الحياة البشرية، ورافق الإنسان في البر والبحر في الحرب والسلم، تكاد لا تخلو قرية أو جماعة في تاريخ الإنسان المعروف من فضائها الخاص بالضحك، حيث تبتكر هذه الكائنات وبشكل مستمر تلك المفارقة أو الكلمات أو المشاهد التي تجعل فعل الضحك ممكناً. لا تخلو الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية من خيط الضحك الذي يمتد على طول امتداد اللسان البشري، فحس الدعابة ميزة مضى على ابتكارها زمن لا يمكن قياسه، الإنسان كائن مهووس في المضي قدماً، ولا يمكن لهذا التجاوز أن يحصل من دون هذا الحس الذي عبره أصبحنا كائنات تمارس الحياة، فالسجين يتسلى بنكاته، وصاحب الفقد تحضره روح الدعابة، والمنشغل بعمله يطلق نكاته في الهواء، وهكذا الأمر مع الجميع.
تكاد لا تخلو ثقافة من السخرية والتهكم، تكاد لا تخلو لغة من نسق السخرية والنكات، التي عادة ما تستخدم جملة واسعة من الأدوات من أجل خلق مفارقة تجعل الإنسان يعطي فمه لغير التنفس والكلمات ومعالجة الجوع، فالضحك هو الفعل الرابع للفم بعد أفعال: التنفس، الأكل، الكلام.
استخدم الإنسان أسلوب التهكم والسخرية ليس من أجل متعته الخاصة فحسب، وليس من أجل القبض على لحظة سعادة ما، بل استخدم هذا الأسلوب في الحروب والصراعات كجزء من الخطاب من أجل إضعاف الأعداء، تهكم الإنسان على الطبيعة والحيوانات القوية والشرور، تهكم الإنسان على البرق والوحش والأصوات غير الواضحة، فهل لك أن تستبعد أن الإنسان نسج عديدا من النكات المضادة للرعد؟
عربياً، امتدّ الضحك منذ الجاهلية وصولاً لعصر الإسلام وما بعده، حسب ما وصلنا، الخطاب الساخر أصيل ومتجذر في الثقافة العربية، وقد نثرت أخبار الساخرين والمتهكمين وأشعارهم على طول كتب التراث العربي، ومعنى الاستهزاء والسخرية ورد في 25 موضعاً في القرآن الكريم، وفي الخطاب القرآني يرد المعنى بصورة سلبية غالباً، والمخاطب في الآيات هم فئات من المتهكمين والكفار، ممن يسخرون من الله وكتبه وانبيائه، ومن نقائض جرير والفرزدق والأخطل والحطيئة الذي يعتبره المؤرخون الشاعر الساخر بامتياز، وصولاً للعصر العباسي حيث اتخذت فيه السخرية معاني أكثر اتساعا، “وقد كان الجاحظ أول من خاض غمار هذا الفن”. إجمالاً يعد التراث العربي غنيا ومزدهراً، لا حدود للسخرية والهزل فيه، كتب التوحيدي أخلاق الوزيرين الذي جمع فيه مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وأبي الفضل بن العميد، وأمتلأ كتاب الأغاني بالسخرية، مرورا بنوادر أبي العيناء اليمامي، وليس انتهاء بشخصية جحا وحماره، كما لا ننسى ألف ليلة وليلة وهو العمل الأكثر قدرة على الإضحاك.
معمل السخرية
السخرية هي المعمل الذي يصهر المأساة البشرية ويجعلها قابلة للتصديق والحدوث أيضاً، ينشر الفلاحون النكات على طوال الحقل، بينما يعتبر بعض الفلاسفة أن التهكم يملك قوة جبارة في هدم الوهم، كما أنها تملك قوة جبارة على هدم اليقين، يسخر الإنسان الإبراهيمي من الإنسان الوثني، ويسخر الإنسان العلمي من الإنسان الديني، ويحدث العكس أيضاً، وهكذا تستمر السخرية والنكات في صنع خطاب مضاد فعال من أجل خلخلة يقين الآخر.
تمتلك السخرية قوة فعالة لما تحتويه من مفارقة ومجاز، فهي لحظة من شأنها أن تثير الدهشة، وهي غالباً الدهشة المصنوعة بحذر ودقة والتي ستتسرب لتصبح صورة ذهنية وذهبية عن أيديولوجية ما أو فكرة ما أو جهة سياسية، أو طائفة دينية، أو جماعة اثنية، أو قومية.
في مطبخ النكات البشرية ثمة نكهات لا نهائية، ثمة طعم لكل دعابة، ثمة جذر ودافع عدائي أيضاً، هناك نكات حلوة وأخرى حارة، ثمة نكات مالحة وأخرى طيبة.
ذاكرة الإنسان الفعالة والحيوية قد تطمر في أحيان كثيرة مشاهد وقصصا، لكن خفة النكتة تبقى عصية على النسيان، هي أول ما يستعيده الدماغ عند الإشارة إلى حدث ما أو شخص ما أو جماعة.
لا يمكن الهرب من النكتة ولا يمكن تجنب ما تحتويه من مراوغة ومهارة في المرور حتى للمعسكر المستهدف فيها، تملك السخرية جواز مرور للإنسان الباحث عن لذة ونشوة تصنعها هذه النكات، بالمجمل تتخلل النكات كل زوايا الحياة البشرية.
يصعب فصل أي فعل إنساني عن حس الدعابة، عن السخرية، عن النكات، نسيج النفس البشرية لا يمكن أن يكتمل دون خيط الضحك الذي يربط كل تلك الأفعال دفعة واحدة، فالضحك مرتبط بـ: العدائية، الكراهية، التمييز، القمع، تهميش الآخر، تهميش الأفكار، الترويج لأفكار أخرى، والتنفيس والغضب والثورات وطرد الكآبة وغيرها من العمليات التي تشكل مجمل الحياة البشرية.
هل نسخر لأننا عدائيون؟
لم يكن للضحك أن يستمر دون الضغائن، دون كراهيات بشرية جادة ضد المختلفين، حين تنتهي الصراعات البشرية سيكون ذلك الوقت المناسب لانتهاء عصر النكات، يزعم فرويد أن استمتاعنا بالنكتة يشير إلى ما يتم قمعه في حديث أكثر جدية. يرتبط الضحك بالمنع بشكل ما، وبفحص عشرات النكات دفعة واحدة وبشكل سريع يتضح أن غالبيتها مثيرة للضحك لأسباب تتعلق بنوع خاص من المنع، ما الدافع لاختيار شخصيات سياسية أو دينية أو ثقافية بالنكات؟ لكن السؤال الأهم هل نحن مقموعون لهذا الحد؟ وهل نحن نضحك لأننا لا نستطيع أن نتحدث بجدية عن تلك الأشياء التي تحضر في النكات؟
فهل نحن نضحك ونبكي في الآن ذاته؟ هل الضحك هو مجرد استعارة تخفي بكاءً عميقا؟ وهل يمكن فصل الضحك عن البكاء؟ أخبرني صديقي أنه حين قرأ مسرحية “الكراسي” ليوجين يونسكو، أصيب في البدء بنوبة من الضحك الهستيري ثم سرعان ما تحوّل ذلك الضحك إلى نوبة من البكاء، وهذا ينسجم مع رؤية الشاعر الإنكليزي لورد بايرون، “ما ضحكت لمشهد بشري زائل، إلا وكان ضحكي بديلا استعين به على اجتناب البكاء”.
هل الضحك هو عزاء يقيمه الإنسان المقهور من أجل الدفع بالصراخ خارج المشهد؟، لو لم يكن الأمر كذلك، لماذا نسخر مما لا نرغب فيه؟ لماذا نتهكم عما لا يناسبنا؟ هل سبق وأن أطلقت دعابة عن شيء تحبه؟ في الغالب نحن نسخر مما لا نحب، غالبا هكذا هو الأمر.
عراق الضاحكين إلى الأبد
سخر النبي إبراهيم العراقي من أهله في معابد أوروك عندما هدم أصنامهم واضعا الفأس على أعناق الحجارة، قائلا: اسألوها عن الفاعل هل تجيبكم؟ هكذا تقول الحكاية، وهذا الفعل لا يخلو من السخرية والتهكم بطريقة لا تخلو من الاحتيال والمراوغة محاولاً في ذلك جذبهم للإله الذي يسمع ويرسل إشارات، دافعاً اياهم بعيداً عن هذه الأصنام التي لا تتحدث ولا ترى ولا تسمع حسب تصوره.
فهل يمكن اعتبار أن الاستثمار الأيديولوجي للسخرية فعل عراقي خالص؟
في العصر الحديث كثيراً ما زجّت النكات من أجل تحقيق غايات ايديولوجية، فقد سخرت الاشتراكية من الرأسمالية، والعكس أيضاً، يتداول الناس نكتة مفادها: “أمريكا عندما صعدت إلى القمر كان مكتوبا على العلم الأمريكي صنع في الصين”، هذه نكتة اشتراكية، وعلى غرارها ثمة نكات رأسمالية.
أسهم الضحك تاريخياً في سقوط العديد من الشخصيات السياسية والفنية والدينية والاجتماعية حتى، كما أسهم في تشويه الملوك والوزراء ووضعهم تحت عجلة النكات، كأن يظهر عزة الدوري وهو الشخص الثاني بعد صدام حسين بوصفه أحمق، أو يظهر ترامب أو بايدن أو غيرهما بأشكال مثيرة للسخرية، في إحدى الجولات التاريخية انتصرت سخرية إدوارد مورو على تطرف جوزيف مكارثي، ولا حصر للأمثلة في هذا السياق.
في العراق الحديث تتسع رقعة النكات السياسية، كلما تمت محاصرة الإنسان العراقي، يكاد لا يخلو زقاق أو بيت عراقي من تداول تلك النكات، لم تستثن تلك النكات أي شخصية تقريبا، تقول النكتة: “هتلر شعرتين بشاربه وقلب تاريخ العالم لعد صدام شراح يسوي” في إشارة لكثافة شوارب صدام مقارنة بشوارب هتلر الخفيفة، بالمقابل يرى المالكي مشروعاً غير وهمي، فينزعج، يقول اسجنوا المستثمر، في إشارة إلى أن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري كامل المالكي الذي انتشرت في زمنه ما تسمى شعبياً “المشاريع الوهمية” لا يرضى بالمشاريع الحقيقية، أسهمت النكات في هز صورة المالكي، وبانطلاق عام 2011 ازدادت النكات عليه، وهكذا نسجت عشرات النكات السياسية، كما لا ننسى أن البرامج الكوميدية أسهمت وبشكل فاعل في تهشيم صورة عديد من السياسيين.
لم يتوقف الأمر عن هذا الحد، ويمتد ذلك البكاء/ الضحك، الى الميديا العراقية، حين غادر شبان الاحتجاج العراقي الأبرز “تشرين” أرض الاحتجاج، ابتكروا نوعا جديدا من المعارضة ذلك عبر إعطاء ريكشن “أضحكني”، على المنشورات الجادة للسياسيين العراقيين، فهل ردة الفعل هذه تنتمي لفصيل السخرية السياسية؟ في الغالب نعم.
على من نضحك.. ضحايا النكات
بقدر ما تصنع الفئات المهمشة من نكات في الوقت ذاته قد تكون فئات أخرى أو نفسها موضعا للتهكم والسخرية، وهذا يبقى الجانب المحزن في القصة، وهو الدليم والكرد، ضحايا النكات العراقية، وليسوا وحدهم في هذا المضمار المليء بالتهم، فالعراقيون أيضا يسخرون في بعض نكاتهم من أهالي الموصل وسكان الناصرية، والمصريون لا يترددون إطلاقاً في رمي نكاتهم على أهل الصعيد، بينما يسخر السوريون من أهل حمص، يسخر المغاربة في نكاتهم من الامازيغ، وهكذا هي دورة حياة النكتة، دائما ثمة فئة تقع ضحية، فئة مستهدفة، فئة يتم وصمها بالغباء والبلاهة والحماقة وسوء التدبير.
يرى هنري برغسون في كتابه الضحك أن المجتمع يرفع فوق رأس كل فرد إن لم يكن سوط الإصلاح، فعلى الأقل احتمال الإهانة والتي وإن كانت خفيفة فأنها تبقى مخيفة، تلك هي وظيفة الضحك”، فالضحك حسب برغسون “دائما مشين بالنسبة الى الشخص المضحوك منه”. فهل نحن سياط السخرية بقصد التوبيخ الاجتماعي، ومن الممكن أن نضعها على ظهر الجماعات والأفراد من أجل التسلية دون احتساب أثر ذلك عليهم؟
ينبغي أن نشير إلى أن الأفراد والمشاهير لهم حصتهم أيضا، ليست الجماعات وحدها من تقع ضحية للنكات، فالمجلات المصرية كانت لا تكف عن إطلاق الكاريكاتيرات على فريد الأطرش، كما لا تخلو مائدة عراقية من نكتة على سعدي الحلي، يعتقد البعض أن تلك النكات موجهة وأنها جزءا من الحروب الفنية المستمرة في الأوساط، فهل حين نضحك ثمة من يشعر بالسوء والتمييز ومن الممكن أن يبكي، وهذا يعيدنا لثنائية البكاء والضحك، وهل يمكن فصل الضحك عن البكاء؟
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
كان أبو همام بائع الصحف في الباب الشرقي يحكي نكاتاً بينما يمسح الصبي بسطية الأحذية الرياضية.. يمسح الغبار ويضحك، هو يفعل ذلك ليطرد الملل ويكسر الروتين الذي خيّم على ظهيرة ساخنة صيف عام 2000، نزلت للتو أغنية لأصالة نصري، ضجت بها التسجيلات، وبينما يريد الصبي سماع الأغنية، يقاطعه بائع الصحف وهو يفترش الأرض: فد يوم دليمي مرته حامل، ما يقبل تشرب مي ليش؟
الصبي: ليش؟
بائع الصحف: حتى لا يزنجر ابنه ابطنها هههههههههههه
الصبي: هههههههههههههه
بائع الصحف: فد يوم كردي أجّر تكسيين ليش؟
الصبي: ليش
بائع الصحف: لأن جان مستعجل هههههههههه
الصبي: هههههههههههههه
ذلك الصبي كان أنا.
من هناك كنت أنقل النكات إلى صبيان مدينة الثورة، أعود من الباب الشرقي محملاً بالنكات الجديدة عن الدليم والكرد.
“فد يوم دليمي”، “فد يوم كردي”، بهاتين العبارتين افتتحت غالبية نكات طفولتي. كان نزول نكتة جديدة على فد دليمي أو كردي يمثل حدثاً استثنائياً في أيامنا الشحيحة تلك، لم أكن أتصور يوماً أن الدليمي والكردي أناس مثلنا، غالباً لو أردت تخيلهما ستكون الصورة لكائنات أقل منزلة، أدمغتهم أصغر وحياتهم عبارة عن أخطاء وحماقات، ملابسهم مثيرة للسخرية وكل شيء فيهم غير منظم وغير لائق!
كان الكردي في النكات يُقلّب كل شيء، لديه ضعف عجيب في التصور، وعدم فهم أزلي، هذا هو سياق النكات التي يرد فيها، كأن يمسك الثلج ويبحث عن المكان الذي يجري منه الماء ظناً منه أن مكعب الثلج مثقوب، أو يسأل في مجلس العزاء عن الميت متى يعود من ميتته.
بينما الدليمي كائن تافه، غبي بالضرورة، لا يعرف معنى الأشياء، ويخطئ في تقييمها وفي تقديرها، كما أنه متخلف غير متحضر، فحين يحضر الدليمي أول مناسبة عيد ميلاد في حياته، ويعجب بالأجواء، يخبر الجميع: باجر عيد الميلاد يمي.
لم يكن في تصوري أن الكرد قومية عراقية تمثل ثلث سكان عراق. والدليم عشيرة عراقية كسائر القبائل العراقية الأخرى، ليس فيها مما تزعم النكات تلك، التي لم تتوان في هدم صورة الرجل الدليمي والحط من قدره.
في ذلك الوقت، كنت متلقياً وناقلاً جيداً لتلك النكات.. في الحقيقة كنت ضحية لنظام صارم أراد أن يحط من صورة الكرد والدليم، نظام أدار عمليات انتشار وتأليف تلك النكات لتوجيه الإهانة لفئات عراقية، لمواطنين فرقهم عنا هو الموقف السياسي فقط!
من هناك، من ذلك الطفل تبدأ الصورة أوضح، كيف تصبح ضحية للأنظمة، كيف تصبح وسيلة لضخ الكراهية والتمييز، كيف تتلقى الآخر وتسهم في تهشيم صورته، لكن على الجانب الآخر، ما هي النكات تاريخياً؟ متى بدأ يضحك الإنسان؟ لماذا يضحك في الأساس؟ لماذا تمر النكات سريعاً كما لو أنها نيزك أليف؟ ما هي السخرية وما هو التهكُّم؟ وهل في الضحك تنمر وتمييز بالضرورة؟ هل يمكن تجريد الضحك من عدوانيته الأصيلة؟
على الرغم من آليات اشتغال النكتة، إلا أنها تقوم على أساسين لا ثالث لهما: مفارقة أو كسر التابو “جنس/ دين/ سلطة.. إلخ”.
خيط من الضحك في كل شيء
يفتتح بيري ساندرز دارسته الموسعة عن الضحك بعبارة “في البدء كان الضحك”، الذي يؤكد فيها أن الضحك شيء أساسي ولا بد من ضمه إلى الحواس الخمس التقليدية.
ابتكر الإنسان علاجاته الكثيرة لكل الأمراض تقريباً أو ربما قريباً سيحدث ذلك، لكنه ما يزال يعالج الكآبة بالطريقة الأكثر قدماً وفاعلية: عبر الضحك. فالضحك أحد الممكنات البشرية، بل ميزة تقدمه على الحيوانات الأخرى، وبتعبير نيتشه، فإن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لأن البشر أعمق الموجودات ألماً، وكان لا بد من اختراع الضحك.
وإذا ما رصد الضحك، فيمكن من خلاله رسم تاريخ محاذٍ للإنسان، تاريخ غير هذا المرئي وغير رسمي، تاريخ مليء بنكات المقهورين والطبقات الدنيا من المجتمعات، تاريخ مغاير كلياً، ليس فيه صدام حسين وعزت الدوري ونوري المالكي سوى كائنات خفيفة وطرية، طافية على سطح اللسان، ليس فيه الأمن العامة أو غيرها من المؤسسات القمعية المخيفة سوى مكان مثير لموجة من الضحك.
لم يكن للضحك أن يستمر لو بقي ضحكاً من أجل الضحك، فالنتائج المترتبة عليه هو السر الذي يجعله لا نهائياً. يحل الضحك غالبية الخلافات البشرية عبر تقديم نوع من الإيجاز والحط من قدر/ قدرة الآخر، وهذا ما يجعله غير قابل للزوال.
تبتكر الشعوب حريات سرية، سرديات ساخرة وأنفاقاً من النكات والضحكات المضادة لكل ما هو رسمي، علبا مخدرة على شكل جمل منفلتة ذات إيقاع سحري، يبتكر المرء الصورة هزيلة عن الآخر من أجل حسم صراع الأفضلية.
لعب الضحك دورا فعالاً في الحياة البشرية، ورافق الإنسان في البر والبحر في الحرب والسلم، تكاد لا تخلو قرية أو جماعة في تاريخ الإنسان المعروف من فضائها الخاص بالضحك، حيث تبتكر هذه الكائنات وبشكل مستمر تلك المفارقة أو الكلمات أو المشاهد التي تجعل فعل الضحك ممكناً. لا تخلو الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية من خيط الضحك الذي يمتد على طول امتداد اللسان البشري، فحس الدعابة ميزة مضى على ابتكارها زمن لا يمكن قياسه، الإنسان كائن مهووس في المضي قدماً، ولا يمكن لهذا التجاوز أن يحصل من دون هذا الحس الذي عبره أصبحنا كائنات تمارس الحياة، فالسجين يتسلى بنكاته، وصاحب الفقد تحضره روح الدعابة، والمنشغل بعمله يطلق نكاته في الهواء، وهكذا الأمر مع الجميع.
تكاد لا تخلو ثقافة من السخرية والتهكم، تكاد لا تخلو لغة من نسق السخرية والنكات، التي عادة ما تستخدم جملة واسعة من الأدوات من أجل خلق مفارقة تجعل الإنسان يعطي فمه لغير التنفس والكلمات ومعالجة الجوع، فالضحك هو الفعل الرابع للفم بعد أفعال: التنفس، الأكل، الكلام.
استخدم الإنسان أسلوب التهكم والسخرية ليس من أجل متعته الخاصة فحسب، وليس من أجل القبض على لحظة سعادة ما، بل استخدم هذا الأسلوب في الحروب والصراعات كجزء من الخطاب من أجل إضعاف الأعداء، تهكم الإنسان على الطبيعة والحيوانات القوية والشرور، تهكم الإنسان على البرق والوحش والأصوات غير الواضحة، فهل لك أن تستبعد أن الإنسان نسج عديدا من النكات المضادة للرعد؟
عربياً، امتدّ الضحك منذ الجاهلية وصولاً لعصر الإسلام وما بعده، حسب ما وصلنا، الخطاب الساخر أصيل ومتجذر في الثقافة العربية، وقد نثرت أخبار الساخرين والمتهكمين وأشعارهم على طول كتب التراث العربي، ومعنى الاستهزاء والسخرية ورد في 25 موضعاً في القرآن الكريم، وفي الخطاب القرآني يرد المعنى بصورة سلبية غالباً، والمخاطب في الآيات هم فئات من المتهكمين والكفار، ممن يسخرون من الله وكتبه وانبيائه، ومن نقائض جرير والفرزدق والأخطل والحطيئة الذي يعتبره المؤرخون الشاعر الساخر بامتياز، وصولاً للعصر العباسي حيث اتخذت فيه السخرية معاني أكثر اتساعا، “وقد كان الجاحظ أول من خاض غمار هذا الفن”. إجمالاً يعد التراث العربي غنيا ومزدهراً، لا حدود للسخرية والهزل فيه، كتب التوحيدي أخلاق الوزيرين الذي جمع فيه مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وأبي الفضل بن العميد، وأمتلأ كتاب الأغاني بالسخرية، مرورا بنوادر أبي العيناء اليمامي، وليس انتهاء بشخصية جحا وحماره، كما لا ننسى ألف ليلة وليلة وهو العمل الأكثر قدرة على الإضحاك.
معمل السخرية
السخرية هي المعمل الذي يصهر المأساة البشرية ويجعلها قابلة للتصديق والحدوث أيضاً، ينشر الفلاحون النكات على طوال الحقل، بينما يعتبر بعض الفلاسفة أن التهكم يملك قوة جبارة في هدم الوهم، كما أنها تملك قوة جبارة على هدم اليقين، يسخر الإنسان الإبراهيمي من الإنسان الوثني، ويسخر الإنسان العلمي من الإنسان الديني، ويحدث العكس أيضاً، وهكذا تستمر السخرية والنكات في صنع خطاب مضاد فعال من أجل خلخلة يقين الآخر.
تمتلك السخرية قوة فعالة لما تحتويه من مفارقة ومجاز، فهي لحظة من شأنها أن تثير الدهشة، وهي غالباً الدهشة المصنوعة بحذر ودقة والتي ستتسرب لتصبح صورة ذهنية وذهبية عن أيديولوجية ما أو فكرة ما أو جهة سياسية، أو طائفة دينية، أو جماعة اثنية، أو قومية.
في مطبخ النكات البشرية ثمة نكهات لا نهائية، ثمة طعم لكل دعابة، ثمة جذر ودافع عدائي أيضاً، هناك نكات حلوة وأخرى حارة، ثمة نكات مالحة وأخرى طيبة.
ذاكرة الإنسان الفعالة والحيوية قد تطمر في أحيان كثيرة مشاهد وقصصا، لكن خفة النكتة تبقى عصية على النسيان، هي أول ما يستعيده الدماغ عند الإشارة إلى حدث ما أو شخص ما أو جماعة.
لا يمكن الهرب من النكتة ولا يمكن تجنب ما تحتويه من مراوغة ومهارة في المرور حتى للمعسكر المستهدف فيها، تملك السخرية جواز مرور للإنسان الباحث عن لذة ونشوة تصنعها هذه النكات، بالمجمل تتخلل النكات كل زوايا الحياة البشرية.
يصعب فصل أي فعل إنساني عن حس الدعابة، عن السخرية، عن النكات، نسيج النفس البشرية لا يمكن أن يكتمل دون خيط الضحك الذي يربط كل تلك الأفعال دفعة واحدة، فالضحك مرتبط بـ: العدائية، الكراهية، التمييز، القمع، تهميش الآخر، تهميش الأفكار، الترويج لأفكار أخرى، والتنفيس والغضب والثورات وطرد الكآبة وغيرها من العمليات التي تشكل مجمل الحياة البشرية.
هل نسخر لأننا عدائيون؟
لم يكن للضحك أن يستمر دون الضغائن، دون كراهيات بشرية جادة ضد المختلفين، حين تنتهي الصراعات البشرية سيكون ذلك الوقت المناسب لانتهاء عصر النكات، يزعم فرويد أن استمتاعنا بالنكتة يشير إلى ما يتم قمعه في حديث أكثر جدية. يرتبط الضحك بالمنع بشكل ما، وبفحص عشرات النكات دفعة واحدة وبشكل سريع يتضح أن غالبيتها مثيرة للضحك لأسباب تتعلق بنوع خاص من المنع، ما الدافع لاختيار شخصيات سياسية أو دينية أو ثقافية بالنكات؟ لكن السؤال الأهم هل نحن مقموعون لهذا الحد؟ وهل نحن نضحك لأننا لا نستطيع أن نتحدث بجدية عن تلك الأشياء التي تحضر في النكات؟
فهل نحن نضحك ونبكي في الآن ذاته؟ هل الضحك هو مجرد استعارة تخفي بكاءً عميقا؟ وهل يمكن فصل الضحك عن البكاء؟ أخبرني صديقي أنه حين قرأ مسرحية “الكراسي” ليوجين يونسكو، أصيب في البدء بنوبة من الضحك الهستيري ثم سرعان ما تحوّل ذلك الضحك إلى نوبة من البكاء، وهذا ينسجم مع رؤية الشاعر الإنكليزي لورد بايرون، “ما ضحكت لمشهد بشري زائل، إلا وكان ضحكي بديلا استعين به على اجتناب البكاء”.
هل الضحك هو عزاء يقيمه الإنسان المقهور من أجل الدفع بالصراخ خارج المشهد؟، لو لم يكن الأمر كذلك، لماذا نسخر مما لا نرغب فيه؟ لماذا نتهكم عما لا يناسبنا؟ هل سبق وأن أطلقت دعابة عن شيء تحبه؟ في الغالب نحن نسخر مما لا نحب، غالبا هكذا هو الأمر.
عراق الضاحكين إلى الأبد
سخر النبي إبراهيم العراقي من أهله في معابد أوروك عندما هدم أصنامهم واضعا الفأس على أعناق الحجارة، قائلا: اسألوها عن الفاعل هل تجيبكم؟ هكذا تقول الحكاية، وهذا الفعل لا يخلو من السخرية والتهكم بطريقة لا تخلو من الاحتيال والمراوغة محاولاً في ذلك جذبهم للإله الذي يسمع ويرسل إشارات، دافعاً اياهم بعيداً عن هذه الأصنام التي لا تتحدث ولا ترى ولا تسمع حسب تصوره.
فهل يمكن اعتبار أن الاستثمار الأيديولوجي للسخرية فعل عراقي خالص؟
في العصر الحديث كثيراً ما زجّت النكات من أجل تحقيق غايات ايديولوجية، فقد سخرت الاشتراكية من الرأسمالية، والعكس أيضاً، يتداول الناس نكتة مفادها: “أمريكا عندما صعدت إلى القمر كان مكتوبا على العلم الأمريكي صنع في الصين”، هذه نكتة اشتراكية، وعلى غرارها ثمة نكات رأسمالية.
أسهم الضحك تاريخياً في سقوط العديد من الشخصيات السياسية والفنية والدينية والاجتماعية حتى، كما أسهم في تشويه الملوك والوزراء ووضعهم تحت عجلة النكات، كأن يظهر عزة الدوري وهو الشخص الثاني بعد صدام حسين بوصفه أحمق، أو يظهر ترامب أو بايدن أو غيرهما بأشكال مثيرة للسخرية، في إحدى الجولات التاريخية انتصرت سخرية إدوارد مورو على تطرف جوزيف مكارثي، ولا حصر للأمثلة في هذا السياق.
في العراق الحديث تتسع رقعة النكات السياسية، كلما تمت محاصرة الإنسان العراقي، يكاد لا يخلو زقاق أو بيت عراقي من تداول تلك النكات، لم تستثن تلك النكات أي شخصية تقريبا، تقول النكتة: “هتلر شعرتين بشاربه وقلب تاريخ العالم لعد صدام شراح يسوي” في إشارة لكثافة شوارب صدام مقارنة بشوارب هتلر الخفيفة، بالمقابل يرى المالكي مشروعاً غير وهمي، فينزعج، يقول اسجنوا المستثمر، في إشارة إلى أن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري كامل المالكي الذي انتشرت في زمنه ما تسمى شعبياً “المشاريع الوهمية” لا يرضى بالمشاريع الحقيقية، أسهمت النكات في هز صورة المالكي، وبانطلاق عام 2011 ازدادت النكات عليه، وهكذا نسجت عشرات النكات السياسية، كما لا ننسى أن البرامج الكوميدية أسهمت وبشكل فاعل في تهشيم صورة عديد من السياسيين.
لم يتوقف الأمر عن هذا الحد، ويمتد ذلك البكاء/ الضحك، الى الميديا العراقية، حين غادر شبان الاحتجاج العراقي الأبرز “تشرين” أرض الاحتجاج، ابتكروا نوعا جديدا من المعارضة ذلك عبر إعطاء ريكشن “أضحكني”، على المنشورات الجادة للسياسيين العراقيين، فهل ردة الفعل هذه تنتمي لفصيل السخرية السياسية؟ في الغالب نعم.
على من نضحك.. ضحايا النكات
بقدر ما تصنع الفئات المهمشة من نكات في الوقت ذاته قد تكون فئات أخرى أو نفسها موضعا للتهكم والسخرية، وهذا يبقى الجانب المحزن في القصة، وهو الدليم والكرد، ضحايا النكات العراقية، وليسوا وحدهم في هذا المضمار المليء بالتهم، فالعراقيون أيضا يسخرون في بعض نكاتهم من أهالي الموصل وسكان الناصرية، والمصريون لا يترددون إطلاقاً في رمي نكاتهم على أهل الصعيد، بينما يسخر السوريون من أهل حمص، يسخر المغاربة في نكاتهم من الامازيغ، وهكذا هي دورة حياة النكتة، دائما ثمة فئة تقع ضحية، فئة مستهدفة، فئة يتم وصمها بالغباء والبلاهة والحماقة وسوء التدبير.
يرى هنري برغسون في كتابه الضحك أن المجتمع يرفع فوق رأس كل فرد إن لم يكن سوط الإصلاح، فعلى الأقل احتمال الإهانة والتي وإن كانت خفيفة فأنها تبقى مخيفة، تلك هي وظيفة الضحك”، فالضحك حسب برغسون “دائما مشين بالنسبة الى الشخص المضحوك منه”. فهل نحن سياط السخرية بقصد التوبيخ الاجتماعي، ومن الممكن أن نضعها على ظهر الجماعات والأفراد من أجل التسلية دون احتساب أثر ذلك عليهم؟
ينبغي أن نشير إلى أن الأفراد والمشاهير لهم حصتهم أيضا، ليست الجماعات وحدها من تقع ضحية للنكات، فالمجلات المصرية كانت لا تكف عن إطلاق الكاريكاتيرات على فريد الأطرش، كما لا تخلو مائدة عراقية من نكتة على سعدي الحلي، يعتقد البعض أن تلك النكات موجهة وأنها جزءا من الحروب الفنية المستمرة في الأوساط، فهل حين نضحك ثمة من يشعر بالسوء والتمييز ومن الممكن أن يبكي، وهذا يعيدنا لثنائية البكاء والضحك، وهل يمكن فصل الضحك عن البكاء؟