دار السياب.. أطلال تروي سيرة تحوّلات البلاد 

علي محمود خضير

23 أيار 2023

كما تحوّلت البلاد من حال إلى حال، وتحوّل أهلها من اضطراب لآخر، كانت دار السياب لسان حال بليغاً لتلك التغيّرات.. فقد صارت مخزناً للطماطم ومقراً لنادٍ رياضي حتى أُعيد ترميمها وسقط سقفها.. حكاية دار السياب التي صارت أطلالاً..

نوافذ مغلقة ومعتمة، وأبواب بلا جدوى تنتظر الطارقين ممن كانوا يدخلون البيت ويخرجون في حركة دؤوبة. وعلى مقربة من ذلك، بويب، النهر الغافي في أحضان النخل، يقلب مصائر الليالي والأيام.. هكذا تظهر دار بدر شاكر السياب، شاعر الحداثة العربي، في ديوان “المعبد الغريق” الصادر في بيروت عام 1963: 

“مطفأةٌ هي النوافذُ الكثارْ 

وبابُ جدّي موصدٌ وبيتهُ انتظارْ 

وأطرقُ البابَ، فمن يجيبُ، يفتحُ 

تجيبني الطفولة، الشبابُ منذ صارْ 

تجيبني الجرار، جفّ ماؤها، فليس تنضحُ: 

“بويب”، غير أنها تذرذر الغبارْ”. 

 يمكن للمرء قراءة جانبٍ من واقع بلاد الرافدين في الخمسين سنة الماضية بقراءة أحوال منزل شاعرها المتفرّد. تلك الدار التي انقلبت بها الظروف من أيام ذهبية عامرة بأهلها ورخاء زمانها إبّان القرن التاسع عشر، إلى خربة جرداء تحوّل عنها الأهل وطالها الإهمال والسرقة والتخريب مع بدء دخول العراق إلى موجات الحروب والعنف الدموي. 

وبين آونة وأخرى تقفزُ دار السياب إلى واجهة الأخبار، بين شكوى مثقفي المدينة من تردي أحوالها وسوء إجراءات الحكومات المتعاقبة التي تراوحت بين الوعود غير المتحققة والقرارات الخجولة التي أسهم بعضها في تخريب البيت لا إعماره! حتى أخذ يتردد أن المسؤولين المتعاقبين يستغلون اسم السياب وبيته في تلميع صورهم وتحقيق مكاسب إعلامية مؤقتة من دون انجاز جادٍ يضع البيت الذي يعد اليوم تراثاً للمدينة في الهيئة التي يستحق. 

الموقع الجغرافي 

الدار التي أصبحت مزاراً لمحبي الشاعر من داخل العراق وخارجه تقع في قرية “بگيع”، بالكاف المعجمة، كما ينطقها الناس في جنوب العراق. وربما كان الاسم تصغيراً لكلمة “بقعة”! تشكّل “بگيع” مع قريتين قريبتين منها هما “جيكور” و”باب سليمان”، المثلث الجغرافي الذي أمضى فيه السياب طفولته وصباه الأول، وشكّل فيه ذلك العالم السحريّ المتجليّ في قصائده التي تستعيد الطفولة وأماكنها الباهرة. 

إدارياً، تتبع هذه القرى الثلاث قضاء أبي الخصيب وهو المنطقة الزراعية التي كانت مكتظة بالنخيل والأنهار المتفرعة من شط العرب قبل أن تقضي عليها حروب العراق المستمرة منذ 1980 حين تحوّلت البصرة إلى ساحة حرب. 

دار السياب بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

الطريق المؤدي لـ”بگيع” يتفرّع شرقاً من الشارع المتجّه جنوباً من أبي الخصيب نحو مدينة الفاو المطلة على الخليج العربي، حيث يخترق هذا الطريق غابات النخيل لمسافة لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، ومن ثم يخترق “بگيع” مارّاً بمحاذاة دار السياب. 

لقد خرّبوا ذاكرتنا 

منذ وعيتُ على القراءة شكّل السياب لي -ولجلِّ أجيال الثقافة العراقيّة- ينبوعاً شعرياً لا ينضب، أعود على الدوام لأرتوي منه، كان السياب بحياته الخاطفة وتفاصيل عذاباتها أسطورة ساحرة تشدنا إليها بقوة، حتى بات عشاقه يتابعون كل شأن يخصّه: تمثاله، صوره النادرة، مأساة مرضه، خصوماته، الحكايات التي تنقل عنه، حتى اختلط الحقيقي منها باللا حقيقي، كأي أيقونة تاريخية. وقد شكّلت دار السياب إحدى حلقات التأثير الوجداني تلك، فكانت صور البيت بأبوابه العتيقة وحيطانه التي ترك الزمن عليها آثاره، وطرازه المعماري الفاتن، علامة على عراق مضى، نستعديه ولو بالزيارة والتقاط الصور. 

هذا المبنى العتيق ليس داراً فحسب، إنه معنى محسوس وقيمة تضفي على الزائر شعوراً بالزهو. لقد كانت هذه الدار قائمة بأهلها، تدور في جنباتها الحكايات وتضاء الأنوار قبل أكثر من مئتي سنة. إنه موجود قبل أن تؤسّس الدولة العراقية الحديثة، وقبل أن تكون بعض دول المنطقة قد تأسّست. 

غير أن اللحظة التي دخلتُ فيها البيت بعد أعمال “التأهيل” التي أجرتها الحكومة جعلتني في صدمة. لقد سرقوا مني ذاكرتي التي عشتها مع الصرح. عمليات التجديد أحالت المكان إلى دار حديثة لا علاقة لها بالأصل، وأفسدت طرازه المعماري عبر تأهيل لم يراع الحفاظ على الإرث التاريخي. 

التأهيل كان تجديداً لا غير، ولم يُعِد المواد الأصلية إلى حالتها الأقرب إلى طبيعتها بهدف إطالة عمر الأثر. فالأبواب العتيقة صارت أبواباً حديثة مستوردة من الصين، لا خدش فيها ولا روح، والأرضية بطابوقها “الفرشي” صارت سيراميكاً لمّاعاً. رائحة الطلاء الجديد في كل مكان تشعرك بالاختناق، حسرة على خسارة ملمح أثري من تاريخ المدينة بفعل التخبّط وسوء إدارة مرافق الدولة في العراق “الجديد”. 

اعتاد العراقيون على رؤية مبانيهم التاريخية والأثرية ممسوخة بعد عمليات تأهيل وتصليح لا تراعى فيها العمليات التقنية والفنية الدقيقة والمتخصصة التي يُحافظ من خلالها على البناء القديم ويحميه من التلف، بل تجرى غالباً إعادة بناء وتجديد للمبنى بمواد حديثة ورديئة تخرجه تماماً من قيمته التاريخية كما حدث مع تجديد آثار بابل وتعمير شناشيل البصرة والتصليحات التي طالت بعض أجزاء المدرسة المستنصرية. 

وصف الدار الأصلية 

يقول المهندس غيلان بدر السياب، نجل الشاعر، عن وصف الدار الأصلية، “الدار مستطيلة الشكل، ضلعها الأصغر باتجاه الشرق، ومكونة من طابق واحد، عدا غرفة واحدة يرتفع بناؤها ليبلغ الطابق الثاني مكوناً (الديوان)، وهو المجلس الذي كان جدّ الشاعر (مرزوق السياب) يستضيف به الزوار ويعقد مجالس السمر وأحاديث السياسة”. 

“الداخل للدار يلجها من الباب الخشبي الكبير (أسود اللون) ذي الضفتين كما كان أصلا والذي يواجه الشرق وينفتح على غرفة المدخل (الليوان) والتي يتربع الديوان فوق سقفها المرتفع. ويؤدي الديوان شمالاً لـ(حوش الدار)، وهو باحة مستطيلة مفتوحة تحيط بها من أضلعها الثلاثة حجرات الدار بأبوابها وشبابيكها الداخلية، (لا شبابيك تطل خارج الدار) في حين تحتل الضلع الرابع الشرقي حجرتان أخريان يمتد خارجهما السقف ليستقر على أعمدة خشبية، مكوناً مساحة مظللة مفتوحة على الباحة، تمنع وصول الشمس للحجرتين”. 

 يختم غيلان بدر السياب قائلا، “في أقرب هاتين الحجرتين لـ(الليوان) ولد السياب”. 

الدار بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

الدكتور عبد الفتاح السياب، وهو خال الشاعر السياب يقول، “كان سقف الدار من الأعمدة الخشبية وتدعى (الجندل) باللغة الدارجة، وهو خشب هندي أسطواني الشكل مطلي بمادة مضادة للحشرات، وتوضع فوق الخشب أغلفة من القصب تسمى (البواري) ثم طين مخلوط بالتبن وتراعى إدامة السقف كل سنة أو سنتين وقد تم إنشاء الباحات من خلال تمديد السقوف المستندة على صلبان من الخشب المستعرض والأعمدة الخشبية السميكة وتدعى (الدنك)”. 

الدار التي بناها مرزوق السياب (أشار له بدر شاكر السياب في قصيدته “أرم ذات العماد”، ” حدثنا جد أبي فقال:…)  بحدود الربع الأول من القرن التاسع عشر، واتخذها مسكناً له ولأولاده: سياب الثاني، عبد الجبار (جد الشاعر)، جري، وادي، شري، عبد القادر، وعبد المجيد (العم الأصغر للشاعر). 

بنيت أساسات الدار من الطابوق المفخور، وبقيتها من الطابوق الطيني المخلوط بالقش والذي يطلق عليه محليا اسم (اللبن). وبقيت الدار عامرة بأهلها بأجيالهم الثلاثة حتى خلت وهجرت مطلع الستينات من القرن الماضي بوفاة الأجيال القديمة وهجرة الأجيال الأصغر للمدن من أجل الدراسة والعمل. ولم يبق مقيما بها، بصورة متقطعة، سوى عبد المجيد السياب. 

حكايات الجن 

يستعيد غيلان ذكريات دار أجداده بالقول: “ما أذكره عن الدار من زياراتي لمنزل عمات والدي في (بگيع) هو أن الدار كانت خربة ومهجورة بعد أن ترك عم والدي (عبد المجيد) السكنى بها. وكانت هناك أحاديث عن أنها صارت مسكونة بـ(الجن). لذا كنت أدخلها على خوف وحذر وأتجول في باحتها والغرف المحيطة التي سقطت سقوفها (عدا الحجرتين الشرقيتين)، ثم لا ألبث أن أفر هارباً عند أول حفيف أو صوت غريب”. 

مخزن وملعب كرة قدم وملجأ للمهجّرين! 

وكما تحوّلت البلاد من حال إلى حال، وتحول أهلها من اضطراب لآخر، كانت دار السياب لسان حال بليغاً لتلك التغيرات. فبعد أن رحل الأسلاف المؤسّسون وهاجر الأبناء اللاحقون، صارت الدار، على خرابها، مخزناً لمحصول الطماطم الذي كان يزرعه عبد المجيد السياب -عم الشاعر الأصغر-، وحيناً صارت مقراً لنادي “بكيع” الرياضي، والذي كان كل أفراده من آل السياب الشباب حينها، ثم صارت الدار ملعباً لكرة القدم وكرة الطائرة، إلى أن خطر لوزارة الإعلام العراقية حين رأسها الشاعر شفيق الكمالي، وبمبادرة منه، أن تشتري الدار لتحوّلها لمتحف للشاعر الراحل.  

هكذا تم شراء الدار في منتصف سبعينات القرن الماضي، لكنها تركت على خرابها ولم تعمّر ومات مشروع المتحف برحيل الكمالي عن الحياة السياسية، ثم وفاته بعد ذلك. وحين استعرت أوار الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، صارت دار السياب ملجأً للعائلات المهجرة التي فرت هاربةً من بيوتها الواقعة في مديات القصف المدمر لتسكن في غرفات احتوت شاعر الحياة المعذبة. 

حينها اختفت أغلب ملامح البيت القديم، بابها الأثري الكبير، وبعض شبابيكها الفريدة لتترك الدار مرتعاً لمن شاء. 

خطأ شائع 

ويُصحح غيلان السياب خطأ شائعاً لما يزل يتردّد كلما يُذكر منزل العائلة الكبير، إذ يقول إن هذه الدار هي ليست منزل الأقنان الذي عنون الشاعر به قصيدة (صدرت في ديوان منزل الأقنان 1963). وأن منزل الأقنان هو دار قريبة عن دار السياب مسافة 20-30 متراً إلى الغرب، وكانت تقع في بستان نخيل ورثه عمّ الشاعر، عبد القادر السياب.  

الدار بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

أتخذ “منزل الأقنان” سكناً لفلاحي آل السياب الذين كانوا يعملون لدى الجد الأعلى “مرزوق” في فلاحة الأرض ورعاية النخيل. وقد أزيل عن الوجود بعد ذلك حين بيع البستان لأحد أبناء عمة الشاعر. 

العهد الجديد 

في 2012 قررت حكومة البصرة المحلية إعادة إحياء الدار بترميمها وتحويلها لمتحف ومنتدى ثقافي، راصدة مبلغاً كبيراً لذلك. وتوّلت هيئة الآثار والتراث أمر إعادة إعمار الدار والذي أنجز العمل عليه عام 2015. ولكن إعادة التأهيل -كما سميت- جرت بصورة لم تراع المحافظة على طريقة البناء الأصليّة وبمواد رخيصة مما عرّض سقوف بعض الغرف الرئيسة إلى الانهيار بعد مدة من افتتاح الدار. 

صورة مُتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي لمنزل السياب بعد انهيار سقفه – من السوشيال ميديا 

لم تفكر الحكومة المحليّة في استثمار اسم السياب لتحويل المنزل إلى وجهة حقيقية لزوار المدينة أو سكانها، من خلال ربطه بخط نقل ثابت ينطلق من مركز البصرة إلى قرية بكيع. أو توفير العناية الخدمية بالمنطقة المحيطة فيه. بدلاً من ذلك، يجد الزائر الذي ينوي ارتياد المكان مشقة كبيرة في الوصول إليه، إذ لا خط مواصلات، ولا علامات دالة. وسيضطر إلى الاستعانة ببعض أهالي المنطقة للوصول إلى المكان.   

في شباط الماضي، وجّهت الحكومة الاتحادية بإعادة تأهيل بيت الشاعر الراحل، لكن الخوف وارد من أن يُعاد ترميم منزل السياب من دون أن تأخذ بعين الاعتبار القيمة التاريخية للبناء وللمكان، ومن دون أن تُحافظ على شكلها القديم، مثلما حصل مع مبانٍ عديدة في السنوات الأخيرة.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

نوافذ مغلقة ومعتمة، وأبواب بلا جدوى تنتظر الطارقين ممن كانوا يدخلون البيت ويخرجون في حركة دؤوبة. وعلى مقربة من ذلك، بويب، النهر الغافي في أحضان النخل، يقلب مصائر الليالي والأيام.. هكذا تظهر دار بدر شاكر السياب، شاعر الحداثة العربي، في ديوان “المعبد الغريق” الصادر في بيروت عام 1963: 

“مطفأةٌ هي النوافذُ الكثارْ 

وبابُ جدّي موصدٌ وبيتهُ انتظارْ 

وأطرقُ البابَ، فمن يجيبُ، يفتحُ 

تجيبني الطفولة، الشبابُ منذ صارْ 

تجيبني الجرار، جفّ ماؤها، فليس تنضحُ: 

“بويب”، غير أنها تذرذر الغبارْ”. 

 يمكن للمرء قراءة جانبٍ من واقع بلاد الرافدين في الخمسين سنة الماضية بقراءة أحوال منزل شاعرها المتفرّد. تلك الدار التي انقلبت بها الظروف من أيام ذهبية عامرة بأهلها ورخاء زمانها إبّان القرن التاسع عشر، إلى خربة جرداء تحوّل عنها الأهل وطالها الإهمال والسرقة والتخريب مع بدء دخول العراق إلى موجات الحروب والعنف الدموي. 

وبين آونة وأخرى تقفزُ دار السياب إلى واجهة الأخبار، بين شكوى مثقفي المدينة من تردي أحوالها وسوء إجراءات الحكومات المتعاقبة التي تراوحت بين الوعود غير المتحققة والقرارات الخجولة التي أسهم بعضها في تخريب البيت لا إعماره! حتى أخذ يتردد أن المسؤولين المتعاقبين يستغلون اسم السياب وبيته في تلميع صورهم وتحقيق مكاسب إعلامية مؤقتة من دون انجاز جادٍ يضع البيت الذي يعد اليوم تراثاً للمدينة في الهيئة التي يستحق. 

الموقع الجغرافي 

الدار التي أصبحت مزاراً لمحبي الشاعر من داخل العراق وخارجه تقع في قرية “بگيع”، بالكاف المعجمة، كما ينطقها الناس في جنوب العراق. وربما كان الاسم تصغيراً لكلمة “بقعة”! تشكّل “بگيع” مع قريتين قريبتين منها هما “جيكور” و”باب سليمان”، المثلث الجغرافي الذي أمضى فيه السياب طفولته وصباه الأول، وشكّل فيه ذلك العالم السحريّ المتجليّ في قصائده التي تستعيد الطفولة وأماكنها الباهرة. 

إدارياً، تتبع هذه القرى الثلاث قضاء أبي الخصيب وهو المنطقة الزراعية التي كانت مكتظة بالنخيل والأنهار المتفرعة من شط العرب قبل أن تقضي عليها حروب العراق المستمرة منذ 1980 حين تحوّلت البصرة إلى ساحة حرب. 

دار السياب بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

الطريق المؤدي لـ”بگيع” يتفرّع شرقاً من الشارع المتجّه جنوباً من أبي الخصيب نحو مدينة الفاو المطلة على الخليج العربي، حيث يخترق هذا الطريق غابات النخيل لمسافة لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، ومن ثم يخترق “بگيع” مارّاً بمحاذاة دار السياب. 

لقد خرّبوا ذاكرتنا 

منذ وعيتُ على القراءة شكّل السياب لي -ولجلِّ أجيال الثقافة العراقيّة- ينبوعاً شعرياً لا ينضب، أعود على الدوام لأرتوي منه، كان السياب بحياته الخاطفة وتفاصيل عذاباتها أسطورة ساحرة تشدنا إليها بقوة، حتى بات عشاقه يتابعون كل شأن يخصّه: تمثاله، صوره النادرة، مأساة مرضه، خصوماته، الحكايات التي تنقل عنه، حتى اختلط الحقيقي منها باللا حقيقي، كأي أيقونة تاريخية. وقد شكّلت دار السياب إحدى حلقات التأثير الوجداني تلك، فكانت صور البيت بأبوابه العتيقة وحيطانه التي ترك الزمن عليها آثاره، وطرازه المعماري الفاتن، علامة على عراق مضى، نستعديه ولو بالزيارة والتقاط الصور. 

هذا المبنى العتيق ليس داراً فحسب، إنه معنى محسوس وقيمة تضفي على الزائر شعوراً بالزهو. لقد كانت هذه الدار قائمة بأهلها، تدور في جنباتها الحكايات وتضاء الأنوار قبل أكثر من مئتي سنة. إنه موجود قبل أن تؤسّس الدولة العراقية الحديثة، وقبل أن تكون بعض دول المنطقة قد تأسّست. 

غير أن اللحظة التي دخلتُ فيها البيت بعد أعمال “التأهيل” التي أجرتها الحكومة جعلتني في صدمة. لقد سرقوا مني ذاكرتي التي عشتها مع الصرح. عمليات التجديد أحالت المكان إلى دار حديثة لا علاقة لها بالأصل، وأفسدت طرازه المعماري عبر تأهيل لم يراع الحفاظ على الإرث التاريخي. 

التأهيل كان تجديداً لا غير، ولم يُعِد المواد الأصلية إلى حالتها الأقرب إلى طبيعتها بهدف إطالة عمر الأثر. فالأبواب العتيقة صارت أبواباً حديثة مستوردة من الصين، لا خدش فيها ولا روح، والأرضية بطابوقها “الفرشي” صارت سيراميكاً لمّاعاً. رائحة الطلاء الجديد في كل مكان تشعرك بالاختناق، حسرة على خسارة ملمح أثري من تاريخ المدينة بفعل التخبّط وسوء إدارة مرافق الدولة في العراق “الجديد”. 

اعتاد العراقيون على رؤية مبانيهم التاريخية والأثرية ممسوخة بعد عمليات تأهيل وتصليح لا تراعى فيها العمليات التقنية والفنية الدقيقة والمتخصصة التي يُحافظ من خلالها على البناء القديم ويحميه من التلف، بل تجرى غالباً إعادة بناء وتجديد للمبنى بمواد حديثة ورديئة تخرجه تماماً من قيمته التاريخية كما حدث مع تجديد آثار بابل وتعمير شناشيل البصرة والتصليحات التي طالت بعض أجزاء المدرسة المستنصرية. 

وصف الدار الأصلية 

يقول المهندس غيلان بدر السياب، نجل الشاعر، عن وصف الدار الأصلية، “الدار مستطيلة الشكل، ضلعها الأصغر باتجاه الشرق، ومكونة من طابق واحد، عدا غرفة واحدة يرتفع بناؤها ليبلغ الطابق الثاني مكوناً (الديوان)، وهو المجلس الذي كان جدّ الشاعر (مرزوق السياب) يستضيف به الزوار ويعقد مجالس السمر وأحاديث السياسة”. 

“الداخل للدار يلجها من الباب الخشبي الكبير (أسود اللون) ذي الضفتين كما كان أصلا والذي يواجه الشرق وينفتح على غرفة المدخل (الليوان) والتي يتربع الديوان فوق سقفها المرتفع. ويؤدي الديوان شمالاً لـ(حوش الدار)، وهو باحة مستطيلة مفتوحة تحيط بها من أضلعها الثلاثة حجرات الدار بأبوابها وشبابيكها الداخلية، (لا شبابيك تطل خارج الدار) في حين تحتل الضلع الرابع الشرقي حجرتان أخريان يمتد خارجهما السقف ليستقر على أعمدة خشبية، مكوناً مساحة مظللة مفتوحة على الباحة، تمنع وصول الشمس للحجرتين”. 

 يختم غيلان بدر السياب قائلا، “في أقرب هاتين الحجرتين لـ(الليوان) ولد السياب”. 

الدار بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

الدكتور عبد الفتاح السياب، وهو خال الشاعر السياب يقول، “كان سقف الدار من الأعمدة الخشبية وتدعى (الجندل) باللغة الدارجة، وهو خشب هندي أسطواني الشكل مطلي بمادة مضادة للحشرات، وتوضع فوق الخشب أغلفة من القصب تسمى (البواري) ثم طين مخلوط بالتبن وتراعى إدامة السقف كل سنة أو سنتين وقد تم إنشاء الباحات من خلال تمديد السقوف المستندة على صلبان من الخشب المستعرض والأعمدة الخشبية السميكة وتدعى (الدنك)”. 

الدار التي بناها مرزوق السياب (أشار له بدر شاكر السياب في قصيدته “أرم ذات العماد”، ” حدثنا جد أبي فقال:…)  بحدود الربع الأول من القرن التاسع عشر، واتخذها مسكناً له ولأولاده: سياب الثاني، عبد الجبار (جد الشاعر)، جري، وادي، شري، عبد القادر، وعبد المجيد (العم الأصغر للشاعر). 

بنيت أساسات الدار من الطابوق المفخور، وبقيتها من الطابوق الطيني المخلوط بالقش والذي يطلق عليه محليا اسم (اللبن). وبقيت الدار عامرة بأهلها بأجيالهم الثلاثة حتى خلت وهجرت مطلع الستينات من القرن الماضي بوفاة الأجيال القديمة وهجرة الأجيال الأصغر للمدن من أجل الدراسة والعمل. ولم يبق مقيما بها، بصورة متقطعة، سوى عبد المجيد السياب. 

حكايات الجن 

يستعيد غيلان ذكريات دار أجداده بالقول: “ما أذكره عن الدار من زياراتي لمنزل عمات والدي في (بگيع) هو أن الدار كانت خربة ومهجورة بعد أن ترك عم والدي (عبد المجيد) السكنى بها. وكانت هناك أحاديث عن أنها صارت مسكونة بـ(الجن). لذا كنت أدخلها على خوف وحذر وأتجول في باحتها والغرف المحيطة التي سقطت سقوفها (عدا الحجرتين الشرقيتين)، ثم لا ألبث أن أفر هارباً عند أول حفيف أو صوت غريب”. 

مخزن وملعب كرة قدم وملجأ للمهجّرين! 

وكما تحوّلت البلاد من حال إلى حال، وتحول أهلها من اضطراب لآخر، كانت دار السياب لسان حال بليغاً لتلك التغيرات. فبعد أن رحل الأسلاف المؤسّسون وهاجر الأبناء اللاحقون، صارت الدار، على خرابها، مخزناً لمحصول الطماطم الذي كان يزرعه عبد المجيد السياب -عم الشاعر الأصغر-، وحيناً صارت مقراً لنادي “بكيع” الرياضي، والذي كان كل أفراده من آل السياب الشباب حينها، ثم صارت الدار ملعباً لكرة القدم وكرة الطائرة، إلى أن خطر لوزارة الإعلام العراقية حين رأسها الشاعر شفيق الكمالي، وبمبادرة منه، أن تشتري الدار لتحوّلها لمتحف للشاعر الراحل.  

هكذا تم شراء الدار في منتصف سبعينات القرن الماضي، لكنها تركت على خرابها ولم تعمّر ومات مشروع المتحف برحيل الكمالي عن الحياة السياسية، ثم وفاته بعد ذلك. وحين استعرت أوار الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، صارت دار السياب ملجأً للعائلات المهجرة التي فرت هاربةً من بيوتها الواقعة في مديات القصف المدمر لتسكن في غرفات احتوت شاعر الحياة المعذبة. 

حينها اختفت أغلب ملامح البيت القديم، بابها الأثري الكبير، وبعض شبابيكها الفريدة لتترك الدار مرتعاً لمن شاء. 

خطأ شائع 

ويُصحح غيلان السياب خطأ شائعاً لما يزل يتردّد كلما يُذكر منزل العائلة الكبير، إذ يقول إن هذه الدار هي ليست منزل الأقنان الذي عنون الشاعر به قصيدة (صدرت في ديوان منزل الأقنان 1963). وأن منزل الأقنان هو دار قريبة عن دار السياب مسافة 20-30 متراً إلى الغرب، وكانت تقع في بستان نخيل ورثه عمّ الشاعر، عبد القادر السياب.  

الدار بعد ترميمها عام 2014، تصوير: عباس محسن 

أتخذ “منزل الأقنان” سكناً لفلاحي آل السياب الذين كانوا يعملون لدى الجد الأعلى “مرزوق” في فلاحة الأرض ورعاية النخيل. وقد أزيل عن الوجود بعد ذلك حين بيع البستان لأحد أبناء عمة الشاعر. 

العهد الجديد 

في 2012 قررت حكومة البصرة المحلية إعادة إحياء الدار بترميمها وتحويلها لمتحف ومنتدى ثقافي، راصدة مبلغاً كبيراً لذلك. وتوّلت هيئة الآثار والتراث أمر إعادة إعمار الدار والذي أنجز العمل عليه عام 2015. ولكن إعادة التأهيل -كما سميت- جرت بصورة لم تراع المحافظة على طريقة البناء الأصليّة وبمواد رخيصة مما عرّض سقوف بعض الغرف الرئيسة إلى الانهيار بعد مدة من افتتاح الدار. 

صورة مُتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي لمنزل السياب بعد انهيار سقفه – من السوشيال ميديا 

لم تفكر الحكومة المحليّة في استثمار اسم السياب لتحويل المنزل إلى وجهة حقيقية لزوار المدينة أو سكانها، من خلال ربطه بخط نقل ثابت ينطلق من مركز البصرة إلى قرية بكيع. أو توفير العناية الخدمية بالمنطقة المحيطة فيه. بدلاً من ذلك، يجد الزائر الذي ينوي ارتياد المكان مشقة كبيرة في الوصول إليه، إذ لا خط مواصلات، ولا علامات دالة. وسيضطر إلى الاستعانة ببعض أهالي المنطقة للوصول إلى المكان.   

في شباط الماضي، وجّهت الحكومة الاتحادية بإعادة تأهيل بيت الشاعر الراحل، لكن الخوف وارد من أن يُعاد ترميم منزل السياب من دون أن تأخذ بعين الاعتبار القيمة التاريخية للبناء وللمكان، ومن دون أن تُحافظ على شكلها القديم، مثلما حصل مع مبانٍ عديدة في السنوات الأخيرة.