مارك الطويل من كلية لندن و جعفر الجوذري من جامعة القادسية

"20 عاماً موروث ثقافي".. حوار موسّع عن ماضي العراق وحاضره 

هانا بارسونز-مورغان

09 أيار 2023

لا يزال سكّان الموصل يتحدثون عن اللقاء عند جسر العشاق رغم تبدّد وجوده الفعلي.. فهل يمكننا الحديث عن تناول علم الآثار للموروث المعنوي والمادي؟ وهل توجد رغبة بذلك في العراق؟.. حوار موسّع مع الطويل من كلية لندن والجوذري من جامعة القادسية..

كان للحرب والعنف وجهود إعادة البناء التي لحقت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقعٌ على الموروث الثقافي المادي والمعنوي للعراق. فبعد انهيار الحكومة، انتشرت عمليات النهب بشكل لم يسبق له مثيل. وكانت إحدى أكثر هذه الحوادث شهرةً حادثة نهب المتحف الوطني العراقي (الذي أُسس قبل مائة عام في آذار عام 1923 وكان مكوناً من غرفة واحدة في مبنى حكومي يحتوي على الآثار). في غضون 36 ساعة في نيسان عام 2003، سرقت 15 ألف قطعة أثرية من المتحف. بينما أدى التهجير والعنف اللذان لحقا توسع تنظيم “داعش” عام 2014 إلى دمار المواقع التراثية واستهداف ثقافات الأقليات. قابلت هانا بارسونز-مورغان -طالبة دكتوراه في علم الآثار في جامعة اكسيتر- عالِمي الآثار مارك الطويل من كلية لندن الجامعية وجعفر الجوذري من جامعة القادسية. وقد حُرِّر هذا الحوار، الذي يبحث في أزمات موروث العراق الثقافي منذ عام 2003 وفرص استرداده، بما يتناسب مع طول المادة ووضوحها.  

هانا بارسونز-مورغان: بدايةً، هل يمكنكما وصف الأثر المباشر الناجم عن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 على موروث العراق الثقافي؟ 

مارك الطويل: تمثل الأثر المباشر في نهب المتحف الوطني في بغداد. وحصل هذا قبل سقوط بغداد على يد الجنود الأمريكيين واستمر لأيام عدة بعدها. أعتقد أنها كانت الصدمة والفاجعة الأولى والمباشرة على موروث العراق الثقافي. ولكن تضاعف مع الغزو الأمريكي نهب المواقع الأثرية في جنوب العراق بشكل ملحوظ في مناطق مثل أوما -منطقة يعود تاريخها إلى الحضارة السومرية- حيث كانت سلطة الحكومة في حالة انهيار تقريباً. 

جعفر الجوذري: أجل، تجدر الإشارة إلى أن الفترة بين عامي 2003 و2008 كانت الأسوأ في تاريخ العراق من ناحية التنقيب غير القانوني. فقد دُمّرت العديد من المناطق الأثرية فعلياً بسبب حجم النهب. وأصبحت طرق التهريب، التي تمر عبر مناطق مثل بغداد وكردستان العراق لينتهي المطاف بالقطع المنهوبة في تركيا وإيران ودول الخليج، أكثر تطوراً. ولم يعثر على السواد الأعظم من القطع المنهوبة من تلك المواقع. إلا أن بعض القطع المشهورة المفقودة من المتحف الوطني العراقي والمناطق المنقبة بصورة غير قانونية قد عادت إلى العراق في نهاية المطاف (مثل قناع الوركاء الشهير والألواح المهربة التي اشترتها شركة “هوبي لوبي”). 

هانا: لماذا كان جنوب العراق بالتحديد أكثر عرضة للنهب؟ 

مارك: ازداد النهب في جنوب العراق تحديداً بشكل كبير في التسعينيات كردة فعل تجاه الفقر الذي سببته العقوبات الاقتصادية التي كان وقعها قاسياً على تلك المنطقة بالذات. لذا مع حلول عام 2003 تشكلت فِرق نهب شبه منظمة في تلك المنطقة. وحاولت الحكومة الحد من النهب في نهاية التسعينيات عبر عمليات التنقيب المنظمة، والتي أسفرت عن شيء من النجاح. إلا أن المشكلة عادت من جديد. وحين انهار الاقتصاد والمجتمع مع الغزو، سهّل ذلك نقل القطع الأثرية إلى الخارج. وكانت لهذه القطع سوق كبيرة في أماكن مثل الولايات المتحدة كما شاهدنا في فضيحة “هوبي لوبي”. فالرغبة كانت متجهة نحو العديد من القطع من فترتي ما قبل الإسلام وما قبل المسيحية في العراق. 

وقع بعض الضرر كذلك في مناطق أخرى، ولكنه كان طفيفاً نسبياً، حيث حصلت بعض عمليات النهب في متحف الموصل، والنهب المنظم في مناطق مثل النمرود، ولكن ضررها كان أبسط بكثير وأقل توسعاً مما حصل في بغداد وجنوب العراق. ما شهدناه في تلك المناطق في مطلع هذه الألفية كان انعداماً كاملاً للأمن، حتى قبل وصول “داعش”، مما أدى إلى توقف النشاطات الآثارية. مع شعور خبراء الآثار في الموصل بالتهديد بقي نشاطهم على نطاق محصور فقط. وكانت عمليات التنقيب وجهود الحفاظ على التراث في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك وديالى معدومةً تقريباً أو على نطاق ضيق جداً. فظلّت عمليات النهب قائمةً، ولكن على نطاق أضيق بكثير. 

هانا: ما هي الجهود التي بذلت لمنع النهب؟ وهل كانت ناجحة؟ 

جعفر: في عام 2008، أسست الحكومة في كل محافظة مديرية جديدة تابعة لوزارة الداخلية تدعى “مديرية شرطة حماية الآثار والتراث” وشرعت بتوظيف خبراء الآثار العراقيين للعمل بصفتهم “ضباطًا”. وفي الوقت ذاته أصبح الوصول إلى شبكة الإنترنت أكثر سهولة، وغدا أفراد المجتمع المحلي أكثر تفاعلاً مع تاريخ العراق الثقافي عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ساهمت في جهود حمايته. وأصبحت السلطات الدينية في النجف وكربلاء تشارك في حماية تراث العراق وتعزيز الوعي بأهمية موروث العراق الأوسع. وأصدر قادة مثل آية الله السيد علي السيستاني فتاوى تحرم تهريب الآثار. ونُظمت المؤتمرات وورش العمل محلياً ودولياً في النجف وكربلاء حول مواضيع تتعلق بالتراث. فعُقد مثلاً المؤتمر العالمي الأول لتعزيز الاهتمام بالآثار والتراث في العراق في الكوفة في عام 2018. وقد حدّ كل ذلك من أعمال النهب في جنوب العراق، مع استمرارها حتى الآن، ولكن بدرجة أقل. 

هانا: ماذا عن النهب الذي حصل مع ظهور تنظيم “داعش” في العراق؟ 

مارك: ما حدث في عام 2014 كان مختلفاً تماماً، بحلول ذلك الوقت كان النهب قد تضاءل في الجنوب. ولكن مع الاستيلاء على الموصل، مارس “داعش” عمليات النهب الممنهج ذاتها التي كان يتبعها في سوريا، وطبقها بشكل أو بآخر في العراق. رأينا النهب الممنهج في أماكن أساسية عدة مثل نينوى، فضلاً عن التدمير المنتظم لأغراض دعائية. وشمل ذلك تدمير مسجد النبي يونس، والذي يعتقد بأنه يحتوي على مقام النبي يونس الذي لم يكن مقدّساً عند المسلمين فحسب، بل لدى المسيحيين واليهود كذلك. ومن ضمن المواقع الأخرى التي دمرت مرقد الإمام عون الدين، وهو مزار شيعي يعود للقرن الثالث عشر نجا من سلب المغول للموصل، ودير مار إيليا وهو دير مسيحي يعود للقرن السادس، وكان أحد أقدم الهياكل المسيحية في العراق. ودُمرت المواقع الأيزيدية، واستهدِف تراث العراق القديم لأجل إعداد مقاطع فيديو دعائية لتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن عمليات النهب الممنهج كانت قائمة كذلك بغرض بيع القطع في الأسواق الغربية كوسيلة لتمويل عملياتهم. 

جعفر: أجل، كما قال مارك فقد كان أحد أهداف تنظيم “داعش” الأساسية تسخير الآثار المنهوبة لتمويل عملياته. من المحتمل أن تهريب الثروات الثقافية كان ثاني أعلى مصدر لإيرادات التنظيم بعد تهريب النفط، ووصل في بعض التقديرات إلى مليارات الدولارات. لا نعرف الحجم الحقيقي لتجارة القطع الثقافية، ولكن الثروات الثقافية كانت بالتأكيد حجر أساس في الاقتصاد الداعم لـ”داعش”. 

هانا: هل يمكنكما وصف جهود الحفاظ على الموروث الثقافي في هذه المناطق تحديداً؟ 

مارك: هناك الكثير من العمل الآن حقيقةً في المنطقة التي حكمتها “داعش” سابقاً، تقوم به وكالات إغاثة متنوعة من اليونسكو إلى الوكالات الأصغر. ويعمل فريق من جامعة بنسيلفينيا بدعمٍ من الحكومة الأمريكية في داخل النمرود، وفي الموصل يُعاد بناء بعض الكنائس والمساجد القديمة بتمويل من متبرعين دوليين بشكل كبير. أعتقد أن هنالك إهمالاً للموروث الأيزيدي وتقصيراً في إعادة ترميمه في شمال العراق. فمقارنة بالأقليات الأخرى في العراق، لا يزال الاهتمام الخارجي بالمحافظة على الموروث الأيزيدي طفيفاً مقارنة بالمجموعات المسيحية التي قد يكون لديها المزيد من العلاقات، ليس مع الشتات فحسب، بل ومع مصادر التمويل الخارجية. لكنني أعتقد بأن التهديد الحالي قد يكون موجهاً من بعض النواحي بصورة أكبر نحو التراث المعنوي (اللغات والذاكرة الثقافية والهوية المجتمعية) لأن الكثير من الأقليات التي تم استهدافها وتشريدها لا تشعر بالأمان الكافي بالضرورة للعودة بشكل جماعي. 

هانا: بمناسبة الحديث عن الموروث المعنوي، عمل زميلي بريار باجالان من جامعة اكسيتر على مشروع الحياة في الموصل، وهو مشروع يركز على تسجيل التاريخ المحكي للموصل، خصوصاً الحياة اليومية. ويتذكر أنه سمع عن جسر كان يلتقي الناس والعشاق تحته، ولكن تنظيم “داعش” فجره. ومع ذلك ظلّ الجسر موجوداً في وعي المدينة عن طريق اللغة. فأصبح الموروث المعنوي سبيل المحافظة على الموروث المادي. ولا يزال سكان الموصل يتحدثون عن اللقاء عند هذا الجسر رغم تبدد وجوده الفعلي. هل يمكنكما الحديث عن تناول علم الآثار للموروث المعنوي والمادي؟ وهل توجد رغبة بذلك في العراق؟ 

مارك: نعم توجد. لاحظت في آخر زيارة لي إلى الموصل في عام 2022 بأن هناك تعطشاً حقيقياً لدى الناس لفهم تراثهم والحفاظ عليه، وذلك جزئياً بسبب الصدمات التي أحدثها “داعش”. هناك ما يقال عن محاولة استحضار هذا النوع من الصدمات الحديثة من تراث العراق المعنوي إلى المادي. أحد الأمثلة على ذلك أن الهيئة العامة للآثار في العراق طلبت من جامعة هايدلبيرغ التنقيب عن آثار تعود إلى الإمبراطورية الآشورية، والتي عُثر عليها تحت مسجد النبي يونس -وهو الموقع الديني الذي فجره “داعش”، وحفر فيما بعد أنفاقًا تحته. حين يُعاد بناء المسجد، هناك أمل بالحفاظ على القطع الأثرية التي ظهرت بفعل الدمار. إنها ببساطة محاولةٌ لدمج إعادة الإعمار مع فرصة التعلم عن الماضي البعيد كوسيلة لجمع الناس معاً. 

جعفر: من الجدير بالذكر أيضاً أن بعض أنواع التراث المعنوي ازدهرت بعد عام 2003 بينما تدهورت بعض الأنواع الأخرى. ويعود سبب ذلك إلى اعتماد الناس على الموارد والحرف المحلية حين تعرض العراق للعقوبات الاقتصادية. ولكن في عام 2003، حين توسعت الأسواق العراقية وبدأت تمتلئ بالمنتجات الصينية والتركية والإيرانية والسورية، خسرت المنتجات العراقية المحلية لصالح منافساتها مع المنتجات الأجنبية. ونتيجة لذلك تراجعت مهارات تصنيع الحرف التقليدية بشكل كبير منذ عام 2003، مثل صناعة القوارب التقليدية وأقمشة العباءات الرجالية وحلي النساء والصياغة وأسرجة الحصن وتحضير القهوة وتصنيع الناي من القصب وأدوات الزراعة والفلاحة. ولكن التقاليد المحكية والفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية والطقوس وفعاليات الاحتفال ازدهرت مع رفع القيود التي كانت موجودة قبل عام 2003. 

هانا: أثار أحد محرّرينا النقطة التالية، والتي أريد أن أطرحها عليك يا مارك: هنالك اعتقاد بأن الغرب دعم بعض المجموعات كالآشوريين والأيزيديين بشكل أكبر مما أدى إلى استهدافهم. وفي الوقت ذاته، لا تلبي صناديق تمويل إعادة الإعمار الخارجية دوماً الاحتياجات المحلية التي تطالب بها منظمات المجتمع المحلي ونظراؤها في الشتات. على سبيل المثال، قد يشير الأيزيديون والآشوريون إلى أن التركيز على إعادة بناء الكنائس قد طغى على احتياجات المجتمعات المحلية الأخرى. هل ترى بأن الأمر يحدث فعلاً بهذه الطريقة؟ 

مارك: نعم، هذا ممكن. فالفقر بشكل عام وتضاؤل الفرص منتشران بكثرة، وقد تردى الحال أيضاً بسبب الفساد. ربما سيساهم توفير المزيد من فرص العمل في مساعدة جميع السكان. يجب أن تصل المساعدة إلى الجميع تلافياً لمشاكل محتملة يمكن أن تنتج عن الحسد والمعاناة. 

هانا: بالحديث عن إعادة الإعمار، تحدثت يا مارك عن “عصر النهضة” للتراث الثقافي في مناطق العراق الكردية. هل يمكنك إخبارنا أكثر عن ذلك ولماذا يوجد بالتحديد في تلك المنطقة؟ 

مارك: لم تكن المنطقة الكردية في العراق منطقة مستكشفة بشكل كبير، خصوصاً من قبل علماء الآثار الدوليين إذ أنها كانت منطقة محظورة إلى حدٍ ما أثناء سنوات حكم صدام. وبين عامي 2009-2010، شرع علماء الآثار الأجانب بالقدوم إلى المنطقة الكردية. ثم بدأت الحرب في سوريا في عام 2011، مما ساعد في النهضة الآثارية للمنطقة الكردية بشكل غير مباشر، إن علماء الآثار الذين لم يستطيعوا العمل في سوريا انتقلوا إلى المنطقة الكردية. اليوم أصبحت الدولة كلها أكثر أماناً، إلا أن المنطقة الكردية كانت آمنة نسبياً منذ ذلك الوقت كذلك، وكان الفساد محدودا إلى حد ما؛ وكانت قلعة أربيل أكبر مشروع. ولكن المنطقة تعاني من أزمة اقتصادية وفساد متزايد منذ عام 2014، ما حدّ من البحث والعمل في المناطق الكردية. 

هانا: في عام 2022، طرح تقرير تشاثام هاوس عن الافتراس الثقافي نظام المحاصصة كعامل أساسي في قضايا التراث الثقافي. يقول التقرير إنه بسبب هذا النظام العرقي والطائفي فإن “الدخل والموارد الأخرى التي يدرها التراث الثقافي لا تعود إلى الدولة بل إلى مؤسسات الدولة الفرعية” التي تعمل بنشاط على تعزيز نزعة قومية وعرقية وطائفية وأغراض دينية. كيف تريان هذه الممارسة في مجال الآثار؟ 

مارك: المشكلة الأساسية التي أراها من ناحية الافتراس هي تفشي الفساد على نطاقات متعدّدة بعد عام 2003. فلا تتم الأعمال في الوزارات أحياناً من دون رشوة مثلاً، أو أن يُباشَر في عمليات البناء من دون الموافقات اللازمة. إن قوانين الآثار العراقية المعمول بها بالفعل جيدة جداً، ولكنها للأسف عادة ما يتم تجاهلها. ويعني كل ذلك بأن الأفراد قد يقومون بأمور لا تتناسب مع احتياجات بعض المجتمعات في ما يتعلق بالتراث. أعتقد أن أحد أهم التهديدات هو استمرار مساهمة النظام السياسي حتى الآن في الفساد. إحدى القصص التي سمعتها عن سامراء مثلاً أن العديد من المنازل كانت تُبنى في الموقع، وهو أمر مخالف تماماً للقانون، ولكن لم يكن لأحد أن يقف في وجه ذلك بسبب وجود مسؤول فاسد في الحكومة المحلية. وينجم عن ذلك حالة لا تستطيع فيها السلطات المهتمة بحماية التراث القيام بعملها. 

في الوقت ذاته، من الجدير بالذكر أن هناك مناطق مهملة بإجحاف خصوصاً في جنوب الموصل وشمال بغداد لأسباب تتعلق بعدم الثقة والتشكيك بانتماء الجميع هناك إلى تنظيم “داعش” سابقاً. تلك المنطقة بشكلٍ عام هي أكثر المناطق إهمالاً في العراق، وأكثر المناطق عنفاً على مدى العشرين سنة الماضية. النشاط في المنطقة قليل، ولا يوجد عمل كثير في التنقيب الأثري وبناء التراث، والأخبار عنها شحيحة، ويكاد لا يوجد ذكر للتمويل هناك حتى من الحكومة المركزية. أعرف عن مشروع واحد فقط فاعل في تلك المنطقة. 

جعفر: أعتقد أن النظام أساء إدارة جميع القطاعات في العراق بعد عام 2003، وليس القطاع الأثري فحسب. انظري إلى سوء إدارة مصادر المياه والزراعة والتصنيع والإسكان والتعليم. أما في ما يتعلق بالمواقع الأثرية القديمة، لا يمكن اعتبارها على أسس النزعة القومية والعرقية. بما معناه أن المواقع الأثرية عوملت على أنها أصول وطنية (تعود إلى الحكومة المركزية في بغداد) بدلاً من كونها أصولاً إقليمية أو محلية. 

هانا: تحدثنا بإسهاب بالطبع عن المشاكل “بشرية الصنع”، ولكن ماذا عن أثر العوامل البيئية أو المناخية على موروث العراق الثقافي؟  

مارك: يعتبر التغيّر المناخي تهديداً متزايداً. فالعراق واحد من أكثر الدول عرضة للتغيير المناخي في العالم. الأنهار تجف، وأضحت المناطق التي كانت خضراء منذ زمن قريب صحراء قاحلة. إن هذه تهديدات ضخمة من حيث الأثر الواقع على الأبنية، ولكن كذلك من حيث الأثر الناجم عن تهجير السكان وتغيير معالم المشهد، مما ينتج تهديدات جديدة للموروث المادي والمعنوي. 

جعفر: أجل، فإن أثر التغيّر المناخي على الموروث الطبيعي والثقافي في الصحراء الجنوبية في العراق بمثابة خط أساس لتغير المناخ التاريخي في المنطقة، ويمكن على أساسه تقييم قابلية وجود مستقبل أكثر قدرة على التكيف مع المناخ.  

وفقاً لآخر الإحصاءات المبنية على عملي الميداني شخصياً، جفّت أكثر من خمس بحيرات و20 واحة و100 نبع، وتغيرت حياة البشر والحيوانات والنباتات البرية. فاختفت 30 نبتة برية من الصحراء خلال العشرين سنة الماضية و16 حيواناً برياً، علاوة على أن قائمة الأنواع المهددة بالانقراض في العراق هي في ازدياد. وبالتالي، فإن التغير المناخي يهدد التراث المادي في العراق في الصحراء الجنوبية والتراث المعنوي الذي يحيط بها. 

هانا: هل تعتقدان بأن الجهود المبذولة للتخفيف من تغير المناخ يمكن أن تعمل جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة للحفاظ على التراث الثقافي؟ 

مارك: أعتقد بأن الاستفادة من الماضي قد تكون أداة فعالة حقاً، إذ أن الكثير من تراث العراق المشيّد كان قد أُسس تاريخياً حول المناخ. تتضمن ممارسات الري القديمة في العراق مثلاً نظام القنوات -وهو نظام ريّ جوفي يساعد في الحفاظ على المياه عبر منع التبخر- ولكن الكثير من أنظمة الري في العراق اليوم موجودة في حفر فوق السطح. لماذا لا نحاول استخدام النظام الجوفي؟ مثال آخر هو بناء المنازل، فقد تبدو المنازل المبنية من الطوب الطيني فكرة سيئة، إلا أن هذه المادة في الواقع تحمي المنازل من احتباس الحرارة أثناء الصيف. ويمكننا الاستفادة من التراث التقليدي للعمارة في العراق واستخدام التكنولوجيا التي تعمل بما يتلاءم مع البيئة. 

هانا: يستدعي هذا النقاش حول أهمية الممارسات المعرفية المحلية بعض الأعمال التي يقوم بها جعفر. كنت أقرأ مدونة كتبتها لكلية لندن الجامعية مع توصيات عن كيفية “تحرير” علم الآثار في العراق من الاستعمار. هل يمكنك الحديث أكثر عمّا تعنيه بذلك؟ 

جعفر: أعني بتحرير علم الآثار من الاستعمار أن واجب الفرق الدولية تشجيع الباحثين العراقيين المحليين والناس العاديين على الاحتفاء بالتراث العراقي ونشره. فعوضاً عن اختيار مناطق العمل بناءً على المصالح الدولية، يجب أخذ الأبحاث المبنية على الاحتياجات العراقية بعين الاعتبار ووضعها كأولوية. ومن الأهمية بمكان أيضاً إشراك الخبراء العراقيين المحليين في البحوث، وتدريب المزيد من علماء الآثار وأخصائيي التراث العراقيين (ومنهم المختصون بالحفاظ على التراث). ذكر العراقيون بأنه يجب إقامة المزيد من المؤتمرات والمعارض عن العراق في الدولة، وعلى النتائج أن تنشر باللغة العربية واللغات المحلية الأخرى وفي المجلات العراقية. وعلى الفرق الأجنبية أن تساعدهم كذلك على بناء متاحف محلية ونشر أعمالهم بين السكان المحليين كجزء من جهود مشاريعها الأوسع. 

هانا: أتساءل عند هذه الملاحظة إن كان بإمكاننا إنهاء النقاش بالتطلع نحو المستقبل، تماماً كما ينبغي على جميع علماء الآثار أن يفعلوا. ما هو شكل التدريب في تخصصات التراث في العراق اليوم وما هي الفرص التي تتواجد لجيل المستقبل؟ 

جعفر: على مدى العقدين الماضيين، كان هناك الكثير من الاستثمار على المستوى الجامعي. فقد قام المؤرخون وعلماء الآثار العراقيون في جامعات بغداد والموصل والقادسية وبابل بحملات لتأسيس المزيد من أقسام علم الآثار وتوسعة أقسامهم لتصبح كليات. وفي عام 2008 وسعت جامعة الموصل قسم علم الآثار ليصبح كلية. وأسست سامراء والكوفة كليات جديدة في عامي 2010 و2011، بينما قامت القادسية وذي قار والمثنى بالمثل بعد عام 2014. وأُسست مجلتان علميتان جديدتان متخصصتان في التراث العراقي، إحداهما في جامعة الموصل والأخرى في جامعة القادسية. وشوهد توسع مماثل في المنطقة الكردية، إلا أنها تواجه مشاكل في التمويل منذ عام 2014.  

مارك: هناك الكثير من الحماسة للتعلم عن التراث في العراق، ويعود بعض الفضل إلى مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن بالرغم من توفر الاستثمار في الجامعات، لا يعثر الطلاب على العمل بسهولة بعد تخرّجهم من تخصصات التراث وعلم الآثار. إن زيادة فرص التدريب أمر مهم ولكن زيادة فرص التوظيف أساسي كذلك، وليتحقق هذا الأمر هناك حاجة للإبداع. رأيت مثلاً أصحاب شركات ناشئة في قطاع السياحة -الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموروث الثقافي في العراق- يطورون السياحة في أهوار العراق ومواقع تراثية أخرى في وسط العراق وجنوبه. يعتقد بعض الأجانب بأن العراق منطقة محظورة، ولكن في الحقيقة يحضر العديد من السياح للعراق من إيران وباكستان إلى الاحتفالات الشيعية مثل عاشوراء أو لزيارة المواقع التراثية الدينية المختلفة. وظهرت أيضاً سياحة غربية ناشئة، خاصة بعد زيارة البابا فرانسيس لأور في عام 2021. على إثر زيارة البابا، أطلقت الحكومة العراقية مشروعاً كبيراً لإعادة تأهيل أور وتوفير البنية التحتية السياحية المحلية. وفي عام 2021 بدأت الحكومة أيضاً في منح التأشيرات عند الوصول إلى مواطني معظم الدول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة. من الواضح أن حركة السياحة لا تزال محدودة من حيث العدد، إلا أن هناك الآن مجموعات سياحية تزور العراق بانتظام. 

 ترجمة من الإنجليزي إلى العربي: نور الجلجولي

ينشر الحوار بالشراكة مع مجلة “ميريب

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كان للحرب والعنف وجهود إعادة البناء التي لحقت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وقعٌ على الموروث الثقافي المادي والمعنوي للعراق. فبعد انهيار الحكومة، انتشرت عمليات النهب بشكل لم يسبق له مثيل. وكانت إحدى أكثر هذه الحوادث شهرةً حادثة نهب المتحف الوطني العراقي (الذي أُسس قبل مائة عام في آذار عام 1923 وكان مكوناً من غرفة واحدة في مبنى حكومي يحتوي على الآثار). في غضون 36 ساعة في نيسان عام 2003، سرقت 15 ألف قطعة أثرية من المتحف. بينما أدى التهجير والعنف اللذان لحقا توسع تنظيم “داعش” عام 2014 إلى دمار المواقع التراثية واستهداف ثقافات الأقليات. قابلت هانا بارسونز-مورغان -طالبة دكتوراه في علم الآثار في جامعة اكسيتر- عالِمي الآثار مارك الطويل من كلية لندن الجامعية وجعفر الجوذري من جامعة القادسية. وقد حُرِّر هذا الحوار، الذي يبحث في أزمات موروث العراق الثقافي منذ عام 2003 وفرص استرداده، بما يتناسب مع طول المادة ووضوحها.  

هانا بارسونز-مورغان: بدايةً، هل يمكنكما وصف الأثر المباشر الناجم عن الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 على موروث العراق الثقافي؟ 

مارك الطويل: تمثل الأثر المباشر في نهب المتحف الوطني في بغداد. وحصل هذا قبل سقوط بغداد على يد الجنود الأمريكيين واستمر لأيام عدة بعدها. أعتقد أنها كانت الصدمة والفاجعة الأولى والمباشرة على موروث العراق الثقافي. ولكن تضاعف مع الغزو الأمريكي نهب المواقع الأثرية في جنوب العراق بشكل ملحوظ في مناطق مثل أوما -منطقة يعود تاريخها إلى الحضارة السومرية- حيث كانت سلطة الحكومة في حالة انهيار تقريباً. 

جعفر الجوذري: أجل، تجدر الإشارة إلى أن الفترة بين عامي 2003 و2008 كانت الأسوأ في تاريخ العراق من ناحية التنقيب غير القانوني. فقد دُمّرت العديد من المناطق الأثرية فعلياً بسبب حجم النهب. وأصبحت طرق التهريب، التي تمر عبر مناطق مثل بغداد وكردستان العراق لينتهي المطاف بالقطع المنهوبة في تركيا وإيران ودول الخليج، أكثر تطوراً. ولم يعثر على السواد الأعظم من القطع المنهوبة من تلك المواقع. إلا أن بعض القطع المشهورة المفقودة من المتحف الوطني العراقي والمناطق المنقبة بصورة غير قانونية قد عادت إلى العراق في نهاية المطاف (مثل قناع الوركاء الشهير والألواح المهربة التي اشترتها شركة “هوبي لوبي”). 

هانا: لماذا كان جنوب العراق بالتحديد أكثر عرضة للنهب؟ 

مارك: ازداد النهب في جنوب العراق تحديداً بشكل كبير في التسعينيات كردة فعل تجاه الفقر الذي سببته العقوبات الاقتصادية التي كان وقعها قاسياً على تلك المنطقة بالذات. لذا مع حلول عام 2003 تشكلت فِرق نهب شبه منظمة في تلك المنطقة. وحاولت الحكومة الحد من النهب في نهاية التسعينيات عبر عمليات التنقيب المنظمة، والتي أسفرت عن شيء من النجاح. إلا أن المشكلة عادت من جديد. وحين انهار الاقتصاد والمجتمع مع الغزو، سهّل ذلك نقل القطع الأثرية إلى الخارج. وكانت لهذه القطع سوق كبيرة في أماكن مثل الولايات المتحدة كما شاهدنا في فضيحة “هوبي لوبي”. فالرغبة كانت متجهة نحو العديد من القطع من فترتي ما قبل الإسلام وما قبل المسيحية في العراق. 

وقع بعض الضرر كذلك في مناطق أخرى، ولكنه كان طفيفاً نسبياً، حيث حصلت بعض عمليات النهب في متحف الموصل، والنهب المنظم في مناطق مثل النمرود، ولكن ضررها كان أبسط بكثير وأقل توسعاً مما حصل في بغداد وجنوب العراق. ما شهدناه في تلك المناطق في مطلع هذه الألفية كان انعداماً كاملاً للأمن، حتى قبل وصول “داعش”، مما أدى إلى توقف النشاطات الآثارية. مع شعور خبراء الآثار في الموصل بالتهديد بقي نشاطهم على نطاق محصور فقط. وكانت عمليات التنقيب وجهود الحفاظ على التراث في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك وديالى معدومةً تقريباً أو على نطاق ضيق جداً. فظلّت عمليات النهب قائمةً، ولكن على نطاق أضيق بكثير. 

هانا: ما هي الجهود التي بذلت لمنع النهب؟ وهل كانت ناجحة؟ 

جعفر: في عام 2008، أسست الحكومة في كل محافظة مديرية جديدة تابعة لوزارة الداخلية تدعى “مديرية شرطة حماية الآثار والتراث” وشرعت بتوظيف خبراء الآثار العراقيين للعمل بصفتهم “ضباطًا”. وفي الوقت ذاته أصبح الوصول إلى شبكة الإنترنت أكثر سهولة، وغدا أفراد المجتمع المحلي أكثر تفاعلاً مع تاريخ العراق الثقافي عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ساهمت في جهود حمايته. وأصبحت السلطات الدينية في النجف وكربلاء تشارك في حماية تراث العراق وتعزيز الوعي بأهمية موروث العراق الأوسع. وأصدر قادة مثل آية الله السيد علي السيستاني فتاوى تحرم تهريب الآثار. ونُظمت المؤتمرات وورش العمل محلياً ودولياً في النجف وكربلاء حول مواضيع تتعلق بالتراث. فعُقد مثلاً المؤتمر العالمي الأول لتعزيز الاهتمام بالآثار والتراث في العراق في الكوفة في عام 2018. وقد حدّ كل ذلك من أعمال النهب في جنوب العراق، مع استمرارها حتى الآن، ولكن بدرجة أقل. 

هانا: ماذا عن النهب الذي حصل مع ظهور تنظيم “داعش” في العراق؟ 

مارك: ما حدث في عام 2014 كان مختلفاً تماماً، بحلول ذلك الوقت كان النهب قد تضاءل في الجنوب. ولكن مع الاستيلاء على الموصل، مارس “داعش” عمليات النهب الممنهج ذاتها التي كان يتبعها في سوريا، وطبقها بشكل أو بآخر في العراق. رأينا النهب الممنهج في أماكن أساسية عدة مثل نينوى، فضلاً عن التدمير المنتظم لأغراض دعائية. وشمل ذلك تدمير مسجد النبي يونس، والذي يعتقد بأنه يحتوي على مقام النبي يونس الذي لم يكن مقدّساً عند المسلمين فحسب، بل لدى المسيحيين واليهود كذلك. ومن ضمن المواقع الأخرى التي دمرت مرقد الإمام عون الدين، وهو مزار شيعي يعود للقرن الثالث عشر نجا من سلب المغول للموصل، ودير مار إيليا وهو دير مسيحي يعود للقرن السادس، وكان أحد أقدم الهياكل المسيحية في العراق. ودُمرت المواقع الأيزيدية، واستهدِف تراث العراق القديم لأجل إعداد مقاطع فيديو دعائية لتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن عمليات النهب الممنهج كانت قائمة كذلك بغرض بيع القطع في الأسواق الغربية كوسيلة لتمويل عملياتهم. 

جعفر: أجل، كما قال مارك فقد كان أحد أهداف تنظيم “داعش” الأساسية تسخير الآثار المنهوبة لتمويل عملياته. من المحتمل أن تهريب الثروات الثقافية كان ثاني أعلى مصدر لإيرادات التنظيم بعد تهريب النفط، ووصل في بعض التقديرات إلى مليارات الدولارات. لا نعرف الحجم الحقيقي لتجارة القطع الثقافية، ولكن الثروات الثقافية كانت بالتأكيد حجر أساس في الاقتصاد الداعم لـ”داعش”. 

هانا: هل يمكنكما وصف جهود الحفاظ على الموروث الثقافي في هذه المناطق تحديداً؟ 

مارك: هناك الكثير من العمل الآن حقيقةً في المنطقة التي حكمتها “داعش” سابقاً، تقوم به وكالات إغاثة متنوعة من اليونسكو إلى الوكالات الأصغر. ويعمل فريق من جامعة بنسيلفينيا بدعمٍ من الحكومة الأمريكية في داخل النمرود، وفي الموصل يُعاد بناء بعض الكنائس والمساجد القديمة بتمويل من متبرعين دوليين بشكل كبير. أعتقد أن هنالك إهمالاً للموروث الأيزيدي وتقصيراً في إعادة ترميمه في شمال العراق. فمقارنة بالأقليات الأخرى في العراق، لا يزال الاهتمام الخارجي بالمحافظة على الموروث الأيزيدي طفيفاً مقارنة بالمجموعات المسيحية التي قد يكون لديها المزيد من العلاقات، ليس مع الشتات فحسب، بل ومع مصادر التمويل الخارجية. لكنني أعتقد بأن التهديد الحالي قد يكون موجهاً من بعض النواحي بصورة أكبر نحو التراث المعنوي (اللغات والذاكرة الثقافية والهوية المجتمعية) لأن الكثير من الأقليات التي تم استهدافها وتشريدها لا تشعر بالأمان الكافي بالضرورة للعودة بشكل جماعي. 

هانا: بمناسبة الحديث عن الموروث المعنوي، عمل زميلي بريار باجالان من جامعة اكسيتر على مشروع الحياة في الموصل، وهو مشروع يركز على تسجيل التاريخ المحكي للموصل، خصوصاً الحياة اليومية. ويتذكر أنه سمع عن جسر كان يلتقي الناس والعشاق تحته، ولكن تنظيم “داعش” فجره. ومع ذلك ظلّ الجسر موجوداً في وعي المدينة عن طريق اللغة. فأصبح الموروث المعنوي سبيل المحافظة على الموروث المادي. ولا يزال سكان الموصل يتحدثون عن اللقاء عند هذا الجسر رغم تبدد وجوده الفعلي. هل يمكنكما الحديث عن تناول علم الآثار للموروث المعنوي والمادي؟ وهل توجد رغبة بذلك في العراق؟ 

مارك: نعم توجد. لاحظت في آخر زيارة لي إلى الموصل في عام 2022 بأن هناك تعطشاً حقيقياً لدى الناس لفهم تراثهم والحفاظ عليه، وذلك جزئياً بسبب الصدمات التي أحدثها “داعش”. هناك ما يقال عن محاولة استحضار هذا النوع من الصدمات الحديثة من تراث العراق المعنوي إلى المادي. أحد الأمثلة على ذلك أن الهيئة العامة للآثار في العراق طلبت من جامعة هايدلبيرغ التنقيب عن آثار تعود إلى الإمبراطورية الآشورية، والتي عُثر عليها تحت مسجد النبي يونس -وهو الموقع الديني الذي فجره “داعش”، وحفر فيما بعد أنفاقًا تحته. حين يُعاد بناء المسجد، هناك أمل بالحفاظ على القطع الأثرية التي ظهرت بفعل الدمار. إنها ببساطة محاولةٌ لدمج إعادة الإعمار مع فرصة التعلم عن الماضي البعيد كوسيلة لجمع الناس معاً. 

جعفر: من الجدير بالذكر أيضاً أن بعض أنواع التراث المعنوي ازدهرت بعد عام 2003 بينما تدهورت بعض الأنواع الأخرى. ويعود سبب ذلك إلى اعتماد الناس على الموارد والحرف المحلية حين تعرض العراق للعقوبات الاقتصادية. ولكن في عام 2003، حين توسعت الأسواق العراقية وبدأت تمتلئ بالمنتجات الصينية والتركية والإيرانية والسورية، خسرت المنتجات العراقية المحلية لصالح منافساتها مع المنتجات الأجنبية. ونتيجة لذلك تراجعت مهارات تصنيع الحرف التقليدية بشكل كبير منذ عام 2003، مثل صناعة القوارب التقليدية وأقمشة العباءات الرجالية وحلي النساء والصياغة وأسرجة الحصن وتحضير القهوة وتصنيع الناي من القصب وأدوات الزراعة والفلاحة. ولكن التقاليد المحكية والفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية والطقوس وفعاليات الاحتفال ازدهرت مع رفع القيود التي كانت موجودة قبل عام 2003. 

هانا: أثار أحد محرّرينا النقطة التالية، والتي أريد أن أطرحها عليك يا مارك: هنالك اعتقاد بأن الغرب دعم بعض المجموعات كالآشوريين والأيزيديين بشكل أكبر مما أدى إلى استهدافهم. وفي الوقت ذاته، لا تلبي صناديق تمويل إعادة الإعمار الخارجية دوماً الاحتياجات المحلية التي تطالب بها منظمات المجتمع المحلي ونظراؤها في الشتات. على سبيل المثال، قد يشير الأيزيديون والآشوريون إلى أن التركيز على إعادة بناء الكنائس قد طغى على احتياجات المجتمعات المحلية الأخرى. هل ترى بأن الأمر يحدث فعلاً بهذه الطريقة؟ 

مارك: نعم، هذا ممكن. فالفقر بشكل عام وتضاؤل الفرص منتشران بكثرة، وقد تردى الحال أيضاً بسبب الفساد. ربما سيساهم توفير المزيد من فرص العمل في مساعدة جميع السكان. يجب أن تصل المساعدة إلى الجميع تلافياً لمشاكل محتملة يمكن أن تنتج عن الحسد والمعاناة. 

هانا: بالحديث عن إعادة الإعمار، تحدثت يا مارك عن “عصر النهضة” للتراث الثقافي في مناطق العراق الكردية. هل يمكنك إخبارنا أكثر عن ذلك ولماذا يوجد بالتحديد في تلك المنطقة؟ 

مارك: لم تكن المنطقة الكردية في العراق منطقة مستكشفة بشكل كبير، خصوصاً من قبل علماء الآثار الدوليين إذ أنها كانت منطقة محظورة إلى حدٍ ما أثناء سنوات حكم صدام. وبين عامي 2009-2010، شرع علماء الآثار الأجانب بالقدوم إلى المنطقة الكردية. ثم بدأت الحرب في سوريا في عام 2011، مما ساعد في النهضة الآثارية للمنطقة الكردية بشكل غير مباشر، إن علماء الآثار الذين لم يستطيعوا العمل في سوريا انتقلوا إلى المنطقة الكردية. اليوم أصبحت الدولة كلها أكثر أماناً، إلا أن المنطقة الكردية كانت آمنة نسبياً منذ ذلك الوقت كذلك، وكان الفساد محدودا إلى حد ما؛ وكانت قلعة أربيل أكبر مشروع. ولكن المنطقة تعاني من أزمة اقتصادية وفساد متزايد منذ عام 2014، ما حدّ من البحث والعمل في المناطق الكردية. 

هانا: في عام 2022، طرح تقرير تشاثام هاوس عن الافتراس الثقافي نظام المحاصصة كعامل أساسي في قضايا التراث الثقافي. يقول التقرير إنه بسبب هذا النظام العرقي والطائفي فإن “الدخل والموارد الأخرى التي يدرها التراث الثقافي لا تعود إلى الدولة بل إلى مؤسسات الدولة الفرعية” التي تعمل بنشاط على تعزيز نزعة قومية وعرقية وطائفية وأغراض دينية. كيف تريان هذه الممارسة في مجال الآثار؟ 

مارك: المشكلة الأساسية التي أراها من ناحية الافتراس هي تفشي الفساد على نطاقات متعدّدة بعد عام 2003. فلا تتم الأعمال في الوزارات أحياناً من دون رشوة مثلاً، أو أن يُباشَر في عمليات البناء من دون الموافقات اللازمة. إن قوانين الآثار العراقية المعمول بها بالفعل جيدة جداً، ولكنها للأسف عادة ما يتم تجاهلها. ويعني كل ذلك بأن الأفراد قد يقومون بأمور لا تتناسب مع احتياجات بعض المجتمعات في ما يتعلق بالتراث. أعتقد أن أحد أهم التهديدات هو استمرار مساهمة النظام السياسي حتى الآن في الفساد. إحدى القصص التي سمعتها عن سامراء مثلاً أن العديد من المنازل كانت تُبنى في الموقع، وهو أمر مخالف تماماً للقانون، ولكن لم يكن لأحد أن يقف في وجه ذلك بسبب وجود مسؤول فاسد في الحكومة المحلية. وينجم عن ذلك حالة لا تستطيع فيها السلطات المهتمة بحماية التراث القيام بعملها. 

في الوقت ذاته، من الجدير بالذكر أن هناك مناطق مهملة بإجحاف خصوصاً في جنوب الموصل وشمال بغداد لأسباب تتعلق بعدم الثقة والتشكيك بانتماء الجميع هناك إلى تنظيم “داعش” سابقاً. تلك المنطقة بشكلٍ عام هي أكثر المناطق إهمالاً في العراق، وأكثر المناطق عنفاً على مدى العشرين سنة الماضية. النشاط في المنطقة قليل، ولا يوجد عمل كثير في التنقيب الأثري وبناء التراث، والأخبار عنها شحيحة، ويكاد لا يوجد ذكر للتمويل هناك حتى من الحكومة المركزية. أعرف عن مشروع واحد فقط فاعل في تلك المنطقة. 

جعفر: أعتقد أن النظام أساء إدارة جميع القطاعات في العراق بعد عام 2003، وليس القطاع الأثري فحسب. انظري إلى سوء إدارة مصادر المياه والزراعة والتصنيع والإسكان والتعليم. أما في ما يتعلق بالمواقع الأثرية القديمة، لا يمكن اعتبارها على أسس النزعة القومية والعرقية. بما معناه أن المواقع الأثرية عوملت على أنها أصول وطنية (تعود إلى الحكومة المركزية في بغداد) بدلاً من كونها أصولاً إقليمية أو محلية. 

هانا: تحدثنا بإسهاب بالطبع عن المشاكل “بشرية الصنع”، ولكن ماذا عن أثر العوامل البيئية أو المناخية على موروث العراق الثقافي؟  

مارك: يعتبر التغيّر المناخي تهديداً متزايداً. فالعراق واحد من أكثر الدول عرضة للتغيير المناخي في العالم. الأنهار تجف، وأضحت المناطق التي كانت خضراء منذ زمن قريب صحراء قاحلة. إن هذه تهديدات ضخمة من حيث الأثر الواقع على الأبنية، ولكن كذلك من حيث الأثر الناجم عن تهجير السكان وتغيير معالم المشهد، مما ينتج تهديدات جديدة للموروث المادي والمعنوي. 

جعفر: أجل، فإن أثر التغيّر المناخي على الموروث الطبيعي والثقافي في الصحراء الجنوبية في العراق بمثابة خط أساس لتغير المناخ التاريخي في المنطقة، ويمكن على أساسه تقييم قابلية وجود مستقبل أكثر قدرة على التكيف مع المناخ.  

وفقاً لآخر الإحصاءات المبنية على عملي الميداني شخصياً، جفّت أكثر من خمس بحيرات و20 واحة و100 نبع، وتغيرت حياة البشر والحيوانات والنباتات البرية. فاختفت 30 نبتة برية من الصحراء خلال العشرين سنة الماضية و16 حيواناً برياً، علاوة على أن قائمة الأنواع المهددة بالانقراض في العراق هي في ازدياد. وبالتالي، فإن التغير المناخي يهدد التراث المادي في العراق في الصحراء الجنوبية والتراث المعنوي الذي يحيط بها. 

هانا: هل تعتقدان بأن الجهود المبذولة للتخفيف من تغير المناخ يمكن أن تعمل جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة للحفاظ على التراث الثقافي؟ 

مارك: أعتقد بأن الاستفادة من الماضي قد تكون أداة فعالة حقاً، إذ أن الكثير من تراث العراق المشيّد كان قد أُسس تاريخياً حول المناخ. تتضمن ممارسات الري القديمة في العراق مثلاً نظام القنوات -وهو نظام ريّ جوفي يساعد في الحفاظ على المياه عبر منع التبخر- ولكن الكثير من أنظمة الري في العراق اليوم موجودة في حفر فوق السطح. لماذا لا نحاول استخدام النظام الجوفي؟ مثال آخر هو بناء المنازل، فقد تبدو المنازل المبنية من الطوب الطيني فكرة سيئة، إلا أن هذه المادة في الواقع تحمي المنازل من احتباس الحرارة أثناء الصيف. ويمكننا الاستفادة من التراث التقليدي للعمارة في العراق واستخدام التكنولوجيا التي تعمل بما يتلاءم مع البيئة. 

هانا: يستدعي هذا النقاش حول أهمية الممارسات المعرفية المحلية بعض الأعمال التي يقوم بها جعفر. كنت أقرأ مدونة كتبتها لكلية لندن الجامعية مع توصيات عن كيفية “تحرير” علم الآثار في العراق من الاستعمار. هل يمكنك الحديث أكثر عمّا تعنيه بذلك؟ 

جعفر: أعني بتحرير علم الآثار من الاستعمار أن واجب الفرق الدولية تشجيع الباحثين العراقيين المحليين والناس العاديين على الاحتفاء بالتراث العراقي ونشره. فعوضاً عن اختيار مناطق العمل بناءً على المصالح الدولية، يجب أخذ الأبحاث المبنية على الاحتياجات العراقية بعين الاعتبار ووضعها كأولوية. ومن الأهمية بمكان أيضاً إشراك الخبراء العراقيين المحليين في البحوث، وتدريب المزيد من علماء الآثار وأخصائيي التراث العراقيين (ومنهم المختصون بالحفاظ على التراث). ذكر العراقيون بأنه يجب إقامة المزيد من المؤتمرات والمعارض عن العراق في الدولة، وعلى النتائج أن تنشر باللغة العربية واللغات المحلية الأخرى وفي المجلات العراقية. وعلى الفرق الأجنبية أن تساعدهم كذلك على بناء متاحف محلية ونشر أعمالهم بين السكان المحليين كجزء من جهود مشاريعها الأوسع. 

هانا: أتساءل عند هذه الملاحظة إن كان بإمكاننا إنهاء النقاش بالتطلع نحو المستقبل، تماماً كما ينبغي على جميع علماء الآثار أن يفعلوا. ما هو شكل التدريب في تخصصات التراث في العراق اليوم وما هي الفرص التي تتواجد لجيل المستقبل؟ 

جعفر: على مدى العقدين الماضيين، كان هناك الكثير من الاستثمار على المستوى الجامعي. فقد قام المؤرخون وعلماء الآثار العراقيون في جامعات بغداد والموصل والقادسية وبابل بحملات لتأسيس المزيد من أقسام علم الآثار وتوسعة أقسامهم لتصبح كليات. وفي عام 2008 وسعت جامعة الموصل قسم علم الآثار ليصبح كلية. وأسست سامراء والكوفة كليات جديدة في عامي 2010 و2011، بينما قامت القادسية وذي قار والمثنى بالمثل بعد عام 2014. وأُسست مجلتان علميتان جديدتان متخصصتان في التراث العراقي، إحداهما في جامعة الموصل والأخرى في جامعة القادسية. وشوهد توسع مماثل في المنطقة الكردية، إلا أنها تواجه مشاكل في التمويل منذ عام 2014.  

مارك: هناك الكثير من الحماسة للتعلم عن التراث في العراق، ويعود بعض الفضل إلى مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن بالرغم من توفر الاستثمار في الجامعات، لا يعثر الطلاب على العمل بسهولة بعد تخرّجهم من تخصصات التراث وعلم الآثار. إن زيادة فرص التدريب أمر مهم ولكن زيادة فرص التوظيف أساسي كذلك، وليتحقق هذا الأمر هناك حاجة للإبداع. رأيت مثلاً أصحاب شركات ناشئة في قطاع السياحة -الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموروث الثقافي في العراق- يطورون السياحة في أهوار العراق ومواقع تراثية أخرى في وسط العراق وجنوبه. يعتقد بعض الأجانب بأن العراق منطقة محظورة، ولكن في الحقيقة يحضر العديد من السياح للعراق من إيران وباكستان إلى الاحتفالات الشيعية مثل عاشوراء أو لزيارة المواقع التراثية الدينية المختلفة. وظهرت أيضاً سياحة غربية ناشئة، خاصة بعد زيارة البابا فرانسيس لأور في عام 2021. على إثر زيارة البابا، أطلقت الحكومة العراقية مشروعاً كبيراً لإعادة تأهيل أور وتوفير البنية التحتية السياحية المحلية. وفي عام 2021 بدأت الحكومة أيضاً في منح التأشيرات عند الوصول إلى مواطني معظم الدول الأوروبية وكندا والولايات المتحدة. من الواضح أن حركة السياحة لا تزال محدودة من حيث العدد، إلا أن هناك الآن مجموعات سياحية تزور العراق بانتظام. 

 ترجمة من الإنجليزي إلى العربي: نور الجلجولي

ينشر الحوار بالشراكة مع مجلة “ميريب