استشراق هوليود في العراق: جنود ضحايا ومجتمع إرهابي! 

علي رياض

02 أيار 2023

يظهر الفرد العراقي في الأفلام الأمريكية بصورة واحدة هي "حجّي"، أما المدن العراقية فهي متشابهة.. لكن كيف حصل ذلك؟ وهل تكرار هذه الصور أمر مقصود؟ عن صورة العراقي في السينما الأمريكية بعد غزو العراق..

في أواخر نيسان 2003، بدأت المساجد في أحد أقضية بغداد الغربيّة بدعوة الطلبة والمعلمين إلى الالتحاق بالمدارس عبر مكبّرات الصوت. كان صوت المؤذن المخنوق يحاول الشرح للناس، أن السقوط الحقيقي لعاصمة العراق، لن يكون بسرف الدبابات وأقدام مشاة البحرية الواطئة بقسوة تراب البلاد، بل بسقوط التعليم والقيم التي حافظ عليها العراقيون في أقسى الظروف؛ وهو ما حدث بالفعل، إذ بدأت العائلات منذ اليوم التالي لهذه الدعوات بإرسال أولادها إلى المدارس، والتحقت الكوادر التدريسية تدريجياً بالعمل رغم غياب الدولة. 

تزامن ذلك مع شيوع مشهد إحدى الموظفات في المتحف العراقي، والتي يُعتقد أنها كانت مديرة المتحف د. نوال المتوكل، تلطم رأسها وهي ترى آثار بلادها تدمّر وتسلب من قبل مجاميع غوغائية وأخرى إجرامية منظمة أمام أنظار قوات مشاة البحرية الأمريكية. 

هذان مشهدان من الأيام الأولى لسقوط بغداد على يد القوات الأمريكية، كان من الممكن أن يكونا أيقونيين لو أن عدسة هوليود أرادت أن تنقل الصورة حول ما جرى فعلاً وما الشعب الذي وجدوه، لكن ذلك لم يحدث طبعاً، كما لم يحدث عندما أخرج الإيطالي باولو بازوليني فيلماً بعنوان “Arabian Nights” العنوان الانكليزي لحكايات “ألف ليلة وليلة”، وجعل من بغداد العباسية تبدو أشبه بماخور عملاق تقطنه العواهر والقوادون والرعاة والشبقون والحمقى، في الوقت الذي كانت بغداد قبلة للفكر والترجمة والأدب، يدرس فيها حتى الأوروبيون من طلبة العلم.  

وربما، قبل الحديث عمّا تراه السينما الأمريكية وما تخطئه، يجدر التطرق إلى ما اعتاد أغلب المستشرقين رؤيته في هذه المنطقة، إذ لم تكن الإسلاموفوبيا وليدة الحركات الإسلامية الحديثة كما هو سائد في الإعلام الليبرالي، بل يعود ذلك إلى قرون خلت، حيث شاعت صور مثل أسواق النخاسة، مقابل صورة الإرهاب اليوم، لطرح النموذج الغربي السائد عن الشرق المتخلّف وحاجته إلى الغربي المتحضر والمتمدن ليبني له الحضارة.  

صورة من فيلم Arabian Nights للمخرج الإيطالي باولو بازوليني 

فما انتجته هوليود بعد حرب “عاصفة الصحراء” عن العراق، طبق النظرة الاستشراقية إياها إلا في تفصيلة واحدة، إذ هُمشت صورة العربي البدوي صاحب الثوب والعقال، الأحمق الذي يملك المال ولا يفقه شيئاً، وتصدرت مكانه صورتان: الأولى للإرهابي ابن العامة سواء كان رجلاً أو طفلاً لم يتجاوز العاشرة لتبرير قتله، والثانية هي صورة الفرد الآخر، المتعاون مع المخلص الأمريكي، والساعي للحرية والنجاة من حياة الجحيم في بلاده المنكوبة. وهاتان صورتان مطابقتان لصورتي الأفغاني في هوليود، لتكون المحصلة كالتالي، أينما وطأ جندنا ثمة مسلوب إرادة سنحرره، وإرهابي شرير سنقتله. 

الصور النمطية للجندي الأمريكي  

عام ١٩٩٥ أصدرت شركتا (آيكون) و(ذا لاد) للإنتاج السينمائي فيلم القلب الشجاع من بطولة وإخراج ميل غيبسون، للحديث عن شخصية ويليام والاس التاريخية وحربه الاسكتلندية ضد بريطانيا. وبحسب الفيلم، يطلق والاس حركة تمرد لأسباب شخصية بحتة، تمثلت باعتداء ضابط بريطاني على خطيبته وإعدامها. ورغم التباس الروايات التاريخية حول شخصية والاس الحقيقية، لكنه كان بطلاً في الفيلم، عاشقاً ووطنياً وشجاعاً، وكانت صورة غرمائه رغم تفاوتها تقاس على درجات مختلفة من الشر. 

وربما كان مشهد تعذيب وإعدام والاس في آخر الفيلم ما جعله ضمن الأعمال الأيقونية في حقل أفلام التاريخ، فصرخة “حريّة” التي زفرها بدلاً من “الرحمة” جعلت المشهد عصيّاً على النسيان، ورسّخت صورة النضال لأجل الاستقلال كحالة من المثالية الإنسانية في نفوس من شاهد هذا العمل. 

جاءت هذه الصورة في معركة بين بريطانيا وبلد أنجلوسكسوني، ما زال حتى اللحظة الحديث عن ارتباطه بالتاج البريطاني من عدمه وجهة نظر قابلة للجدل. 

بمقابل ذلك، تتعدّد الصور التي ترسمها الأفلام الأمريكية عن الجندي الأمريكي، وبشكل أساسي نستطيع احصاء ثلاث: صورة الجندي الإنساني الذي يتفادى العنف ويتأثر بما يحل بالعراقيين، مثل تقني المتفجرات الرقيب ويليام جيمس والذي لعب دوره ببراعة الممثل جيرمي رينر في فيلم “خزانة الألم” (The Hurt Locker)؛ وهناك صورة الجندي العصابيّ الموتور، وثمة أمثال كثيرة عن ذلك، مثل القناص كريس كايل في فيلم قناص أمريكي أو شخصية جيم لوثر ديفز في فيلم “أوقات عصيبة” والذي لعب دوره الممثل كريستيان بيل؛ أما الصورة الثالثة فهي صورة الجندي العابث الأشد إجراما كمعظم الجنود في فيلم معركة حديثة (battle of haditha). 

بوستر فيلم The Hurt Locker 

لنتوقف عند النوع الثاني. كريستوفر سكوت كايل أو كريس كايل، هو جندي سابق في القوات الخاصة البحرية الأمريكية، والذي خدم في كل حروب بلاده في العراق ووسم بلقب “شيطان الرمادي”، فيُعتقد أنه قتل أكثر من ١٦٠ “عدواً”، بينما ادعى في مذكراته التي حولها كلينت إيستوود إلى فيلم “قناص أمريكي” (American Sniper) عام ٢٠١٤، أنه قتل أكثر من ٣٢٠ شخصاً. يُعدّ كايل البطل وفق النظرة الهوليودية، وطبعاً كان بطلاً في عين الجيش الأمريكي، مع كم من الميداليات منها النجمتان الفضية والبرونزية. 

يبدأ الفيلم بأول هدف أرداه كايل والذي لعب دوره الممثل برادلي كوبر، امرأة وابنها البالغ من العمر نحو ١٠ سنوات، تخرج الأم من زقاق ضيق مرتدية العباءة العراقية الكلاسيكية، وبعد أن تواجه القوة الأمريكية، تُسلم ابنها قنبلة يدوية وتعطيه ربتة على الكتف كإشعار بالهجوم. كايل يشاهد كل ذلك من موقع الرصد بعدسة بندقيته، وهنا في هذه اللحظة، يقول زميله جملة عظيمة: “احذر، إن كنت مخطئاً بأمر القنبلة سيرمونك في السجن لقتلها”. وهنا نفهم أن المشكلة الوحيدة لدى رفيق القناص الأمريكي ليست قتل امرأة وابنها، بل عقوبة ذلك في حال تم كشف الأمر. 

وقبل جذب الزناد، يُظهر لنا المخرج كلينت ايستوود لمحة من حياة كايل ما قبل الجندية، المتسمة بالفشل والخيانة الزوجية، ثم لمحة من التدريبات حيث كان يفشل بإصابة الأهداف المعدنية ويجيد إصابة الأهداف الحيّة وإن كانت أصعب بأضعاف عدة، ثم يعود بنا إلى لحظة جذب الزناد وقتل الأم والابن وتبريكات زملائه ثم لعبة إحصاء قتلاه منذ الأيام الأولى. 

لقطة من فيلم “قناص أمريكي” للمخرج الأمريكي كلينت إيستوود 

الفيلم يظهر إشارات عابرة لبضعة تفاصيل، مثل مجلس تحقيقي لكايل حيث وُجهت له تهمة قتل رجل يحمل مصحفاً عكس ادعائه بحمل بندقية كلاشنكوف. كما يظهر جلسة للتعريف بأبو مصعب الزرقاوي، والنافذة الزمنية الضيقة لتفتيش بيوت الفلوجة بيتاً بيتاً، بحثا عنه وعن مساعده، ثم توضيح الفرق بين الزرقاوي وبين فصائل المقاومة التي واجهوها البحرية سابقاً.  

تلخص الفرق بالنسبة لكلينت ايستوود وشركات انتاج هوليود بأن الفصائل الصغيرة أقل قوة وتدريباً من القاعدة، دون فهم السياق والفروقات في التوجهات الأيديولوجية فيما بينها، ولا أحقية حمل السلاح ومقاومة الاحتلال، ولا حتى التفريق بين مصطلحي “ارهابي” (terrorist) و”مقاتل” (militant)، رغم أن بيانات “قوات الائتلاف” كانت تفرق لغوياً، وتطلق صفة المخربين أو المتمردين على الفصائل غير المواليّة للقاعدة، بينما تطلق صفة الإرهاب على القاعدة وحلفائها. 

تجدر الإشارة إلى ما تداولته صحف رصينة حول كريستوفر سكوت كايل بعد انتهاء خدمته في العراق عام ٢٠٠٩، إذ نشرت صحيفة “نيويوركر” العريقة أن كايل متهم بارتكاب مجزرة في الولايات المتحدة بعد إعصار كاترينا، حين ارتقى إحدى المباني وقتل بإصابات مباشرة ٣٠ أميركياً مارسوا أعمال شغب ونهب في المناطق المتضررة من الإعصار، فضلاً عن إعدامه لاثنين من اللصوص حاولوا سرقته قرب إحدى محطات الوقود.  

هذه التقارير أشارت أيضاً إلى أن وسائل الإعلام لم تنشر شيئا عن المجزرة أو الحادثة الثانية، كما لم تكن هناك تقارير طبية حول الأمر، الأمر الذي يمكن فهمه بسيناريوهين لا ثالث لهما، الأول هو إما أن الحادثتين غير حقيقيتين، أو أن الحكومة الأمريكية بعد تكريمها للبطل القناص، لم تخاطر بسمعتها أن تدينه وتفتح الباب للصحافة بمراجعة أرقام القنص الخاصة بكايل في العراق، وحول إن كانت إصاباته لمسلحين أم مدنيين تم إعدامهم من قبل القناص الأمريكي البطل.  

العراقي.. حجّي أو إرهابي! 

يظهر الفرد العراقي بالمجمل بصورة واحدة، سواء كان بغداديا أو أنباريا أو جنوبيا، فكلهم “haji” كما ينطقها الجنود، وهو تعبير مأخوذ من العربية “حجّي” أو “حاج”، والتي استخدمها الجيش الأمريكي لوصف عامة الناس في أفغانستان والعراق. 

والحجي ببساطة يمكن تعريفه بأنه فرد على درجة معيّنة من التخلف ومن الخطر في الوقت ذاته، وهو هدف مؤجل في حالته المدنية. وهي مجموعة من الصفات تقود إلى نتيجة دون إنسانية بنظر هذا الجندي أو ذاك، فحين تكون مسالمة فهي أقرب للحيوان الأليف، وحين تكون معادية فهي أشبه بمفترس في الغابة علاجه رصاصة بالرأس أو الصدر. 

وللاستدلال على ذلك، يُظهر فيلم خزانة الألم، وهو واحد من أكثر الأفلام التي تناولت العراق بعاطفة منحازة للعراقيين، مشهداً يخوض به ضابط برتبة كولونيل حواراً مع مجموعة مدنية تحمل الصخور في عربة، الحوار لطيف، وبعد انسحابهم يبقى كيس على الأرض ينفجر ويودي بحياة الكولونيل. وهذا تلقين سيكولوجي وبروباغاندا مدروسة مفادها: حتى المدنيون هم أهداف أو على الأقل مصادر خطر. 

يؤكد هذه الرؤية أحد الجنود في مطلع فيلم معركة حديثة، إذ يقول بما ملخصه إن القتل هنا يشبه الصيد، والعراق هو فتحة مؤخرة الكرة الأرضية، وعلينا أن نتعامل مع الغائط (العراقيين). كما يذهب جندي آخر في الفيلم نفسه، وفي فيلم القناص الأميركي إلى أن النساء قد يخرجن رشاش كلاشنكوف من تحت عباءاتهن. والمراد قوله هنا، إن الجميع هدف شرعي للقتل، وفي الحقيقة هذا ما كان يكتب على ظهر عربات الهمفي الأمريكية في شوارع العراق: “ابتعد مسافة ١٠٠ متر، هذه القوة مخوّلة بالقتل” وهذه العبارة لم تخاطب المسلحين، بل خاطبت عامة الناس. 

وهنا نعود مرة أخرى إلى أدوات الاستشراق والهيمنة الثقافية، حيث يستوجب رسم واقع بسيط، والتخلص من التفاصيل التي تعقد الصورة أو تركبها، فالشخصية المتخلفة لا يمكن أن تكون مركبة، أو تحمل عمقاً في فهم الحياة وخصوصية في الثقافة والسلوك، لذا يجب أن يكون العراق بأكمله صحراء وإن مرت الكاميرا فخلسة على نهر دجلة بثانية أو اثنتين، والعراقي يجب أن يكون “haji”.. وإن كان استاذاً جامعياً أو شاعراً أو لاعب كرة قدم مثلاً. 

فقط الجندي الأمريكي ضحية 

مشهد ليلي، قوة أمريكية خاصة تتسلل إلى موقع مجموعة من المسلحين العراقيين، يناور جندي قوة (Rangers) جيم دايفز من الجانب، وبينما تطلق القوة الرئيسية النار على المسلحين، يدخل دايفز إلى خندق المسلحين ويبيدهم الواحد تلو الآخر من الجانب بينما هم منشغلون بإطلاق النار على القوة الرئيسية، آخر مسلح يدرك الأمر ويرمي سلاحه أمام قاتل زملائه، لكن دايفز يوجه مسدسه إلى رأس المسلح. وهنا يقفز دايفز الذي لعب دوره كريستيان بيل من النوم مفزوعاً، ليكون هذا هو المشهد الافتتاحي لفيلم “أوقات عصيبة (harsh times)”. 

حياة مقاتل الرينجرز ما بعد العسكرية لا تبدو على ما يرام، هناك سلوك عصابي كبير، إذ يتهجّم على رجل في الخمسينات من عمره في الشارع فقط لأنه نظر إليه، ويتعاطى المخدرات بكثرة ويُفشل كل مخططات عودته إلى حياة ما بعد الحرب بعبثيته ولا مبالاته المتأتية من عقدة نفسية أحضرها معه من العراق، ثم يستمر الفيلم بأحداث أخرى مبنية على أساس هذه الشخصية، شخصية المضطرب العائد من الحرب الأمريكية على العراق.  

في فيلم “وادي الإله (In the valley of elah) “، المستوحى من قصة إنجيلية، يحقق عنصر الشرطة العسكرية المتقاعد هانك ديرفيلد بمقتل ابنه الجندي العائد من العراق مايك ديرفيلد، ويشكل التحقيق في جريمة القتل معظم أحداث الفيلم التي يكتشف فيها الأب مجموعة أسرار عبر هاتف ابنه، مثل صور لمراهقات مقتولات وفيديو لابنه يعذب أسيراً عراقياً. 

يكتشف الأب في نهاية الفيلم أن ابنه قُتل على يد أقرب أصدقائه إليه، والذي ينتحر لاحقاً. كما يكتشف سبب الاسم المستعار (doc) الذي لقب به ابنه، كونه كان يدّعي أنه من وحدة الطبابة ويتلذذ بتعذيب المصابين العراقيين بلمس محلّ جراحهم، وهو أمر كان يفجر بينهم الكثير من الضحك، فضلاً عن أن ابنه دهس طفلاً صغيراً بسبب الأوامر التي تمنع توقف القافلة العسكرية لأي سبب.   

  

ولهذا الفيلم حالة قد تكون خاصة، ففي الوقت الذي يظهر الميل الشديد للجنود بتعاطي المخدرات والإفراط بالكحول وسوء أخلاقهم العامة، حتى أنه ينتهي بمشهد هانك ديرفيلد يرفع العلم الأمريكي مقلوباً في إشارة إلى النكبة الإنسانية التي يتعرضون لها، يظهر أن هؤلاء الجنود هم الضحية، وهنا يأتي العنوان، الذي يشير إلى معركة الطفل ديفيد الاسرائيلي مع العملاق جالوت الفلسطيني والانتصار عليه. أو بعبارة أخرى أن هؤلاء الجنود الذين ارتكبوا الفضائع في العراق، هم بطريقة أو بأخرى ضحية للعراق الذي أدوا فيه خدمتهم العسكرية. 

  

بوستر فيلم In the valley of elah  

هذان مثالان من بين أمثلة عديدة في السينما أو للدراما الهوليودية التي تناولت الوضع النفسي السيئ للقوات الأمريكية العائدة من الخدمة سواء من العراق أو أفغانستان وما قد يرتكبونه بعد عودتهم. وهذا طبعاً لم يكن اجتهاداً سينمائياً أو مخيلة كاتب أو مخرج عن نتائج الحرب، إذ أًصدرت وزارة شؤون «المحاربين القدامى» تقريراً يُظهر أن عشرات قدامى المحاربين توفوا بسبب الانتحار خلال الفترة من 2008 إلى 2017. 

 ووفقاً للتقارير الأمريكية، كان معدل الانتحار بين الأفراد العسكريين أقل من المدنيين المتطابقين في العمر والجنس في بداية الأمر، ولكنه ارتفع بعد ذلك في غضون 10 سنوات منذ بدء حرب العراق عام 2003. وتظهر التحليلات أن نحو نصف حالات الانتحار أو محاولات الانتحار هي بسبب اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).  

أما الآثار المدمرة على العراق والعراقيين فتظل خارج الشاشة السينما الهوليودية. 

عسكرة الإعلام والسينما  

في مقال للكاتب والناقد السينمائي ديفد وولش عن الفيلم التلفزيوني “مباشر من بغداد” (Live from Baghdad) الذي انتجته شركة HBO في 2002، عن مجموعة مراسلين لمحطة CNN غطوا اجتياح الكويت وحرب الخليج الثانية خلال تواجدهم في العراق، يقول وولش “إن الفيلم تجاهل تماماً الخلفيات التاريخية لهذه الحرب، مثل الضوء الأخضر الذي منحته سفيرة الولايات المتحدة في بغداد آنذاك لصدام بدخول الكويت، ولا التطرق لحقيقة وجود خطة لاجتياح العراق لدى الجنرال رومان شوارزكوف قبل اجتياح العراق للكويت بشهور”.  

وفي مقال آخر للناقد السينمائي جون ليونارد عن الفيلم نفسه يقول إن “ما سُمح لعامة الأمريكيين معرفته، هو ما قررت الحكومة الأمريكية أنه الأفضل لهم، لا فيتنام جديدة، بل رقابة عسكرية على الميديا”. 

لقطة من فيلم Live from Baghdad 

وهذه آراء أمريكية حول هوليود، لذا كل ما تقدم لا يراد منه إدانة هوليود بالتواطؤ والتلاعب مع الرؤية الحكومية الأمريكية لأنها حقيقة قديمة، وسبق  لإدوارد سعيد في كتابه الاستشراق أن فككها، فضلاً عن الدراسات ما بعد الكولونيالية. 

وهي كذلك خطة إعلامية مدروسة شرحها بالتفصيل المفكر الأميركي نعوم تشوميسكي في كتابه “السيطرة على الإعلام”. كانت السينما إحدى أكبر الأدوات تأثيراً على النخبة قبل غيرهم، لدرجة أن فيلماً قبيحاً من المنظور الإنساني كفيلم القناص الأمريكي دفع عدداً من المثقفين، ومن بينهم عراقيون، إلى التعاطف مع القناص وتبني مبرر “ماذا بيده أن يفعل؟ عليه أن يدافع عن رفاقه”. 

هذه الهيمنة الثقافية الجديدة والاستشراق الجديد الذي ترك صفحات الأدب لانخفاض تأثيرها وانتقل بكامل ثقله إلى السينما والانتاج التلفزيوني وألعاب الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي، والصورة العولمية الجديدة للإنسان العابر للهوية، هي امتداد للحروب الأمريكية على العراق.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في أواخر نيسان 2003، بدأت المساجد في أحد أقضية بغداد الغربيّة بدعوة الطلبة والمعلمين إلى الالتحاق بالمدارس عبر مكبّرات الصوت. كان صوت المؤذن المخنوق يحاول الشرح للناس، أن السقوط الحقيقي لعاصمة العراق، لن يكون بسرف الدبابات وأقدام مشاة البحرية الواطئة بقسوة تراب البلاد، بل بسقوط التعليم والقيم التي حافظ عليها العراقيون في أقسى الظروف؛ وهو ما حدث بالفعل، إذ بدأت العائلات منذ اليوم التالي لهذه الدعوات بإرسال أولادها إلى المدارس، والتحقت الكوادر التدريسية تدريجياً بالعمل رغم غياب الدولة. 

تزامن ذلك مع شيوع مشهد إحدى الموظفات في المتحف العراقي، والتي يُعتقد أنها كانت مديرة المتحف د. نوال المتوكل، تلطم رأسها وهي ترى آثار بلادها تدمّر وتسلب من قبل مجاميع غوغائية وأخرى إجرامية منظمة أمام أنظار قوات مشاة البحرية الأمريكية. 

هذان مشهدان من الأيام الأولى لسقوط بغداد على يد القوات الأمريكية، كان من الممكن أن يكونا أيقونيين لو أن عدسة هوليود أرادت أن تنقل الصورة حول ما جرى فعلاً وما الشعب الذي وجدوه، لكن ذلك لم يحدث طبعاً، كما لم يحدث عندما أخرج الإيطالي باولو بازوليني فيلماً بعنوان “Arabian Nights” العنوان الانكليزي لحكايات “ألف ليلة وليلة”، وجعل من بغداد العباسية تبدو أشبه بماخور عملاق تقطنه العواهر والقوادون والرعاة والشبقون والحمقى، في الوقت الذي كانت بغداد قبلة للفكر والترجمة والأدب، يدرس فيها حتى الأوروبيون من طلبة العلم.  

وربما، قبل الحديث عمّا تراه السينما الأمريكية وما تخطئه، يجدر التطرق إلى ما اعتاد أغلب المستشرقين رؤيته في هذه المنطقة، إذ لم تكن الإسلاموفوبيا وليدة الحركات الإسلامية الحديثة كما هو سائد في الإعلام الليبرالي، بل يعود ذلك إلى قرون خلت، حيث شاعت صور مثل أسواق النخاسة، مقابل صورة الإرهاب اليوم، لطرح النموذج الغربي السائد عن الشرق المتخلّف وحاجته إلى الغربي المتحضر والمتمدن ليبني له الحضارة.  

صورة من فيلم Arabian Nights للمخرج الإيطالي باولو بازوليني 

فما انتجته هوليود بعد حرب “عاصفة الصحراء” عن العراق، طبق النظرة الاستشراقية إياها إلا في تفصيلة واحدة، إذ هُمشت صورة العربي البدوي صاحب الثوب والعقال، الأحمق الذي يملك المال ولا يفقه شيئاً، وتصدرت مكانه صورتان: الأولى للإرهابي ابن العامة سواء كان رجلاً أو طفلاً لم يتجاوز العاشرة لتبرير قتله، والثانية هي صورة الفرد الآخر، المتعاون مع المخلص الأمريكي، والساعي للحرية والنجاة من حياة الجحيم في بلاده المنكوبة. وهاتان صورتان مطابقتان لصورتي الأفغاني في هوليود، لتكون المحصلة كالتالي، أينما وطأ جندنا ثمة مسلوب إرادة سنحرره، وإرهابي شرير سنقتله. 

الصور النمطية للجندي الأمريكي  

عام ١٩٩٥ أصدرت شركتا (آيكون) و(ذا لاد) للإنتاج السينمائي فيلم القلب الشجاع من بطولة وإخراج ميل غيبسون، للحديث عن شخصية ويليام والاس التاريخية وحربه الاسكتلندية ضد بريطانيا. وبحسب الفيلم، يطلق والاس حركة تمرد لأسباب شخصية بحتة، تمثلت باعتداء ضابط بريطاني على خطيبته وإعدامها. ورغم التباس الروايات التاريخية حول شخصية والاس الحقيقية، لكنه كان بطلاً في الفيلم، عاشقاً ووطنياً وشجاعاً، وكانت صورة غرمائه رغم تفاوتها تقاس على درجات مختلفة من الشر. 

وربما كان مشهد تعذيب وإعدام والاس في آخر الفيلم ما جعله ضمن الأعمال الأيقونية في حقل أفلام التاريخ، فصرخة “حريّة” التي زفرها بدلاً من “الرحمة” جعلت المشهد عصيّاً على النسيان، ورسّخت صورة النضال لأجل الاستقلال كحالة من المثالية الإنسانية في نفوس من شاهد هذا العمل. 

جاءت هذه الصورة في معركة بين بريطانيا وبلد أنجلوسكسوني، ما زال حتى اللحظة الحديث عن ارتباطه بالتاج البريطاني من عدمه وجهة نظر قابلة للجدل. 

بمقابل ذلك، تتعدّد الصور التي ترسمها الأفلام الأمريكية عن الجندي الأمريكي، وبشكل أساسي نستطيع احصاء ثلاث: صورة الجندي الإنساني الذي يتفادى العنف ويتأثر بما يحل بالعراقيين، مثل تقني المتفجرات الرقيب ويليام جيمس والذي لعب دوره ببراعة الممثل جيرمي رينر في فيلم “خزانة الألم” (The Hurt Locker)؛ وهناك صورة الجندي العصابيّ الموتور، وثمة أمثال كثيرة عن ذلك، مثل القناص كريس كايل في فيلم قناص أمريكي أو شخصية جيم لوثر ديفز في فيلم “أوقات عصيبة” والذي لعب دوره الممثل كريستيان بيل؛ أما الصورة الثالثة فهي صورة الجندي العابث الأشد إجراما كمعظم الجنود في فيلم معركة حديثة (battle of haditha). 

بوستر فيلم The Hurt Locker 

لنتوقف عند النوع الثاني. كريستوفر سكوت كايل أو كريس كايل، هو جندي سابق في القوات الخاصة البحرية الأمريكية، والذي خدم في كل حروب بلاده في العراق ووسم بلقب “شيطان الرمادي”، فيُعتقد أنه قتل أكثر من ١٦٠ “عدواً”، بينما ادعى في مذكراته التي حولها كلينت إيستوود إلى فيلم “قناص أمريكي” (American Sniper) عام ٢٠١٤، أنه قتل أكثر من ٣٢٠ شخصاً. يُعدّ كايل البطل وفق النظرة الهوليودية، وطبعاً كان بطلاً في عين الجيش الأمريكي، مع كم من الميداليات منها النجمتان الفضية والبرونزية. 

يبدأ الفيلم بأول هدف أرداه كايل والذي لعب دوره الممثل برادلي كوبر، امرأة وابنها البالغ من العمر نحو ١٠ سنوات، تخرج الأم من زقاق ضيق مرتدية العباءة العراقية الكلاسيكية، وبعد أن تواجه القوة الأمريكية، تُسلم ابنها قنبلة يدوية وتعطيه ربتة على الكتف كإشعار بالهجوم. كايل يشاهد كل ذلك من موقع الرصد بعدسة بندقيته، وهنا في هذه اللحظة، يقول زميله جملة عظيمة: “احذر، إن كنت مخطئاً بأمر القنبلة سيرمونك في السجن لقتلها”. وهنا نفهم أن المشكلة الوحيدة لدى رفيق القناص الأمريكي ليست قتل امرأة وابنها، بل عقوبة ذلك في حال تم كشف الأمر. 

وقبل جذب الزناد، يُظهر لنا المخرج كلينت ايستوود لمحة من حياة كايل ما قبل الجندية، المتسمة بالفشل والخيانة الزوجية، ثم لمحة من التدريبات حيث كان يفشل بإصابة الأهداف المعدنية ويجيد إصابة الأهداف الحيّة وإن كانت أصعب بأضعاف عدة، ثم يعود بنا إلى لحظة جذب الزناد وقتل الأم والابن وتبريكات زملائه ثم لعبة إحصاء قتلاه منذ الأيام الأولى. 

لقطة من فيلم “قناص أمريكي” للمخرج الأمريكي كلينت إيستوود 

الفيلم يظهر إشارات عابرة لبضعة تفاصيل، مثل مجلس تحقيقي لكايل حيث وُجهت له تهمة قتل رجل يحمل مصحفاً عكس ادعائه بحمل بندقية كلاشنكوف. كما يظهر جلسة للتعريف بأبو مصعب الزرقاوي، والنافذة الزمنية الضيقة لتفتيش بيوت الفلوجة بيتاً بيتاً، بحثا عنه وعن مساعده، ثم توضيح الفرق بين الزرقاوي وبين فصائل المقاومة التي واجهوها البحرية سابقاً.  

تلخص الفرق بالنسبة لكلينت ايستوود وشركات انتاج هوليود بأن الفصائل الصغيرة أقل قوة وتدريباً من القاعدة، دون فهم السياق والفروقات في التوجهات الأيديولوجية فيما بينها، ولا أحقية حمل السلاح ومقاومة الاحتلال، ولا حتى التفريق بين مصطلحي “ارهابي” (terrorist) و”مقاتل” (militant)، رغم أن بيانات “قوات الائتلاف” كانت تفرق لغوياً، وتطلق صفة المخربين أو المتمردين على الفصائل غير المواليّة للقاعدة، بينما تطلق صفة الإرهاب على القاعدة وحلفائها. 

تجدر الإشارة إلى ما تداولته صحف رصينة حول كريستوفر سكوت كايل بعد انتهاء خدمته في العراق عام ٢٠٠٩، إذ نشرت صحيفة “نيويوركر” العريقة أن كايل متهم بارتكاب مجزرة في الولايات المتحدة بعد إعصار كاترينا، حين ارتقى إحدى المباني وقتل بإصابات مباشرة ٣٠ أميركياً مارسوا أعمال شغب ونهب في المناطق المتضررة من الإعصار، فضلاً عن إعدامه لاثنين من اللصوص حاولوا سرقته قرب إحدى محطات الوقود.  

هذه التقارير أشارت أيضاً إلى أن وسائل الإعلام لم تنشر شيئا عن المجزرة أو الحادثة الثانية، كما لم تكن هناك تقارير طبية حول الأمر، الأمر الذي يمكن فهمه بسيناريوهين لا ثالث لهما، الأول هو إما أن الحادثتين غير حقيقيتين، أو أن الحكومة الأمريكية بعد تكريمها للبطل القناص، لم تخاطر بسمعتها أن تدينه وتفتح الباب للصحافة بمراجعة أرقام القنص الخاصة بكايل في العراق، وحول إن كانت إصاباته لمسلحين أم مدنيين تم إعدامهم من قبل القناص الأمريكي البطل.  

العراقي.. حجّي أو إرهابي! 

يظهر الفرد العراقي بالمجمل بصورة واحدة، سواء كان بغداديا أو أنباريا أو جنوبيا، فكلهم “haji” كما ينطقها الجنود، وهو تعبير مأخوذ من العربية “حجّي” أو “حاج”، والتي استخدمها الجيش الأمريكي لوصف عامة الناس في أفغانستان والعراق. 

والحجي ببساطة يمكن تعريفه بأنه فرد على درجة معيّنة من التخلف ومن الخطر في الوقت ذاته، وهو هدف مؤجل في حالته المدنية. وهي مجموعة من الصفات تقود إلى نتيجة دون إنسانية بنظر هذا الجندي أو ذاك، فحين تكون مسالمة فهي أقرب للحيوان الأليف، وحين تكون معادية فهي أشبه بمفترس في الغابة علاجه رصاصة بالرأس أو الصدر. 

وللاستدلال على ذلك، يُظهر فيلم خزانة الألم، وهو واحد من أكثر الأفلام التي تناولت العراق بعاطفة منحازة للعراقيين، مشهداً يخوض به ضابط برتبة كولونيل حواراً مع مجموعة مدنية تحمل الصخور في عربة، الحوار لطيف، وبعد انسحابهم يبقى كيس على الأرض ينفجر ويودي بحياة الكولونيل. وهذا تلقين سيكولوجي وبروباغاندا مدروسة مفادها: حتى المدنيون هم أهداف أو على الأقل مصادر خطر. 

يؤكد هذه الرؤية أحد الجنود في مطلع فيلم معركة حديثة، إذ يقول بما ملخصه إن القتل هنا يشبه الصيد، والعراق هو فتحة مؤخرة الكرة الأرضية، وعلينا أن نتعامل مع الغائط (العراقيين). كما يذهب جندي آخر في الفيلم نفسه، وفي فيلم القناص الأميركي إلى أن النساء قد يخرجن رشاش كلاشنكوف من تحت عباءاتهن. والمراد قوله هنا، إن الجميع هدف شرعي للقتل، وفي الحقيقة هذا ما كان يكتب على ظهر عربات الهمفي الأمريكية في شوارع العراق: “ابتعد مسافة ١٠٠ متر، هذه القوة مخوّلة بالقتل” وهذه العبارة لم تخاطب المسلحين، بل خاطبت عامة الناس. 

وهنا نعود مرة أخرى إلى أدوات الاستشراق والهيمنة الثقافية، حيث يستوجب رسم واقع بسيط، والتخلص من التفاصيل التي تعقد الصورة أو تركبها، فالشخصية المتخلفة لا يمكن أن تكون مركبة، أو تحمل عمقاً في فهم الحياة وخصوصية في الثقافة والسلوك، لذا يجب أن يكون العراق بأكمله صحراء وإن مرت الكاميرا فخلسة على نهر دجلة بثانية أو اثنتين، والعراقي يجب أن يكون “haji”.. وإن كان استاذاً جامعياً أو شاعراً أو لاعب كرة قدم مثلاً. 

فقط الجندي الأمريكي ضحية 

مشهد ليلي، قوة أمريكية خاصة تتسلل إلى موقع مجموعة من المسلحين العراقيين، يناور جندي قوة (Rangers) جيم دايفز من الجانب، وبينما تطلق القوة الرئيسية النار على المسلحين، يدخل دايفز إلى خندق المسلحين ويبيدهم الواحد تلو الآخر من الجانب بينما هم منشغلون بإطلاق النار على القوة الرئيسية، آخر مسلح يدرك الأمر ويرمي سلاحه أمام قاتل زملائه، لكن دايفز يوجه مسدسه إلى رأس المسلح. وهنا يقفز دايفز الذي لعب دوره كريستيان بيل من النوم مفزوعاً، ليكون هذا هو المشهد الافتتاحي لفيلم “أوقات عصيبة (harsh times)”. 

حياة مقاتل الرينجرز ما بعد العسكرية لا تبدو على ما يرام، هناك سلوك عصابي كبير، إذ يتهجّم على رجل في الخمسينات من عمره في الشارع فقط لأنه نظر إليه، ويتعاطى المخدرات بكثرة ويُفشل كل مخططات عودته إلى حياة ما بعد الحرب بعبثيته ولا مبالاته المتأتية من عقدة نفسية أحضرها معه من العراق، ثم يستمر الفيلم بأحداث أخرى مبنية على أساس هذه الشخصية، شخصية المضطرب العائد من الحرب الأمريكية على العراق.  

في فيلم “وادي الإله (In the valley of elah) “، المستوحى من قصة إنجيلية، يحقق عنصر الشرطة العسكرية المتقاعد هانك ديرفيلد بمقتل ابنه الجندي العائد من العراق مايك ديرفيلد، ويشكل التحقيق في جريمة القتل معظم أحداث الفيلم التي يكتشف فيها الأب مجموعة أسرار عبر هاتف ابنه، مثل صور لمراهقات مقتولات وفيديو لابنه يعذب أسيراً عراقياً. 

يكتشف الأب في نهاية الفيلم أن ابنه قُتل على يد أقرب أصدقائه إليه، والذي ينتحر لاحقاً. كما يكتشف سبب الاسم المستعار (doc) الذي لقب به ابنه، كونه كان يدّعي أنه من وحدة الطبابة ويتلذذ بتعذيب المصابين العراقيين بلمس محلّ جراحهم، وهو أمر كان يفجر بينهم الكثير من الضحك، فضلاً عن أن ابنه دهس طفلاً صغيراً بسبب الأوامر التي تمنع توقف القافلة العسكرية لأي سبب.   

  

ولهذا الفيلم حالة قد تكون خاصة، ففي الوقت الذي يظهر الميل الشديد للجنود بتعاطي المخدرات والإفراط بالكحول وسوء أخلاقهم العامة، حتى أنه ينتهي بمشهد هانك ديرفيلد يرفع العلم الأمريكي مقلوباً في إشارة إلى النكبة الإنسانية التي يتعرضون لها، يظهر أن هؤلاء الجنود هم الضحية، وهنا يأتي العنوان، الذي يشير إلى معركة الطفل ديفيد الاسرائيلي مع العملاق جالوت الفلسطيني والانتصار عليه. أو بعبارة أخرى أن هؤلاء الجنود الذين ارتكبوا الفضائع في العراق، هم بطريقة أو بأخرى ضحية للعراق الذي أدوا فيه خدمتهم العسكرية. 

  

بوستر فيلم In the valley of elah  

هذان مثالان من بين أمثلة عديدة في السينما أو للدراما الهوليودية التي تناولت الوضع النفسي السيئ للقوات الأمريكية العائدة من الخدمة سواء من العراق أو أفغانستان وما قد يرتكبونه بعد عودتهم. وهذا طبعاً لم يكن اجتهاداً سينمائياً أو مخيلة كاتب أو مخرج عن نتائج الحرب، إذ أًصدرت وزارة شؤون «المحاربين القدامى» تقريراً يُظهر أن عشرات قدامى المحاربين توفوا بسبب الانتحار خلال الفترة من 2008 إلى 2017. 

 ووفقاً للتقارير الأمريكية، كان معدل الانتحار بين الأفراد العسكريين أقل من المدنيين المتطابقين في العمر والجنس في بداية الأمر، ولكنه ارتفع بعد ذلك في غضون 10 سنوات منذ بدء حرب العراق عام 2003. وتظهر التحليلات أن نحو نصف حالات الانتحار أو محاولات الانتحار هي بسبب اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).  

أما الآثار المدمرة على العراق والعراقيين فتظل خارج الشاشة السينما الهوليودية. 

عسكرة الإعلام والسينما  

في مقال للكاتب والناقد السينمائي ديفد وولش عن الفيلم التلفزيوني “مباشر من بغداد” (Live from Baghdad) الذي انتجته شركة HBO في 2002، عن مجموعة مراسلين لمحطة CNN غطوا اجتياح الكويت وحرب الخليج الثانية خلال تواجدهم في العراق، يقول وولش “إن الفيلم تجاهل تماماً الخلفيات التاريخية لهذه الحرب، مثل الضوء الأخضر الذي منحته سفيرة الولايات المتحدة في بغداد آنذاك لصدام بدخول الكويت، ولا التطرق لحقيقة وجود خطة لاجتياح العراق لدى الجنرال رومان شوارزكوف قبل اجتياح العراق للكويت بشهور”.  

وفي مقال آخر للناقد السينمائي جون ليونارد عن الفيلم نفسه يقول إن “ما سُمح لعامة الأمريكيين معرفته، هو ما قررت الحكومة الأمريكية أنه الأفضل لهم، لا فيتنام جديدة، بل رقابة عسكرية على الميديا”. 

لقطة من فيلم Live from Baghdad 

وهذه آراء أمريكية حول هوليود، لذا كل ما تقدم لا يراد منه إدانة هوليود بالتواطؤ والتلاعب مع الرؤية الحكومية الأمريكية لأنها حقيقة قديمة، وسبق  لإدوارد سعيد في كتابه الاستشراق أن فككها، فضلاً عن الدراسات ما بعد الكولونيالية. 

وهي كذلك خطة إعلامية مدروسة شرحها بالتفصيل المفكر الأميركي نعوم تشوميسكي في كتابه “السيطرة على الإعلام”. كانت السينما إحدى أكبر الأدوات تأثيراً على النخبة قبل غيرهم، لدرجة أن فيلماً قبيحاً من المنظور الإنساني كفيلم القناص الأمريكي دفع عدداً من المثقفين، ومن بينهم عراقيون، إلى التعاطف مع القناص وتبني مبرر “ماذا بيده أن يفعل؟ عليه أن يدافع عن رفاقه”. 

هذه الهيمنة الثقافية الجديدة والاستشراق الجديد الذي ترك صفحات الأدب لانخفاض تأثيرها وانتقل بكامل ثقله إلى السينما والانتاج التلفزيوني وألعاب الفيديو ومنصات التواصل الاجتماعي، والصورة العولمية الجديدة للإنسان العابر للهوية، هي امتداد للحروب الأمريكية على العراق.