على طريقة "بونزي" و"سامكو".. امتصاص ترليون دينار من أموال العراقيين
16 نيسان 2023
عدّة نساء ورجال أُقنعوا أنفسهم بأن الكسب السهل ممكن ومتاح، فتخلصوا سريعاً من فكرة التدقيق في العرض المقدم لهم وساروا كالسكارى نحو فخ الاحتيال والخسائر.. قصة "التسويق الهرمي" الذي يشفط أموال الناس في العراق..
انتهت “هـ.م” من معركة قضائية أنهت زواجها قبل مدة قصيرة، لكنها تشعر الآن بأن طليقها كان قد ظلم نفسه أيضاً مثلما ظلمها عن غير قصد.
كان هو الآخر ضحية خديعة كبرى أحكمت قبضتها على كثير من العراقيين.
وهي الآن يتقاذفها شعور بالندم والإشفاق على زوجها السابق وشعور آخر بأنها كانت محقة عندما أخرجته من حياتها لأنه لم يكن حذراً في التعامل مع مجموعة نصابين أضاعوا كل ما تملك من أموال.
بدأ الطريق نحو الهاوية عندما ألح عليها زوجها قرابة شهر لتمنحه جزءاً من أموالها من أجل استثمارها في شركة تحمل اسماً أجنبياً وتزعم أنها تتاجر في سوق الأسهم العالمية، وبعدما رفضت طلبه مراراً لخشيتها من العواقب المحتملة، وافقت في النهاية تحت وطأة إلحاح الزوج وإصراره على إقناعها بأنه سيخوض في استثمار خال من المخاطر.
“منحته 12 ألف دولار في البداية” قالت “هـ.م” لنا.
تعمل السيدة معلّمة في إحدى المدارس الابتدائية غربي كربلاء، وقد ادخرت هذا المبلغ من رواتبها وكانت تأمل في استثماره يوماً ما في عمل يدر دخلاً إضافياً ينفع أسرتها، وظنت أن الاستثمار الذي وعدها به زوجها سيفي بالغرض، ولاسيما بعد أن تلقت إشارة توحي بذلك.
عندما ذهب زوجها بالأموال إلى أحد مندوبي الشركة جلب معه بطاقة وسلمها لزوجته قائلاً لها إنها تحمل جميع معلوماتها وأموالها، وبعد مدة قصيرة سلمها 750 دولاراً على أنها أول دفعة من الأرباح.
كانت تلك إشارة مشجعة لها على الاطمئنان وضخ مزيد من النقود إلى الشركة.
سارعت إلى بيع ما تملك من ذهب ومنحت الأموال لزوجها ليضيفها إلى المبلغ السابق، فصار مجموع ما تم إيداعه لدى مندوب الشركة 18 ألف دولار.
ولم تكتف المرأة بأن تكون وحدها في اللعبة، وإنما أقنعت أخواتها الثلاث باتباع خطاها، فمنحنها 15 ألف دولار لتستثمرها مع أموالها القابعة في غياهب المجهول.
مرت أشهر ولم تقبض “هـ.م” أي أرباح، وعندما سألت زوجها عن سر الصمت المريب المحيط بالاستثمار المزعوم، أخبرها بأن الأموال ضاعت في عملية احتيال محكمة ذهب ضحيتها كثيرون غيرهما.
“لم أصدق كلامه” قالت لنا.
ظنت المرأة أن زوجها اختلس أموالها وأموال أخواتها، وأن روايته عن الشركة والاستثمار كانت محض افتراء لتنفيذ خطة يسرق الأموال بموجبها، فخاضت مشادة عنيفة معه انتهت برفعها دعوى قضائية ضده بتهمة سرقة أموالها وأموال أخواتها.
وأدى كل ذلك إلى طلاقهما.
وبعد مدة من الطلاق اكتشفت “هـ.م” أن زوجها كان صادقاً في روايته بعدما شاهدت مقابلة تلفزيونية مع كاظم الصيادي، العضو السابق في لجنة النزاهة البرلمانية، وهو يتحدث عن الشركة وكيف أنها احتالت على عدد كبير من المواطنين وحتى على أعضاء في البرلمان.
300 ألف دولار تتبخر
سقطت أم علياء في الفخ ذاته وأهدرت كل ما تملك على خدعة حرمت أطفالها من مستوى معيشي أفضل كانت تتمناه لهم.
تسكن أم علياء في كربلاء أيضاً، وهي أرملة قتل زوجها العسكري في معارك تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عام 2016، ولديها أربعة أطفال.
وكانت قد حصلت على تعويض مالي من الدولة لقاء مقتل زوجها في المعارك، وعندما تلقت عرضاً مغرياً لاستثمار هذه الأموال وتحقيق أرباح كبيرة وافقت عليه على الرغم من أنها شعرت بشيء من القلق.
جاءها العرض من جارة لها تعمل موظفة في الدولة، وهي ذات سمعة طيبة في الحي.
أخبرتها الجارة بأنها وفرت الفرصة الاستثمارية للعديد من زميلاتها الموظفات، وأن الأرباح تنهال عليهن باستمرار، فمنحتها كل أموال التعويض رغبةً في الحصول على مردود يعيلها هي وأطفالها.
سلمتها الجارة بطاقة ماستر كارد وأخبرتها بأنها ستتلقى الأرباح عبرها، وانتظرت المرأة الأرملة شهراً ثم شهرين ثم ثلاثة.
انتهى الشهر الرابع ولم ترد أي أرباح.
عندما ذهبت إلى بيت الجارة وجدته مقفلاً، ليخبرها الجيران بأن العائلة هربت لتورطها في قبض أموال من الناس تصل إلى 300 ألف دولار لاستثمارها في شركة اكتشف أصحاب الأموال أنها “شركة نصب”.
“كتبوا على البيت (مطلوب عشائرياً) و(مطلوب دم) بعد أن هرب ساكنوه” قالت أم علياء لـ”جمّار”.
خدعة قديمة
استند النصابون في عمليتهم إلى ما يُعرف بالتسويق الهرمي، وهذه طريقة احتيال قديمة ابتكر أُسسها المهاجر الإيطالي إلى أميركا تشارلز بونزي عام 1919 عندما بدأ يقنع الناس بمنحهم فائدة بنسبة 100 بالمئة على أموالهم بعد ثلاثة أشهر فقط من تسليم الأموال، وذلك عبر تحقيق أرباح من فرق سعر الكوبونات البريدية بين أميركا وإيطاليا.
لم يكن بونزي يتاجر بالفعل بالكوبونات البريدية، وإنما كان يعطي جزءاً من أموال العملاء الجدد إلى السابقين لهم ويستحوذ هو على الفائض الكبير، أما موضوع الكوبونات فهو غطاء يستخدمه لإقناع الزبائن بأن لديه عملاً مشروعاً وتجارة يربح منها ويستثمر أموالهم فيها.
وهكذا نشأت فكرة التسويق الهرمي، إذ تقوم شركة ما -وهي تمثل رأس الهرم- باجتذاب زبائن باحثين عن ربح سريع وإقناعهم باستثمار أموالهم في أعمالها وتجارتها ومنحهم أرباحاً كبيرة، بينما هي في الحقيقة لا تملك أعمالاً ولا تجارة، وإنما تقوم بمداورة الأموال بين المساهمين الذين سيشكلون قواعد الهرم، إلى أن يحصل صاحب أو أصحاب الشركة على مبلغ كبير ثم يهربون ولا يبقى لهم أي أثر.
كان أشهر نصاب اتبع هذه الطريقة في العراق في تسعينيات القرن الماضي هو “سامكو”، وهو اسم مستعار لرجل أقنع آلاف العراقيين باستثمار أموالهم قبل أن يدركوا أنه احتال عليهم وتركهم في مواجهة الخسارة والندم بعد أن جمع مليارات الدنانير في ذلك الحين.
وحيكت قصص كثيرة حول شخصية “سامكو” ونهايته، حتى أن بعضهم ذهب إلى أنه يعمل مباشرة تحت إمرة عدي صدام حسين، إلا أن مسلسلاً عراقياً تم إنتاجه وبثه عام 2014 تحت عنوان “سامكو” تطرق إلى تفاصيل عدة بشأنه.
ضياء سالم مؤلف المسلسل قال في لقاءات صحفية وتلفزيونية عدة قبل عرضه إنه استطاع الوصول إلى “سامكو” وتحدث معه لمدة ساعة ونصف ساعة بشأن تفاصيل سيرته، مشيراً إلى أن الدولة كانت قد استغلته في ذلك الزمن وحولته إلى أداة بيدها لأسباب عديدة.
ويظهر في الحلقة الأخيرة من المسلسل أن “سامكو” ألقي القبض عليه وأودع السجن في التسعينيات ولم يخرج إلا عام 2003 بعد سقوط النظام السابق، وانتهى به المطاف يكسب رزقه من ميزان أشخاص وضعه في أحد شوارع بغداد، قبل أن يتحول إلى متشرد يبحث عن الطعام في القمامة.
وفي الوقت الحالي ظهر من يعمل على هذا الأساس في العراق، وتم اجتذاب عملاء يكونون مندوبين لاحقاً يعملون على إقناع معارفهم باستثمار أموالهم لدى مجموعة شركات تزعم المتاجرة بالأسهم العالمية، وهكذا تتسع رقعة المساهمين الذين يتحولون إلى مندوبين لاحقاً يجتذبون مزيداً من الضحايا.
وكانت “هـ.م” وأم علياء من ضحايا هذه الشركة.
أما “ع.ن” ذات الخمسين عاماً وتسكن كربلاء أيضاً فقد كانت خسارتها فادحة، إذ أن زوجها منح المندوب مبلغ 180 ألف دولار لاستثمارها في الشركة المزعومة، ولما علم بهروبه سقط طريح الفراش لمدة شهر، وقد كان أكثر ما آلمه هو أنه لم يستمع إلى تحذير من هيئة الأوراق المالية العراقية بهذا الشأن، بعد أن راح المندوبون يروجون بضراوة بأن هذا التحذير لا أساس له من الصحة وأن الشركة تمارس أعمالاً مشروعة.
عقوبات غير رادعة
يُطلق على المندوب تسمية الـ”ليدر”، وهو قد يكون عارفاً بقصة الاحتيال ومشاركاً فيها، أو يكون هو ضحية أيضاً ويسعى إلى جمع أكبر عدد من العملاء ليحصل على أرباح أكثر، فهو يتلقى عمولة عن كل عميل يجلبه.
“معظم الليدرية كانوا مقتنعين بأن أعمال الشركة مشروعة لأنها دعتهم إلى احتفالات كبيرة أقامتها في الإمارات وتركيا وأرتهم بطاقات ائتمانية وشهادات ملونة” قال مؤيد البهادلي، وهو خبير في التسويق يعمل حالياً مع استخبارات وزارة الداخلية.
ويحصل الـ”ليدر” على 10 بالمئة من المبالغ التي يجمعها، وإذا استطاع جمع 600 ألف دولار يتحول إلى “ليدر ذهبي” فتتم مكافأته بمبلغ 100 ألف دولار من الشركة.
وتعمل شركات عدة داخل العراق بهذه الطريقة لكنها مرتبطة كلها على ما يبدو بشركة تدعى “يونيك فاينانس” لأنها تمنح ضحاياها بطاقات تحمل هذا الاسم.
ويزعم القائمون عليها أن الشركة سويسرية، إلا البحث في دليل الشركات في سويسرا لا يقود إليها، كما أنها لم تذكر عنوانها في موقعها الإلكتروني.
ويتم إخبار الضحايا بأن البطاقات الممنوحة لهم تتضمن معلومات حساب يوفر إمكانية نقل الأرباح عبر شركات صيرفة أو شركة ماستر كارد أو المحفظات التي توفرها شركات الاتصالات المحلية العراقية.
وبحسب البهادلي، تقدر المبالغ المجموعة من أعمال الاحتيال هذه بترليون دينار عراقي تم تهريبها كلها إلى خارج العراق، إلا أنه يتساءل كغيره عن كيفية إخراج هذه الأموال مع البنك المركزي العراقي الذي لا يسمح بتحويل مبالغ مالية كبيرة إلا بتوفير ما يثبت وجود نشاط تجاري مشروع يستوجب تحويلها.
وما زالت لائحة التشريعات العراقية خالية من أي مادة تعالج بشكل صريح مسألة الاحتيال عبر التسويق الهرمي، خلافاً لما هو موجود في دول أخرى بينها مجاورة.
“القضاء العراقي كيّف المادة القانونية رقم 456 على هذا الفعل باعتباره جريمة نصب واحتيال” قال مصدق عادل، الخبير القانوني، لـ”جمّار”.
لكن عادل يذهب إلى أن هذه المادة غير رادعة، لأن أقصى حكم فيها السجن 5 سنوات، ما يتطلب وجود نص صريح يتضمن عقوبة أشد.
وأمام إغراء المال والثراء السريع، يبدو أن “هـ.م” وأم علياء و”ع.ن” وبقية الضحايا أقنعوا أنفسهم بأن الكسب السهل ممكن ومتاح، فتخلصوا سريعاً من فكرة التدقيق في العرض المقدم لهم وساروا كالسكارى نحو فخ الاحتيال والخسائر.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
انتهت “هـ.م” من معركة قضائية أنهت زواجها قبل مدة قصيرة، لكنها تشعر الآن بأن طليقها كان قد ظلم نفسه أيضاً مثلما ظلمها عن غير قصد.
كان هو الآخر ضحية خديعة كبرى أحكمت قبضتها على كثير من العراقيين.
وهي الآن يتقاذفها شعور بالندم والإشفاق على زوجها السابق وشعور آخر بأنها كانت محقة عندما أخرجته من حياتها لأنه لم يكن حذراً في التعامل مع مجموعة نصابين أضاعوا كل ما تملك من أموال.
بدأ الطريق نحو الهاوية عندما ألح عليها زوجها قرابة شهر لتمنحه جزءاً من أموالها من أجل استثمارها في شركة تحمل اسماً أجنبياً وتزعم أنها تتاجر في سوق الأسهم العالمية، وبعدما رفضت طلبه مراراً لخشيتها من العواقب المحتملة، وافقت في النهاية تحت وطأة إلحاح الزوج وإصراره على إقناعها بأنه سيخوض في استثمار خال من المخاطر.
“منحته 12 ألف دولار في البداية” قالت “هـ.م” لنا.
تعمل السيدة معلّمة في إحدى المدارس الابتدائية غربي كربلاء، وقد ادخرت هذا المبلغ من رواتبها وكانت تأمل في استثماره يوماً ما في عمل يدر دخلاً إضافياً ينفع أسرتها، وظنت أن الاستثمار الذي وعدها به زوجها سيفي بالغرض، ولاسيما بعد أن تلقت إشارة توحي بذلك.
عندما ذهب زوجها بالأموال إلى أحد مندوبي الشركة جلب معه بطاقة وسلمها لزوجته قائلاً لها إنها تحمل جميع معلوماتها وأموالها، وبعد مدة قصيرة سلمها 750 دولاراً على أنها أول دفعة من الأرباح.
كانت تلك إشارة مشجعة لها على الاطمئنان وضخ مزيد من النقود إلى الشركة.
سارعت إلى بيع ما تملك من ذهب ومنحت الأموال لزوجها ليضيفها إلى المبلغ السابق، فصار مجموع ما تم إيداعه لدى مندوب الشركة 18 ألف دولار.
ولم تكتف المرأة بأن تكون وحدها في اللعبة، وإنما أقنعت أخواتها الثلاث باتباع خطاها، فمنحنها 15 ألف دولار لتستثمرها مع أموالها القابعة في غياهب المجهول.
مرت أشهر ولم تقبض “هـ.م” أي أرباح، وعندما سألت زوجها عن سر الصمت المريب المحيط بالاستثمار المزعوم، أخبرها بأن الأموال ضاعت في عملية احتيال محكمة ذهب ضحيتها كثيرون غيرهما.
“لم أصدق كلامه” قالت لنا.
ظنت المرأة أن زوجها اختلس أموالها وأموال أخواتها، وأن روايته عن الشركة والاستثمار كانت محض افتراء لتنفيذ خطة يسرق الأموال بموجبها، فخاضت مشادة عنيفة معه انتهت برفعها دعوى قضائية ضده بتهمة سرقة أموالها وأموال أخواتها.
وأدى كل ذلك إلى طلاقهما.
وبعد مدة من الطلاق اكتشفت “هـ.م” أن زوجها كان صادقاً في روايته بعدما شاهدت مقابلة تلفزيونية مع كاظم الصيادي، العضو السابق في لجنة النزاهة البرلمانية، وهو يتحدث عن الشركة وكيف أنها احتالت على عدد كبير من المواطنين وحتى على أعضاء في البرلمان.
300 ألف دولار تتبخر
سقطت أم علياء في الفخ ذاته وأهدرت كل ما تملك على خدعة حرمت أطفالها من مستوى معيشي أفضل كانت تتمناه لهم.
تسكن أم علياء في كربلاء أيضاً، وهي أرملة قتل زوجها العسكري في معارك تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عام 2016، ولديها أربعة أطفال.
وكانت قد حصلت على تعويض مالي من الدولة لقاء مقتل زوجها في المعارك، وعندما تلقت عرضاً مغرياً لاستثمار هذه الأموال وتحقيق أرباح كبيرة وافقت عليه على الرغم من أنها شعرت بشيء من القلق.
جاءها العرض من جارة لها تعمل موظفة في الدولة، وهي ذات سمعة طيبة في الحي.
أخبرتها الجارة بأنها وفرت الفرصة الاستثمارية للعديد من زميلاتها الموظفات، وأن الأرباح تنهال عليهن باستمرار، فمنحتها كل أموال التعويض رغبةً في الحصول على مردود يعيلها هي وأطفالها.
سلمتها الجارة بطاقة ماستر كارد وأخبرتها بأنها ستتلقى الأرباح عبرها، وانتظرت المرأة الأرملة شهراً ثم شهرين ثم ثلاثة.
انتهى الشهر الرابع ولم ترد أي أرباح.
عندما ذهبت إلى بيت الجارة وجدته مقفلاً، ليخبرها الجيران بأن العائلة هربت لتورطها في قبض أموال من الناس تصل إلى 300 ألف دولار لاستثمارها في شركة اكتشف أصحاب الأموال أنها “شركة نصب”.
“كتبوا على البيت (مطلوب عشائرياً) و(مطلوب دم) بعد أن هرب ساكنوه” قالت أم علياء لـ”جمّار”.
خدعة قديمة
استند النصابون في عمليتهم إلى ما يُعرف بالتسويق الهرمي، وهذه طريقة احتيال قديمة ابتكر أُسسها المهاجر الإيطالي إلى أميركا تشارلز بونزي عام 1919 عندما بدأ يقنع الناس بمنحهم فائدة بنسبة 100 بالمئة على أموالهم بعد ثلاثة أشهر فقط من تسليم الأموال، وذلك عبر تحقيق أرباح من فرق سعر الكوبونات البريدية بين أميركا وإيطاليا.
لم يكن بونزي يتاجر بالفعل بالكوبونات البريدية، وإنما كان يعطي جزءاً من أموال العملاء الجدد إلى السابقين لهم ويستحوذ هو على الفائض الكبير، أما موضوع الكوبونات فهو غطاء يستخدمه لإقناع الزبائن بأن لديه عملاً مشروعاً وتجارة يربح منها ويستثمر أموالهم فيها.
وهكذا نشأت فكرة التسويق الهرمي، إذ تقوم شركة ما -وهي تمثل رأس الهرم- باجتذاب زبائن باحثين عن ربح سريع وإقناعهم باستثمار أموالهم في أعمالها وتجارتها ومنحهم أرباحاً كبيرة، بينما هي في الحقيقة لا تملك أعمالاً ولا تجارة، وإنما تقوم بمداورة الأموال بين المساهمين الذين سيشكلون قواعد الهرم، إلى أن يحصل صاحب أو أصحاب الشركة على مبلغ كبير ثم يهربون ولا يبقى لهم أي أثر.
كان أشهر نصاب اتبع هذه الطريقة في العراق في تسعينيات القرن الماضي هو “سامكو”، وهو اسم مستعار لرجل أقنع آلاف العراقيين باستثمار أموالهم قبل أن يدركوا أنه احتال عليهم وتركهم في مواجهة الخسارة والندم بعد أن جمع مليارات الدنانير في ذلك الحين.
وحيكت قصص كثيرة حول شخصية “سامكو” ونهايته، حتى أن بعضهم ذهب إلى أنه يعمل مباشرة تحت إمرة عدي صدام حسين، إلا أن مسلسلاً عراقياً تم إنتاجه وبثه عام 2014 تحت عنوان “سامكو” تطرق إلى تفاصيل عدة بشأنه.
ضياء سالم مؤلف المسلسل قال في لقاءات صحفية وتلفزيونية عدة قبل عرضه إنه استطاع الوصول إلى “سامكو” وتحدث معه لمدة ساعة ونصف ساعة بشأن تفاصيل سيرته، مشيراً إلى أن الدولة كانت قد استغلته في ذلك الزمن وحولته إلى أداة بيدها لأسباب عديدة.
ويظهر في الحلقة الأخيرة من المسلسل أن “سامكو” ألقي القبض عليه وأودع السجن في التسعينيات ولم يخرج إلا عام 2003 بعد سقوط النظام السابق، وانتهى به المطاف يكسب رزقه من ميزان أشخاص وضعه في أحد شوارع بغداد، قبل أن يتحول إلى متشرد يبحث عن الطعام في القمامة.
وفي الوقت الحالي ظهر من يعمل على هذا الأساس في العراق، وتم اجتذاب عملاء يكونون مندوبين لاحقاً يعملون على إقناع معارفهم باستثمار أموالهم لدى مجموعة شركات تزعم المتاجرة بالأسهم العالمية، وهكذا تتسع رقعة المساهمين الذين يتحولون إلى مندوبين لاحقاً يجتذبون مزيداً من الضحايا.
وكانت “هـ.م” وأم علياء من ضحايا هذه الشركة.
أما “ع.ن” ذات الخمسين عاماً وتسكن كربلاء أيضاً فقد كانت خسارتها فادحة، إذ أن زوجها منح المندوب مبلغ 180 ألف دولار لاستثمارها في الشركة المزعومة، ولما علم بهروبه سقط طريح الفراش لمدة شهر، وقد كان أكثر ما آلمه هو أنه لم يستمع إلى تحذير من هيئة الأوراق المالية العراقية بهذا الشأن، بعد أن راح المندوبون يروجون بضراوة بأن هذا التحذير لا أساس له من الصحة وأن الشركة تمارس أعمالاً مشروعة.
عقوبات غير رادعة
يُطلق على المندوب تسمية الـ”ليدر”، وهو قد يكون عارفاً بقصة الاحتيال ومشاركاً فيها، أو يكون هو ضحية أيضاً ويسعى إلى جمع أكبر عدد من العملاء ليحصل على أرباح أكثر، فهو يتلقى عمولة عن كل عميل يجلبه.
“معظم الليدرية كانوا مقتنعين بأن أعمال الشركة مشروعة لأنها دعتهم إلى احتفالات كبيرة أقامتها في الإمارات وتركيا وأرتهم بطاقات ائتمانية وشهادات ملونة” قال مؤيد البهادلي، وهو خبير في التسويق يعمل حالياً مع استخبارات وزارة الداخلية.
ويحصل الـ”ليدر” على 10 بالمئة من المبالغ التي يجمعها، وإذا استطاع جمع 600 ألف دولار يتحول إلى “ليدر ذهبي” فتتم مكافأته بمبلغ 100 ألف دولار من الشركة.
وتعمل شركات عدة داخل العراق بهذه الطريقة لكنها مرتبطة كلها على ما يبدو بشركة تدعى “يونيك فاينانس” لأنها تمنح ضحاياها بطاقات تحمل هذا الاسم.
ويزعم القائمون عليها أن الشركة سويسرية، إلا البحث في دليل الشركات في سويسرا لا يقود إليها، كما أنها لم تذكر عنوانها في موقعها الإلكتروني.
ويتم إخبار الضحايا بأن البطاقات الممنوحة لهم تتضمن معلومات حساب يوفر إمكانية نقل الأرباح عبر شركات صيرفة أو شركة ماستر كارد أو المحفظات التي توفرها شركات الاتصالات المحلية العراقية.
وبحسب البهادلي، تقدر المبالغ المجموعة من أعمال الاحتيال هذه بترليون دينار عراقي تم تهريبها كلها إلى خارج العراق، إلا أنه يتساءل كغيره عن كيفية إخراج هذه الأموال مع البنك المركزي العراقي الذي لا يسمح بتحويل مبالغ مالية كبيرة إلا بتوفير ما يثبت وجود نشاط تجاري مشروع يستوجب تحويلها.
وما زالت لائحة التشريعات العراقية خالية من أي مادة تعالج بشكل صريح مسألة الاحتيال عبر التسويق الهرمي، خلافاً لما هو موجود في دول أخرى بينها مجاورة.
“القضاء العراقي كيّف المادة القانونية رقم 456 على هذا الفعل باعتباره جريمة نصب واحتيال” قال مصدق عادل، الخبير القانوني، لـ”جمّار”.
لكن عادل يذهب إلى أن هذه المادة غير رادعة، لأن أقصى حكم فيها السجن 5 سنوات، ما يتطلب وجود نص صريح يتضمن عقوبة أشد.
وأمام إغراء المال والثراء السريع، يبدو أن “هـ.م” وأم علياء و”ع.ن” وبقية الضحايا أقنعوا أنفسهم بأن الكسب السهل ممكن ومتاح، فتخلصوا سريعاً من فكرة التدقيق في العرض المقدم لهم وساروا كالسكارى نحو فخ الاحتيال والخسائر.