"لمي هدومج يا مكرودة بوش ابغداد"

إيهاب شغيدل

09 نيسان 2023

الجميع في حالة ترقب، يتبادل الكبار الأخبار بسريّة تامة، ولم يكن لنا نحن الصغار نصيباً منها. سمعت هناك للمرة الأولى كلمات مثل "المارينز"، "الاحتلال"، "السقوط"، "حزب البعث"، وغيرها من الكلمات التي أصبحت لاحقاً جزءاً من حياتنا وذاكرتنا.. رحلة مغادرة بغداد أثناء الحرب والعودة إليها بعد سقوط صدام..

بدأ القصف، واهتزت على إثره بيوت مدينة الثورة العتيقة المصنوعة من الجص والمسقفة بالطين والشيلمان. 

كنا نُحشَر ليلاً في الغرفة الأخيرة من المنزل، غرفة جدتي، نسمع من هناك دوي الانفجارات البعيدة غالباً والقريبة في بعض الأحيان. في الغروب كنا نرى دخاناً أسودَ يتصاعد. قُطِعت الكهرباء منذ الأيام الأولى للحرب، وبدأ خزين الوقود ينفد، فعدنا لاستخدام الإضاءة التقليدية التي يستخدم فيها النفط كوقود، وتعرف باسم “اللالة”. بدأت تتصاعد موجات الغبار، وعندما أحمرّت الدنيا غباراً، اهتز الزقاق على وقع نبأ فقدان أحد الشبان شهيداً اسمه أحمد، أتذكر شكله النحيل ووجهه المليء بالبثور، ترك وراءه طلفين، ويقال إنه دفن بدمه وبذلته العسكرية.

رحلة الهروب

بدأ الناس يهربون من بغداد، متوجهين صوب محافظات وقرى تعتبر آمنة. هرب جيراننا في عجلة نفايات واضعين أغراضهم في “الكابسة”، كانت مدن ديالى وصلاح الدين وواسط هي الوجهة غالباً.

شاهدت رحيل “بيت السيد” عن المدينة بعجلة ضخمة، ولم يكن امامنا نحن أيضاً سوى ترك بغداد. تكدسنا ثلاث عوائل في عجلة كبيرة: أُمي ونحن الأبناء الستة، وعمي وزوجته وجدتي وعمتي، وبيت عمتي الأخرى مع ابنائها، فيما رفض عمي الأكبر مغادرة المدينة.

 فوق العجلة التي كانت تسير ببطء وضعنا “تنور استيل” أصرّت جدتي انه سينفع ولا غنى عنه، كان معنا في الرحلة تلك دليلٌ من الأقرباء ليوصلنا إلى مكان آمن.

 في ظهيرة معتدلة وصلتُ إلى السعديّة، في محافظة ديالى، ولمست معالم لم أشاهدها من قبل: البيوت قديمة، والطرق متعرّجة، والنخل والماء أكثر من الناس.

سكنا إيجاراً عند عائلة شاركناها المنزل، إذ اخذنا غرفتين لمدة شهر، ودفعنا لهم مقابل ذلك النزول. كان الجو معتدلاً ولم نكن بحاجة لأجهزة تبريد أو تدفئة، مع ذلك كنا نغسل أجسادنا حسب جدول معدّ سلفاً لأسباب تتعلق بوجود أكثر من 35 شخصاً يتشاركون حماما واحدا.

لم نعد نسمع صوت القصف في ديالى، ساد الشعور بالأمان بمجرد وصولنا، اختفى الأثر الأبرز للحرب: الصوت.

في المنزل الذي سكناه، كان هناك ملجأ رطب في وسط الباحة، رائحة الطين تنبعث منه طوال اليوم، كنا نمرح فيه، وعندما ينتهي الكبار من اللعب، نأخذ لعبة الدومينو ونحاول تقليدهم.

أحببت شكل المائدة في تلك الأيام. كنا نتشارك نحن العائلات الثلاثة ما لدينا ونجلس معاً. أمي لديها طبق بيض، وأنواع من الأجبان، وكيس كبير من البطاطا. 

لم تكن مائدة مثالية، ولكنها كانت متنوعة.

كانت باحة المنزل واسعة جداً، تتوسطها أُرجوحة بيضاء كبيرة تكفي لشخصين. إحدى الألعاب التي ابتكرناها أنا وإخوتي لمعرفة من سيشغل الأرجوحة، أن يضع المتحدي في يدّه الأولى ملحاً، وفي الأخرى سكراً، ومن يميز من بعيد السكر عن الملح سيبقى في الأرجوحة لفترة أطول.

إدارة النقود

التحدي الأكبر في تلك الأوقات كان إدارة النقود التي نملكها. كنت أسمع نقاشاً بين أمي وجدتي حول هذه المسألة. كان والدي آنذاك يُدرِّس في ليبيا، وتوقف كل اتصال بيننا.

لم نتصل به طوال وجودنا في ديالى.

الجميع في حالة ترقب، يتبادل الكبار الأخبار بسرية تامة، ولم يكن لنا نحن الصغار نصيباً منها. سمعت هناك للمرة الأولى كلمات مثل “المارينز”، “الاحتلال”، “السقوط”، “حزب البعث”، وغيرها من الكلمات التي أصبحت لاحقاً جزءاً من حياتنا وذاكرتنا.

ما هي إلا أيام حتى بدأنا نتجمع أمام شاشة التلفاز، كانت قناة العالم تبث الأخبار بشكل مستمر، ولا أعرف كيف حصلنا وقتها على بثها. المنزل الذي جلسنا فيه كان يعود لعائلة يعمل والدهم مع نظام صدام ويقال إنه “بعثي كبير”، فكان علينا دائما أن نثبت أننا مع النظام، حتى أن عمتي بقيت تبكي بشكل درامي ومفتعل على سقوط صدام، فالخوف من النظام لم ينته بعد.

كان مشهد سحل تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس قد بث عشرات المرات في ذلك اليوم، وفي كل مرة كنا نعيد مشاهدته.

في اليوم التالي، قرر بعض الأقارب العودة إلى بغداد، لكننا تأخرنا قليلاً.

ربما مرت أربعة أو خمسة أيام على سقوط النظام حتى بدأت رحلة العودة إلى بغداد.

استأجرنا عجلة “كيا” بيضاء مخططة بالأسود، وكان أمامنا تحديان، الأول كيف تجلس ثلاث عوائل مع أغراضها على أحد عشر مقعدا، والثاني -وهو التحدي الأكبر- إيجاد وقود. لم يكن في العجلة ما يكفي للوصول إلى المنزل في بغداد، فاتخذنا طرقاً فرعية من أجل الوقود، حتى دخلنا أخيراً إلى مكان ترابي واسع تصطف فيه عشرات العجلات بشكل عشوائي. ضجيج وشجار للحصول على الوقود. طابور غير منظم، وبسبب صراع أصحاب العجلات، فتح شخص ما النار على الناس من أجل تفريقهم او تنظيمهم، واتضح فيما بعد أن المكان الذي تزودنا منه بالوقود هو وحدة عسكرية تركها الجنود أثناء الحرب وفيها صهاريج كبيرة من الكاز والبنزين.

أثناء ذلك، اشتعلت النيران بشكل لا يمكن تصوّره، موجات من الرصاص والتفجيرات المتتالية، قال السائق: هذه مواجهات بين مجاهدي خلق والبيشمركة، مستمرة منذ أيام.

لم أسمع عن ذلك في ما بعد.

بعد رحلة طويلة وشاقة اتخذنا فيها طرقاً وعرة، بدأت تتضح معالم مدينة أخرى غير تلك التي كنا فيها، كانت الشوارع بحالة لا يمكن وصفها من العشوائية والضجيج، وصلنا إلى ازدحام اعتقد السائق أننا سنبيت في الشارع بسببه، كانت هذه أطراف بغداد، مدينة الشعب تحديداً، كان الوقت غروبا، وهناك لمحت دبابة للمرة الأولى في حياتي.. كان رتل أمريكي يسيطر على السير.

بغداد مختلفة

كان بعض الناس في بغداد يجرون، بشكل عشوائي، الاثاث والمواد الغذائية من مؤسسات الدولة، وكل ما أتذكره من ذلك المشهد: رجل مسن يسحل ثلاجة، شبان يرتدون ملابس رياضية يجرون أكياس السكر والطحين، امرأة متوسطة العمر تدفع عربة من خشب محملة بالمواد الغذائية، في الأثناء تلك رمى أحد الاشخاص لنا من نافذة العجلة صندوق معجون طماطم فيه ست علب، تقاسمناها ونحن في الطريق، كل عائلة علبتين.

وصلنا إلى المنزل المظلم، كانت الأوساخ قد أكلته، والغبار يغطيه، بدأت امي ومن معها من النساء تنظيفه، لم يستطع السائق الذي اوصلنا العودة إلى منزله، فقرر المبيت مع عمي وأخي الأكبر وابن عمتي، ورحل فجراً، مجدداً، إلى ديالى.

ذلك اليوم، ربما في نهايته، بدأت اخبار الأقارب تصل، من مات، ومن بقي حياً. عرفنا أن أحد الاقرباء قتله الامريكان اثناء عودته من مدينة السعدية التي هربنا اليها، مات “صابر” برصاصة أمريكية وقد شكل موته صدمة للعائلة. أتذكر نواح جدتي وأمي عليه، شاء القدر أن يموت صابر الذي خرج بعجلته الخاصة مع عائلته من السعدية عائداً إلى منزله في بغداد في الوقت نفسه الذي عدنا فيه نحن إلى منزلنا.

لكننا وصلنا دون ضحايا.

في الصباح جلسنا نحن الأطفال على وقع حياة جديدة، أشياء جديدة كلياً قد دخلت حيز الوجود. فأثناء عملية دخول الناس إلى مؤسسات الدولة ونهبها نالت اللجنة الأولمبية حصتها من النهب، لقد تدحرجت كرة جيدة بين أقدامنا للمرة الاولى، كرة تسمى “اوفشير” مصنوعة من الجلد وذات لونين أسود وأبيض، كان الجميع يملك واحدة منها.

قبل ذلك كنا نعلب بكرة بلاستك مثيرة للسخرية.

في اليومين الأولين لعودتنا تعلمنا أهزوجة جديدة لا نعرف من ألفها، لكنها بقيت متداولة لأشهر على ألسنةِ الاطفال، وكنا نرددها طيلة اليوم: “صدام يكل لسجودة، لمي هدومج يا مكرودة، بوش ابغداد، أي والله، عونج يا كاع”، وكنا نلحنها على ألحان الاغنية الشهيرة “يا كاع ترابج كافوري”. لم نكن نعرف من هي سجودة -زوجة صدام حسين، ولم نكن نعرف من هو بوش، كما تعلمنا أهزوجة اخرى نرددها بشكل اقل “يس يس مستر، هذا المطي استهتر”، والمقصود بالمطي، هو صدام حسين، واستبدلنا كل عبارات الغضب بواحدة فريدة من نوعها “خرب صدام”.

ركضنا حفاة خلف عجلة الامريكان التي دخلت الزقاق، رمى لنا الجنود علب الشوكولاتة، وعصارات الكاكاو. بقيت المدرعة تمشي بهدوء وترمي لنا نحن الأطفال الحلوى والهدايا، وما أن وصلت المدرسة اعتلى السور أحد الاولاد المعروفين بجسارتهم، ألا وهو علاوي الشيطان -هكذا كان يلقب-، ضرب المدرعة بحجارة كبيرة حطت على الزجاج الامامي للمدرعة، وجعلها تذهب بسرعة مخلفة وراءها ترابا كثيرا وراكضين كثرا.

بلا مدرسة 

بقيتُ تلك الأيام بلا مدرسة، بلا كهرباء.

لا أحد يعرف ماذا سيحدث غداً. بدأ شبان المنطقة بنصب حواجز أهلية ليلاً، فقد كان الأمن منهاراً تماماً، وأشيع، وقتها، أن هناك جماعات وهابية تحاول اجتياح المدينة.

بالنسبة لنا، نحن الأطفال، كان الوقت مثالياً، فلا واجبات مدرسية، والأسواق المليئة بالبضائع الجديدة، والمرح على قدم وساق. هل ثمة أجمل من ذلك بالنسبة للطفل؟ الطفل الذي لا يعرف ماذا تخبئ له الدبابات، ولا يعرف أي رجال وأي سياسيين خلفها، الطفل الذي لا يعرف أن هذه العجلات سوف تسحق حياته، وتأتي بنظام يدوس الأرواح والأحلام وليس الشوارع فقط؟

الطفل الذي كنته!

أنظر الآن إلى ذلك الطفل المرح، أنظر إليه بعد عشرين عاماً من تلك الرحلة، بعد أن مر عقدان على أهزوجة “صدام يكل لسجودة”، كيف يرى تلك الرحلة؟

عشرون عاماً من الخيبة. عشرون عاماً من التحرر من بذلة القائد العسكرية ومرقط رجالاته ومجيء الرجال ذوي البدلات السود.. ما الذي تغير؟ كيف تغير قطاع التعليم؟ كيف تطور النظام الصحي؟ كيف نُقيِّم ذلك الخراب؟ كيف نقيم الحياة بين خرابين؟ كيف نثرثر عن ذلك الموت المستمر والدم الذي يسيل؟ كيف ننظر للنظام الديمقراطي المليء بالدبابات والنكبات والفساد؟ هل يمكننا تداول اسئلة من النوع هذا؟

لو أعيد المشهد، فهل سيهتف الطفل ثانياً: يس يس مستر..

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بدأ القصف، واهتزت على إثره بيوت مدينة الثورة العتيقة المصنوعة من الجص والمسقفة بالطين والشيلمان. 

كنا نُحشَر ليلاً في الغرفة الأخيرة من المنزل، غرفة جدتي، نسمع من هناك دوي الانفجارات البعيدة غالباً والقريبة في بعض الأحيان. في الغروب كنا نرى دخاناً أسودَ يتصاعد. قُطِعت الكهرباء منذ الأيام الأولى للحرب، وبدأ خزين الوقود ينفد، فعدنا لاستخدام الإضاءة التقليدية التي يستخدم فيها النفط كوقود، وتعرف باسم “اللالة”. بدأت تتصاعد موجات الغبار، وعندما أحمرّت الدنيا غباراً، اهتز الزقاق على وقع نبأ فقدان أحد الشبان شهيداً اسمه أحمد، أتذكر شكله النحيل ووجهه المليء بالبثور، ترك وراءه طلفين، ويقال إنه دفن بدمه وبذلته العسكرية.

رحلة الهروب

بدأ الناس يهربون من بغداد، متوجهين صوب محافظات وقرى تعتبر آمنة. هرب جيراننا في عجلة نفايات واضعين أغراضهم في “الكابسة”، كانت مدن ديالى وصلاح الدين وواسط هي الوجهة غالباً.

شاهدت رحيل “بيت السيد” عن المدينة بعجلة ضخمة، ولم يكن امامنا نحن أيضاً سوى ترك بغداد. تكدسنا ثلاث عوائل في عجلة كبيرة: أُمي ونحن الأبناء الستة، وعمي وزوجته وجدتي وعمتي، وبيت عمتي الأخرى مع ابنائها، فيما رفض عمي الأكبر مغادرة المدينة.

 فوق العجلة التي كانت تسير ببطء وضعنا “تنور استيل” أصرّت جدتي انه سينفع ولا غنى عنه، كان معنا في الرحلة تلك دليلٌ من الأقرباء ليوصلنا إلى مكان آمن.

 في ظهيرة معتدلة وصلتُ إلى السعديّة، في محافظة ديالى، ولمست معالم لم أشاهدها من قبل: البيوت قديمة، والطرق متعرّجة، والنخل والماء أكثر من الناس.

سكنا إيجاراً عند عائلة شاركناها المنزل، إذ اخذنا غرفتين لمدة شهر، ودفعنا لهم مقابل ذلك النزول. كان الجو معتدلاً ولم نكن بحاجة لأجهزة تبريد أو تدفئة، مع ذلك كنا نغسل أجسادنا حسب جدول معدّ سلفاً لأسباب تتعلق بوجود أكثر من 35 شخصاً يتشاركون حماما واحدا.

لم نعد نسمع صوت القصف في ديالى، ساد الشعور بالأمان بمجرد وصولنا، اختفى الأثر الأبرز للحرب: الصوت.

في المنزل الذي سكناه، كان هناك ملجأ رطب في وسط الباحة، رائحة الطين تنبعث منه طوال اليوم، كنا نمرح فيه، وعندما ينتهي الكبار من اللعب، نأخذ لعبة الدومينو ونحاول تقليدهم.

أحببت شكل المائدة في تلك الأيام. كنا نتشارك نحن العائلات الثلاثة ما لدينا ونجلس معاً. أمي لديها طبق بيض، وأنواع من الأجبان، وكيس كبير من البطاطا. 

لم تكن مائدة مثالية، ولكنها كانت متنوعة.

كانت باحة المنزل واسعة جداً، تتوسطها أُرجوحة بيضاء كبيرة تكفي لشخصين. إحدى الألعاب التي ابتكرناها أنا وإخوتي لمعرفة من سيشغل الأرجوحة، أن يضع المتحدي في يدّه الأولى ملحاً، وفي الأخرى سكراً، ومن يميز من بعيد السكر عن الملح سيبقى في الأرجوحة لفترة أطول.

إدارة النقود

التحدي الأكبر في تلك الأوقات كان إدارة النقود التي نملكها. كنت أسمع نقاشاً بين أمي وجدتي حول هذه المسألة. كان والدي آنذاك يُدرِّس في ليبيا، وتوقف كل اتصال بيننا.

لم نتصل به طوال وجودنا في ديالى.

الجميع في حالة ترقب، يتبادل الكبار الأخبار بسرية تامة، ولم يكن لنا نحن الصغار نصيباً منها. سمعت هناك للمرة الأولى كلمات مثل “المارينز”، “الاحتلال”، “السقوط”، “حزب البعث”، وغيرها من الكلمات التي أصبحت لاحقاً جزءاً من حياتنا وذاكرتنا.

ما هي إلا أيام حتى بدأنا نتجمع أمام شاشة التلفاز، كانت قناة العالم تبث الأخبار بشكل مستمر، ولا أعرف كيف حصلنا وقتها على بثها. المنزل الذي جلسنا فيه كان يعود لعائلة يعمل والدهم مع نظام صدام ويقال إنه “بعثي كبير”، فكان علينا دائما أن نثبت أننا مع النظام، حتى أن عمتي بقيت تبكي بشكل درامي ومفتعل على سقوط صدام، فالخوف من النظام لم ينته بعد.

كان مشهد سحل تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس قد بث عشرات المرات في ذلك اليوم، وفي كل مرة كنا نعيد مشاهدته.

في اليوم التالي، قرر بعض الأقارب العودة إلى بغداد، لكننا تأخرنا قليلاً.

ربما مرت أربعة أو خمسة أيام على سقوط النظام حتى بدأت رحلة العودة إلى بغداد.

استأجرنا عجلة “كيا” بيضاء مخططة بالأسود، وكان أمامنا تحديان، الأول كيف تجلس ثلاث عوائل مع أغراضها على أحد عشر مقعدا، والثاني -وهو التحدي الأكبر- إيجاد وقود. لم يكن في العجلة ما يكفي للوصول إلى المنزل في بغداد، فاتخذنا طرقاً فرعية من أجل الوقود، حتى دخلنا أخيراً إلى مكان ترابي واسع تصطف فيه عشرات العجلات بشكل عشوائي. ضجيج وشجار للحصول على الوقود. طابور غير منظم، وبسبب صراع أصحاب العجلات، فتح شخص ما النار على الناس من أجل تفريقهم او تنظيمهم، واتضح فيما بعد أن المكان الذي تزودنا منه بالوقود هو وحدة عسكرية تركها الجنود أثناء الحرب وفيها صهاريج كبيرة من الكاز والبنزين.

أثناء ذلك، اشتعلت النيران بشكل لا يمكن تصوّره، موجات من الرصاص والتفجيرات المتتالية، قال السائق: هذه مواجهات بين مجاهدي خلق والبيشمركة، مستمرة منذ أيام.

لم أسمع عن ذلك في ما بعد.

بعد رحلة طويلة وشاقة اتخذنا فيها طرقاً وعرة، بدأت تتضح معالم مدينة أخرى غير تلك التي كنا فيها، كانت الشوارع بحالة لا يمكن وصفها من العشوائية والضجيج، وصلنا إلى ازدحام اعتقد السائق أننا سنبيت في الشارع بسببه، كانت هذه أطراف بغداد، مدينة الشعب تحديداً، كان الوقت غروبا، وهناك لمحت دبابة للمرة الأولى في حياتي.. كان رتل أمريكي يسيطر على السير.

بغداد مختلفة

كان بعض الناس في بغداد يجرون، بشكل عشوائي، الاثاث والمواد الغذائية من مؤسسات الدولة، وكل ما أتذكره من ذلك المشهد: رجل مسن يسحل ثلاجة، شبان يرتدون ملابس رياضية يجرون أكياس السكر والطحين، امرأة متوسطة العمر تدفع عربة من خشب محملة بالمواد الغذائية، في الأثناء تلك رمى أحد الاشخاص لنا من نافذة العجلة صندوق معجون طماطم فيه ست علب، تقاسمناها ونحن في الطريق، كل عائلة علبتين.

وصلنا إلى المنزل المظلم، كانت الأوساخ قد أكلته، والغبار يغطيه، بدأت امي ومن معها من النساء تنظيفه، لم يستطع السائق الذي اوصلنا العودة إلى منزله، فقرر المبيت مع عمي وأخي الأكبر وابن عمتي، ورحل فجراً، مجدداً، إلى ديالى.

ذلك اليوم، ربما في نهايته، بدأت اخبار الأقارب تصل، من مات، ومن بقي حياً. عرفنا أن أحد الاقرباء قتله الامريكان اثناء عودته من مدينة السعدية التي هربنا اليها، مات “صابر” برصاصة أمريكية وقد شكل موته صدمة للعائلة. أتذكر نواح جدتي وأمي عليه، شاء القدر أن يموت صابر الذي خرج بعجلته الخاصة مع عائلته من السعدية عائداً إلى منزله في بغداد في الوقت نفسه الذي عدنا فيه نحن إلى منزلنا.

لكننا وصلنا دون ضحايا.

في الصباح جلسنا نحن الأطفال على وقع حياة جديدة، أشياء جديدة كلياً قد دخلت حيز الوجود. فأثناء عملية دخول الناس إلى مؤسسات الدولة ونهبها نالت اللجنة الأولمبية حصتها من النهب، لقد تدحرجت كرة جيدة بين أقدامنا للمرة الاولى، كرة تسمى “اوفشير” مصنوعة من الجلد وذات لونين أسود وأبيض، كان الجميع يملك واحدة منها.

قبل ذلك كنا نعلب بكرة بلاستك مثيرة للسخرية.

في اليومين الأولين لعودتنا تعلمنا أهزوجة جديدة لا نعرف من ألفها، لكنها بقيت متداولة لأشهر على ألسنةِ الاطفال، وكنا نرددها طيلة اليوم: “صدام يكل لسجودة، لمي هدومج يا مكرودة، بوش ابغداد، أي والله، عونج يا كاع”، وكنا نلحنها على ألحان الاغنية الشهيرة “يا كاع ترابج كافوري”. لم نكن نعرف من هي سجودة -زوجة صدام حسين، ولم نكن نعرف من هو بوش، كما تعلمنا أهزوجة اخرى نرددها بشكل اقل “يس يس مستر، هذا المطي استهتر”، والمقصود بالمطي، هو صدام حسين، واستبدلنا كل عبارات الغضب بواحدة فريدة من نوعها “خرب صدام”.

ركضنا حفاة خلف عجلة الامريكان التي دخلت الزقاق، رمى لنا الجنود علب الشوكولاتة، وعصارات الكاكاو. بقيت المدرعة تمشي بهدوء وترمي لنا نحن الأطفال الحلوى والهدايا، وما أن وصلت المدرسة اعتلى السور أحد الاولاد المعروفين بجسارتهم، ألا وهو علاوي الشيطان -هكذا كان يلقب-، ضرب المدرعة بحجارة كبيرة حطت على الزجاج الامامي للمدرعة، وجعلها تذهب بسرعة مخلفة وراءها ترابا كثيرا وراكضين كثرا.

بلا مدرسة 

بقيتُ تلك الأيام بلا مدرسة، بلا كهرباء.

لا أحد يعرف ماذا سيحدث غداً. بدأ شبان المنطقة بنصب حواجز أهلية ليلاً، فقد كان الأمن منهاراً تماماً، وأشيع، وقتها، أن هناك جماعات وهابية تحاول اجتياح المدينة.

بالنسبة لنا، نحن الأطفال، كان الوقت مثالياً، فلا واجبات مدرسية، والأسواق المليئة بالبضائع الجديدة، والمرح على قدم وساق. هل ثمة أجمل من ذلك بالنسبة للطفل؟ الطفل الذي لا يعرف ماذا تخبئ له الدبابات، ولا يعرف أي رجال وأي سياسيين خلفها، الطفل الذي لا يعرف أن هذه العجلات سوف تسحق حياته، وتأتي بنظام يدوس الأرواح والأحلام وليس الشوارع فقط؟

الطفل الذي كنته!

أنظر الآن إلى ذلك الطفل المرح، أنظر إليه بعد عشرين عاماً من تلك الرحلة، بعد أن مر عقدان على أهزوجة “صدام يكل لسجودة”، كيف يرى تلك الرحلة؟

عشرون عاماً من الخيبة. عشرون عاماً من التحرر من بذلة القائد العسكرية ومرقط رجالاته ومجيء الرجال ذوي البدلات السود.. ما الذي تغير؟ كيف تغير قطاع التعليم؟ كيف تطور النظام الصحي؟ كيف نُقيِّم ذلك الخراب؟ كيف نقيم الحياة بين خرابين؟ كيف نثرثر عن ذلك الموت المستمر والدم الذي يسيل؟ كيف ننظر للنظام الديمقراطي المليء بالدبابات والنكبات والفساد؟ هل يمكننا تداول اسئلة من النوع هذا؟

لو أعيد المشهد، فهل سيهتف الطفل ثانياً: يس يس مستر..