"مواطنون استثناء": عيش غجر العراق بين خرائب المدن ورفض السلطات

استبرق الزبيدي

08 نيسان 2023

منذ ٢٠٠٣، والغجر العراقيون يخوضون أقسى تجربة تشرّد لمجموعات سكانية كاملة تتحرك عبر البلاد.. مواطنتهم "استثناء" وعيشهم اليومي قاس، والسلطة لا تحصيهم ولا تساعدهم في النجاة.. كيف يحاول الغجر الخلاص من "نظرة دونية" و"وصم اجتماعي" يلاحقهم على مدى قرونٍ؟

في منطقة خرائب منسيّة، يحاول نحو ٤٠٠ مواطنٍ من “الغجر”، توطين أنفسهم بالقرب من منطقة “كاطون الرازي” في الطرف الغربي لبعقوبة، كواحدة من مجموعات مماثلة تسوح على طول البلاد بحثاً عن ملاذ.

“ما عندي شي ادافع بيه عن بنتي الي تطلع تبيع كلينكس بالشارع، لا سلاح ولا حتى سكين، رجال ما عندي لا كاع ولا مُلك، بس عندي سكتة قلبية”، قال لنا أبو سهى، وهو رجلٌ من الغجر نادباً وضعاً مزرياً يعيشه وابنته في برّ بعقوبة، بعد تعرضها إلى تحرّش جنسي جماعي.

يواجه غجر ديالى رفضاً وتمييزاً ونبذاً اجتماعياً مريراً، وهم عيّنة عن غجر العراق، وسط إهمال متعمد من سلطات محلية واتحادية تحاول إنكارهم وإبعادهم عن التجمعات السكانية المُستقرة أو مناطق الاستثمار. 

مجموعة “كاطون الرازي” في ديالى، توطنوا كنازحين قبل نحو عشرة أعوام بمنطقة حكومية مهجورة، ربما كان معسكراً، على حزام ناحية كنعان (شمال شرق)، في “خيم تعبانة”، والوصف لفريد أبو حوراء. 

في أيار ٢٠٢٢، شرَّدتهم الحكومة المحلية لإقامة مشروع عقاري استثماري على أرض خلاء.

أزالت قوة من الأمن مُخيم “الغجر” في كنعان، والمُستثمر بنى لهم مُشيدات واطئة الكُلفة، من بلوك رخيص وسقائف المنيوم وحديد، كملاجئ مؤقتة وسط منطقة خرائب ومكب نفايات على أطراف “الكاطون” بالقرب من مشفى الرازي العمومي.

“ربما جاؤوا من بغداد ومحافظات جنوبية، لا ندري”، قال عبد الله الحيالي، قائممقام بعقوبة لـ”جمار”.

منذ ٢٠٠٣، والغجر العراقيون يخوضون أقسى تجربة تشرّد لمجموعات سكانية كاملة تتحرك عبر البلاد، محاولين التوطن في ملاذٍ أخير، للخلاص من “نظرة دونية” و”وصم اجتماعي” يلاحقهم على مدى قرونٍ. 

الغجر: حياة لا آدمية

“عيشتنا.. الجلاب ما تقبل بيها”، قالت لنا سيّدة رفضت الإشارة إلى اسمها.  

وصف تقرير المجلس الدولي لحقوق الانسان المُقدّم الى الجمعية الأممية في أيار ٢٠١٥، ظروف تجمعات الغجر في وسط العراق وجنوبه، بأنها “الأكثر سوءاً وبؤساً في عموم أراضيه (…) يعيش الغجر في مُشيدات طينية، دون نوافذ وليست لديهم كهرباء أو مياه نظيفة أو خدمات رعاية الصحية، ولا يحصلون على أغذية كافية، ولا صلة لهم بخدمات الضمان الاجتماعي”.

ينطبق ذلك كُله، على “عشوائية” غجر ديالى.

تحت ترهيب السُلطات، أُرغمت العائلات الغجرية على الإقامة في “كاطون الرازي” وسط مكب نفايات كبير، في منطقة خرائب ومياه آسنة وراكدة للأمطار والصرف الصحي، تجمعت في حفر يطن فوقها بعوض وذباب ناقلاً عدوى أمراضٍ مختلفة، تسببت بوفاة شابة إثر اصابتها بمرض جلدي انتقالي مُعد، نهاية العام الماضي.

“اخت زوجي، شابة عمرها ٣٠ سنة، طلعتلّها حبّة بغداد برجلها، بسبب الوصاخة الي عايشين بنصّها، وما عرفنا نعالجها، وماتت، الحكومة ناسيتنا، يتمنون نموت ويخلصون من عدنا”، قالت لنا هدى هادي، وهي سيدة غجرية في عقدها الخامس. 

يبلغ عديد غجر ديالى نحو ٦٥ عائلة، من بينها ٤٨ عائلة ضمن مجموعة “كاطون الرازي”، وبات يُطلق عليهم “قرية الغجر”. فيما ١٧ عائلة أخرى، تسكن متفرقة في مناطق غرب بعقوبة، ومنهم من انتقل الى كركوك أو بغداد، وفقاً للحيالي، قائممقام بعقوبة. 

مساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

نساء عشوائية غجر كاطون الرازي، يُعانينَ من وضع صحي مُزرٍ، وآخذٍ بالتداعي والتدهور يوماً بعد آخر، فثلاثُ نساء ممن التقاهم “جُمار” كن عيّناتٍ لأخريات فضلّن ضرب الكف بالكف والتحسر على آدميتهن المُهانةِ بصمتٍ، على الشكوى بلا طائل.

“الغجر يواجهون صعوبة في تمتعهم بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وأن البيئة التي يعيشون فيها، تعاني من كثرة النفايات، وانتشار الأمراض، ولا توجد شبكة مياه صالحة للشرب”، وفقاً لتقرير امتثال العراق للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري المقدم الى المجتمع الدولي. 

ثلاثُ نساءٍ اعياهن المرض، الفقر، الإهمال، التمييز والصدمات النفسية المريعة.

واحدة منهن، تعاني من كسرٍ في اليد لم يتم تجبيرهُ في المستشفى على نحو صحيح بسبب التمييز والإهمال -حسب قولها- ما تسبب بمضاعفات قد تؤدي الى بترها، إن لم يتوافر لها تدخلٌ جراحي وعناية مسؤولة. 

فيما أم عباس، شُخصت بأكياس فوق الرحم، ودون إزالتها، ستنتهي إلى مضاعفات مميتة للسيدة التي تتحسر على مليوني دينار، تعجز عن جمعها. 

والثالثة، سيدةٌ أكل الكِبر عُمرها، تاركاً إياها ضحية اعتلال حادٍ في المفاصل لا تقوى معه على السير خطوات.

غجر العراق ظلوا على هامش الحماية الحكومية أو الأُممية، اذ لا يتم شمولهم في مخيّمات النزوح والإيواء التي ترعاها وزارة الهجرة والمهجرين، أو المنظمة الدولية للهجرة (IOM). 

“هناك فشل واسع النطاق في الاعتراف بوضعهم كمشردين داخليين يفرون من الصراع والعنف في العراق، هذا دليل على تهميشهم الكامل (…) والعديد من المسؤولين لا يعرفون شيئاً عن النزوح الداخلي للغجر، بل ينكرون وجودهم احياناً”، بحسب دراسة لشبكة بحث التهجير الداخلي شتاء ٢٠٢١. 

من الغناء والرقص الى التسوّل

“التسول هو السبيل الوحيد لمعيشتنا اليوم”، قالت لنا أم علي، السيدة الخمسينية.  

امتهن غجر العراق، الترفيه بالغناء والرقص فضلاً عن التجوال بين المُدن لقراءة الطالع، وصناعة الحلي الفضية، ومعالجة الأسنان بطرقٍ بدائية. 

وعلى مدى عقود تجنبت السلطات دوماً توطينهم وإبدال أنماط معيشتهم، خشية تغيير ديموغرافي، ولرفض سكان التجمعات الحضرية والريفية مخالطتهم، جرياً على رفض نمطي موصوم بـ”العار”، وغموض العرق الذين ينحدرون منه. 

“قبل ٢٠٠٣، كنا نعيش على الغناء والرقص، هسه على التسول والمساعدات من عشاير واجاويد كنعان وشهربان (…) كل شهر نروحلهم نجمع منهم المقسوم، لان محد يقبل يشغلنا”، تقول السيدة هدى.  

في ظل افتقارهم إلى التعليم والمهارات الحرفية والامتداد العشائري المطلوب في العراق للحفاظ على المكانة الاجتماعية، يظل الغجر يشكلون واحدة من أدنى درجات النظام الاجتماعي العراقي.

“هسه احنا فقراء، والأحزاب ما تخلينا، وفوكاها تطور الدك والركص مو مثل قبل، وطلعت مزايق جديدة وفضائيات ودي جي ومدري شيسمونه، انقرضت هاي المهنة عدنا، بس اكو غجر ببغداد بعدهم عايشين على هاي الشغلة، بس هم قليلين”، قالت لنا بدرية. 

صلاح مهدي، مدير مكتب ديالى لمفوضية حقوق الإنسان، أكد أن معظم الغجر في العراق هجروا الغناء والرقص، كونها مهنة لم تعد تتناسب مع الوضع الحالي، لخوفهم وقلقهم من استهدافهم بسبب ممارستهم هذه المهنة لذلك تركوها بعد تهجيرهم من عدة أماكن مختلفة”. 

أحد مساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

تجمع أم عباس، وهي أم وراعية لـ١٥ طفلاً لها ولزوجها من زوجته الأولى المتوفاة، بوجه خط عليه الزمن علائم الشقاء اليومي، ما بين ١٠ الى ٢٠ الفاً كل يومٍ من التسول، “هاي مثل ما تشوفون جهالنا حفيان وعريانين بهذا البرد، منين نجيبلهم”.

تؤكد التقارير الاممية بأن نساء الغجر في العراق يتعرضن بشدة للعنف الجنسي ومخاطر استغلال عالية. 

سهى حسين (١٩عاماً)، من شابات كاطون الرازي، تقول انها تتعرض باستمرار الى مضايقات ومحاولات تحرش جنسي مستمرة من الجميع، “انا أبيع كلينكس بالشارع والكل يتحرّش بيه، ومرات يتبعوني بسيارة، وأظل اركض مسافة لحد ما أوصل الى بيتنا حتى أخلص منهم”. 

“لا يوجد عائق قانوني من تشغيل الغجر، لكن المشكلة أنهم بلا تحصيل دراسي وهو ما يعوق حصولهم على وظائف”. وفقاً للحيالي، قائممقام بعقوبة.

ورغم أن العراق أطلق نظام مدفوعات للعاطلين عن العمل والعائلات الفقيرة يُعرف بـ”شبكة الرعاية الاجتماعية”، إلا أن البرنامج الحكومي لا يشمل الغجر. 

التشرد عائق أمام التعليم

وسط أمهات حائرات بلقمة العيش، يتقافز أطفال عشوائية الغجر المنسيون، بين حفائر المياه الآسنة وأكوام النفايات، مصابين بالجدري وأمراض انتقالية ومتوطنة تطفر من واحدٍ الى آخر، دون رعاية صحية، أو فحوصاتٍ دورية.  

غالبية غجر العراق أميون، فيما “يُجبر أطفالهم على الانخراط في أعمال غير نظامية أو اللجوء إلى التسول”، بحسب ما أشَّرَهُ تقرير المجلس الدولي لحقوق الانسان في ٢٠١٥. 

إدارة أقرب مدّرسة ابتدائية، يرتادها بعض من أطفال الأقلية المُشرّدة في “كاطون الرازي”، تمارس تمييزاً ضمنياً بحقهم عبر كتم هويتهم، “خشية تعرضهم للتنمر والتعنيف اللفظي والجسدي”، وفقاً لصلاح مهدي، مدير مكتب ديالى لمفوضية حقوق الإنسان.  

يتسرب أغلب أطفال المجموعة الغجرية في ديالى وعموم العراق دراسياً، مُرغمين على التسول او “نبش النفايات” كوسيلة عيّش مُهينة تعرّضهم بالغالب الى الاستغلال الجنسي. 

“من اللافت أن أطفال الغجر مسالمون، متفوقون وملتزمون بالتعليم (…) لكن من المؤسف أنهم يلتزمون لحين إكمال الدراسة الابتدائية، بعدها يتسربون بسبب سوء وضع عائلاتهم المعيشي ما يضطرهم الى العمل”، وفقاً لمهدي.

يروي عباس سعدون (١٣ عاماً) لـ”جُمار”، تجربة الرفض الاجتماعي التي واجهها قبل سنوات حينما كان يرتاد مدرسة ابتدائية تبعد كيلومترين عن مخيّم التشرد على مشارف ناحية كنعان:

  “كنت تلميذاً في الصف الأول ابتدائي، وغالب الوقت كنت اقضيه معزولاً في الصف حتى في وقت (الفرصة) بين الدروس، وفي يوم ما، فوجئت بطردي من قبل إدارة المدرسة، فيما نهب التلاميذ كتبي واقلامي ودفاتري، فقط لأني غجري”.

“الوصمة الاجتماعية بنعتهم غجر أو (كاولية) تسببت بآثار نفسية مُدمرة ومستمرة لدى أطفال الغجر”. وفقاً لمهدي.

غالباً ما يُحرم الأطفال الغجر من كلا الجنسين من التعلم. تقول السلطات المحلية إن الترحال الدائم للغجر يقف عائقاً امام تسجيل أطفالهم في مدارس نظامية تتطلب الدراسة فيها الى الاستقرار. 

“حسب معلوماتي ان الغجر لا يرسلون ابناءهم الى المدارس التي بالطبع تستقبلهم حسب الضوابط في حال لديهم أوراق رسمية” بحسب الحيالي، قائممقام بعقوبة. 

مديرية تربية ديالى، نفت أي تمييز ضد التلاميذ الغجر، بطردهم من المدارس أو رفض تسجيلهم، مطالبة من لديه شكوى تقديمها اليها.

“مدرسة السيادة الوطنية قريبة عليهم تبعد اقل من 300 متر عن مكان تواجدهم الحالي، لكن نعتقد أن الأهالي لا يسجلون أطفالهم بالمدارس بحكم إرغامهم على العمل والتسول”، علق عمار العبيدي، مدير إعلام تربية ديالى، لـ”جُمار”. 

أعيد افتتاح أول مدرسة لرعاية الأطفال الغجر في آذار ٢٠١٨، برعايةٍ من المنظمة الاممية للأسرة والطفولة (UNICEF) في قرية الزهور في الديوانية، بعد ١٤ عاماً على تسويتها بالأرض في خريف ٢٠٠٣ في هجوم عقائدي انتقامي شَنّه “جيش المهدي” على المنطقة الغجرية لـ”حماية الإسلام من المُحرّمات”. 

الشارع الرئيسي لمساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

افتتحت تلك المدّرسة للمرة الأولى في ١٩٦٤، وسويت بالأرض من قبل الصدريين في ٢٠٠٣، فيما هي الآن، كرافاناتسميت بـ”مدرسة النخيل”. 

“شلون نعلم أطفالنا، إذا احنا متهجولين من كاع لكاع، المدرسة تريد استقرار، والحكومة والناس ما يخلونا نستقر بمكان”، أم لينا شارحة أسباب التسرب الدراسي. 

في دهوك، شمال العراق، نجح حازم فاخر، أحد ناشطي الغجر منذ العام ٢٠٠٧، بتسهيلات من الإدارة الكردية بتوطين٢٠٠ منهم، عبر افتتاح مدرسة ابتدائية ومركز ثقافي لاحتواء الأطفال والشباب الغجر لرفع مستواهم التعليمي والدراسي. 

الجنسية VS المواطنة المفقودة

ترفض بدرية جاسم، غجرية من مجموعة “كاطون الرازي”، فكرة انهم بلا أصل، “نحن عراقيون أباً عن جد، ولدنا في منطقة كنعان في ديالى، لكن ما زلنا مُشردين، وما من أحد يتقبلنا”. 

تختلف السرديّات التاريخية والورش البحثية على تحديد أصول “غجر العراق”، لكن اغلبها يُجّمع على انهم ينحدرون من الهند، مستندين الى مقاربة تفسيرية لسانية لما يُشاع عن وصفهم بـ”الكاولية” المنحوتة من مهنة “القوالين الهنود” الذين كانوا ينتشرون في البلاطات الملكية قديماً بقصد الترفيه. 

يُعارض فتحي عبدة موسى، شيخ عشيرة بني مُرّة في الأردن، انحدار الغجر العرب في منطقة المشرق من أصول هندية، معتبراً إياه نوعاً من محاولة فصل مواطنين اصحاح عن بلدانهم الاصلية. 

“نحن في الأردن، عديدنا يفوق الـ٧٠ الفاً وننحدر من قبيلة بني مُرّة العربية، يَصفوننا في الأردن بـ(النَّوَر)، وفي العراق بـ(الكاولية)”.  

يقدر عدد السكان الغجر في العراق بما يتراوح بين خمسين الفاً و٢٠٠ ألف، وفقاً للدليل العالمي للأقليات والشعوب الاصلية لعام ٢٠٢١.

تعترف بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، بست مجموعات أو عشائر غجرية في البلاد، وتسميهم بـ”الروما”، مُشددةً على انهم يقاسون من “تحيز وتمييز وسوء أحوال معيشية على نحو مُطلق”.

“الروما” أو “الدوم”، هُم “الغجر” وفقاً للتعريف الاممي، “مجموعات فرعية متداخلة لكنها متحدة بفعل جذور تاريخية مشتركة، وخصائص مجتمعية لغوية، وتتعرض الى تمييز متشابه في جميع البلدان من قبل مجموعات الأغلبية”. 

اعترف العراق بمواطنة الغجر على مضضٍ في مراحل متفرقة وفقاً لانتقائية تمييزية قائمة على التوظيف السياسي. 

منح العهد الملكي بعضاً من الغجر الجنسية العراقية عام ١٩٢٤. 

الكاتبة مع احد المتحدثين 

نقل نظام صدّام حسين في العام ١٩٧٦، عدداً من العائلات الغجرية دون منحهم الجنسية الى جنوب كركوك ضمن مخططات التغيير الديموغرافي التي انتهجها لتعريب المحافظة. 

وفي العام ١٩٧٩، قررت سُلطة البعث، منح الغجر المُستقرين في عددٍ من المدن العراقية الجنسية العراقية “استثناءً” مع وسم هويات اثبات الشخصية بـ”غجري”، التي مثلت تمييزاً ضدهم، وعائقاً في ما يتعلق بالعمل، الدراسة، التملك، وعقود البيع والشراء.

مُنع الغجر من الالتحاق بالخدمة العسكرية والشرطية باعتباره مناقضاً لـ”أصول الشرف العسكري” في العهدين المتعاقبين الملكي والجمهوري، حتى عام ١٩٨٠ حين طُلب لأول مرة من رجال الغجر تأدية الخدمة العسكرية خلال الحرب مع إيران.

“خدمنا عسكرية ثمان سنين، وبعدها في حرب الكويت، وكلشي ما حصلنا، لا جناسي ولا ارض”، قال فريد أبو حوراء لنا، مؤكداً على مواطنته العراقية، بيّنما تؤكد هُدى، السيدة الخمسينية، “عوائلنا انطت جرحى، وشهداء، ومفقودين وأسرى بحرب إيران، بس الدولة كلشي ما عوضتنا ولا انطتنا حقوق تقاعدية”. 

بشر مقابل التصويت 

وعلاوة على الوصم والنبذ الاجتماعي، أدى التمييز الممنهج ضد غجر العراق الى محوهم من السردية الوطنية بحسب مُخرجات التقرير الاخير لمكتب دعم اللجوء الأوروبي (EASO)، بما يشبه الانكار الشامل لمجموعة سُكانية تُعد “من بين الفئات الأكثر ضعفاً وحرماناً والاشد تعرضاً للخطر من بين جميع الفئات الهشة والمهمشة في العراق”، وفقاً لمسحالهشاشة الفردية.

لكن السردية الاجتماعية والسياسية لنظام ما بعد ٢٠٠٣، حتى الأعمال الدرامية، ظلّت تشيع النظرة غير المُنصفة على أنهم “موالون لصدام” لجهة اشتغالهم في مجال الرقص والغناء والترفيه، ما أدى الى تعرضهم لعنف مسلح، وقرارات قضائية طالت مشاهير منهم وفقاً لقانون تجريم البعث. 

أزيلت إشارة “غجري” من هويات إثبات الشخصية عقب صدور القانون الجديد للجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006، وحلّت محلها إشارة “استثناء”. 

لجنة الإنقاذ الدولية  IRC قالت في تموز ٢٠١٦، إنها تمكنت من استخراج وثائق شخصية لـ ٣٠٠ غجري، كهوية الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية العراقية والبطاقة التموينية. 

في آذار 2019، سمحت الداخلية العراقية لعدد لم تحدده من الغجر بتسجيل بياناتهم في “نظام المعلومات الوطني” والحصول “البطاقة الوطنية الموحدة”، بمثابة اعتراف حكومي بكونهم مواطنين عراقيين كاملي الحقوق، مع إبقاء إشارة “استثناء” في التوصيف القانوني لحالتهم في السجلات الرسّمية.

لكن هذه التغييرات في القوانين لم تغيّر من حال الغجر كثيراً.

أجمعت نساء غجر ديالى ممن حادثتهن “جُمار”، على أن حلمهُن الوحيد هو ان “يتعلم بناتهن وابناؤهن ليتمكنوا من الحصول على حياة أفضل مما عاشه آباؤهم، وأن لا يظلوا محرومين ومهانين ومذلين في العراق”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في منطقة خرائب منسيّة، يحاول نحو ٤٠٠ مواطنٍ من “الغجر”، توطين أنفسهم بالقرب من منطقة “كاطون الرازي” في الطرف الغربي لبعقوبة، كواحدة من مجموعات مماثلة تسوح على طول البلاد بحثاً عن ملاذ.

“ما عندي شي ادافع بيه عن بنتي الي تطلع تبيع كلينكس بالشارع، لا سلاح ولا حتى سكين، رجال ما عندي لا كاع ولا مُلك، بس عندي سكتة قلبية”، قال لنا أبو سهى، وهو رجلٌ من الغجر نادباً وضعاً مزرياً يعيشه وابنته في برّ بعقوبة، بعد تعرضها إلى تحرّش جنسي جماعي.

يواجه غجر ديالى رفضاً وتمييزاً ونبذاً اجتماعياً مريراً، وهم عيّنة عن غجر العراق، وسط إهمال متعمد من سلطات محلية واتحادية تحاول إنكارهم وإبعادهم عن التجمعات السكانية المُستقرة أو مناطق الاستثمار. 

مجموعة “كاطون الرازي” في ديالى، توطنوا كنازحين قبل نحو عشرة أعوام بمنطقة حكومية مهجورة، ربما كان معسكراً، على حزام ناحية كنعان (شمال شرق)، في “خيم تعبانة”، والوصف لفريد أبو حوراء. 

في أيار ٢٠٢٢، شرَّدتهم الحكومة المحلية لإقامة مشروع عقاري استثماري على أرض خلاء.

أزالت قوة من الأمن مُخيم “الغجر” في كنعان، والمُستثمر بنى لهم مُشيدات واطئة الكُلفة، من بلوك رخيص وسقائف المنيوم وحديد، كملاجئ مؤقتة وسط منطقة خرائب ومكب نفايات على أطراف “الكاطون” بالقرب من مشفى الرازي العمومي.

“ربما جاؤوا من بغداد ومحافظات جنوبية، لا ندري”، قال عبد الله الحيالي، قائممقام بعقوبة لـ”جمار”.

منذ ٢٠٠٣، والغجر العراقيون يخوضون أقسى تجربة تشرّد لمجموعات سكانية كاملة تتحرك عبر البلاد، محاولين التوطن في ملاذٍ أخير، للخلاص من “نظرة دونية” و”وصم اجتماعي” يلاحقهم على مدى قرونٍ. 

الغجر: حياة لا آدمية

“عيشتنا.. الجلاب ما تقبل بيها”، قالت لنا سيّدة رفضت الإشارة إلى اسمها.  

وصف تقرير المجلس الدولي لحقوق الانسان المُقدّم الى الجمعية الأممية في أيار ٢٠١٥، ظروف تجمعات الغجر في وسط العراق وجنوبه، بأنها “الأكثر سوءاً وبؤساً في عموم أراضيه (…) يعيش الغجر في مُشيدات طينية، دون نوافذ وليست لديهم كهرباء أو مياه نظيفة أو خدمات رعاية الصحية، ولا يحصلون على أغذية كافية، ولا صلة لهم بخدمات الضمان الاجتماعي”.

ينطبق ذلك كُله، على “عشوائية” غجر ديالى.

تحت ترهيب السُلطات، أُرغمت العائلات الغجرية على الإقامة في “كاطون الرازي” وسط مكب نفايات كبير، في منطقة خرائب ومياه آسنة وراكدة للأمطار والصرف الصحي، تجمعت في حفر يطن فوقها بعوض وذباب ناقلاً عدوى أمراضٍ مختلفة، تسببت بوفاة شابة إثر اصابتها بمرض جلدي انتقالي مُعد، نهاية العام الماضي.

“اخت زوجي، شابة عمرها ٣٠ سنة، طلعتلّها حبّة بغداد برجلها، بسبب الوصاخة الي عايشين بنصّها، وما عرفنا نعالجها، وماتت، الحكومة ناسيتنا، يتمنون نموت ويخلصون من عدنا”، قالت لنا هدى هادي، وهي سيدة غجرية في عقدها الخامس. 

يبلغ عديد غجر ديالى نحو ٦٥ عائلة، من بينها ٤٨ عائلة ضمن مجموعة “كاطون الرازي”، وبات يُطلق عليهم “قرية الغجر”. فيما ١٧ عائلة أخرى، تسكن متفرقة في مناطق غرب بعقوبة، ومنهم من انتقل الى كركوك أو بغداد، وفقاً للحيالي، قائممقام بعقوبة. 

مساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

نساء عشوائية غجر كاطون الرازي، يُعانينَ من وضع صحي مُزرٍ، وآخذٍ بالتداعي والتدهور يوماً بعد آخر، فثلاثُ نساء ممن التقاهم “جُمار” كن عيّناتٍ لأخريات فضلّن ضرب الكف بالكف والتحسر على آدميتهن المُهانةِ بصمتٍ، على الشكوى بلا طائل.

“الغجر يواجهون صعوبة في تمتعهم بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وأن البيئة التي يعيشون فيها، تعاني من كثرة النفايات، وانتشار الأمراض، ولا توجد شبكة مياه صالحة للشرب”، وفقاً لتقرير امتثال العراق للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري المقدم الى المجتمع الدولي. 

ثلاثُ نساءٍ اعياهن المرض، الفقر، الإهمال، التمييز والصدمات النفسية المريعة.

واحدة منهن، تعاني من كسرٍ في اليد لم يتم تجبيرهُ في المستشفى على نحو صحيح بسبب التمييز والإهمال -حسب قولها- ما تسبب بمضاعفات قد تؤدي الى بترها، إن لم يتوافر لها تدخلٌ جراحي وعناية مسؤولة. 

فيما أم عباس، شُخصت بأكياس فوق الرحم، ودون إزالتها، ستنتهي إلى مضاعفات مميتة للسيدة التي تتحسر على مليوني دينار، تعجز عن جمعها. 

والثالثة، سيدةٌ أكل الكِبر عُمرها، تاركاً إياها ضحية اعتلال حادٍ في المفاصل لا تقوى معه على السير خطوات.

غجر العراق ظلوا على هامش الحماية الحكومية أو الأُممية، اذ لا يتم شمولهم في مخيّمات النزوح والإيواء التي ترعاها وزارة الهجرة والمهجرين، أو المنظمة الدولية للهجرة (IOM). 

“هناك فشل واسع النطاق في الاعتراف بوضعهم كمشردين داخليين يفرون من الصراع والعنف في العراق، هذا دليل على تهميشهم الكامل (…) والعديد من المسؤولين لا يعرفون شيئاً عن النزوح الداخلي للغجر، بل ينكرون وجودهم احياناً”، بحسب دراسة لشبكة بحث التهجير الداخلي شتاء ٢٠٢١. 

من الغناء والرقص الى التسوّل

“التسول هو السبيل الوحيد لمعيشتنا اليوم”، قالت لنا أم علي، السيدة الخمسينية.  

امتهن غجر العراق، الترفيه بالغناء والرقص فضلاً عن التجوال بين المُدن لقراءة الطالع، وصناعة الحلي الفضية، ومعالجة الأسنان بطرقٍ بدائية. 

وعلى مدى عقود تجنبت السلطات دوماً توطينهم وإبدال أنماط معيشتهم، خشية تغيير ديموغرافي، ولرفض سكان التجمعات الحضرية والريفية مخالطتهم، جرياً على رفض نمطي موصوم بـ”العار”، وغموض العرق الذين ينحدرون منه. 

“قبل ٢٠٠٣، كنا نعيش على الغناء والرقص، هسه على التسول والمساعدات من عشاير واجاويد كنعان وشهربان (…) كل شهر نروحلهم نجمع منهم المقسوم، لان محد يقبل يشغلنا”، تقول السيدة هدى.  

في ظل افتقارهم إلى التعليم والمهارات الحرفية والامتداد العشائري المطلوب في العراق للحفاظ على المكانة الاجتماعية، يظل الغجر يشكلون واحدة من أدنى درجات النظام الاجتماعي العراقي.

“هسه احنا فقراء، والأحزاب ما تخلينا، وفوكاها تطور الدك والركص مو مثل قبل، وطلعت مزايق جديدة وفضائيات ودي جي ومدري شيسمونه، انقرضت هاي المهنة عدنا، بس اكو غجر ببغداد بعدهم عايشين على هاي الشغلة، بس هم قليلين”، قالت لنا بدرية. 

صلاح مهدي، مدير مكتب ديالى لمفوضية حقوق الإنسان، أكد أن معظم الغجر في العراق هجروا الغناء والرقص، كونها مهنة لم تعد تتناسب مع الوضع الحالي، لخوفهم وقلقهم من استهدافهم بسبب ممارستهم هذه المهنة لذلك تركوها بعد تهجيرهم من عدة أماكن مختلفة”. 

أحد مساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

تجمع أم عباس، وهي أم وراعية لـ١٥ طفلاً لها ولزوجها من زوجته الأولى المتوفاة، بوجه خط عليه الزمن علائم الشقاء اليومي، ما بين ١٠ الى ٢٠ الفاً كل يومٍ من التسول، “هاي مثل ما تشوفون جهالنا حفيان وعريانين بهذا البرد، منين نجيبلهم”.

تؤكد التقارير الاممية بأن نساء الغجر في العراق يتعرضن بشدة للعنف الجنسي ومخاطر استغلال عالية. 

سهى حسين (١٩عاماً)، من شابات كاطون الرازي، تقول انها تتعرض باستمرار الى مضايقات ومحاولات تحرش جنسي مستمرة من الجميع، “انا أبيع كلينكس بالشارع والكل يتحرّش بيه، ومرات يتبعوني بسيارة، وأظل اركض مسافة لحد ما أوصل الى بيتنا حتى أخلص منهم”. 

“لا يوجد عائق قانوني من تشغيل الغجر، لكن المشكلة أنهم بلا تحصيل دراسي وهو ما يعوق حصولهم على وظائف”. وفقاً للحيالي، قائممقام بعقوبة.

ورغم أن العراق أطلق نظام مدفوعات للعاطلين عن العمل والعائلات الفقيرة يُعرف بـ”شبكة الرعاية الاجتماعية”، إلا أن البرنامج الحكومي لا يشمل الغجر. 

التشرد عائق أمام التعليم

وسط أمهات حائرات بلقمة العيش، يتقافز أطفال عشوائية الغجر المنسيون، بين حفائر المياه الآسنة وأكوام النفايات، مصابين بالجدري وأمراض انتقالية ومتوطنة تطفر من واحدٍ الى آخر، دون رعاية صحية، أو فحوصاتٍ دورية.  

غالبية غجر العراق أميون، فيما “يُجبر أطفالهم على الانخراط في أعمال غير نظامية أو اللجوء إلى التسول”، بحسب ما أشَّرَهُ تقرير المجلس الدولي لحقوق الانسان في ٢٠١٥. 

إدارة أقرب مدّرسة ابتدائية، يرتادها بعض من أطفال الأقلية المُشرّدة في “كاطون الرازي”، تمارس تمييزاً ضمنياً بحقهم عبر كتم هويتهم، “خشية تعرضهم للتنمر والتعنيف اللفظي والجسدي”، وفقاً لصلاح مهدي، مدير مكتب ديالى لمفوضية حقوق الإنسان.  

يتسرب أغلب أطفال المجموعة الغجرية في ديالى وعموم العراق دراسياً، مُرغمين على التسول او “نبش النفايات” كوسيلة عيّش مُهينة تعرّضهم بالغالب الى الاستغلال الجنسي. 

“من اللافت أن أطفال الغجر مسالمون، متفوقون وملتزمون بالتعليم (…) لكن من المؤسف أنهم يلتزمون لحين إكمال الدراسة الابتدائية، بعدها يتسربون بسبب سوء وضع عائلاتهم المعيشي ما يضطرهم الى العمل”، وفقاً لمهدي.

يروي عباس سعدون (١٣ عاماً) لـ”جُمار”، تجربة الرفض الاجتماعي التي واجهها قبل سنوات حينما كان يرتاد مدرسة ابتدائية تبعد كيلومترين عن مخيّم التشرد على مشارف ناحية كنعان:

  “كنت تلميذاً في الصف الأول ابتدائي، وغالب الوقت كنت اقضيه معزولاً في الصف حتى في وقت (الفرصة) بين الدروس، وفي يوم ما، فوجئت بطردي من قبل إدارة المدرسة، فيما نهب التلاميذ كتبي واقلامي ودفاتري، فقط لأني غجري”.

“الوصمة الاجتماعية بنعتهم غجر أو (كاولية) تسببت بآثار نفسية مُدمرة ومستمرة لدى أطفال الغجر”. وفقاً لمهدي.

غالباً ما يُحرم الأطفال الغجر من كلا الجنسين من التعلم. تقول السلطات المحلية إن الترحال الدائم للغجر يقف عائقاً امام تسجيل أطفالهم في مدارس نظامية تتطلب الدراسة فيها الى الاستقرار. 

“حسب معلوماتي ان الغجر لا يرسلون ابناءهم الى المدارس التي بالطبع تستقبلهم حسب الضوابط في حال لديهم أوراق رسمية” بحسب الحيالي، قائممقام بعقوبة. 

مديرية تربية ديالى، نفت أي تمييز ضد التلاميذ الغجر، بطردهم من المدارس أو رفض تسجيلهم، مطالبة من لديه شكوى تقديمها اليها.

“مدرسة السيادة الوطنية قريبة عليهم تبعد اقل من 300 متر عن مكان تواجدهم الحالي، لكن نعتقد أن الأهالي لا يسجلون أطفالهم بالمدارس بحكم إرغامهم على العمل والتسول”، علق عمار العبيدي، مدير إعلام تربية ديالى، لـ”جُمار”. 

أعيد افتتاح أول مدرسة لرعاية الأطفال الغجر في آذار ٢٠١٨، برعايةٍ من المنظمة الاممية للأسرة والطفولة (UNICEF) في قرية الزهور في الديوانية، بعد ١٤ عاماً على تسويتها بالأرض في خريف ٢٠٠٣ في هجوم عقائدي انتقامي شَنّه “جيش المهدي” على المنطقة الغجرية لـ”حماية الإسلام من المُحرّمات”. 

الشارع الرئيسي لمساكن الغجر في ديالى – تصوير الكاتبة

افتتحت تلك المدّرسة للمرة الأولى في ١٩٦٤، وسويت بالأرض من قبل الصدريين في ٢٠٠٣، فيما هي الآن، كرافاناتسميت بـ”مدرسة النخيل”. 

“شلون نعلم أطفالنا، إذا احنا متهجولين من كاع لكاع، المدرسة تريد استقرار، والحكومة والناس ما يخلونا نستقر بمكان”، أم لينا شارحة أسباب التسرب الدراسي. 

في دهوك، شمال العراق، نجح حازم فاخر، أحد ناشطي الغجر منذ العام ٢٠٠٧، بتسهيلات من الإدارة الكردية بتوطين٢٠٠ منهم، عبر افتتاح مدرسة ابتدائية ومركز ثقافي لاحتواء الأطفال والشباب الغجر لرفع مستواهم التعليمي والدراسي. 

الجنسية VS المواطنة المفقودة

ترفض بدرية جاسم، غجرية من مجموعة “كاطون الرازي”، فكرة انهم بلا أصل، “نحن عراقيون أباً عن جد، ولدنا في منطقة كنعان في ديالى، لكن ما زلنا مُشردين، وما من أحد يتقبلنا”. 

تختلف السرديّات التاريخية والورش البحثية على تحديد أصول “غجر العراق”، لكن اغلبها يُجّمع على انهم ينحدرون من الهند، مستندين الى مقاربة تفسيرية لسانية لما يُشاع عن وصفهم بـ”الكاولية” المنحوتة من مهنة “القوالين الهنود” الذين كانوا ينتشرون في البلاطات الملكية قديماً بقصد الترفيه. 

يُعارض فتحي عبدة موسى، شيخ عشيرة بني مُرّة في الأردن، انحدار الغجر العرب في منطقة المشرق من أصول هندية، معتبراً إياه نوعاً من محاولة فصل مواطنين اصحاح عن بلدانهم الاصلية. 

“نحن في الأردن، عديدنا يفوق الـ٧٠ الفاً وننحدر من قبيلة بني مُرّة العربية، يَصفوننا في الأردن بـ(النَّوَر)، وفي العراق بـ(الكاولية)”.  

يقدر عدد السكان الغجر في العراق بما يتراوح بين خمسين الفاً و٢٠٠ ألف، وفقاً للدليل العالمي للأقليات والشعوب الاصلية لعام ٢٠٢١.

تعترف بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، بست مجموعات أو عشائر غجرية في البلاد، وتسميهم بـ”الروما”، مُشددةً على انهم يقاسون من “تحيز وتمييز وسوء أحوال معيشية على نحو مُطلق”.

“الروما” أو “الدوم”، هُم “الغجر” وفقاً للتعريف الاممي، “مجموعات فرعية متداخلة لكنها متحدة بفعل جذور تاريخية مشتركة، وخصائص مجتمعية لغوية، وتتعرض الى تمييز متشابه في جميع البلدان من قبل مجموعات الأغلبية”. 

اعترف العراق بمواطنة الغجر على مضضٍ في مراحل متفرقة وفقاً لانتقائية تمييزية قائمة على التوظيف السياسي. 

منح العهد الملكي بعضاً من الغجر الجنسية العراقية عام ١٩٢٤. 

الكاتبة مع احد المتحدثين 

نقل نظام صدّام حسين في العام ١٩٧٦، عدداً من العائلات الغجرية دون منحهم الجنسية الى جنوب كركوك ضمن مخططات التغيير الديموغرافي التي انتهجها لتعريب المحافظة. 

وفي العام ١٩٧٩، قررت سُلطة البعث، منح الغجر المُستقرين في عددٍ من المدن العراقية الجنسية العراقية “استثناءً” مع وسم هويات اثبات الشخصية بـ”غجري”، التي مثلت تمييزاً ضدهم، وعائقاً في ما يتعلق بالعمل، الدراسة، التملك، وعقود البيع والشراء.

مُنع الغجر من الالتحاق بالخدمة العسكرية والشرطية باعتباره مناقضاً لـ”أصول الشرف العسكري” في العهدين المتعاقبين الملكي والجمهوري، حتى عام ١٩٨٠ حين طُلب لأول مرة من رجال الغجر تأدية الخدمة العسكرية خلال الحرب مع إيران.

“خدمنا عسكرية ثمان سنين، وبعدها في حرب الكويت، وكلشي ما حصلنا، لا جناسي ولا ارض”، قال فريد أبو حوراء لنا، مؤكداً على مواطنته العراقية، بيّنما تؤكد هُدى، السيدة الخمسينية، “عوائلنا انطت جرحى، وشهداء، ومفقودين وأسرى بحرب إيران، بس الدولة كلشي ما عوضتنا ولا انطتنا حقوق تقاعدية”. 

بشر مقابل التصويت 

وعلاوة على الوصم والنبذ الاجتماعي، أدى التمييز الممنهج ضد غجر العراق الى محوهم من السردية الوطنية بحسب مُخرجات التقرير الاخير لمكتب دعم اللجوء الأوروبي (EASO)، بما يشبه الانكار الشامل لمجموعة سُكانية تُعد “من بين الفئات الأكثر ضعفاً وحرماناً والاشد تعرضاً للخطر من بين جميع الفئات الهشة والمهمشة في العراق”، وفقاً لمسحالهشاشة الفردية.

لكن السردية الاجتماعية والسياسية لنظام ما بعد ٢٠٠٣، حتى الأعمال الدرامية، ظلّت تشيع النظرة غير المُنصفة على أنهم “موالون لصدام” لجهة اشتغالهم في مجال الرقص والغناء والترفيه، ما أدى الى تعرضهم لعنف مسلح، وقرارات قضائية طالت مشاهير منهم وفقاً لقانون تجريم البعث. 

أزيلت إشارة “غجري” من هويات إثبات الشخصية عقب صدور القانون الجديد للجنسية العراقية رقم 26 لسنة 2006، وحلّت محلها إشارة “استثناء”. 

لجنة الإنقاذ الدولية  IRC قالت في تموز ٢٠١٦، إنها تمكنت من استخراج وثائق شخصية لـ ٣٠٠ غجري، كهوية الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية العراقية والبطاقة التموينية. 

في آذار 2019، سمحت الداخلية العراقية لعدد لم تحدده من الغجر بتسجيل بياناتهم في “نظام المعلومات الوطني” والحصول “البطاقة الوطنية الموحدة”، بمثابة اعتراف حكومي بكونهم مواطنين عراقيين كاملي الحقوق، مع إبقاء إشارة “استثناء” في التوصيف القانوني لحالتهم في السجلات الرسّمية.

لكن هذه التغييرات في القوانين لم تغيّر من حال الغجر كثيراً.

أجمعت نساء غجر ديالى ممن حادثتهن “جُمار”، على أن حلمهُن الوحيد هو ان “يتعلم بناتهن وابناؤهن ليتمكنوا من الحصول على حياة أفضل مما عاشه آباؤهم، وأن لا يظلوا محرومين ومهانين ومذلين في العراق”.