"أداة تعذيب تنتهك جسد المدينة": الكرادة تودّع داخلها إلى الأبد

عامر مؤيد

14 آذار 2023

يسعى المُخطط الجديد في شارع الكرادة داخل إلى سحب الأرصفة من تحت أقدام المارّة ووضعها تحت إطارات السيارات، فالحملة القائمة الآن في الشارع تهدف إلى قصّ مساحة مترين من الرصيفين العريضين اللذين عرف بهما جانبا شارع الكرادة داخل، وقطع أكثر من ٣٠٠ شجرة يقارب عُمُر بعضها ٦٠ عاماً، وتغيير أحجار الأرصفة.. القصة الكاملة لأخذ الكرادة من المارّة ومنحها للسيارات...

على مدار أربعين عاماً سقى محمد الشجرة التي تنهض عند باب محله في شارع الكرادة داخل وسط بغداد، لكن منشار البلدية الكهربائي ذبح الشجرة في شباط الماضي أمام عينيه. 

“قتلوا ذكرياتنا وشوهوا وجه المدينة التي نحب”. قال، وكانت ملامح الغضب والحزن تتخاطف وجهه.

على بعد أمتار من محله، تعمل آليات وعمّال شركة خاصة تقول بلدية الكرادة إنها تقوم بـ”تطوير شارع الكرادة داخل”، بإشراف من أمانة بغداد، الدائرة المسؤولة عن بلديات العاصمة.

قال مسؤولان، أحدهم في أمانة العاصمة والآخر في بلدية الكرادة، إن الحملة جاءت بتوجيه مُباشر من مكتب رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، وهي تهدف إلى تقليل الاختناق المروري في بغداد.

تندرج هذه الأعمال ضمن أكثر من 50 مشروعاً توسعياً للشوارع في جانبي الكرخ والرصافة، والتي تعني في غالبها أن الآليات ستقضم من الأرصفة لصالح توسعة الشوارع أمام السيارات.

ماذا سيحدث في الكرادة؟

تهدف الحملة في شارع الكرادة داخل إلى قصّ مساحة مترين من الرصيفين العريضين اللذين عرف بهما جانبا الشارع، وقطع أكثر من ٣٠٠ شجرة يقارب عمر بعضها ٦٠ عاماً، وإعادة أعمدة الكهرباء لنحو متر ونصف إلى الخلف، وتغيير أحجار الأرصفة.

أثارت الأعمال التي تقوم بها الشركة الخاصة -رفض المسؤولون الإشارة إلى اسمها- غضب سكّان المنطقة ومرتاديها، وأُطلقت عدّة هاشتاغات على مواقع التواصل الاجتماعي لإيقاف العمل بالمشروع.

بدا المسؤول في أمانة بغداد غير راضٍ عن الخطة، “رغم معارضة المشروع من بعض ملاكات أمانة بغداد المتقدمة، لكن المخطط بدأ العمل به (..) رفض المشروع لأنه يقطع الأشجار في وقت نشجع على زراعتها”.

بالمقابل، دافع سمير العطواني، مدير بلدية الكرادة، عن الأعمال، “ما نقوم به هدفه تطويري بحت”. 

“عملية التطوير ستبدأ من ساحة كهرمانة وصولاً الى نفق الجسر المعلق حيث سيتم توسعة الشارع من أجل تشييد جزرة وسطية”. 

تحولات الكرادة داخل

يوازي شارع الكرادة داخل شارع أبي نؤاس، ولا يبعد عن نهر دجلة إلا بضع مئات الأمتار.

يمتدّ الشارع من مدخل الكرادة عند ساحة كهرمانة وينتهي في الجادرية، وتتفرع من جانبيه أزقة قديمة تشكل طُرقاً فرعية تقسم الحي بشكل منظم.

خلال العقد الأخير، تحوّل شارع الكرادة داخل إلى مركز رئيسي، تجاري وثقافي، في جانب الرصافة من بغداد. فالشارع المُزدحم مُراد من يبحث عن تسوّق الخضراوات والألبسة والأحذية والذهب، كما أنه مسار لمن يود قضاء الوقت مشياً والتبضّع من البسطات، أو ملاذ للجائعين والباحثين عن مطاعم يستطيع متوسطو الدخل تحمّل تكاليف وجباتها، كما أن مقاهيه ملتقى مركزي لتجمع المثقفين والفنانين. 

نتيجة لحيويتها، شهدت الكرادة هجمات دموية، وكان شارع الكرادة داخل بالتحديد واحداً من أكثر الشوارع الذي استهدف بالتفجيرات، من خلال عبوات متفجّرة وسيارات مُفخخة.

في تموز عام 2016، وقبل ثلاثة أيام من عيد الفطر، فجر انتحاري سيارة مفخخة أمام مجمعين تجاريين للألبسة والعطور، ما أسفر عن مقتل 323 شخصاً. 

عائلات كاملة سقطت، ولم يبق منها سوى فرد أو اثنين، لكن حتّى من نجا كان يُعاود العمل مجدداً في المحال أو البسطات التي عمل فيها آباؤهم قبلهم أو التسوق في شوارعها.

لطالما دبت الحياة في الكرادة، مهما بُث فيها من خوف ومهما شهدت من مآسٍ.

تطوير الكرادة

بعد التفجير الذي صُنف الأكبر في العراق، جرى نقاش واسع عن ضرورة إغلاق شارع الكرادة داخل أمام السيارات، وتطويره ليكون مساحة للمشي والتبضّع.

وبالفعل، ناقشت أمانة بغداد تحويل الشارع للمشاة فقط ونصب “ترام” من أوّل الشارع وحتّى آخره.

بعد عام من ذلك، في تشرين الأول عام 2017، جلست ذكرى علوش، الأمين الأسبق لبغداد، مع مجلس الكرادة البلدي، وأعضاء مجلس محافظة بغداد ومجموعة من الوجهاء الممثلين عن المنطقة لتعرض عليهم خطة تطوير الكرادة داخل.

بحسب بيان أمانة بغداد آنذاك، فإن المؤسسة المسؤولة عن الحفاظ على هويّة العاصمة، أعدّت تصاميم مميزة تهدف إلى نصب 209 أعمدة كهرباء وانشاء 250 شتلة زراعية بشكل دائري ومد كابل ضوئي ورصف الارصفة بحجر البازلت، إلى جانب تأثيث الشارع بالعلامات المرورية.

المخطط الذي أُعد لتطوير الكرادة عام ٢٠١٦، وجرى إهماله.

تضمّنت التصاميم أيضاً إنشاء ممرات لفاقدي البصر ومواقف خاصة للمعاقين، مع إعداد تصاميم خاصة لمواقف السيارات، ونصب فوهات حريق بمواصفات عالمية. كما شملت معالجة تَخسُّفيْن، مع تنفيذ خط طوارئ وانشاء محطة لتصريف مياه الأمطار، إلى جانب إكساء مساحة 14 ألف متر مربع من مساحة الشوارع وبعض الأزقة المتضررة.

“كان المخطط يشبه إلى حد ما منطقة تقسيم وسط اسطنبول التركية حيث يتوسط (ترام) شارع الكرادة داخل ويكون العمل به من السادسة مساء حتى السادسة صباحاً، وباقي ساعات النهار يكون مفتوحا للباصات الكبيرة وسيارات الموظفين (..) مرآب القطار صُمم ايضاً ليكون في ساحة كهرمانة خلف محال الزهور”، بحسب محمد الربيعي، مدير علاقات أمانة بغداد الحالي، وعضو مجلس المحافظة حينها.

آنذاك، لم يطلع أحد من السكّان على المُخطط، لكنه لم يحظ باعتراض طالما أنه يُحافظ على الشكل الحضري، ويعيد ترتيب الشارع على هوى الناس وحاجتهم.

خصّصت 5 مليارات دينار لتنفيذ عمليات التطوير، وبعد الوصول الى المراحل النهائية لتطبيق المشروع، أوقف وأعيدت أمواله بسبب خطّة التقشف التي اتبعتها حكومة حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق.

همد المشروع، ولم يأت أحد على سيرته لأعوام، حتى أعاد علاء معن، أمين بغداد الأسبق، الحديث في تشرين الأول عام ٢٠٢١ عن إغلاق الشارع أمام السيارات ووضع خط “ترام” لتنقّل المارة.

لكن المشروع، مرة أخرى، بقي بياناً عائماً في وسائل الإعلام، ولم ينفذ على الأرض مُطلقاً.

لم تتضمن خطط عمليات التطوير قطع الأشجار، أو اقتطاع الأرصفة، بطريقة تُعيق المارة عن المشي. وابتكر حلاً في إيجاد فتحات على الأرصفة لتصبح مواقف للسيارات.

لم تكن خطة مثالية، لكنها ليست أيضاً خطة متطرفة تجاه المدينة والمناخ.

المخطط الذي أُعد لتطوير الكرادة وجرى إهماله

ذكريات مع الأشجار

اليوم، بينما تعمل الآليات في الشارع التجاري المُزدحم بالسكان في ساعات المساء، يعد روّاد الشارع على أصابعهم الأشجار التي تسقط بأسنان المناشير الكهربائية والفؤوس.

تعيق الأشجار، وفق العطواني، عمليات “تطوير” شارع الكرادة داخل، ولذلك تقوم المناشير ببترها من الأطراف.

“قمنا برفعها وسيتم تعويضها بالرصيف الجديد ولكن في الجزرة الوسطية المقرر تشييدها.. ستكون الاشجار متواجدة أيضاً على طول الطريق من كهرمانة وحتى الجسر المعلق إضافة الى وضع أعمدة الانارة كذلك حيث سيتم تجريد الشارع” من الأعمدة القديمة.

قطعت أمانة بغداد حتّى الآن نحو 12 شجرة عامرة وبكامل صحتها، وقد تأتي المناشير على 300 شجرة أخرى وتطيح بها.

كان محمد، البالغ من العمر ستين عاماً اليوم، قد بدأ العمل مع والده في الكرادة داخل قبل أربعين عاماً، ومنذ الأيام الأولى كان سقي الشجرة جزءاً من يومياته.

لم ينس سقيها طوال كل تلك السنين، حتى قبل قطع الشجرة بأيام قليلة.

“كانت تخفف من أشعة الشمس التي تخترق حتى الجدران الكونكريتية”. 

“كنا نجلس بقربها في فترات الاستراحة لتناول الشاي أو وجبة الغداء، لكن على ما يبدو أن الأشياء الجميلة غير مقدر لها ان تبقى في العراق”، قال.

عمليات قطع الأشجار في الكرادة داخل

لم يقض ياسر المتنبي ربع المُدة التي قضاها محمد في الكرادة، إذ افتتح مقهى “كهوة وكتاب” عام 2016، وتحوّل إلى مُلتقى للكتاب والأدباء، ومساحة عمل لبعض الصحفيين للكتابة في النهار.

رغم ذلك، كوّن ياسر علاقة بالشجرة المقابلة لـ”كهوة وكتاب” الذي يبيع فيه الكتب ويُقيم فيه أماسي ثقافية. 

“كنت أجلس تحت أشعة شمس الشتاء الدافئة وحيداً، متمماً جميع مهامي اليومية، سواء في إكمال دراستي الاكاديمية أو التخطيط لإنجاح مشروعي الخاص”. 

الجلوس على كرسي أحد مقاهي الكرادة على ناصية الرصيف لم يعد ممكناً، لأن الشارع لم يعد يتسع لطاولات وكراسٍ، وقد تبلّغ بعض أصحاب المقاهي رسمياً بمنع استغلال الرصيف لغرض تجاري.

ياسر كان واحداً من هؤلاء.

يُحاول ياسر تجنب الحديث عن الآثار المالية للأعمال التي تقوم بها بلدية الكرادة، لكنه يخشى من تحوّل نمط العيش في الشارع.

السيارات أَوْلَى بالمدينة من البشر!

في برنامجه الحكومي، وضع محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، هدفاً للحدّ من الزحامات المرورية في العاصمة، لكن يبدو أن الخطط ستمنح المناطق الحضرية في العاصمة للسيارات، وتسحب الأرصفة من تحت أقدام المارة. 

تواصل “جمّار” مع أربعة مستشارين للسوداني، لم يرد اثنان منهم على الاتصالات والرسائل، فيما رفض اثنان آخران التحدّث عن الموضوع أو التعليق عليه.

“التوسعة ستسمح للمركبات بالوقوف على جنبات الطريق من قبل شرطة المرور على عكس ما يحدث حالياً”، قال العطواني.

تنتقد زينب الجبوري، وهي معمارية من منطقة الكرادة، الأعمال الجارية في شارع الكرادة.

“منطقة الكرادة داخل معروف عنها كثرة سيارات النقل الجماعية إضافة إلى سيارات الأجرة، وهذا سيزيد من كمية الزحامات”.

لم يسأل أحد السكان!

عدّ محمد الصوفي، وهو معمار ممارس وباحث في العمارة، أن “ما يحدث مُزعج ومُدمِّر”.

قال الصوفي، الذي عاد إلى بغداد من إيطاليا بعد أن أنهى دراسة العمارة في مدينة ميلانو، “يجب إشراك السكان في التصميم الحضري” لمناطقهم لأنهم من يعيشون فيها.

بيد أن ما حصل في الكرادة داخل كان العكس.

تحدّث “جمّار” إلى عاملين في الشارع وبعض وجاهات المنطقة المعروفين عن الأعمال التي تجري، ونفوا جميعهم أن يكونوا قد اطلعهم أحد من البلدية أو أمانة بغداد أو من مجلس الوزراء على نتائج الأعمال التي تجري حالياً في شارعهم.

الحال هذه، لم تُطرح أي رؤية للتصميم الحضري بشأن شارع الكرادة داخل، ولم ير السكّان التخطيطات أو نماذج 3D لما سيكون عليه الشارع في المستقبل، ولا يعرف أحد حتّى الشركة المنفذة لهذه الأعمال.

يرى الصوفي بأن “هذا تقصير كبير” من أمانة بغداد.

مخالفات قانونية

تُخالف الأعمال التي تقوم بها أمانة بغداد قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، إذ لا يجوز قطع الاشجار المعمرة في المناطق العامة داخل المدن إلا بإذن من رئيس مجلس حماية وتحسين البيئة في المحافظة، بحسب المُحامي حيان الخياط.

“يقصد القانون بالأشجار المعمرة تلك التي يصل عمرها 30 عاماً فأكثر”.

تحدّث “جمّار” إلى شاكر أحمد حاج، مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط، وهو المسؤول عن منح الموافقات بشأن قص الأشجار من عدمها.

لم يكن حاج على معرفة بعمليات قطع الأشجار في الكرادة على الرغم من الضجّة التي أثيرت حولها. 

قال إنه سيراقب الموضوع، فيما شدد “لا نوافق على أي قطع للأشجار بالمطلق”.

يسعى المُخطط الجديد في شارع الكرادة داخل إلى سحب الأرصفة من تحت أقدام المارّة ووضعها تحت إطارات السيارات، فالحملة القائمة الآن في الشارع تهدف إلى قصّ مساحة مترين من الرصيفين العريضين اللذين عرف بهما جانبا شارع الكرادة داخل، وقطع أكثر من ٣٠٠ شجرة يقارب عُمُر بعضها ٦٠ عاماً، وتغيير أحجار الأرصفة.. القصة الكاملة لأخذ الكرادة من المارّة ومنحها للسيارات...
إحدى الأشجار بعد أن قطعها منشار الشركة المنفذة لعمليات تغيير الشارع

وفق القانون، فان العقوبة على أمانة بغداد والشركة المنفذة هي غرامة لا تقل عن مليون دينار، ولا تزيد على عشرين مليون دينار.

بحسب الخياط، فأن الغرامة لا تقف عند هذا الحد، بل يجب ان تتضاعف العقوبة في كل مرة يتكرر فيها ارتكاب المخالفة من قبل الجهة المعنية. 

قال محمد الربيعي إن “الخطة القديمة لم تشمل قص الأشجار، بل على العكس، هدفت إلى الاهتمام بها وزراعة أشجار إضافية، فضلا عن استبدال الانارة بأخرى جديدة وأكثر إضاءة”. 

قال محمد الصوفي، المُعمار الذي يُراقب ويكتب عن التغيّرات التي تحصل في المدينة، إن “قطيعة الدوائر البلدية مع السكان في عمليات تطوير المدن ستعزز من التخوين والاتهامات التي ستبقى تطال أي جهة حكومية أو غير حكومية مهما كانت مبادرتها مدروسة أو تحمل نوايا حسنة”.

أضاف “من دون التعريف (بالمشاريع) ومشاركة المجتمع، فإن كل سياج صلب او شفل او منشار هو في نظر الناس اداة تعذيب تنتهك جسد المدينة”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

على مدار أربعين عاماً سقى محمد الشجرة التي تنهض عند باب محله في شارع الكرادة داخل وسط بغداد، لكن منشار البلدية الكهربائي ذبح الشجرة في شباط الماضي أمام عينيه. 

“قتلوا ذكرياتنا وشوهوا وجه المدينة التي نحب”. قال، وكانت ملامح الغضب والحزن تتخاطف وجهه.

على بعد أمتار من محله، تعمل آليات وعمّال شركة خاصة تقول بلدية الكرادة إنها تقوم بـ”تطوير شارع الكرادة داخل”، بإشراف من أمانة بغداد، الدائرة المسؤولة عن بلديات العاصمة.

قال مسؤولان، أحدهم في أمانة العاصمة والآخر في بلدية الكرادة، إن الحملة جاءت بتوجيه مُباشر من مكتب رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، وهي تهدف إلى تقليل الاختناق المروري في بغداد.

تندرج هذه الأعمال ضمن أكثر من 50 مشروعاً توسعياً للشوارع في جانبي الكرخ والرصافة، والتي تعني في غالبها أن الآليات ستقضم من الأرصفة لصالح توسعة الشوارع أمام السيارات.

ماذا سيحدث في الكرادة؟

تهدف الحملة في شارع الكرادة داخل إلى قصّ مساحة مترين من الرصيفين العريضين اللذين عرف بهما جانبا الشارع، وقطع أكثر من ٣٠٠ شجرة يقارب عمر بعضها ٦٠ عاماً، وإعادة أعمدة الكهرباء لنحو متر ونصف إلى الخلف، وتغيير أحجار الأرصفة.

أثارت الأعمال التي تقوم بها الشركة الخاصة -رفض المسؤولون الإشارة إلى اسمها- غضب سكّان المنطقة ومرتاديها، وأُطلقت عدّة هاشتاغات على مواقع التواصل الاجتماعي لإيقاف العمل بالمشروع.

بدا المسؤول في أمانة بغداد غير راضٍ عن الخطة، “رغم معارضة المشروع من بعض ملاكات أمانة بغداد المتقدمة، لكن المخطط بدأ العمل به (..) رفض المشروع لأنه يقطع الأشجار في وقت نشجع على زراعتها”.

بالمقابل، دافع سمير العطواني، مدير بلدية الكرادة، عن الأعمال، “ما نقوم به هدفه تطويري بحت”. 

“عملية التطوير ستبدأ من ساحة كهرمانة وصولاً الى نفق الجسر المعلق حيث سيتم توسعة الشارع من أجل تشييد جزرة وسطية”. 

تحولات الكرادة داخل

يوازي شارع الكرادة داخل شارع أبي نؤاس، ولا يبعد عن نهر دجلة إلا بضع مئات الأمتار.

يمتدّ الشارع من مدخل الكرادة عند ساحة كهرمانة وينتهي في الجادرية، وتتفرع من جانبيه أزقة قديمة تشكل طُرقاً فرعية تقسم الحي بشكل منظم.

خلال العقد الأخير، تحوّل شارع الكرادة داخل إلى مركز رئيسي، تجاري وثقافي، في جانب الرصافة من بغداد. فالشارع المُزدحم مُراد من يبحث عن تسوّق الخضراوات والألبسة والأحذية والذهب، كما أنه مسار لمن يود قضاء الوقت مشياً والتبضّع من البسطات، أو ملاذ للجائعين والباحثين عن مطاعم يستطيع متوسطو الدخل تحمّل تكاليف وجباتها، كما أن مقاهيه ملتقى مركزي لتجمع المثقفين والفنانين. 

نتيجة لحيويتها، شهدت الكرادة هجمات دموية، وكان شارع الكرادة داخل بالتحديد واحداً من أكثر الشوارع الذي استهدف بالتفجيرات، من خلال عبوات متفجّرة وسيارات مُفخخة.

في تموز عام 2016، وقبل ثلاثة أيام من عيد الفطر، فجر انتحاري سيارة مفخخة أمام مجمعين تجاريين للألبسة والعطور، ما أسفر عن مقتل 323 شخصاً. 

عائلات كاملة سقطت، ولم يبق منها سوى فرد أو اثنين، لكن حتّى من نجا كان يُعاود العمل مجدداً في المحال أو البسطات التي عمل فيها آباؤهم قبلهم أو التسوق في شوارعها.

لطالما دبت الحياة في الكرادة، مهما بُث فيها من خوف ومهما شهدت من مآسٍ.

تطوير الكرادة

بعد التفجير الذي صُنف الأكبر في العراق، جرى نقاش واسع عن ضرورة إغلاق شارع الكرادة داخل أمام السيارات، وتطويره ليكون مساحة للمشي والتبضّع.

وبالفعل، ناقشت أمانة بغداد تحويل الشارع للمشاة فقط ونصب “ترام” من أوّل الشارع وحتّى آخره.

بعد عام من ذلك، في تشرين الأول عام 2017، جلست ذكرى علوش، الأمين الأسبق لبغداد، مع مجلس الكرادة البلدي، وأعضاء مجلس محافظة بغداد ومجموعة من الوجهاء الممثلين عن المنطقة لتعرض عليهم خطة تطوير الكرادة داخل.

بحسب بيان أمانة بغداد آنذاك، فإن المؤسسة المسؤولة عن الحفاظ على هويّة العاصمة، أعدّت تصاميم مميزة تهدف إلى نصب 209 أعمدة كهرباء وانشاء 250 شتلة زراعية بشكل دائري ومد كابل ضوئي ورصف الارصفة بحجر البازلت، إلى جانب تأثيث الشارع بالعلامات المرورية.

المخطط الذي أُعد لتطوير الكرادة عام ٢٠١٦، وجرى إهماله.

تضمّنت التصاميم أيضاً إنشاء ممرات لفاقدي البصر ومواقف خاصة للمعاقين، مع إعداد تصاميم خاصة لمواقف السيارات، ونصب فوهات حريق بمواصفات عالمية. كما شملت معالجة تَخسُّفيْن، مع تنفيذ خط طوارئ وانشاء محطة لتصريف مياه الأمطار، إلى جانب إكساء مساحة 14 ألف متر مربع من مساحة الشوارع وبعض الأزقة المتضررة.

“كان المخطط يشبه إلى حد ما منطقة تقسيم وسط اسطنبول التركية حيث يتوسط (ترام) شارع الكرادة داخل ويكون العمل به من السادسة مساء حتى السادسة صباحاً، وباقي ساعات النهار يكون مفتوحا للباصات الكبيرة وسيارات الموظفين (..) مرآب القطار صُمم ايضاً ليكون في ساحة كهرمانة خلف محال الزهور”، بحسب محمد الربيعي، مدير علاقات أمانة بغداد الحالي، وعضو مجلس المحافظة حينها.

آنذاك، لم يطلع أحد من السكّان على المُخطط، لكنه لم يحظ باعتراض طالما أنه يُحافظ على الشكل الحضري، ويعيد ترتيب الشارع على هوى الناس وحاجتهم.

خصّصت 5 مليارات دينار لتنفيذ عمليات التطوير، وبعد الوصول الى المراحل النهائية لتطبيق المشروع، أوقف وأعيدت أمواله بسبب خطّة التقشف التي اتبعتها حكومة حيدر العبادي، رئيس الوزراء الأسبق.

همد المشروع، ولم يأت أحد على سيرته لأعوام، حتى أعاد علاء معن، أمين بغداد الأسبق، الحديث في تشرين الأول عام ٢٠٢١ عن إغلاق الشارع أمام السيارات ووضع خط “ترام” لتنقّل المارة.

لكن المشروع، مرة أخرى، بقي بياناً عائماً في وسائل الإعلام، ولم ينفذ على الأرض مُطلقاً.

لم تتضمن خطط عمليات التطوير قطع الأشجار، أو اقتطاع الأرصفة، بطريقة تُعيق المارة عن المشي. وابتكر حلاً في إيجاد فتحات على الأرصفة لتصبح مواقف للسيارات.

لم تكن خطة مثالية، لكنها ليست أيضاً خطة متطرفة تجاه المدينة والمناخ.

المخطط الذي أُعد لتطوير الكرادة وجرى إهماله

ذكريات مع الأشجار

اليوم، بينما تعمل الآليات في الشارع التجاري المُزدحم بالسكان في ساعات المساء، يعد روّاد الشارع على أصابعهم الأشجار التي تسقط بأسنان المناشير الكهربائية والفؤوس.

تعيق الأشجار، وفق العطواني، عمليات “تطوير” شارع الكرادة داخل، ولذلك تقوم المناشير ببترها من الأطراف.

“قمنا برفعها وسيتم تعويضها بالرصيف الجديد ولكن في الجزرة الوسطية المقرر تشييدها.. ستكون الاشجار متواجدة أيضاً على طول الطريق من كهرمانة وحتى الجسر المعلق إضافة الى وضع أعمدة الانارة كذلك حيث سيتم تجريد الشارع” من الأعمدة القديمة.

قطعت أمانة بغداد حتّى الآن نحو 12 شجرة عامرة وبكامل صحتها، وقد تأتي المناشير على 300 شجرة أخرى وتطيح بها.

كان محمد، البالغ من العمر ستين عاماً اليوم، قد بدأ العمل مع والده في الكرادة داخل قبل أربعين عاماً، ومنذ الأيام الأولى كان سقي الشجرة جزءاً من يومياته.

لم ينس سقيها طوال كل تلك السنين، حتى قبل قطع الشجرة بأيام قليلة.

“كانت تخفف من أشعة الشمس التي تخترق حتى الجدران الكونكريتية”. 

“كنا نجلس بقربها في فترات الاستراحة لتناول الشاي أو وجبة الغداء، لكن على ما يبدو أن الأشياء الجميلة غير مقدر لها ان تبقى في العراق”، قال.

عمليات قطع الأشجار في الكرادة داخل

لم يقض ياسر المتنبي ربع المُدة التي قضاها محمد في الكرادة، إذ افتتح مقهى “كهوة وكتاب” عام 2016، وتحوّل إلى مُلتقى للكتاب والأدباء، ومساحة عمل لبعض الصحفيين للكتابة في النهار.

رغم ذلك، كوّن ياسر علاقة بالشجرة المقابلة لـ”كهوة وكتاب” الذي يبيع فيه الكتب ويُقيم فيه أماسي ثقافية. 

“كنت أجلس تحت أشعة شمس الشتاء الدافئة وحيداً، متمماً جميع مهامي اليومية، سواء في إكمال دراستي الاكاديمية أو التخطيط لإنجاح مشروعي الخاص”. 

الجلوس على كرسي أحد مقاهي الكرادة على ناصية الرصيف لم يعد ممكناً، لأن الشارع لم يعد يتسع لطاولات وكراسٍ، وقد تبلّغ بعض أصحاب المقاهي رسمياً بمنع استغلال الرصيف لغرض تجاري.

ياسر كان واحداً من هؤلاء.

يُحاول ياسر تجنب الحديث عن الآثار المالية للأعمال التي تقوم بها بلدية الكرادة، لكنه يخشى من تحوّل نمط العيش في الشارع.

السيارات أَوْلَى بالمدينة من البشر!

في برنامجه الحكومي، وضع محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، هدفاً للحدّ من الزحامات المرورية في العاصمة، لكن يبدو أن الخطط ستمنح المناطق الحضرية في العاصمة للسيارات، وتسحب الأرصفة من تحت أقدام المارة. 

تواصل “جمّار” مع أربعة مستشارين للسوداني، لم يرد اثنان منهم على الاتصالات والرسائل، فيما رفض اثنان آخران التحدّث عن الموضوع أو التعليق عليه.

“التوسعة ستسمح للمركبات بالوقوف على جنبات الطريق من قبل شرطة المرور على عكس ما يحدث حالياً”، قال العطواني.

تنتقد زينب الجبوري، وهي معمارية من منطقة الكرادة، الأعمال الجارية في شارع الكرادة.

“منطقة الكرادة داخل معروف عنها كثرة سيارات النقل الجماعية إضافة إلى سيارات الأجرة، وهذا سيزيد من كمية الزحامات”.

لم يسأل أحد السكان!

عدّ محمد الصوفي، وهو معمار ممارس وباحث في العمارة، أن “ما يحدث مُزعج ومُدمِّر”.

قال الصوفي، الذي عاد إلى بغداد من إيطاليا بعد أن أنهى دراسة العمارة في مدينة ميلانو، “يجب إشراك السكان في التصميم الحضري” لمناطقهم لأنهم من يعيشون فيها.

بيد أن ما حصل في الكرادة داخل كان العكس.

تحدّث “جمّار” إلى عاملين في الشارع وبعض وجاهات المنطقة المعروفين عن الأعمال التي تجري، ونفوا جميعهم أن يكونوا قد اطلعهم أحد من البلدية أو أمانة بغداد أو من مجلس الوزراء على نتائج الأعمال التي تجري حالياً في شارعهم.

الحال هذه، لم تُطرح أي رؤية للتصميم الحضري بشأن شارع الكرادة داخل، ولم ير السكّان التخطيطات أو نماذج 3D لما سيكون عليه الشارع في المستقبل، ولا يعرف أحد حتّى الشركة المنفذة لهذه الأعمال.

يرى الصوفي بأن “هذا تقصير كبير” من أمانة بغداد.

مخالفات قانونية

تُخالف الأعمال التي تقوم بها أمانة بغداد قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009، إذ لا يجوز قطع الاشجار المعمرة في المناطق العامة داخل المدن إلا بإذن من رئيس مجلس حماية وتحسين البيئة في المحافظة، بحسب المُحامي حيان الخياط.

“يقصد القانون بالأشجار المعمرة تلك التي يصل عمرها 30 عاماً فأكثر”.

تحدّث “جمّار” إلى شاكر أحمد حاج، مدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في منطقة الوسط، وهو المسؤول عن منح الموافقات بشأن قص الأشجار من عدمها.

لم يكن حاج على معرفة بعمليات قطع الأشجار في الكرادة على الرغم من الضجّة التي أثيرت حولها. 

قال إنه سيراقب الموضوع، فيما شدد “لا نوافق على أي قطع للأشجار بالمطلق”.

يسعى المُخطط الجديد في شارع الكرادة داخل إلى سحب الأرصفة من تحت أقدام المارّة ووضعها تحت إطارات السيارات، فالحملة القائمة الآن في الشارع تهدف إلى قصّ مساحة مترين من الرصيفين العريضين اللذين عرف بهما جانبا شارع الكرادة داخل، وقطع أكثر من ٣٠٠ شجرة يقارب عُمُر بعضها ٦٠ عاماً، وتغيير أحجار الأرصفة.. القصة الكاملة لأخذ الكرادة من المارّة ومنحها للسيارات...
إحدى الأشجار بعد أن قطعها منشار الشركة المنفذة لعمليات تغيير الشارع

وفق القانون، فان العقوبة على أمانة بغداد والشركة المنفذة هي غرامة لا تقل عن مليون دينار، ولا تزيد على عشرين مليون دينار.

بحسب الخياط، فأن الغرامة لا تقف عند هذا الحد، بل يجب ان تتضاعف العقوبة في كل مرة يتكرر فيها ارتكاب المخالفة من قبل الجهة المعنية. 

قال محمد الربيعي إن “الخطة القديمة لم تشمل قص الأشجار، بل على العكس، هدفت إلى الاهتمام بها وزراعة أشجار إضافية، فضلا عن استبدال الانارة بأخرى جديدة وأكثر إضاءة”. 

قال محمد الصوفي، المُعمار الذي يُراقب ويكتب عن التغيّرات التي تحصل في المدينة، إن “قطيعة الدوائر البلدية مع السكان في عمليات تطوير المدن ستعزز من التخوين والاتهامات التي ستبقى تطال أي جهة حكومية أو غير حكومية مهما كانت مبادرتها مدروسة أو تحمل نوايا حسنة”.

أضاف “من دون التعريف (بالمشاريع) ومشاركة المجتمع، فإن كل سياج صلب او شفل او منشار هو في نظر الناس اداة تعذيب تنتهك جسد المدينة”.