"فاشينستا" القاموس العراقي: كراهية مركّبة

و

24 شباط 2023

ظاهرة المحتوى السطحيّ الفارغ وتأثيرها على الشباب تتفاقم كلما كانت المنظومة السياسية والاجتماعية والتعليمية متدهورة وينخرها الفساد. فالمحتوى الرديء أو التافه أو الرث هو انعكاسٌ لهشاشة وضعف البنى التحتية وترتفع معدلاته مع غياب المؤسسات الرصينة وتسيُّد القيم القبلية والأيديولوجيات الدينية على حساب العلم والمعرفة والوعي والمدنية.. لكن لماذا تُستهدف النساء بشكل خاص؟

شهدت الأسابيع الماضية حملة من الاعتقالات والأحكام الصادرة بحق عددٍ من مستخدمي ومستخدمات مواقع السوشيال ميديا بذريعة إنتاج “محتوى هابط” يسيء للذوق العام، بعد قرار وزارة الداخلية العراقية إطلاق منصة أو خدمة “بلغ” الالكترونية في 10 كانون الثاني لغرض التبليغ عن أي محتوى “هابط” و”خادش للحياء”، من دون وجود تعريف محدّد وواضح لهذه المفردات والعبارات العامة والمطاطة. فكيف وصلنا إلى هنا وما هي القصة وما تداعياتها؟

خليجي 25 والهجمة ضد ما يُسمى بـ”الفاشينستات”

مع انطلاق بطولة خليجي 25 في محافظة البصرة وحفل الافتتاح الذي جرى في 6 كانون الثاني، فوجئ العراقيون بمقاطع فيديو انتشرت على مواقع السوشيال ميديا المختلفة تُظهر مجموعة من السيدات، ممّن يُطلقن على أنفسهن ألقاباً مختلفة مثل إعلامية أو فنانة شاملة أو راقصة، واللواتي كنّ اكتسبن شهرة من خلال السوشيال ميديا، تُظهر الفيديوهات جلوسهن في مواقع الـVIP أو المقاعد المخصصة للشخصيات السياسية والرياضية والمهمة في ملعب جذع النخلة في محافظة البصرة. وكان الإعلامي الساخر أحمد البشير قد عرض في إحدى حلقات برنامجه مجموعة من تلك الفيديوهات التي نشرتها هؤلاء النسوة على صفحاتهن، مُظهراً كيفية خرقهن للقانون بأريحية بالغة وبدعم من المسؤولين. فكان أمراً متوقعاً أن تكون ردود فعل العراقيين على السوشيال ميديا غاضبة وحانقة على هؤلاء “المشهورات”، في وقتٍ عانت عامة الناس من صعوبة الدخول الى الملعب من جراء ضعف التنظيم بصورة عامة، إذ تعرض كثرٌ إلى الإذلال والنصب والاحتيال من خلال البطاقات المزورة، وأسفر سوء تنظيم دخول الجماهير المكتظة عن كارثة تسببت بوفاة مشجعين في المباراة النهائية للبطولة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُثار فيها قضية علاقة بعض مشهورات السوشيال ميديا بالضباط أو أصحاب الرتب العسكرية في القوى الأمنية أو الميليشياوية، إذ انطلقت في أيلول الماضي حملة الكترونية تحت وسم “#محاسبة همسة وضباطها الخمسة” في إشارة إلى همسة ماجد، التي تطلق على نفسها صفة “الإعلامية”، بعد ظهورها بفيديو مسرّب بعد اتهامات بتورطها بحبس فتاتين في مطعم وتهديدهما بأن بإمكانها استدعاء ميلشيات لدعمها، وذلك بزعم أن الفتيات صورنها وهي تتحدث عن وجود “نحو 5 آلاف طبيب في العراق حاصلون على شهادات من الخارج، لكنها غير مصدقة”، علماً بأنها  تدير مركزاً للتجميل. 

وخلافاً لحالة همسة ماجد، حيث طالب جمهور مواقع التواصل بمحاسبتها ومحاسبة أصحاب النفوذ الذين تحتمي بهم، فإن سخط العراقيين أثناء وبعد بطولة خليجي 25 توجه بشكلٍ رئيسي ضد فئة المشهورات فحسب، أو “الفاشينستات”، حسب القاموس العراقي الاجتماعي. 

فاشينستا القاموس العراقي

ظاهرة مشاهير السوشيال ميديا والمؤثرين والمؤثرات والمحتوى السطحي الذي ينتجه الكثير منهم هي ظاهرة عالمية لا تقتصر على العراق فقط، فهي واحدة من إفرازات النظام العالمي النيوبرالي والثقافة الإستهلاكية ووسائل الإتصال الرقمية الحديثة. وتهتم الكثير من الدراسات والأبحاث الحديثة في نقدها وتحليل أبعادها، خصوصاً تأثيراتها السلبية على فئة المراهقين والأطفال، من خلال الواقع الموازي الذي تخلقه صفحاتهم وهو عبارة عن حياة مترفة وباذخة تكاد لا تمت بصلة للحياة الواقعية لكثيرٍ من الناس، بالإضافة الى التأثير الناتج عن ترويجهم وتسويقهم لمنتجات استهلاكية تساهم في ارتفاع أسعارها على نحوٍ غير منطقي أو عقلاني.

لكن هذه الظاهرة والمحتوى السطحي الفارغ لكثيرٍ من مؤثريها الشباب تتفاقم كلما كانت المنظومة السياسية والاجتماعية والتعليمية متدهورة ينخرها الفساد. فالمحتوى الرديء أو التافه أو الرث هو انعكاس لهشاشة وضعف البنى التحتية وترتفع معدلاته مع غياب المؤسسات الرصينة وتسيد القيم القبلية والأيديولوجيات الدينية على حساب العلم والمعرفة والوعي والمدنية. أي انه نتاج طبيعي لوضعٍ هيكلي يتسم بالعبثية والفوضوية والتجهيل المتعمد، كما الحال في العراق.

بالإضافة لكل ذلك، أصبحت لهذه الظاهرة أبعادٌ أخرى في السياق العراقي الشائك والمعقد. فالعلاقات التي تتسم باستغلال الطرف الآخر الأضعف أو تلك التخادمية المستندة على المصلحة والمنفعة المتبادلة ودوائر المنتفعين التابعة لها، هي أنماط علاقات أفرزتها منظومة الفساد والواسطة والمحسوبية بإدارة أحزاب وفصائل مختلفة متنفذة. حدّ أنه ومن دون العلاقات التخادمية قد تصبح إدارة أمور الحياة اليومية للفرد العراقي مهمة صعبة، بل ربما مستحيلة ضمن هذه المنظومة! 

هذا الأمر ينطبق على الواقع الافتراضي وفئة من مشاهيره، فبالنهاية لا ينفصل ذلك العالم عن الواقع الحقيقي، بل هو امتداد له. لكن ما حصل مع من بات يُطلق عليها “الفاشينستا” تجاوز نطاق نقد الظاهرة نفسها وتعدى مجرد كونه رفضاً لها بغية التصحيح ومحاسبة المتسبب الأول. تبعاً لذلك، صاحب الحملات الالكترونية المطالبة بإلغاء متابعة الفاشينستات ومحتواهن -الذي قد لا يتفق كثر معه- خطاب تحريضي يستهدفهن من دون المطالبة بمحاسبة من منحهن القوة والنفوذ. هذا ما حدا ببعض الناشطيين الحقوقيين والإعلاميين لإطلاق تحذيراتٍ تخشى من أن يتحول الغضب الشعبي ضد ما يُسمى بالفاشينستات إلى حملة للتحريض عليهن وعلى أخريات مشهورات ممن لسن على صلة برجالات الدولة، وإلى ممارسة العنف ضدهن. كما أن رد الفعل الغاضب والعارم من المجتمع يثير أسئلة مشروعة حول ما إذا كانت تحمل مثل هذه الحملات بين طياتها مشكلة أعمق تتعلق بكراهية النساء، كما علقت إحدى الناشطات.

ومن الجدير ذكره أن أياً من المعنيات لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمفهوم “الفاشينستا” ولا يُعرفن أنفسهن بها. فالمصطلح أسيء استخدامه وتوظيفه في السياق العراقي، بل يكاد أن يكون وصمة تلاحق أي امرأة تستخدم مواقع التواصل لأغراض متعلقة بالأزياء والموضة، تُذكّر بالوصمة التي لاحقت ولاتزال راقصات فن الرقص الشرقي. 

ظهرت مفردة فاشينستا للمرة الأولى عام 1993 في كتاب من تأليف ستيفن فرايد بعنوان “شيء من الجمال: مأساة عارضة الأزياء جيا كارانجي”، والتي كانت واحدة من أشهر عارضات الازياء في فترة السبعينيات والثمانينيات. استخدم فرايد المفردة حتى يشير لأي شخص، سواء رجل أو امرأة، يعمل في مجال صناعة الازياء، ولكنه ندم بعد عشرين عاماً على اختراع تلك المفردة بسبب تغيّر دلالاتها عبر الزمن. فمع ظهور منصات التواصل الاجتماعي وشيوع ظاهرة مشاهيرها، أصبحت تستخدم اليوم في السياق الغربي بشكل ساخر أحياناً من الضحايا المهووسين بالموضة، على الرغم من أنها ما زالت تحتفظ بالدلالات الأولى بدرجة أو بأخرى.

أما في العراق، فقد اتخذت المفردة معانيَ مختلفة  تجلت في  فيديو بعنوان “الفاشل نيستا”، انتشر مثل النار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي ووقعت في فخه بعض الصفحات المعنية بحقوق الإنسان والمرأة، يُعرف فيه المصطلح على أنه يشير لـ”رؤوس من غير ثقافة وأجساد من غير قيافة”، وغيرها من التسميات التي تخلص إلى أن “الفاشل نيستات”، لا الأحزاب والقيادات الرجالية التي حكمت بعد عام 2003، هن “أولى المسيئات” إلى العراق. يكشف رد الفعل الجمعي عن بُعدٍ جندري يتعلق بالهوية الاجتماعية للمشهورات أعلاه اتخذته الحملة ضدهن والخطاب المرافق لها، كونهن نساء ولسن “فاشنيستات” فقط. وبالتالي أصبح استهجان تصرفاتهن وسلوكهن مضاعفاً ومركباً.

يكشف لنا الهوس بمتابعة صفحات مجموعة من”مشهورات” لم يكن ليكتبسن تلك الشهرة لولا أن شرائح المجتمع التي تهاجمهن اليوم، وتتخذهن شماعة تعلق عليها تفاصيل بؤسها اليومي هي ذاتها التي تتابعها بالآلاف والملايين، عن شكلٍ مثير من أشكال كراهية النساء. ففي الوقت الذي تُقيد فيه حياة وحريات النساء بدعوى الشرف والعفة والأخلاق، يتابع ويصفق كثر لمن تخالف تلك الصورة، بيد أنه يتم استسهال الخطاب التحريضي ضدهن في الوقت ذاته، لأنهن من وجهة نظر المحرض يستحققن هذا الخطاب التأنيبي والمعنف كنوع من العقوبة المجتمعية بعد أن فقد المجتمع السيطرة عليهن، حتى وإن عرّض حياتهن للخطر كما حصل في حالة تارا فارس، فتلك ليست بالمشكلة الكبيرة لأن حياة هؤلاء النسوة ليست ذات قيمة.  

أرضية خصبة لشرعنة محاسبة “المحتوى الهابط”

خدم المزاج الشعبي العام المناهض لظاهرة “الفاشينستات” السلطات، التي وجدت فيه شرعية شعبية كافية لإطلاق حملتها ضد ما أسمته بالـ”المحتوى الهابط”، حيث استندت على لغة مشابهة وردت  في المادة 403 من قانون العقوبات العراقي للعام 1969 التي تنص على معاقبة من يصنع أو يصدر مواداً “مخلة بالحياء والآداب العامة”. فكان الإشكال الرئيسي يقع في كون لغة القانون فضفاضة لدرجة أن تحديد الحد ما بين حرية التعبير والمحتوى الذي يعرض سلامة الاخرين للخطر على أساس الدين أو العرق أو الجنس هو عمومي ومبهم، مثل “المحتوى الهابط” و”الذوق العام” أو “الآداب العامة”؛ وهي العبارات المطاطة نفسها الموجودة في القوانين التمييزية ضد المرأة، في وقتٍ تتعرض النساء في العراق بشكل يومي ومنهجي الى ممارساتٍ شتى تهدّد حياتهن أو حرياتهن الشخصية سواءً على أرض الواقع أو في العالم الافتراضي.

ومن المعروف أن المفردات التي تستدعي السرديات الأخلاقية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالنساء ولذا فهي كفيلة في اللعب على الوتر الحساس للمجتمعات المتشرّبة بالقيم والعادات والأعراف المسيئة للمرأة. والتاريخ يروي لنا أمثلة مشابهة تقبض فيها السلطات والأنظمة الحاكمة على الحريات باستخدام النساء كأداة ناجعة لتحقيق هذا الغرض. ففي حقبة السبعينات على سبيل المثال، أمر وزير الداخلية العراقي آنذاك، صالح مهدي عماش، بمنع ارتداء التنانير القصيرة “الميني جوب” وأمر بصبغ سيقان النساء اللواتي يرتدينها، ولكن أُلغي ذلك القرار بفضل ضغط النخبة الثقافية وقتها. وتكررت أمثلة مشابهة على مدى العقود اللاحقة سواءً في العراق أو في دول أخرى. ففي السياق العراقي، نستحضر الحملة الإيمانية في حقبة التسعينيات وتوظيفها للدين والحجاب لمواجهة الواقع الجديد الذي فرضته العقوبات الاقتصادية. 

وبالعودة لحملة “بلّغ” التي ساندتها أحكام القضاء العراقي الأخيرة بحق بعض “مشاهير” السوشيال ميدياـ ومن ثم نقابة المحامين الممثلة بنقيبتها أحلام اللامي في كتبٍ صادرة عنها، تحث على التبليغ لا على “المحتوى الهابط” فحسب، بل على كل من يسيء لمؤسسات الدولة، فيبدو أن تهمة “المحتوى الهابط” باتت تشمل كل شيء يتعلق بالمرأة والذي هو محط انتقاد لأي امرأة في العراق سواء كانت معروفة أم لا. وهذا يُفسر حكم الحبس لسنتين الصادر من محكمة جنح الكرخ/ بغداد بحق الموديل عسل حسام، والجريمة ملابسها! 

كما تحدّثت أخريات عن تعليقاتٍ مسيئة وُجهت لهن، مهدّدة وملوحة بالتبليغ بذريعة “المحتوى الهابط”، رغم أن حساباتهن بعيدة عن هذا الوصف، على حد تعبيرهن. فمثلاً، تذكر ديانا لنا، وهي صاحبة حسابات على تك توك وتويتر وهي معنية بالترويج لمتجرها الخاص بالألعاب الإلكترونية والانيميشن، بالإضافة لنشر مقاطع “توعوية” و”تثقيفية”، أنها تتلقى تهديدات كثيرة، وأن هذه المشكلة تسبق هذه الحملة والقانون الجديد، فلطالما تعرضت لرسائل محرضة أو مسيئة فقط بسبب كونها فتاة تستخدم مواقع التواصل باسمها وصورتها المخالفة لما يريده المجتمع.

وعلى الجانب الإعلامي والشعبي، فحملة “بلغ” الإلكترونية لاقت ترحيباً خصوصاً في الأيام الأولى بعد إطلاقها، فمثلاً نشرت شبكة “شاكو ماكو” مقالاً مسانداً للحملة بعنوان “القضاء العراقي بقيادة زيدان يعيد البلد الى صوابه”. وكما في القانون، فإن ردود الفعل إعلامياً وشعبياً كان وقعها أكبر على المتهمات في صناعة “المحتوى الهابط”، فشُنت محاكمات علنية وأخلاقية ضدهن، كما حصل مع “وردة العراقية” وهي تدافع عن نفسها أمام صراخ واتهامات المذيع قحطان عدنان. وغالباً ما يتعامل الإعلام العراقي مع الفنانات أو الإعلاميات باستخدام خطاب ديني على شاكلة الأسئلة التالية: “هل تُصلّين؟” “متى ترتدين الحجاب؟” “كيف تُصلّين وأنت تعملين مطربة في النوادي الليلية؟”.. الخ.

 في الوقت ذاته، ضجت صفحات شعبية بمنشورات تثني فيها على أصحاب المحتوى “الجيد” وتقارنهم مع أصحاب المحتوى “السيئ”، وكأن الموضوع عبارة عن منافسة وحصد ألقاب. والمفارقة أن بعضاً ممن تم الثناء على محتواه، كأمثال الخطباء الدينيين، متورطون في خطابات تحريضية ضد المرأة لمجرد سيرها في الشارع! فالمرأة هي المركز لو كانت المتهمة في إنتاج هكذا محتوى، ولكنها تظل الهامش إذا كانت من ضحاياه، إذ لا يجد كثر إشكالاً في هذا الخطاب الديني التمييزي ولا يرون فيه محتوى هابطاً بل صاعداً. 

وتدلل هذه المقارنات على خطورة إشراك المواطنين في فرض الوصاية على الآخرين والتبليغ عنهم، إذ ما هي إلا شكل من أشكال سياسة “فرق تسد” وإثارة للفتنة من خلال فتح الباب للمكائد والثارات الشخصية. فيصبح فعل التبليغ الكترونياً شبيهاً بكتابة التقارير الحزبية الكيدية ضد الاخرين إبان فترة حكم النظام البعثي، بل قد لا يقل هذا الأسلوب خطراً إذا ما استمر عن خطر الفتنة الطائفية. فسياسة الفرقة مكنت وتمكن أصحاب القوة والنفوذ من السيطرة على الآخرين عن طريق إضعافهم وتشتيتهم ومعاداتهم بعضاً لبعض. وبوادر هذه الفتنة تتجلى اليوم في التسابق في الظفر على لقب صانع المحتوى المهم على حساب أقرانه ممن زُج بهم في السجون من دون تهمٍ حقيقية، والفرح والتشفي لمصيرهم وبانشغال الناس بالمحتوى الالكتروني أكثر بكثير من انشغالهم بالواقع المزري الذي تسبب في انتشاره.

وهذه الوصاية الالكترونية تُقوي وتعزز من الوصاية الذكورية على المرأة، فيسهل تخويفها وقمعها وتتضاعف أشكال ذلك القمع. فالبيئة الالكترونية، كما نظيرتها الواقعية، تظل غير آمنة للنساء، إذ يتعرضن لأنواعٍ مختلفة من التعنيف الالكتروني كالابتزاز والتحرش والتنمر والتشهير والتهديد وغيرها. 

وبدل أن تفكر السلطات في خلق بيئة أكثر أمناً للمرأة العراقية، تمعن في استخدامها للتضييق عليها أكثر ولتأليب المجتمع ضدها، بدقها “ناقوس خطر” بدعوى الدفاع عن المجتمع وقيمه، كما تشير بنود عديدة من مسودة لائحة تنظيم المحتوى الالكتروني الصادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات. تُكرس بعض فقرات اللائحة لنظرة دونية متأصلة ضد المرأة وتعاملها معاملة الوصي عليها وهي تصفها بأنها “فئة خاصة” كفئتي “الأطفال والشباب”، وتدعو الى “حمايتها” عن طريق “حظر” أي محتوى يخدش الحياء أو ينتهك “القيم الوطنية والدينية والأخلاقية للأسرة العراقية”.

 إلى جانب ذلك، ثمة نبرة تمييزية واضحة بين المرأة المحجبة وغير المحجبة، فتركز إحدى مواد اللائحة على حماية خصوصية الأولى، وكأنها تقول ضمناً إن بمجرد خلع الفتاة حجابها على مواقع التواصل، فإنها أصبحت مشاعاً للجميع. وبفضل هذه العبارات الفضفاضة قد تُصبح ضحية التحرش متهمة إذا ما تم اعتبار نشرها للفيديو التوثيقي لفضح المتحرش تشهيراً، بحسب هذه اللائحة.

هل كنا لنتعاطف مع سكيبة لو كان امرأة؟

في استثناءٍ خاص، حاز المواطن عبود سكيبة، والذي تنتشر له مقاطع يغني فيها باللكنة الإنجليزية عن طريق حسابات وسيطة من دون أن يكون له حساب شخصي خاص به، على تعاطفٍ جمعي كبير بعد أن تم اعتقاله، مما خلق حملة مضادة للوقوف معه ودعمه عن طريق هاشتاك #الحرية_لعبود سكيبة وإطلاق سراحه لاحقاً، ومما ساهم في انقسام الرأي العام حول قانون “المحتوى الهابط” وجدواه. ولكن ماذا لو كان سكيبة امرأة؟ هل كانت لتحظى بالقدر من التعاطف اللامشروط والمحبة العارمة نفسها؟ أم للتعاطف مع المرأة شروط ومعايير أخرى؟ هل تُميز “التفاهة” على أساس الجنس البيولوجي أيضاً؟ نحتاج أن نكون صريحين مع أنفسنا في الإجابة لأن فيها مفتاح فهم جذور علتنا. فلا تُكرس الديكتاتوريات أو الثيوقراطيات إلا بقمع المرأة أولاً والتمييز ضدها.. وحينها ومن خلالها تسهل السيطرة على المجتمع بأسره.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

شهدت الأسابيع الماضية حملة من الاعتقالات والأحكام الصادرة بحق عددٍ من مستخدمي ومستخدمات مواقع السوشيال ميديا بذريعة إنتاج “محتوى هابط” يسيء للذوق العام، بعد قرار وزارة الداخلية العراقية إطلاق منصة أو خدمة “بلغ” الالكترونية في 10 كانون الثاني لغرض التبليغ عن أي محتوى “هابط” و”خادش للحياء”، من دون وجود تعريف محدّد وواضح لهذه المفردات والعبارات العامة والمطاطة. فكيف وصلنا إلى هنا وما هي القصة وما تداعياتها؟

خليجي 25 والهجمة ضد ما يُسمى بـ”الفاشينستات”

مع انطلاق بطولة خليجي 25 في محافظة البصرة وحفل الافتتاح الذي جرى في 6 كانون الثاني، فوجئ العراقيون بمقاطع فيديو انتشرت على مواقع السوشيال ميديا المختلفة تُظهر مجموعة من السيدات، ممّن يُطلقن على أنفسهن ألقاباً مختلفة مثل إعلامية أو فنانة شاملة أو راقصة، واللواتي كنّ اكتسبن شهرة من خلال السوشيال ميديا، تُظهر الفيديوهات جلوسهن في مواقع الـVIP أو المقاعد المخصصة للشخصيات السياسية والرياضية والمهمة في ملعب جذع النخلة في محافظة البصرة. وكان الإعلامي الساخر أحمد البشير قد عرض في إحدى حلقات برنامجه مجموعة من تلك الفيديوهات التي نشرتها هؤلاء النسوة على صفحاتهن، مُظهراً كيفية خرقهن للقانون بأريحية بالغة وبدعم من المسؤولين. فكان أمراً متوقعاً أن تكون ردود فعل العراقيين على السوشيال ميديا غاضبة وحانقة على هؤلاء “المشهورات”، في وقتٍ عانت عامة الناس من صعوبة الدخول الى الملعب من جراء ضعف التنظيم بصورة عامة، إذ تعرض كثرٌ إلى الإذلال والنصب والاحتيال من خلال البطاقات المزورة، وأسفر سوء تنظيم دخول الجماهير المكتظة عن كارثة تسببت بوفاة مشجعين في المباراة النهائية للبطولة.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُثار فيها قضية علاقة بعض مشهورات السوشيال ميديا بالضباط أو أصحاب الرتب العسكرية في القوى الأمنية أو الميليشياوية، إذ انطلقت في أيلول الماضي حملة الكترونية تحت وسم “#محاسبة همسة وضباطها الخمسة” في إشارة إلى همسة ماجد، التي تطلق على نفسها صفة “الإعلامية”، بعد ظهورها بفيديو مسرّب بعد اتهامات بتورطها بحبس فتاتين في مطعم وتهديدهما بأن بإمكانها استدعاء ميلشيات لدعمها، وذلك بزعم أن الفتيات صورنها وهي تتحدث عن وجود “نحو 5 آلاف طبيب في العراق حاصلون على شهادات من الخارج، لكنها غير مصدقة”، علماً بأنها  تدير مركزاً للتجميل. 

وخلافاً لحالة همسة ماجد، حيث طالب جمهور مواقع التواصل بمحاسبتها ومحاسبة أصحاب النفوذ الذين تحتمي بهم، فإن سخط العراقيين أثناء وبعد بطولة خليجي 25 توجه بشكلٍ رئيسي ضد فئة المشهورات فحسب، أو “الفاشينستات”، حسب القاموس العراقي الاجتماعي. 

فاشينستا القاموس العراقي

ظاهرة مشاهير السوشيال ميديا والمؤثرين والمؤثرات والمحتوى السطحي الذي ينتجه الكثير منهم هي ظاهرة عالمية لا تقتصر على العراق فقط، فهي واحدة من إفرازات النظام العالمي النيوبرالي والثقافة الإستهلاكية ووسائل الإتصال الرقمية الحديثة. وتهتم الكثير من الدراسات والأبحاث الحديثة في نقدها وتحليل أبعادها، خصوصاً تأثيراتها السلبية على فئة المراهقين والأطفال، من خلال الواقع الموازي الذي تخلقه صفحاتهم وهو عبارة عن حياة مترفة وباذخة تكاد لا تمت بصلة للحياة الواقعية لكثيرٍ من الناس، بالإضافة الى التأثير الناتج عن ترويجهم وتسويقهم لمنتجات استهلاكية تساهم في ارتفاع أسعارها على نحوٍ غير منطقي أو عقلاني.

لكن هذه الظاهرة والمحتوى السطحي الفارغ لكثيرٍ من مؤثريها الشباب تتفاقم كلما كانت المنظومة السياسية والاجتماعية والتعليمية متدهورة ينخرها الفساد. فالمحتوى الرديء أو التافه أو الرث هو انعكاس لهشاشة وضعف البنى التحتية وترتفع معدلاته مع غياب المؤسسات الرصينة وتسيد القيم القبلية والأيديولوجيات الدينية على حساب العلم والمعرفة والوعي والمدنية. أي انه نتاج طبيعي لوضعٍ هيكلي يتسم بالعبثية والفوضوية والتجهيل المتعمد، كما الحال في العراق.

بالإضافة لكل ذلك، أصبحت لهذه الظاهرة أبعادٌ أخرى في السياق العراقي الشائك والمعقد. فالعلاقات التي تتسم باستغلال الطرف الآخر الأضعف أو تلك التخادمية المستندة على المصلحة والمنفعة المتبادلة ودوائر المنتفعين التابعة لها، هي أنماط علاقات أفرزتها منظومة الفساد والواسطة والمحسوبية بإدارة أحزاب وفصائل مختلفة متنفذة. حدّ أنه ومن دون العلاقات التخادمية قد تصبح إدارة أمور الحياة اليومية للفرد العراقي مهمة صعبة، بل ربما مستحيلة ضمن هذه المنظومة! 

هذا الأمر ينطبق على الواقع الافتراضي وفئة من مشاهيره، فبالنهاية لا ينفصل ذلك العالم عن الواقع الحقيقي، بل هو امتداد له. لكن ما حصل مع من بات يُطلق عليها “الفاشينستا” تجاوز نطاق نقد الظاهرة نفسها وتعدى مجرد كونه رفضاً لها بغية التصحيح ومحاسبة المتسبب الأول. تبعاً لذلك، صاحب الحملات الالكترونية المطالبة بإلغاء متابعة الفاشينستات ومحتواهن -الذي قد لا يتفق كثر معه- خطاب تحريضي يستهدفهن من دون المطالبة بمحاسبة من منحهن القوة والنفوذ. هذا ما حدا ببعض الناشطيين الحقوقيين والإعلاميين لإطلاق تحذيراتٍ تخشى من أن يتحول الغضب الشعبي ضد ما يُسمى بالفاشينستات إلى حملة للتحريض عليهن وعلى أخريات مشهورات ممن لسن على صلة برجالات الدولة، وإلى ممارسة العنف ضدهن. كما أن رد الفعل الغاضب والعارم من المجتمع يثير أسئلة مشروعة حول ما إذا كانت تحمل مثل هذه الحملات بين طياتها مشكلة أعمق تتعلق بكراهية النساء، كما علقت إحدى الناشطات.

ومن الجدير ذكره أن أياً من المعنيات لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمفهوم “الفاشينستا” ولا يُعرفن أنفسهن بها. فالمصطلح أسيء استخدامه وتوظيفه في السياق العراقي، بل يكاد أن يكون وصمة تلاحق أي امرأة تستخدم مواقع التواصل لأغراض متعلقة بالأزياء والموضة، تُذكّر بالوصمة التي لاحقت ولاتزال راقصات فن الرقص الشرقي. 

ظهرت مفردة فاشينستا للمرة الأولى عام 1993 في كتاب من تأليف ستيفن فرايد بعنوان “شيء من الجمال: مأساة عارضة الأزياء جيا كارانجي”، والتي كانت واحدة من أشهر عارضات الازياء في فترة السبعينيات والثمانينيات. استخدم فرايد المفردة حتى يشير لأي شخص، سواء رجل أو امرأة، يعمل في مجال صناعة الازياء، ولكنه ندم بعد عشرين عاماً على اختراع تلك المفردة بسبب تغيّر دلالاتها عبر الزمن. فمع ظهور منصات التواصل الاجتماعي وشيوع ظاهرة مشاهيرها، أصبحت تستخدم اليوم في السياق الغربي بشكل ساخر أحياناً من الضحايا المهووسين بالموضة، على الرغم من أنها ما زالت تحتفظ بالدلالات الأولى بدرجة أو بأخرى.

أما في العراق، فقد اتخذت المفردة معانيَ مختلفة  تجلت في  فيديو بعنوان “الفاشل نيستا”، انتشر مثل النار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي ووقعت في فخه بعض الصفحات المعنية بحقوق الإنسان والمرأة، يُعرف فيه المصطلح على أنه يشير لـ”رؤوس من غير ثقافة وأجساد من غير قيافة”، وغيرها من التسميات التي تخلص إلى أن “الفاشل نيستات”، لا الأحزاب والقيادات الرجالية التي حكمت بعد عام 2003، هن “أولى المسيئات” إلى العراق. يكشف رد الفعل الجمعي عن بُعدٍ جندري يتعلق بالهوية الاجتماعية للمشهورات أعلاه اتخذته الحملة ضدهن والخطاب المرافق لها، كونهن نساء ولسن “فاشنيستات” فقط. وبالتالي أصبح استهجان تصرفاتهن وسلوكهن مضاعفاً ومركباً.

يكشف لنا الهوس بمتابعة صفحات مجموعة من”مشهورات” لم يكن ليكتبسن تلك الشهرة لولا أن شرائح المجتمع التي تهاجمهن اليوم، وتتخذهن شماعة تعلق عليها تفاصيل بؤسها اليومي هي ذاتها التي تتابعها بالآلاف والملايين، عن شكلٍ مثير من أشكال كراهية النساء. ففي الوقت الذي تُقيد فيه حياة وحريات النساء بدعوى الشرف والعفة والأخلاق، يتابع ويصفق كثر لمن تخالف تلك الصورة، بيد أنه يتم استسهال الخطاب التحريضي ضدهن في الوقت ذاته، لأنهن من وجهة نظر المحرض يستحققن هذا الخطاب التأنيبي والمعنف كنوع من العقوبة المجتمعية بعد أن فقد المجتمع السيطرة عليهن، حتى وإن عرّض حياتهن للخطر كما حصل في حالة تارا فارس، فتلك ليست بالمشكلة الكبيرة لأن حياة هؤلاء النسوة ليست ذات قيمة.  

أرضية خصبة لشرعنة محاسبة “المحتوى الهابط”

خدم المزاج الشعبي العام المناهض لظاهرة “الفاشينستات” السلطات، التي وجدت فيه شرعية شعبية كافية لإطلاق حملتها ضد ما أسمته بالـ”المحتوى الهابط”، حيث استندت على لغة مشابهة وردت  في المادة 403 من قانون العقوبات العراقي للعام 1969 التي تنص على معاقبة من يصنع أو يصدر مواداً “مخلة بالحياء والآداب العامة”. فكان الإشكال الرئيسي يقع في كون لغة القانون فضفاضة لدرجة أن تحديد الحد ما بين حرية التعبير والمحتوى الذي يعرض سلامة الاخرين للخطر على أساس الدين أو العرق أو الجنس هو عمومي ومبهم، مثل “المحتوى الهابط” و”الذوق العام” أو “الآداب العامة”؛ وهي العبارات المطاطة نفسها الموجودة في القوانين التمييزية ضد المرأة، في وقتٍ تتعرض النساء في العراق بشكل يومي ومنهجي الى ممارساتٍ شتى تهدّد حياتهن أو حرياتهن الشخصية سواءً على أرض الواقع أو في العالم الافتراضي.

ومن المعروف أن المفردات التي تستدعي السرديات الأخلاقية ترتبط ارتباطاً مباشراً بالنساء ولذا فهي كفيلة في اللعب على الوتر الحساس للمجتمعات المتشرّبة بالقيم والعادات والأعراف المسيئة للمرأة. والتاريخ يروي لنا أمثلة مشابهة تقبض فيها السلطات والأنظمة الحاكمة على الحريات باستخدام النساء كأداة ناجعة لتحقيق هذا الغرض. ففي حقبة السبعينات على سبيل المثال، أمر وزير الداخلية العراقي آنذاك، صالح مهدي عماش، بمنع ارتداء التنانير القصيرة “الميني جوب” وأمر بصبغ سيقان النساء اللواتي يرتدينها، ولكن أُلغي ذلك القرار بفضل ضغط النخبة الثقافية وقتها. وتكررت أمثلة مشابهة على مدى العقود اللاحقة سواءً في العراق أو في دول أخرى. ففي السياق العراقي، نستحضر الحملة الإيمانية في حقبة التسعينيات وتوظيفها للدين والحجاب لمواجهة الواقع الجديد الذي فرضته العقوبات الاقتصادية. 

وبالعودة لحملة “بلّغ” التي ساندتها أحكام القضاء العراقي الأخيرة بحق بعض “مشاهير” السوشيال ميدياـ ومن ثم نقابة المحامين الممثلة بنقيبتها أحلام اللامي في كتبٍ صادرة عنها، تحث على التبليغ لا على “المحتوى الهابط” فحسب، بل على كل من يسيء لمؤسسات الدولة، فيبدو أن تهمة “المحتوى الهابط” باتت تشمل كل شيء يتعلق بالمرأة والذي هو محط انتقاد لأي امرأة في العراق سواء كانت معروفة أم لا. وهذا يُفسر حكم الحبس لسنتين الصادر من محكمة جنح الكرخ/ بغداد بحق الموديل عسل حسام، والجريمة ملابسها! 

كما تحدّثت أخريات عن تعليقاتٍ مسيئة وُجهت لهن، مهدّدة وملوحة بالتبليغ بذريعة “المحتوى الهابط”، رغم أن حساباتهن بعيدة عن هذا الوصف، على حد تعبيرهن. فمثلاً، تذكر ديانا لنا، وهي صاحبة حسابات على تك توك وتويتر وهي معنية بالترويج لمتجرها الخاص بالألعاب الإلكترونية والانيميشن، بالإضافة لنشر مقاطع “توعوية” و”تثقيفية”، أنها تتلقى تهديدات كثيرة، وأن هذه المشكلة تسبق هذه الحملة والقانون الجديد، فلطالما تعرضت لرسائل محرضة أو مسيئة فقط بسبب كونها فتاة تستخدم مواقع التواصل باسمها وصورتها المخالفة لما يريده المجتمع.

وعلى الجانب الإعلامي والشعبي، فحملة “بلغ” الإلكترونية لاقت ترحيباً خصوصاً في الأيام الأولى بعد إطلاقها، فمثلاً نشرت شبكة “شاكو ماكو” مقالاً مسانداً للحملة بعنوان “القضاء العراقي بقيادة زيدان يعيد البلد الى صوابه”. وكما في القانون، فإن ردود الفعل إعلامياً وشعبياً كان وقعها أكبر على المتهمات في صناعة “المحتوى الهابط”، فشُنت محاكمات علنية وأخلاقية ضدهن، كما حصل مع “وردة العراقية” وهي تدافع عن نفسها أمام صراخ واتهامات المذيع قحطان عدنان. وغالباً ما يتعامل الإعلام العراقي مع الفنانات أو الإعلاميات باستخدام خطاب ديني على شاكلة الأسئلة التالية: “هل تُصلّين؟” “متى ترتدين الحجاب؟” “كيف تُصلّين وأنت تعملين مطربة في النوادي الليلية؟”.. الخ.

 في الوقت ذاته، ضجت صفحات شعبية بمنشورات تثني فيها على أصحاب المحتوى “الجيد” وتقارنهم مع أصحاب المحتوى “السيئ”، وكأن الموضوع عبارة عن منافسة وحصد ألقاب. والمفارقة أن بعضاً ممن تم الثناء على محتواه، كأمثال الخطباء الدينيين، متورطون في خطابات تحريضية ضد المرأة لمجرد سيرها في الشارع! فالمرأة هي المركز لو كانت المتهمة في إنتاج هكذا محتوى، ولكنها تظل الهامش إذا كانت من ضحاياه، إذ لا يجد كثر إشكالاً في هذا الخطاب الديني التمييزي ولا يرون فيه محتوى هابطاً بل صاعداً. 

وتدلل هذه المقارنات على خطورة إشراك المواطنين في فرض الوصاية على الآخرين والتبليغ عنهم، إذ ما هي إلا شكل من أشكال سياسة “فرق تسد” وإثارة للفتنة من خلال فتح الباب للمكائد والثارات الشخصية. فيصبح فعل التبليغ الكترونياً شبيهاً بكتابة التقارير الحزبية الكيدية ضد الاخرين إبان فترة حكم النظام البعثي، بل قد لا يقل هذا الأسلوب خطراً إذا ما استمر عن خطر الفتنة الطائفية. فسياسة الفرقة مكنت وتمكن أصحاب القوة والنفوذ من السيطرة على الآخرين عن طريق إضعافهم وتشتيتهم ومعاداتهم بعضاً لبعض. وبوادر هذه الفتنة تتجلى اليوم في التسابق في الظفر على لقب صانع المحتوى المهم على حساب أقرانه ممن زُج بهم في السجون من دون تهمٍ حقيقية، والفرح والتشفي لمصيرهم وبانشغال الناس بالمحتوى الالكتروني أكثر بكثير من انشغالهم بالواقع المزري الذي تسبب في انتشاره.

وهذه الوصاية الالكترونية تُقوي وتعزز من الوصاية الذكورية على المرأة، فيسهل تخويفها وقمعها وتتضاعف أشكال ذلك القمع. فالبيئة الالكترونية، كما نظيرتها الواقعية، تظل غير آمنة للنساء، إذ يتعرضن لأنواعٍ مختلفة من التعنيف الالكتروني كالابتزاز والتحرش والتنمر والتشهير والتهديد وغيرها. 

وبدل أن تفكر السلطات في خلق بيئة أكثر أمناً للمرأة العراقية، تمعن في استخدامها للتضييق عليها أكثر ولتأليب المجتمع ضدها، بدقها “ناقوس خطر” بدعوى الدفاع عن المجتمع وقيمه، كما تشير بنود عديدة من مسودة لائحة تنظيم المحتوى الالكتروني الصادرة عن هيئة الإعلام والاتصالات. تُكرس بعض فقرات اللائحة لنظرة دونية متأصلة ضد المرأة وتعاملها معاملة الوصي عليها وهي تصفها بأنها “فئة خاصة” كفئتي “الأطفال والشباب”، وتدعو الى “حمايتها” عن طريق “حظر” أي محتوى يخدش الحياء أو ينتهك “القيم الوطنية والدينية والأخلاقية للأسرة العراقية”.

 إلى جانب ذلك، ثمة نبرة تمييزية واضحة بين المرأة المحجبة وغير المحجبة، فتركز إحدى مواد اللائحة على حماية خصوصية الأولى، وكأنها تقول ضمناً إن بمجرد خلع الفتاة حجابها على مواقع التواصل، فإنها أصبحت مشاعاً للجميع. وبفضل هذه العبارات الفضفاضة قد تُصبح ضحية التحرش متهمة إذا ما تم اعتبار نشرها للفيديو التوثيقي لفضح المتحرش تشهيراً، بحسب هذه اللائحة.

هل كنا لنتعاطف مع سكيبة لو كان امرأة؟

في استثناءٍ خاص، حاز المواطن عبود سكيبة، والذي تنتشر له مقاطع يغني فيها باللكنة الإنجليزية عن طريق حسابات وسيطة من دون أن يكون له حساب شخصي خاص به، على تعاطفٍ جمعي كبير بعد أن تم اعتقاله، مما خلق حملة مضادة للوقوف معه ودعمه عن طريق هاشتاك #الحرية_لعبود سكيبة وإطلاق سراحه لاحقاً، ومما ساهم في انقسام الرأي العام حول قانون “المحتوى الهابط” وجدواه. ولكن ماذا لو كان سكيبة امرأة؟ هل كانت لتحظى بالقدر من التعاطف اللامشروط والمحبة العارمة نفسها؟ أم للتعاطف مع المرأة شروط ومعايير أخرى؟ هل تُميز “التفاهة” على أساس الجنس البيولوجي أيضاً؟ نحتاج أن نكون صريحين مع أنفسنا في الإجابة لأن فيها مفتاح فهم جذور علتنا. فلا تُكرس الديكتاتوريات أو الثيوقراطيات إلا بقمع المرأة أولاً والتمييز ضدها.. وحينها ومن خلالها تسهل السيطرة على المجتمع بأسره.