كيف "لا تنجو" النساء في العراق؟!

ان إ.م .بلاي

13 فبراير 2023

في أكثر من حادثة قامت الشرطة المجتمعية بإعادة النساء المُعنّفات والهاربات من عائلاتهّن إلى نقطة الصفر بعد أن هربنّ للنجاة بحياتهنّ عن طريق توقيع الجناة لتعهّد بعدم تعنيفهن مرة أخرى. لا يخلو شهر إلا وتنشر الشرطة المجتمعية عن مثل هذه الحالات. بيد أن الضحية ما أن تصبح في منزل مُعنَّفيها حتى تختفي أخبارها.. هكذا لا "تنجو النساء" في العراق!

نشرت الناجية آية الموسوي في كانون الثاني 2023 على خاصية الستوري حديثاً لها مع امرأة أخرى طلبت منها أن تدلها على أماكن تستطيع فيها الشكوى ضد ذويها الذين يعنفونها. بيد أن الموسوي لم تشجعها على رفع شكوى ضدهم لأنهم سيهربون من العقاب بدفع كفالة مالية بعد قضاء بضع ليالٍ في السجن.. “أنا آخر مرة انذبحت لأن اشتكيت”، تصف الموسوي ما حدث معها بعد خروج معنفها من السجن. رأينا كلنا تلك الصور المرعبة للكدمات الزرق التي علت وجه الموسوي ورقبتها الممزقة بآلة حادة، وهي التي شكلت قضيتها رأيا عاما حتى تم إخراجها إلى بر الأمان في عام 2022.

مجرد سؤال امرأة معنفة لامرأة معنفة أخرى عن عنوان تحتمي فيه في العراق من عنف ذويها، وخاصة في زمن المعلومات المتاحة على الانترنت، يؤكد مدى ضعف الدولة في حماية المرأة؛ مع العلم أن جهاز “الشرطة المجتمعية” الذي تم إنشاؤه بعد 2003، من المفترض أن يكون عنواناً مركزياً لهؤلاء النساء. يعرّف موقع وزارة الداخلية “الأهداف العامة” للشرطة المجتمعية بخمس نقاط، أهمها “دعم الاسرة وحماية حقوق الشرائح الضعيفة والأقليات”.

يُلاحظ من الفيديوهات التي تروجها الشرطة المجتمعية، والتي نراها تعمل كما الدولة العراقية بموجب ثقافة “الترند”، كما قضية الموسوي المذكورة سابقاً والتي وصلت إلى الشرطة المجتمعية بعد تفعيل عدد كبير من “الهاشتاغ” على مواقع التواصل الاجتماعي ومساهمة الحسابات والشخصيات النسوية البارزة في نشر قضية الموسوي، علماً بأن الضحية ممثلة من قبل محامية.  

لكن المُضمر في عمل الشرطة المجتمعية، هو دورها في إدامة النظام الأبوي، وحماية شكل الأسرة القائمة على الأبوية والذكورية.. والنساء أكثر من يعرفن ذلك.

“الله وكيلج كلشي ما سوولي لا تشتكين ولا شي”، حذّرت الموسوي محدثتها.

إعادة” البنات أم حمايتهن؟

في بيان نشرته الشرطة المجتمعية أواخر عام 2022 وضّحت فيه جهود “شعبتي التنسيق العشائري والشؤون النسوية التابعتين لقسم الشرطة المجتمعية في دائرة العلاقات والإعلام” في اعادة فتاة تبلغ 14 عاماً بعد هروبها من ذويها لمدة 15 يوماً بسبب تعرضها للعنف. وأكد البيان أن الشرطة المجتمعية ستكون لها زيارات دورية للفتاة للتأكد من عدم تعرضها للتعنيف.

هل إذن باتت مهمة الشرطة المجتمعية هي “إعادة البنات” المعنفات وليس حمايتهن من العنف؟ وكيف تضمن لهن عدم تعرضهن للعنف، أو حتى القتل، في الفترة التي لا تزورها فيها؟

في أكثر من حادثة قامت الشرطة المجتمعية بإعادة النساء المعَنّفات والهاربات من عائلاتهّن الى نقطة الصفر بعد أن هربن للنجاة بحياتهنّ عن طريق توقيع تعهد بعدم تعنيفهّن مرة أخرى. لا يخلو شهر إلا وتنشر الشرطة المجتمعية عن مثل هذه الحالات. 

بيد أنه ما أن تصبح الضحية في منزل مُعنِفيها حتى تختفي أخبارها.

تعتمد الشرطة المجتمعية آلية أخذ التواقيع من المعنفين كضمان لعدم تعرضهم للنساء مرة أخرى، إلا أن تلك التواقيع لا تمثل عائقاً أمامهم لتكرار عملية التعنيف والإساءة النفسية وحتى القتل، وذلك لأن سلطة القانون لمواجهة العنف ضد النساء هي ضعيفة أصلاً.  

 
أكد لنا أحد العاملين في منظمة مجتمع مدني معنية بحماية النساء من العنف اثناء متابعته الشخصية لحالة فتاتين من الناصرية عام 2020 أن الشرطة المجتمعية أعادت الفتاتين الهاربتين من التعنيف بعد أخذ توقيع ولاة الأمر بعدم التعرض لهن، ما هي إلا فترة وجيزة وتم قتلهن. في حين يؤكد حساب على فيسبوك يدعى “الناصرية نيوز” خبر مقتل فتاتين غربي الناصرية رمياً بالرصاص، إلا أن مصادر  دائرة صحة ذي قار أكدت أن الفتاتين قتلتا “غسلاً للعار” في 16 أيار 2020.

إن ما تغفل عنه الشرطة المجتمعية، أو تغض النظر عنه هو أن خروج المرأة أو الفتاة العراقية من بيتها كان فعلاً اضطرارياً في المقام الأول، والذي يحدث بعد ضغط هائل وانعدام الأمان من أقرب دائرة منها، هي الأم والأب والأخوة والأخوات، بحيث تتحول الأم في بعض الأحيان إلى شريكة في التعنيف أو غير قادرة على منعه لأنها تكون هي نفسها معنَّفة أصلا!

الخروج بحد ذاته يكسِر ويكسِّر ما تبقى من صورة البيت المزعزع أصلاً.. ويعطي لمعنفي هؤلاء النساء والفتيات الحجة بأن مجرد خروجها يثبت الحاجة إلى العنف منذ البداية.. يثبت عقوقها والحاجة إلى تأديبها ولو بإنهاء حياتها. العودة إذاً، بهذا المنطق، لا يمكنها أن تجبّر الكسور بل تأتي عليها بالكامل.

طيبة العلي.. قصة قتل معلن

قصة طيبة العلي تؤكد أن العودة ليست ممكنة للنساء الهاربات من العنف الأسري. عادت طيبة من تركيا إلى العراق لأجل خليجي 25، حيث كانت هاربة قبلها من أب معنف وأخ مُغتصِب. نشرت المغدورة فيديوهات عدة على حسابها الرسمي وهي تتجول في مناطق وشوارع العراق وهي تحمل علم العراق بلهفة. قبل أن تقوم بنشر فيديو وهي تبكي وتطلب من كل شخص يملك السلطة للتدخل وحمايتها من التهديدات بالقتل التي أصبحت تنهمر عليها فور دخولها العراق. تحدثت المغدورة بحرقة عن حبها للعراق وهي تقول “انا ابنتكم”. كان أملها الوحيد استعطاف السلطة، لكن هذه الأخيرة نفسها هي أبوية ذكورية ولا تعرف أن تعامل بناتها إلا بالمعاقبة.. حدّ الإعدام!

حالما عادت طيبة بدأت العائلة والمجتمع بأركانه المختلفة ومن على شتى المنصات بالتحريض على أنها “عاقة وتستحق التأديب”. نشر حساب “أبو الأصفر” تسجيلا صوتيا ذكر أن عائلة المغدورة قامت بنشره لدقائق بعد مقتل طيبة، ثم سرعان ما حذفته. أرادت العائلة من خلاله “إثبات عكس ما تنشره ابنتهم” عن حبها لبلادها، من خلال التركيز على أن طيبة ذكرت “رخص العراقيين” وأنها قد “باعت العراق”. حاولت العائلة أن تبرئ نفسها أمام الرأي العام وتحويل طيبة إلى شخصية كارهة للعراقيين، خصوصاً لكونها كانت مؤثرة في احتجاجات تشرين 2019، التي ساهمت في إخراج طيبة وآخرين من دوائر العنف، علماً بأن تهديدات المليشيات للمشاركين في تشرين باتت ورقة حاسمة لنيل هؤلاء فرصا لمغادرة العراق بطريقة أكثر أمناً من خوض تجربة التهريب.
ليست فقط العائلة ضالعة في ذلك، وإنما نشر حساب “أبو الأصفر” للفيديو بعد حذفه بحد ذاته، هو ليس من باب التوثيق كما يدعي في التبريرات المعتادة كلما نشر عن مؤثر أو شخصية مشهورة، إنما ما ذلك إلا من باب الأبوية الذكورية لتوجيه العنف على الضحية ومحاولة خلق تبرير للجاني ولتخفيف الضغط الاجتماعي الناجم عن جريمة التعنيف/القتل. ذلك من خلال تصوير طيبة “المؤمنة والمؤيدة” لتشرين، التي كان شعارها حب العراق، على أنها كارهة للعراق والعراقيين والتركيز بشكل كبير على هذه النقطة، هو لتحريك عاطفة العراقيين وحثهم لتغيير آرائهم حول الضحية. 

ولتثبيت “عقوق” طيبة أكثر، لم ينشر “أبو الأصفر” التسجيلات الأخرى التي تتحدث فيها باكية عن توجه والدتها -والتي يشاع أن طيبة عادت للعراق باستدراج منها- إلى الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية سعد معن، لتخبره أن ابنتها “ضلّت عن الطريق وتذهب للسكر حتى الخامسة صباحاً” – التسجيل نفسه الذي تدافع فيه طيبة عن نفسها ولا تعترض فيه عن إجراء فحص لإثبات عدم وجود الكحول في دمها. 

لم يكن هروب المغدورة طيبة مجرد هروب من عائلة مُعنِّفة. فقد نشر حساب على انستغرام يدعى “IRAQI WOMAN RIGHTS” وهو حساب مختص بنشر معاناة النساء المعنفات، تسجيلات صوتية للمغدورة مع شخص آخر كانت قد وضعتها طيبة بيد أصدقاء لها كأمانة تخرج بعد مقتلها الذي كانت متأكدة منه. التسجيلات تحتوي على صراخ لرجل (يرجح أنه والدها) والذي يعترض على خروجها من العراق وذهابها إلى تركيا، بينما تقول له طيبة إنه يعرف لماذا خرجت من العراق ولا تريد البقاء فيه.. بينما يحاول الآخر جعل ما حدث طبيعياً لترد المغدورة مستهزئة “أي هي سهلة.. اخوي ينام فوكاي”، والذي تؤكد فيه أنها تعرضت لتحرش جنسي من شقيقها. 

وفي تسجيل آخر لطيبة، نشره الحساب ذاته وهي تخبر أحداً عن وصول حالتها إلى سعد معن، وأن الأخير سيلتقي بالمغدورة التي أكدت انها ستقوم بإرسال كل التهديدات التي تلقتها إليه.  ويؤكد لنا هذا أن وزارة الداخلية والتي تمثل الدولة بدورها، قد فشلت في حمايتها بكونها مواطنة عراقية قبل كونها امرأة، وهي التي كانت على قدر من الشهرة واستطاعت أن توصل صوتها إلى العالم. وهذا ما يجعلنا نقف أمام سؤال: ما هو مصير النساء المحتجزات في بيوتهن وممنوعات من التواصل مع العالم الخارجي؟

أتحمي السلطة النساء أم تحمي نفسها؟

ورود اسم وزارة الداخلية في قضية طيبة، سواء كعنوان لأم تبرر تأديب ابنتها أو كابنة تبحث عن عراق يحميها، يؤكد أن السلطة تعرف أن آلية الهروب وإعادة هؤلاء النساء، تعني في الأغلبية الساحقة أمراً واحداً: قتل المرأة. لم تكن طيبة أول وآخر النساء التي تم تجاهلها كضحية وكقتيلة أو تجاهل قاتليها، إذ أصبحت قضايا خمس نساء على الأقل في العام الماضي محط رأي عام: قتلن للأسباب المتعلقة بالعار والشرف ذاتها ولا يزال القتلة أحراراً.

بعد مقتل طيبة في 1 شباط 2023 سرعان ما بدأت تظهر شهادات مختلفة، حول كيفية تعامل المتحكمين بالسلطة مع قضايا النساء حصراً وهو ما يحدث بعد كل جريمة قتل او تعنيف تطال النساء.

نشرت النسوية والكاتبة العراقية ماسة الرمادي على حسابها في انستغرام شهادة لمحامية من الأنبار اخفيَ اسمها على خاصية “الستوري”، عن إشادة قاض بفعل رجل أقام دعوى مطاوعة أو ما يطلق عليه “بيت الطاعة” على زوجته القاصر.  وشهادة أخرى يبرر فيها قاض لامرأة معنفة لجأت إليه هرباً من القتل، أن سكان الأنبار متفتحون ومتفهمون ولن يفعلوا شيئا ضدها. 

في الوقت ذاته، تعالت الأصوات التي تبرر للسلطة في الحكومة وفي البيت نهجها الدامي. في 6 تشرين الثاني 2022 نشر مرتضى هشام الذهبي، وهو نجل هشام الذهبي الملقب بـ”أبو الأيتام”، والذي بنى بيتاً أسماه “الحلم” لاستقبال الأيتام والمشردين، على حسابه في فيسبوك فيديو بتقنية الريلز وهو يتحدث عما أطلق عليه “الظاهرة”، وقصده هروب النساء من منازل عائلاتهن.

تحدث الذهبي وهو يلعب دور المصلح الاجتماعي بأسلوب متعالٍ، رغم أنه ادعى أنه يعطي نصيحة، عن حالات لا يستطيع تصويرها عن نساء هاربات يطلبن المساعدة من عائلات تعنفهن.

وذكر الذهبي، وهو ما يحاول جعله تبريراً لما سيقول بعدها، “يومياً أو بين يوم ويوم تجينا (أي تجيء إلى منزل “الحلم”) حالة بنية هاربة مع حبيبها، أهلها كاتليها، تريد تنتحر وكومة مشاكل”، قبل أن يعترف أن “بابا هشام”، بالتنسيق مع الشرطة المجتمعية، يقومون بإعادة هؤلاء النساء اللواتي يطلبن المساعدة منهم. 

برر الذهبي، بقصد أو غيره، أن هؤلاء النساء يستحققن ما يحدث معهن عن طريق لمس الجانب الذكوري لدى الفرد العراقي بجعل المرأة مُخالفة للأعراف والتقاليد العراقية، وهربت مع شخص غريب. ولم يعطِ نجل الذهبي أي اهتمام لا بحرية النساء ولا لكون العنف الأسري هو السبب وراء هروبهن ولا بحالتهن النفسية؛ علماً أن والده يكرر في كل فيديو يظهر فيه تقريباً أهمية الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال.

ملامسة الجانب الذكوري ليس فعلاً غريباً على المؤثرين والمؤثرات العراقيين بنوعيهم الاجتماعي والسياسي. إذ تمثل السلطة الابوية ديمومة السلطة الحاكمة، فبزوال المنظومة الابوية والسلطوية لن يبقى أي متنفس للسلطة وبقائها في الحكم. وهو ما فعلته السلطة في محاولتها عدم تمرير مشروع قانون حماية الطفل والذي يتيح للطفل أحقية رفع شكوى قضائية ضد أسرته واعترض نواب عدة على تمرير القانون بكونه يفكك الاسرة العراقية. في الوقت الذي اتخذ شكل الأسرة الابوي العنف كأسلوب للتربية. وأيضا بعدم تمرير قانون العنف الاسري تحت قبة البرلمان لأسباب دينية وأخرى متعلقة بالعرف والتقاليد. وهو القانون الذي كان بإمكانه حماية طيبة والنساء الاخريات من القتل، إلا أن القانون سيحد من سلطة الذكر وهو ما لا يخدم السلطوية في بقائها. في حين ركز البرلمان على المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية ومحاولة تعديله تحت ذريعة أن القانون يظلم الأب. 

لا مهربَ من حقيقة بقاء العنف على النساء سلوكاً تتم ممارسته بشكل طبيعي ويُشجّع من الدولة ذاتها. تمارس الدولة دور الأب وتشيد به وتعزز استخدامه بما يتماشى مع الهرمية الأبوية الذكورية، ليس فقط لتبرير وجودها وبقائها في السلطة، إنما لإيمانها بواجب ممارسة هذا الدور الذي لا يتم تطبيقه على النساء فقط، إنما على الذكور غير الخاضعين لسلطة وأفكار المجتمع، وأيضاً على أفراد مجتمعات الميم عين. قتل امرأة فقط لأنها امرأة يعتبر سلوكاً طبيعياً داخل الهرمية الأبوية ولا يحتاج لمبرر أيضاً، إلا أن المبررات التي يتم وضعها عادةً مثل الشرف والعادات والتقاليد، ليست إلا جزءاً من إرضاء الذكورية المتسلطة تجاه فعل القتل.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

نشرت الناجية آية الموسوي في كانون الثاني 2023 على خاصية الستوري حديثاً لها مع امرأة أخرى طلبت منها أن تدلها على أماكن تستطيع فيها الشكوى ضد ذويها الذين يعنفونها. بيد أن الموسوي لم تشجعها على رفع شكوى ضدهم لأنهم سيهربون من العقاب بدفع كفالة مالية بعد قضاء بضع ليالٍ في السجن.. “أنا آخر مرة انذبحت لأن اشتكيت”، تصف الموسوي ما حدث معها بعد خروج معنفها من السجن. رأينا كلنا تلك الصور المرعبة للكدمات الزرق التي علت وجه الموسوي ورقبتها الممزقة بآلة حادة، وهي التي شكلت قضيتها رأيا عاما حتى تم إخراجها إلى بر الأمان في عام 2022.

مجرد سؤال امرأة معنفة لامرأة معنفة أخرى عن عنوان تحتمي فيه في العراق من عنف ذويها، وخاصة في زمن المعلومات المتاحة على الانترنت، يؤكد مدى ضعف الدولة في حماية المرأة؛ مع العلم أن جهاز “الشرطة المجتمعية” الذي تم إنشاؤه بعد 2003، من المفترض أن يكون عنواناً مركزياً لهؤلاء النساء. يعرّف موقع وزارة الداخلية “الأهداف العامة” للشرطة المجتمعية بخمس نقاط، أهمها “دعم الاسرة وحماية حقوق الشرائح الضعيفة والأقليات”.

يُلاحظ من الفيديوهات التي تروجها الشرطة المجتمعية، والتي نراها تعمل كما الدولة العراقية بموجب ثقافة “الترند”، كما قضية الموسوي المذكورة سابقاً والتي وصلت إلى الشرطة المجتمعية بعد تفعيل عدد كبير من “الهاشتاغ” على مواقع التواصل الاجتماعي ومساهمة الحسابات والشخصيات النسوية البارزة في نشر قضية الموسوي، علماً بأن الضحية ممثلة من قبل محامية.  

لكن المُضمر في عمل الشرطة المجتمعية، هو دورها في إدامة النظام الأبوي، وحماية شكل الأسرة القائمة على الأبوية والذكورية.. والنساء أكثر من يعرفن ذلك.

“الله وكيلج كلشي ما سوولي لا تشتكين ولا شي”، حذّرت الموسوي محدثتها.

إعادة” البنات أم حمايتهن؟

في بيان نشرته الشرطة المجتمعية أواخر عام 2022 وضّحت فيه جهود “شعبتي التنسيق العشائري والشؤون النسوية التابعتين لقسم الشرطة المجتمعية في دائرة العلاقات والإعلام” في اعادة فتاة تبلغ 14 عاماً بعد هروبها من ذويها لمدة 15 يوماً بسبب تعرضها للعنف. وأكد البيان أن الشرطة المجتمعية ستكون لها زيارات دورية للفتاة للتأكد من عدم تعرضها للتعنيف.

هل إذن باتت مهمة الشرطة المجتمعية هي “إعادة البنات” المعنفات وليس حمايتهن من العنف؟ وكيف تضمن لهن عدم تعرضهن للعنف، أو حتى القتل، في الفترة التي لا تزورها فيها؟

في أكثر من حادثة قامت الشرطة المجتمعية بإعادة النساء المعَنّفات والهاربات من عائلاتهّن الى نقطة الصفر بعد أن هربن للنجاة بحياتهنّ عن طريق توقيع تعهد بعدم تعنيفهّن مرة أخرى. لا يخلو شهر إلا وتنشر الشرطة المجتمعية عن مثل هذه الحالات. 

بيد أنه ما أن تصبح الضحية في منزل مُعنِفيها حتى تختفي أخبارها.

تعتمد الشرطة المجتمعية آلية أخذ التواقيع من المعنفين كضمان لعدم تعرضهم للنساء مرة أخرى، إلا أن تلك التواقيع لا تمثل عائقاً أمامهم لتكرار عملية التعنيف والإساءة النفسية وحتى القتل، وذلك لأن سلطة القانون لمواجهة العنف ضد النساء هي ضعيفة أصلاً.  

 
أكد لنا أحد العاملين في منظمة مجتمع مدني معنية بحماية النساء من العنف اثناء متابعته الشخصية لحالة فتاتين من الناصرية عام 2020 أن الشرطة المجتمعية أعادت الفتاتين الهاربتين من التعنيف بعد أخذ توقيع ولاة الأمر بعدم التعرض لهن، ما هي إلا فترة وجيزة وتم قتلهن. في حين يؤكد حساب على فيسبوك يدعى “الناصرية نيوز” خبر مقتل فتاتين غربي الناصرية رمياً بالرصاص، إلا أن مصادر  دائرة صحة ذي قار أكدت أن الفتاتين قتلتا “غسلاً للعار” في 16 أيار 2020.

إن ما تغفل عنه الشرطة المجتمعية، أو تغض النظر عنه هو أن خروج المرأة أو الفتاة العراقية من بيتها كان فعلاً اضطرارياً في المقام الأول، والذي يحدث بعد ضغط هائل وانعدام الأمان من أقرب دائرة منها، هي الأم والأب والأخوة والأخوات، بحيث تتحول الأم في بعض الأحيان إلى شريكة في التعنيف أو غير قادرة على منعه لأنها تكون هي نفسها معنَّفة أصلا!

الخروج بحد ذاته يكسِر ويكسِّر ما تبقى من صورة البيت المزعزع أصلاً.. ويعطي لمعنفي هؤلاء النساء والفتيات الحجة بأن مجرد خروجها يثبت الحاجة إلى العنف منذ البداية.. يثبت عقوقها والحاجة إلى تأديبها ولو بإنهاء حياتها. العودة إذاً، بهذا المنطق، لا يمكنها أن تجبّر الكسور بل تأتي عليها بالكامل.

طيبة العلي.. قصة قتل معلن

قصة طيبة العلي تؤكد أن العودة ليست ممكنة للنساء الهاربات من العنف الأسري. عادت طيبة من تركيا إلى العراق لأجل خليجي 25، حيث كانت هاربة قبلها من أب معنف وأخ مُغتصِب. نشرت المغدورة فيديوهات عدة على حسابها الرسمي وهي تتجول في مناطق وشوارع العراق وهي تحمل علم العراق بلهفة. قبل أن تقوم بنشر فيديو وهي تبكي وتطلب من كل شخص يملك السلطة للتدخل وحمايتها من التهديدات بالقتل التي أصبحت تنهمر عليها فور دخولها العراق. تحدثت المغدورة بحرقة عن حبها للعراق وهي تقول “انا ابنتكم”. كان أملها الوحيد استعطاف السلطة، لكن هذه الأخيرة نفسها هي أبوية ذكورية ولا تعرف أن تعامل بناتها إلا بالمعاقبة.. حدّ الإعدام!

حالما عادت طيبة بدأت العائلة والمجتمع بأركانه المختلفة ومن على شتى المنصات بالتحريض على أنها “عاقة وتستحق التأديب”. نشر حساب “أبو الأصفر” تسجيلا صوتيا ذكر أن عائلة المغدورة قامت بنشره لدقائق بعد مقتل طيبة، ثم سرعان ما حذفته. أرادت العائلة من خلاله “إثبات عكس ما تنشره ابنتهم” عن حبها لبلادها، من خلال التركيز على أن طيبة ذكرت “رخص العراقيين” وأنها قد “باعت العراق”. حاولت العائلة أن تبرئ نفسها أمام الرأي العام وتحويل طيبة إلى شخصية كارهة للعراقيين، خصوصاً لكونها كانت مؤثرة في احتجاجات تشرين 2019، التي ساهمت في إخراج طيبة وآخرين من دوائر العنف، علماً بأن تهديدات المليشيات للمشاركين في تشرين باتت ورقة حاسمة لنيل هؤلاء فرصا لمغادرة العراق بطريقة أكثر أمناً من خوض تجربة التهريب.
ليست فقط العائلة ضالعة في ذلك، وإنما نشر حساب “أبو الأصفر” للفيديو بعد حذفه بحد ذاته، هو ليس من باب التوثيق كما يدعي في التبريرات المعتادة كلما نشر عن مؤثر أو شخصية مشهورة، إنما ما ذلك إلا من باب الأبوية الذكورية لتوجيه العنف على الضحية ومحاولة خلق تبرير للجاني ولتخفيف الضغط الاجتماعي الناجم عن جريمة التعنيف/القتل. ذلك من خلال تصوير طيبة “المؤمنة والمؤيدة” لتشرين، التي كان شعارها حب العراق، على أنها كارهة للعراق والعراقيين والتركيز بشكل كبير على هذه النقطة، هو لتحريك عاطفة العراقيين وحثهم لتغيير آرائهم حول الضحية. 

ولتثبيت “عقوق” طيبة أكثر، لم ينشر “أبو الأصفر” التسجيلات الأخرى التي تتحدث فيها باكية عن توجه والدتها -والتي يشاع أن طيبة عادت للعراق باستدراج منها- إلى الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية سعد معن، لتخبره أن ابنتها “ضلّت عن الطريق وتذهب للسكر حتى الخامسة صباحاً” – التسجيل نفسه الذي تدافع فيه طيبة عن نفسها ولا تعترض فيه عن إجراء فحص لإثبات عدم وجود الكحول في دمها. 

لم يكن هروب المغدورة طيبة مجرد هروب من عائلة مُعنِّفة. فقد نشر حساب على انستغرام يدعى “IRAQI WOMAN RIGHTS” وهو حساب مختص بنشر معاناة النساء المعنفات، تسجيلات صوتية للمغدورة مع شخص آخر كانت قد وضعتها طيبة بيد أصدقاء لها كأمانة تخرج بعد مقتلها الذي كانت متأكدة منه. التسجيلات تحتوي على صراخ لرجل (يرجح أنه والدها) والذي يعترض على خروجها من العراق وذهابها إلى تركيا، بينما تقول له طيبة إنه يعرف لماذا خرجت من العراق ولا تريد البقاء فيه.. بينما يحاول الآخر جعل ما حدث طبيعياً لترد المغدورة مستهزئة “أي هي سهلة.. اخوي ينام فوكاي”، والذي تؤكد فيه أنها تعرضت لتحرش جنسي من شقيقها. 

وفي تسجيل آخر لطيبة، نشره الحساب ذاته وهي تخبر أحداً عن وصول حالتها إلى سعد معن، وأن الأخير سيلتقي بالمغدورة التي أكدت انها ستقوم بإرسال كل التهديدات التي تلقتها إليه.  ويؤكد لنا هذا أن وزارة الداخلية والتي تمثل الدولة بدورها، قد فشلت في حمايتها بكونها مواطنة عراقية قبل كونها امرأة، وهي التي كانت على قدر من الشهرة واستطاعت أن توصل صوتها إلى العالم. وهذا ما يجعلنا نقف أمام سؤال: ما هو مصير النساء المحتجزات في بيوتهن وممنوعات من التواصل مع العالم الخارجي؟

أتحمي السلطة النساء أم تحمي نفسها؟

ورود اسم وزارة الداخلية في قضية طيبة، سواء كعنوان لأم تبرر تأديب ابنتها أو كابنة تبحث عن عراق يحميها، يؤكد أن السلطة تعرف أن آلية الهروب وإعادة هؤلاء النساء، تعني في الأغلبية الساحقة أمراً واحداً: قتل المرأة. لم تكن طيبة أول وآخر النساء التي تم تجاهلها كضحية وكقتيلة أو تجاهل قاتليها، إذ أصبحت قضايا خمس نساء على الأقل في العام الماضي محط رأي عام: قتلن للأسباب المتعلقة بالعار والشرف ذاتها ولا يزال القتلة أحراراً.

بعد مقتل طيبة في 1 شباط 2023 سرعان ما بدأت تظهر شهادات مختلفة، حول كيفية تعامل المتحكمين بالسلطة مع قضايا النساء حصراً وهو ما يحدث بعد كل جريمة قتل او تعنيف تطال النساء.

نشرت النسوية والكاتبة العراقية ماسة الرمادي على حسابها في انستغرام شهادة لمحامية من الأنبار اخفيَ اسمها على خاصية “الستوري”، عن إشادة قاض بفعل رجل أقام دعوى مطاوعة أو ما يطلق عليه “بيت الطاعة” على زوجته القاصر.  وشهادة أخرى يبرر فيها قاض لامرأة معنفة لجأت إليه هرباً من القتل، أن سكان الأنبار متفتحون ومتفهمون ولن يفعلوا شيئا ضدها. 

في الوقت ذاته، تعالت الأصوات التي تبرر للسلطة في الحكومة وفي البيت نهجها الدامي. في 6 تشرين الثاني 2022 نشر مرتضى هشام الذهبي، وهو نجل هشام الذهبي الملقب بـ”أبو الأيتام”، والذي بنى بيتاً أسماه “الحلم” لاستقبال الأيتام والمشردين، على حسابه في فيسبوك فيديو بتقنية الريلز وهو يتحدث عما أطلق عليه “الظاهرة”، وقصده هروب النساء من منازل عائلاتهن.

تحدث الذهبي وهو يلعب دور المصلح الاجتماعي بأسلوب متعالٍ، رغم أنه ادعى أنه يعطي نصيحة، عن حالات لا يستطيع تصويرها عن نساء هاربات يطلبن المساعدة من عائلات تعنفهن.

وذكر الذهبي، وهو ما يحاول جعله تبريراً لما سيقول بعدها، “يومياً أو بين يوم ويوم تجينا (أي تجيء إلى منزل “الحلم”) حالة بنية هاربة مع حبيبها، أهلها كاتليها، تريد تنتحر وكومة مشاكل”، قبل أن يعترف أن “بابا هشام”، بالتنسيق مع الشرطة المجتمعية، يقومون بإعادة هؤلاء النساء اللواتي يطلبن المساعدة منهم. 

برر الذهبي، بقصد أو غيره، أن هؤلاء النساء يستحققن ما يحدث معهن عن طريق لمس الجانب الذكوري لدى الفرد العراقي بجعل المرأة مُخالفة للأعراف والتقاليد العراقية، وهربت مع شخص غريب. ولم يعطِ نجل الذهبي أي اهتمام لا بحرية النساء ولا لكون العنف الأسري هو السبب وراء هروبهن ولا بحالتهن النفسية؛ علماً أن والده يكرر في كل فيديو يظهر فيه تقريباً أهمية الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال.

ملامسة الجانب الذكوري ليس فعلاً غريباً على المؤثرين والمؤثرات العراقيين بنوعيهم الاجتماعي والسياسي. إذ تمثل السلطة الابوية ديمومة السلطة الحاكمة، فبزوال المنظومة الابوية والسلطوية لن يبقى أي متنفس للسلطة وبقائها في الحكم. وهو ما فعلته السلطة في محاولتها عدم تمرير مشروع قانون حماية الطفل والذي يتيح للطفل أحقية رفع شكوى قضائية ضد أسرته واعترض نواب عدة على تمرير القانون بكونه يفكك الاسرة العراقية. في الوقت الذي اتخذ شكل الأسرة الابوي العنف كأسلوب للتربية. وأيضا بعدم تمرير قانون العنف الاسري تحت قبة البرلمان لأسباب دينية وأخرى متعلقة بالعرف والتقاليد. وهو القانون الذي كان بإمكانه حماية طيبة والنساء الاخريات من القتل، إلا أن القانون سيحد من سلطة الذكر وهو ما لا يخدم السلطوية في بقائها. في حين ركز البرلمان على المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية ومحاولة تعديله تحت ذريعة أن القانون يظلم الأب. 

لا مهربَ من حقيقة بقاء العنف على النساء سلوكاً تتم ممارسته بشكل طبيعي ويُشجّع من الدولة ذاتها. تمارس الدولة دور الأب وتشيد به وتعزز استخدامه بما يتماشى مع الهرمية الأبوية الذكورية، ليس فقط لتبرير وجودها وبقائها في السلطة، إنما لإيمانها بواجب ممارسة هذا الدور الذي لا يتم تطبيقه على النساء فقط، إنما على الذكور غير الخاضعين لسلطة وأفكار المجتمع، وأيضاً على أفراد مجتمعات الميم عين. قتل امرأة فقط لأنها امرأة يعتبر سلوكاً طبيعياً داخل الهرمية الأبوية ولا يحتاج لمبرر أيضاً، إلا أن المبررات التي يتم وضعها عادةً مثل الشرف والعادات والتقاليد، ليست إلا جزءاً من إرضاء الذكورية المتسلطة تجاه فعل القتل.