"موؤودات العصر الحديث": طيبة اليوم وملاك البارحة.. أنا التالية غداً

بلسم مصطفى

04 شباط 2023

منذ لحظة ولادتها، ترث المرأة عبءَ الشرف الذي يخصّ جسدها، والذي يمنح الذكور سلطة عليه، ويحوّل المرأة إلى مملوكة لرجال العائلة والعشيرة. بينما ينال الرجل منذ لحظة الولادة لقب "حامي الشرف أو العرض"، وبالتالي يحق له التخلص من المرأة إذا ما أساءت، بوجهة نظره، استخدام ما يخصها: حياتها وجسدها..

“قُتلت طيبة؟!”.

هل هي الشابة نفسها التي كانت بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تناشد الدولة لحمايتها من التهديد قبل بضعة أيام فقط؟ 

مواقع إخبارية عديدة تناقلت خبر مقتل طيبة العلي بعدما خنقها والدها وهي نائمة. وأفادت بأن طيبة هربت من العراق بحثاً عن الحماية وحياة أخرى بعيداً عن عائلة لم تستطع حمايتها من أخيها الذي اعتدى عليها جنسياً. عُرّفت طيبة في الإعلام على أنها “بلوغر” عراقية تقيم في تركيا وكانت قد قدمت إلى العراق في زيارة.

وكما في كل مرة تقتل امرأة، بالذات إذا كانت معروفة إلى حدّ ما، تشاع تفاصيل متضاربة ومتشعبة عن حياتها، وطيبة ليست استثناءً؛ ولكن القضية الأساسية هي أن حياتها سُلبت منها. أن امرأة أخرى انضمت إلى مئات النساء اللواتي قتلن بداعي الشرف أو بدواعٍ أخرى كثيرة.

“قتل النساء” لمجرد أنهن نساء -أو مصطلح “قتل الإناث”- بات التسمية الشائعة لهذه الظاهرة، وهو مرادف لمصطلح “فيميسايد – Femicide” بالإنجليزية لوصف هذه الظاهرة المنتشرة للأسف في العالم كله.

لكن أياً من هذه المصطلحات لا يُجسد حجم المأساة في سياق العراق، ولا ينطبق كثيراً على ما يحدث فيه ولا على مجتمعه وأوهامه بالعفة والشرف الذي ربطه فقط بالمرأة. 

فمنذ لحظة ولادتها، ترث المرأة عبء الشرف الذي يخص جسدها، والذي يمنح الذكور سلطة عليه، ويحوّل المرأة إلى مملوكة لرجال العائلة والعشيرة. بينما ينال الرجل منذ لحظة الولادة لقب “حامي الشرف أو العرض”، وبالتالي يحق له التخلص من المرأة إذا ما أساءت، بوجهة نظره، استخدام ما يخصها: حياتها وجسدها.

“وإذا الموؤودة سُئلت بأيّ ذنبٍ قُتلت” 

بدلاً من “فيميسايد”، فإن “وأد البنات”، الذي هو من صلب ثقافتنا وتراثنا -وإن كنا قد نبذناه ونسيناه- هو المصطلح الأصح لتسمية ظاهرة قتل المرأة في العراق.

ارتبط الوأد بمرحلة الجاهلية حيث دفُنت الرضيعة وهي حيّة بسبب جنسها. لم نختبر تلك المرحلة أو نشهدها بأعيننا، ولكننا نعيشها اليوم في بيئتنا الإسلامية حيث يمارس تلك العادة المحرمة أشخاص -غالبيتهم من الرجال ولكن النساء لسن استثناءً- ينتمون لهذا الزمان “الحضاري” لا لزمن الجاهلية. لا يختلف ما تلقاه النساء اليوم من قتل وكبت وكتم على حياتهن عن ممارسة الوأد والعقيدة التي صاحبته؛ فَلِمَ نستخدم “الفيمسايد” أو قتل النساء أو الإناث ولدينا من صلب تاريخنا تسمية تصح له هي “وأد البنات”؟ 

الوأد يشمل معنى القتل والدفن: دفن الأجساد والأحلام والطموحات. الوأد نافذ المفعول في أي زمانٍ ومكان، تتغير أشكاله، ولكن معناه واحد. وأد يبدأ مع لحظة الميلاد ومع وقف التنفيذ. حرمان المرأة من فرص التعليم أو العمل هو وأد، وإرغامها على الزواج وهي صغيرة أو بمن لا ترغب هو وأد. النهوة العشائرية هي وأد.

توأد المرأة لأسباب واهية: طريقة لبسها، نزعها الحجاب أو ربما بسبب صورة على السوشيال ميديا، أو بسبب حبها لشخصٍ ما أو رفضها له، أو بسبب قول كلمة “لا”، بسبب تعرضها للتحرش والاغتصاب، بسبب الدين والمذهب كما في سبي الإيزيديات، والقائمة تطول. 

لكن هذه كلها أعذار، فالسبب الحقيقي يكمن في كونها امرأةً. تتنوع أدوات قتلها وأشكاله: من الرمي بالرصاص إلى الحرق إلى الرمي من ارتفاع إلى الطعن والخنق. هو وأد حرفي ووأد رمزي. وأد معنوي ومادي. فردي وجمعي. 

تُقتل الموؤودة مرتين أو ثلاثا أو ربما حّتى عشراً. مرة قبل وأدها الحرفي قتلاً، حين لا تستطيع البوح بكل انتهاك جسدي أو جنسي تتعرض له. فإن باحت، تصبح هي الملامة. فحين تُشير المرأة الى الخطأ، تصبح هي الخطأ نفسه، كما تقول الباحثة النسوية سارا أحمد. حين تصرخ غضباً، تتهم بأنها عنيفة وعاطفية بشكلٍ مبالغ فيه. ومن ثم تُكذّب ولا يصدقها أحد.  

توأد المرأة حين يخذلها القانون والدولة. فالقانون العراقي يتماهى مع الوأد، إذ تخفف مواده من عقوبة الجاني “لبواعث شريفة”، وفقاً لقانون العقوبات للعام 1969. ولا يوجد تشريع مناهض للعنف الأسري حتى اللحظة رغم الأرقام المفزعة لضحاياه، حيث تعارضه أحزاب السلطة الدينية بوصفه “مخالفاً للشريعة وأداة لتفكيك الأسرة وتماسكها”، فلم تر مسودة هذا القانون على ما يعتريها من نقاط ضعف وفجوات، النورَ الى الآن. 

توأد المرأة حين يُسجل قتلها انتحاراً ويخفف الحكم على القاتل بنصوصٍ قانونية يصر المشرع على المحافظة عليها، رغم مخالفتها بعض فقرات الدستور والمعاهدات والمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق. 

أما الدولة الممثلة في حالة طيبة وغيرها بالشرطة المجتمعية، فتقف عاجزة عن حمايتها. تئِدُها حين تفشل في إنقاذها ومنع أبيها من قتلها بعد أن علمت بمناشدتها عن طريق صديقتها بسبب التهديد، وتَئِدُها في تصريحاتها التي تُصدرها بعد مقتلها: “نأسف لهذا الحادث (..) بعد أخذ الضمانات توجهت الشرطة المجتمعية في محافظة الديوانية (..) إلى منزل الأسرة (..) إذ تم الاستماع لها وتقديم الدعم والمشورة (..) والوصول الى حلول مناسبة ترضي الجميع لحل الخلاف العائلي بشكل نهائي، إلا أننا فوجئنا بمقتلها على يد والدها”. تلك هي مقتطفات حرفية وردت في توضيح نشره سعد معن، رئيس خلية الإعلام الأمني ومدير دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية، على حساباته في السوشيال ميديا. 

يتحوّل التهديد بسلامة إنسانة ومواطنة عراقية الى مجرد “خلاف” أو “مشكلة عائلية”، ومن ثم يتمّ التأسف على مقتلها الذي فوجئت به الشرطة! هكذا يتم التعامل مع معظم الحالات: عن طريق “المشورة” بعد أخذ “الضمانات” كما هو مذكور في نص البيان من دون تفسير واضح لماهية تلك الضمانات. مشورة تنتهي غالباً بوأد الفتيات والنساء. ولا محسوبية أو مساءلة لمن فشل في تقديم الحماية، ولا توجد حتى بيانات تنديد أو استقالة. 

توأد المرأة حين تنبذها العشيرة، حين يدينها المجتمع. حين لا يحميها أخ ولا أم ولا أب ولا أخت ولا عم ولا خال. ومن ثم توأد ألف مرة بعد موتها حين ينبش الناس في حياتها الماضية ويلقون باللوم عليها ويدافعون أو يبرّرون للجاني. 

المرأة بوصفها “ملكية هجينة”! 

مصطلح لوم الضحية هو الآخر غير كافٍ للتعبير عن فداحة وقساوة الردود التي تلي قتل الضحية. فيكون التعاطف معها مشروطاً: لا بد أن تشبهنا كثيراً كي تستحق حزننا. وحتى من تعاطف، كانت هناك كلمة “لكن” بعد كل عبارة “الله يرحمها”: لكن ماذا عن أُسلوب حياتها المتحرر؟ ماذا عن كسرها للعادات والأعراف؟ 

غصت السوشيال ميديا بمعادلات خاطئة من هذا القبيل خالية من المنطق. مثل هذه التعليقات تحمل تبريرا مبطنا للجريمة، حتى لو كانت من دون قصد. في المقابل، كانت هناك تعليقات كثيرة تبرر بشكل مباشر ولا تكتفي بلوم طيبة بل تُشهر بسمعتها وتطعن بها. انشغل الكثير بطريقة حياة القتيلة رغم وجود عدة روايات حولها أكثر بكثير من انشغالهم بالجريمة. تلك ثقافة مُتسيّدة تثير الكثير من الأسئلة.. فكيف نساوي بين العلاقة الشخصية بين امرأة بالغة وشخص بالغ وبمحض إرادتهما بجريمة اغتصاب المحارم؟ كيف نلوم الضحية على هربها من تلك الفظاعة وكيف نسكت عن المعتدي والمغتصب؟ لمَ لا نطالب بالقصاص من الجاني؟ لم نحاكم الضحية؟ 

ولمِ نُكوِّن تصورات عنها ونؤلف قصصاً عن شكل حياتها بناء على مقتطفات من هنا وهناك على السوشيال ميديا فنُشهّر بها ونشوّه سمعتها.  هل مُسخت وانسلخت إنسانيتنا عنا لهذه الدرجة؟ هل اختلطت علينا المفاهيم لتلك الدرجة؟ وهل دفاعي عن الضحية يعني بالضرورة أنني أتبنى أو أشجع على حذو قراراتها الشخصية وأسلوب حياتها؟ أسال السؤال الأخير بالذات لأنني قرأت تهماً من هذا النوع موجهة للكثيرات ممن تعاطفن مع طيبة وطالبن بمحاسبة أبيها. 

يفوت الكثيرين أن هذا الفضول الجمعي والتدخل بحياة الآخرين هو عامل تحريض على قتل النساء. فالمرأة هي ملكية هجينة، بمعنى أنها ملك خاص لرجل العائلة، وملكية جماعية عامة، كذلك، ما يخوّل الجميع بمحاسبتها والتحكم في حياتها وتقرير مصيرها ومصير جسدها، خصوصاً إن فشل ولي الأمر في ذلك.

فالعشيرة والمجتمع يضغطان على العائلة بشكل مباشر أو غير مباشر كي يتخلصوا منها لأنها عار عليهم. تُصبح الضحية بموجب ثقافة لوم الضحية عاراً، فيما يصبح العار الحقيقي -الجاني- ضحية. كيف اختلطت الأدوار؟! بل أننا تجاوزنا مرحلة التبرير الى مرحلة التهديد، كما وُجهت تعليقات من رجال على السوشيال ميديا تحرض على المصير نفسه لأي فتاة ممكن أن تتقبل أو تعيش حياتها مثل طيبة: بعيداً عن العراق، في تركيا، باستقلالية وحرية في اختيار الملابس أو الشريك، مستمدين الشرعية من تفسيرهم للنص الديني الإشكالي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما تماهت بعض النساء مع هذا الخطاب من خلال إعادة إنتاجها وتدويرها للمفردات والأحكام العشائرية المجحفة بحق المرأة. “بمفهومنه العشائري هاي نهبت”، علقت إحداهن. والناهبة بحسب العرف العشائري، هي من تهرب من عائلتها لتعيش مع شخص آخر، وبالتالي سوف تستحق حكم القتل: حكم الوأد. 

لسنا على ما يُرام

لستُ على ما يرام، وأجزم أن جلّ النساء في العراق كذلك، إذ يموت في داخلنا شيء مع كل وأد. توأد النساء فنُقهر جميعاً. لم نعد كما كنا قبل الوأد، وستنقص حياتنا حياة بعده. وأد طيبة هو وأدنا جميعاً. هو دفن أرواحنا قبل أجسادنا. قد يزيد ذلك البعض منا إصراراً ومقاومة وتحديا، وقد يحدّ من نضال الكثيرات منا خشيةً من مصيرٍ مماثل.   

لا أعرف ماذا يحصل بعد الموت، ولكنني أشعر أن الموؤودات لا ينسين أيضاً، ولا يردن منا أن ننسى، ولذلك علينا الإبقاء على ذكراهن حية، وصورهن وأسمائهن شاخصة. 

الحال هذه، أظل أرددها في كل مناسبة ومن دون مناسبة: أنا طيبة اليوم، وملاك البارحة. أنا التالية غداً.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“قُتلت طيبة؟!”.

هل هي الشابة نفسها التي كانت بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تناشد الدولة لحمايتها من التهديد قبل بضعة أيام فقط؟ 

مواقع إخبارية عديدة تناقلت خبر مقتل طيبة العلي بعدما خنقها والدها وهي نائمة. وأفادت بأن طيبة هربت من العراق بحثاً عن الحماية وحياة أخرى بعيداً عن عائلة لم تستطع حمايتها من أخيها الذي اعتدى عليها جنسياً. عُرّفت طيبة في الإعلام على أنها “بلوغر” عراقية تقيم في تركيا وكانت قد قدمت إلى العراق في زيارة.

وكما في كل مرة تقتل امرأة، بالذات إذا كانت معروفة إلى حدّ ما، تشاع تفاصيل متضاربة ومتشعبة عن حياتها، وطيبة ليست استثناءً؛ ولكن القضية الأساسية هي أن حياتها سُلبت منها. أن امرأة أخرى انضمت إلى مئات النساء اللواتي قتلن بداعي الشرف أو بدواعٍ أخرى كثيرة.

“قتل النساء” لمجرد أنهن نساء -أو مصطلح “قتل الإناث”- بات التسمية الشائعة لهذه الظاهرة، وهو مرادف لمصطلح “فيميسايد – Femicide” بالإنجليزية لوصف هذه الظاهرة المنتشرة للأسف في العالم كله.

لكن أياً من هذه المصطلحات لا يُجسد حجم المأساة في سياق العراق، ولا ينطبق كثيراً على ما يحدث فيه ولا على مجتمعه وأوهامه بالعفة والشرف الذي ربطه فقط بالمرأة. 

فمنذ لحظة ولادتها، ترث المرأة عبء الشرف الذي يخص جسدها، والذي يمنح الذكور سلطة عليه، ويحوّل المرأة إلى مملوكة لرجال العائلة والعشيرة. بينما ينال الرجل منذ لحظة الولادة لقب “حامي الشرف أو العرض”، وبالتالي يحق له التخلص من المرأة إذا ما أساءت، بوجهة نظره، استخدام ما يخصها: حياتها وجسدها.

“وإذا الموؤودة سُئلت بأيّ ذنبٍ قُتلت” 

بدلاً من “فيميسايد”، فإن “وأد البنات”، الذي هو من صلب ثقافتنا وتراثنا -وإن كنا قد نبذناه ونسيناه- هو المصطلح الأصح لتسمية ظاهرة قتل المرأة في العراق.

ارتبط الوأد بمرحلة الجاهلية حيث دفُنت الرضيعة وهي حيّة بسبب جنسها. لم نختبر تلك المرحلة أو نشهدها بأعيننا، ولكننا نعيشها اليوم في بيئتنا الإسلامية حيث يمارس تلك العادة المحرمة أشخاص -غالبيتهم من الرجال ولكن النساء لسن استثناءً- ينتمون لهذا الزمان “الحضاري” لا لزمن الجاهلية. لا يختلف ما تلقاه النساء اليوم من قتل وكبت وكتم على حياتهن عن ممارسة الوأد والعقيدة التي صاحبته؛ فَلِمَ نستخدم “الفيمسايد” أو قتل النساء أو الإناث ولدينا من صلب تاريخنا تسمية تصح له هي “وأد البنات”؟ 

الوأد يشمل معنى القتل والدفن: دفن الأجساد والأحلام والطموحات. الوأد نافذ المفعول في أي زمانٍ ومكان، تتغير أشكاله، ولكن معناه واحد. وأد يبدأ مع لحظة الميلاد ومع وقف التنفيذ. حرمان المرأة من فرص التعليم أو العمل هو وأد، وإرغامها على الزواج وهي صغيرة أو بمن لا ترغب هو وأد. النهوة العشائرية هي وأد.

توأد المرأة لأسباب واهية: طريقة لبسها، نزعها الحجاب أو ربما بسبب صورة على السوشيال ميديا، أو بسبب حبها لشخصٍ ما أو رفضها له، أو بسبب قول كلمة “لا”، بسبب تعرضها للتحرش والاغتصاب، بسبب الدين والمذهب كما في سبي الإيزيديات، والقائمة تطول. 

لكن هذه كلها أعذار، فالسبب الحقيقي يكمن في كونها امرأةً. تتنوع أدوات قتلها وأشكاله: من الرمي بالرصاص إلى الحرق إلى الرمي من ارتفاع إلى الطعن والخنق. هو وأد حرفي ووأد رمزي. وأد معنوي ومادي. فردي وجمعي. 

تُقتل الموؤودة مرتين أو ثلاثا أو ربما حّتى عشراً. مرة قبل وأدها الحرفي قتلاً، حين لا تستطيع البوح بكل انتهاك جسدي أو جنسي تتعرض له. فإن باحت، تصبح هي الملامة. فحين تُشير المرأة الى الخطأ، تصبح هي الخطأ نفسه، كما تقول الباحثة النسوية سارا أحمد. حين تصرخ غضباً، تتهم بأنها عنيفة وعاطفية بشكلٍ مبالغ فيه. ومن ثم تُكذّب ولا يصدقها أحد.  

توأد المرأة حين يخذلها القانون والدولة. فالقانون العراقي يتماهى مع الوأد، إذ تخفف مواده من عقوبة الجاني “لبواعث شريفة”، وفقاً لقانون العقوبات للعام 1969. ولا يوجد تشريع مناهض للعنف الأسري حتى اللحظة رغم الأرقام المفزعة لضحاياه، حيث تعارضه أحزاب السلطة الدينية بوصفه “مخالفاً للشريعة وأداة لتفكيك الأسرة وتماسكها”، فلم تر مسودة هذا القانون على ما يعتريها من نقاط ضعف وفجوات، النورَ الى الآن. 

توأد المرأة حين يُسجل قتلها انتحاراً ويخفف الحكم على القاتل بنصوصٍ قانونية يصر المشرع على المحافظة عليها، رغم مخالفتها بعض فقرات الدستور والمعاهدات والمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق. 

أما الدولة الممثلة في حالة طيبة وغيرها بالشرطة المجتمعية، فتقف عاجزة عن حمايتها. تئِدُها حين تفشل في إنقاذها ومنع أبيها من قتلها بعد أن علمت بمناشدتها عن طريق صديقتها بسبب التهديد، وتَئِدُها في تصريحاتها التي تُصدرها بعد مقتلها: “نأسف لهذا الحادث (..) بعد أخذ الضمانات توجهت الشرطة المجتمعية في محافظة الديوانية (..) إلى منزل الأسرة (..) إذ تم الاستماع لها وتقديم الدعم والمشورة (..) والوصول الى حلول مناسبة ترضي الجميع لحل الخلاف العائلي بشكل نهائي، إلا أننا فوجئنا بمقتلها على يد والدها”. تلك هي مقتطفات حرفية وردت في توضيح نشره سعد معن، رئيس خلية الإعلام الأمني ومدير دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية، على حساباته في السوشيال ميديا. 

يتحوّل التهديد بسلامة إنسانة ومواطنة عراقية الى مجرد “خلاف” أو “مشكلة عائلية”، ومن ثم يتمّ التأسف على مقتلها الذي فوجئت به الشرطة! هكذا يتم التعامل مع معظم الحالات: عن طريق “المشورة” بعد أخذ “الضمانات” كما هو مذكور في نص البيان من دون تفسير واضح لماهية تلك الضمانات. مشورة تنتهي غالباً بوأد الفتيات والنساء. ولا محسوبية أو مساءلة لمن فشل في تقديم الحماية، ولا توجد حتى بيانات تنديد أو استقالة. 

توأد المرأة حين تنبذها العشيرة، حين يدينها المجتمع. حين لا يحميها أخ ولا أم ولا أب ولا أخت ولا عم ولا خال. ومن ثم توأد ألف مرة بعد موتها حين ينبش الناس في حياتها الماضية ويلقون باللوم عليها ويدافعون أو يبرّرون للجاني. 

المرأة بوصفها “ملكية هجينة”! 

مصطلح لوم الضحية هو الآخر غير كافٍ للتعبير عن فداحة وقساوة الردود التي تلي قتل الضحية. فيكون التعاطف معها مشروطاً: لا بد أن تشبهنا كثيراً كي تستحق حزننا. وحتى من تعاطف، كانت هناك كلمة “لكن” بعد كل عبارة “الله يرحمها”: لكن ماذا عن أُسلوب حياتها المتحرر؟ ماذا عن كسرها للعادات والأعراف؟ 

غصت السوشيال ميديا بمعادلات خاطئة من هذا القبيل خالية من المنطق. مثل هذه التعليقات تحمل تبريرا مبطنا للجريمة، حتى لو كانت من دون قصد. في المقابل، كانت هناك تعليقات كثيرة تبرر بشكل مباشر ولا تكتفي بلوم طيبة بل تُشهر بسمعتها وتطعن بها. انشغل الكثير بطريقة حياة القتيلة رغم وجود عدة روايات حولها أكثر بكثير من انشغالهم بالجريمة. تلك ثقافة مُتسيّدة تثير الكثير من الأسئلة.. فكيف نساوي بين العلاقة الشخصية بين امرأة بالغة وشخص بالغ وبمحض إرادتهما بجريمة اغتصاب المحارم؟ كيف نلوم الضحية على هربها من تلك الفظاعة وكيف نسكت عن المعتدي والمغتصب؟ لمَ لا نطالب بالقصاص من الجاني؟ لم نحاكم الضحية؟ 

ولمِ نُكوِّن تصورات عنها ونؤلف قصصاً عن شكل حياتها بناء على مقتطفات من هنا وهناك على السوشيال ميديا فنُشهّر بها ونشوّه سمعتها.  هل مُسخت وانسلخت إنسانيتنا عنا لهذه الدرجة؟ هل اختلطت علينا المفاهيم لتلك الدرجة؟ وهل دفاعي عن الضحية يعني بالضرورة أنني أتبنى أو أشجع على حذو قراراتها الشخصية وأسلوب حياتها؟ أسال السؤال الأخير بالذات لأنني قرأت تهماً من هذا النوع موجهة للكثيرات ممن تعاطفن مع طيبة وطالبن بمحاسبة أبيها. 

يفوت الكثيرين أن هذا الفضول الجمعي والتدخل بحياة الآخرين هو عامل تحريض على قتل النساء. فالمرأة هي ملكية هجينة، بمعنى أنها ملك خاص لرجل العائلة، وملكية جماعية عامة، كذلك، ما يخوّل الجميع بمحاسبتها والتحكم في حياتها وتقرير مصيرها ومصير جسدها، خصوصاً إن فشل ولي الأمر في ذلك.

فالعشيرة والمجتمع يضغطان على العائلة بشكل مباشر أو غير مباشر كي يتخلصوا منها لأنها عار عليهم. تُصبح الضحية بموجب ثقافة لوم الضحية عاراً، فيما يصبح العار الحقيقي -الجاني- ضحية. كيف اختلطت الأدوار؟! بل أننا تجاوزنا مرحلة التبرير الى مرحلة التهديد، كما وُجهت تعليقات من رجال على السوشيال ميديا تحرض على المصير نفسه لأي فتاة ممكن أن تتقبل أو تعيش حياتها مثل طيبة: بعيداً عن العراق، في تركيا، باستقلالية وحرية في اختيار الملابس أو الشريك، مستمدين الشرعية من تفسيرهم للنص الديني الإشكالي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما تماهت بعض النساء مع هذا الخطاب من خلال إعادة إنتاجها وتدويرها للمفردات والأحكام العشائرية المجحفة بحق المرأة. “بمفهومنه العشائري هاي نهبت”، علقت إحداهن. والناهبة بحسب العرف العشائري، هي من تهرب من عائلتها لتعيش مع شخص آخر، وبالتالي سوف تستحق حكم القتل: حكم الوأد. 

لسنا على ما يُرام

لستُ على ما يرام، وأجزم أن جلّ النساء في العراق كذلك، إذ يموت في داخلنا شيء مع كل وأد. توأد النساء فنُقهر جميعاً. لم نعد كما كنا قبل الوأد، وستنقص حياتنا حياة بعده. وأد طيبة هو وأدنا جميعاً. هو دفن أرواحنا قبل أجسادنا. قد يزيد ذلك البعض منا إصراراً ومقاومة وتحديا، وقد يحدّ من نضال الكثيرات منا خشيةً من مصيرٍ مماثل.   

لا أعرف ماذا يحصل بعد الموت، ولكنني أشعر أن الموؤودات لا ينسين أيضاً، ولا يردن منا أن ننسى، ولذلك علينا الإبقاء على ذكراهن حية، وصورهن وأسمائهن شاخصة. 

الحال هذه، أظل أرددها في كل مناسبة ومن دون مناسبة: أنا طيبة اليوم، وملاك البارحة. أنا التالية غداً.