“ما يحدث ليس قدراً”: النساء بحاجة إلى مكان في وسائل النقل العام
24 كانون الثاني 2023
تموت النساء أو يتركن الدراسة أو يتخلّفن عن العمل نتيجة لتراجع قطاع النقل العام في العراق، وغلاء وعدم أمام أمان النقل الخاص. لكن الجواب الذي تحصل عليه النساء هو "القدرية".. فما قصة تأثير غياب النقل العام على النساء وحياتهن ومستقبلهن؟
أدّى تغلغل الاسلام السياسي على مدى عقدين في المجتمع العراقي إلى ترسيخ جملة من المفاهيم التي تضمن له عدم نقد سياسته أو تحليلها أو رفضها، ومن أبرزها مفهوم “القدرية”. ويقصد بها أن الأحداث التي تحصل مع الناس هي قدر ربانيّ وليست نتاج تقصير بشري، وأنها ستحدث رغم أنوف الجميع لأنها رغبة الله ومشيئته. وبذلك فقد الناس الربط المنطقي بين السبب والنتيجة، وبالتالي فقدوا إمكانية الاحتجاج لتغيير واقعهم أو ضمان كرامتهم وسلامتهم وسلامة بناتهم وأبنائهم.
قبل شهور، توفيت طالبة جامعية من قضاء القائم في محافظة الأنبار لم يتم التعرف على اسمها بأي من الأخبار التي نقلت خبر الوفاة، كانت تسكن في الأقسام الداخلية لمساكن الطالبات في مدينة الرمادي. غادرتنا هذه الفتاة مبكراً لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، منها قلق الطلاب حيال الأجور الدراسية الآخذة بالارتفاع دون حدّ، ووجود جامعة واحدة في الأنبار لدرجة تدفع بطالبة تسكن على الحدود العراقية السورية إلى مدينة الرمادي لكي تكمل دراستها الجامعية على الرغم من حركة الإعمار الكبيرة في الأنبار، إلى جانب غياب وحدات الإسعاف داخل مباني الأقسام الداخلية. لكن كان لافتاً للنظر طريقة تعامل الرأي العام مع حادثة وفاتها، حيث انتشرت الكثير من المنشورات والفيديوهات على فيسبوك وانستغرام لترهيب وتخويف الطالبات الجامعيات، إذا خرجن عن إطار الحشمة او إجراء علاقات عاطفية، بادعاء أن الموت يطال الشباب وليس الشيبة فحسب، ولذلك فعليهن أن يلتزمنَ دينياً ويتركن ملذات الدنيا (التي لانعرف ما هي أصلاً).. مع صور تظهر الفقيدة في حالة فرح أو نشاط اجتماعي.. وربما تلك كانت الملذات المقصودة! إذن فحتى الحق في الحياة بات مهدداً بالنسبة للنساء، وهن اللواتي في موتهن مهمشات منسيات أيضاً، فقد مرت حادثة موت الفتاة مرور الكرام ولم تساءل أي جهة حكومية أو ادارية عن التقصير أو معالجة جذور المشكلة التي جعلتنا نفقدها.
لم تمض سوى أشهر قليلة وتوفيت طالبة أخرى، تدعى بسمة صالح مهدي، من جامعة الكوفة في محافظة النجف، دهساً بسيارة نقل بضائع (تريلة) وهي تحاول العبور لتصل إلى “الخط” الخاص بنقلها، عند الجهة المقابلة لبوابة الكلية الموجودة على طريق نقل يعد الأخطر من حيث سرعة السيارات ونوعيتها، فهو مصنف كطريق حولي لمرور سيارات البضائع. اعتبر موت الطالبة قضاءً وقدرا أيضاً، وكما في الحالة السابقة تم بث فيديوهات وعُومل موتها بالطريقة ذاتها، ولم يتم تحليل المشكلة أو نقدها من قبيل؛ لماذا تستقل النساء “الخطوط” أصلاً؟ ولماذا لا يوجد لدينا طرق نقل آمنة؟ أو اقتراح حل من قُبيل استحداث جسر مشاة لتأمين انتقال الطالبات بأمان، أو رفض الناس انتقال سيارات البضائع عبر تلك الطرق فهي تولد ضغطا كبيرا على محاور الشبكة وتسهم في تدميرها، إضافة إلى المبالغ الطائلة والجهد والوقت المطلوب لإعادة اعمارها في ظل انحسار نشاط نقل البضائع عبر السكك الحديدية.
كيف تتنقّل المرأة العراقية؟
“الخط” هو مصطلح شعبي لسيارات أجرة صغيرة أو متوسطة الحجم، يطلق على وسائل النقل التي تقلّ عددا قليلا من الأشخاص بعد أن يتفقوا مع السائق على ترتيب معين. واتسع عمل الخط بعد عام 2003 بسبب تدهور الأوضاع الامنية وكثرة حوادث الاختطاف أو التسليب في وسائل النقل العامة أو بالطرق المؤدية إليها، أو الانفجارات التي تحدث بها أو في محطات النقل (الكراجات). وشكلت النساء، والطالبات منهن تحديداً، شريحة المستهلكين الأكبر للخط باعتباره أكثر أماناً، إلا أنه وعلى الرغم من مرور الوقت واستتباب الأمن بشكل نسبي، إلا أن هؤلاء النسوة لم تعاودن استخدام وسائل النقل العام باعتبار أن السبب قد زال، وعلى الرغم من أن تكلفة الخطوط تظل أغلى من النقل العام، حيث تصل إلى أضعاف التكلفة شهرياً إذا اقتطعنا أيام العطلات الرسمية وغير الرسمية وعطل نهاية الأسبوع، إضافة إلى يوم التوقف الدراسي المحدد حسب كل مرحلة دراسية جامعية من كل شهر.
ويُعزى تدهور قطاع المواصلات العامة والبنية التحتية في العراق، وبشكل ملحوظ منذ عام 2003، إلى عدم صيانة الشوارع وتطويرها وتعرضها للأتلاف بسبب تكرار الأعمال الإرهابية على خطوط النقل الرئيسية في كل محافظة، وزيادة العبء عليها بمرور الأرتال العسكرية والاستعراضات المليشاوية كل فترة في الشوارع، ما أدى إلى استغلال المجتمع الذكوري هذا التدهور بشكل غير مباشر لتقييد حرية حركة وتنقل النساء. لقد باتت وسائل النقل العام العراقية طاردة للمرأة بتحولها لوسيلة تنقّل مجهدة ومرهقة، لا تستطيع الكثير من النساء استخدامها لأنها بعيدة عن المناطق السكنية بالدرجة الأولى، فالكثير من محطات النقل القريبة من المناطق السكنية ألغيت وأدمج عملها في محطة النقل المركزية في المدن. يُضاف إلى ذلك، افتقار وجود كادر سائقين كاف وذي كفاءة، وغياب النساء عن هذه الوظائف بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه عمل النساء كسائقات. كما أن هناك تفشيا لظاهرة التحرش في المواصلات العامة، لدرجة انتشار حملة في مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان #إفضحي_المتحرش، تتناول فيديوهات لرجال مكشوفي الوجوه وهم يمارسون فعل التحرش الذي يصل الى مستوى فعل فاضح في الطريق العام.
بتهالك الشوارع وعدم صيانتها والتي بات تبليطها أقصى سقف طموحات العراقيين، هجرت وسائل النقل العام نسبة لا يستهان بها من النساء. فتلك الطرق مغبرة وغير نظيفة في الغالب، ما تعرض النساء والرجال على حدّ سواء للاتساخ، وخاصة في المدن التي لا ترتدي فيها النساء زياً مقبولا مجتمعياً خارج المنزل سوى العباءة السوداء. ويفاقم الوضع غياب التهوية أو التكييف الذي يجعل الملابس عرضة للإتساخ، أو ترك آثار التعرق بسبب كثرة الملابس التي على النساء ارتداؤها مهما ارتفعت درجة الحرارة. وإلى ذلك كله يُضاف عناء طول الفترة الزمنية التي تستغرقها الباصات للوصول إلى وجهتها، وعدم وجود مواعيد معينة أو ثابتة لانطلاقها، ما قد يعرّض النساء إلى المساءلة وربما ما هو أخطر من قبل ذويها وزوجها في مجتمعنا المحافظ.
نتيجة لذلك، تضطر النساء إلى تحمل تكلفة النقل العالية لدرجة أنها باتت تشكل عائقاً أساسياً إضافياً لحرمانها من الخروج. فعادة ما تكون تكلفة النقل ذهاباً واياباً للمشوار الواحد بمتوسط ثلاثة إلى ستة دولارات، وهذا يعتبر مكلفا في ظل عدم الاستقلال الاقتصادي وتفشي البطالة بين النساء والاعتماد على الشريك أو ولي الأمر في العيش. ومن هنا تجد الكثير من النساء أنفسهن مضطرات لترتيب اولوياتهنّ، فيخترن النقل من أجل الدراسة فيما يستغنين عن بقية المتطلبات، وهناك قصص عديدة عن الطالبات اللواتي اضطررن لتأجيل سنين دراسية من أجل توفير الأموال التي يلزمها الخط لسنة كاملة.
ش. م، هي طالبة في كلية القانون تأهلت لدراسة الماجستير بعد نجاحها في الامتحان التنافسي لكنها قررت تأجيل السنة الدراسية الأولى، بسبب عدم جمعها ما يكفي من المال المخصص للنقل ليغطي السنة الأولى، لا سيما وأنها تسكن في النجف القديمة وكليتها في قضاء الكوفة قرب النهر مما يزيد من أجور الخط. أما ز.ن، فقد قررت تأجيل دراسة المرحلة الرابعة من دراسة البكالوريوس، بسبب عدم قدرة والدها على تغطية تكاليف النقل بعد تغيّر نوع عمله، لاسيما وأنها تسكن في قضاء أبو صخير والكلية في قضاء الكوفة.
التكلفة اقتصادياً لهنّ.. وللدولة
إلى جانب عزوف النساء عن استخدام المواصلات العامة، ما يعني حرمانهن من الخروج وتكبدهن تكلفة النقل الخاص، شهدنا انتعاش تجارة التوصيل للمنازل والتي تعد النساء أهم مستهلكي خدماتها. أدى استخدام النساء لخدمات التوصيل إلى استغنائهن عن التسوق في الخارج بسبب تكلفة التوصيل ونسبتها إلى سعر المنتج، آخذات بعين الاعتبار البطالة المتفشية بينهن واعتمادهن مادياً على الولي او الشريك.
بما أن النساء يشكّلن حوالي نصف نسبة السكان في العراق، فإن النتيجة المترتبة عن جعل وسائل النقل العام غير متاحة لهن، هو خسارة اقتصادية باهظة. فكم خسرت الحكومة العراقية مادياً جراء ذلك، إضافة إلى فقدان صورتها كحامية لمواطناتها عندما لم تأخذ خصوصية حياتهن وتنقلهن في الاعتبار، أي عدم اعتبار المقاربة النسوية في بناء سياساتها؟
بالنظر لأن النساء غائبات عن سياسات النقل والمواصلات، فمن الأرجح أنه ليس ثمة احتساب رسمي للتكلفة التي يتكبدها الاقتصاد القومي جراء عدم استخدام غالبيتهنّ لوسائل النقل العامة. كما أنه على الأرجح ليس هناك احتساب للأرباح التي يجنيها القطاع الخاص، ممثلاً بشركات قامت أساسا لسدّ تلك الفجوة الخدماتية في حياة النساء، مثل شركة بلي وكريم وأوبر، التي تعتبر النساء أكثر الطالبين لخدماتها.
إن إجراء حساب بسيط قد يظهر أن تحسين وسائل النقل من شأنه أن يرفع من القدرة الشرائية للأفراد بسبب تحول تخصيصها من النقل الخاص المكلف إلى شراء السلع والخدمات بشكل مباشر، بدل الاعتماد على التوصيل للمنازل التي تحولت من استثناء إلى قاعدة أساسية، وإلى تجارة رائجة أنشئت بسببها شركات متعددة وبالغة التنوع والكثرة. كما أن تحسين وسائل النقل العام يقلل من المبالغ التي تنفق على الخطوط سنوياً من قبل النساء، وكذلك تسمح بتنوع الوظائف التي تشغلها النساء بشكل أكبر، حيث أظهرت دراسة لمنظمة الهجرة عام 2019 أن إحدى أكبر العوائق أمام عمل النساء في العراق هو رداءة وسائل النقل، من حيث التكلفة والبعد، الأمر الذي من شأنه أن يرفع من التنمية الاقتصادية اكثر.
ما يحدث ليس قدراً.. بل هو أننا طُرحنا عمداً من وسائل النقل العامة ومن قائمة الأولويات في بلدنا.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
أدّى تغلغل الاسلام السياسي على مدى عقدين في المجتمع العراقي إلى ترسيخ جملة من المفاهيم التي تضمن له عدم نقد سياسته أو تحليلها أو رفضها، ومن أبرزها مفهوم “القدرية”. ويقصد بها أن الأحداث التي تحصل مع الناس هي قدر ربانيّ وليست نتاج تقصير بشري، وأنها ستحدث رغم أنوف الجميع لأنها رغبة الله ومشيئته. وبذلك فقد الناس الربط المنطقي بين السبب والنتيجة، وبالتالي فقدوا إمكانية الاحتجاج لتغيير واقعهم أو ضمان كرامتهم وسلامتهم وسلامة بناتهم وأبنائهم.
قبل شهور، توفيت طالبة جامعية من قضاء القائم في محافظة الأنبار لم يتم التعرف على اسمها بأي من الأخبار التي نقلت خبر الوفاة، كانت تسكن في الأقسام الداخلية لمساكن الطالبات في مدينة الرمادي. غادرتنا هذه الفتاة مبكراً لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، منها قلق الطلاب حيال الأجور الدراسية الآخذة بالارتفاع دون حدّ، ووجود جامعة واحدة في الأنبار لدرجة تدفع بطالبة تسكن على الحدود العراقية السورية إلى مدينة الرمادي لكي تكمل دراستها الجامعية على الرغم من حركة الإعمار الكبيرة في الأنبار، إلى جانب غياب وحدات الإسعاف داخل مباني الأقسام الداخلية. لكن كان لافتاً للنظر طريقة تعامل الرأي العام مع حادثة وفاتها، حيث انتشرت الكثير من المنشورات والفيديوهات على فيسبوك وانستغرام لترهيب وتخويف الطالبات الجامعيات، إذا خرجن عن إطار الحشمة او إجراء علاقات عاطفية، بادعاء أن الموت يطال الشباب وليس الشيبة فحسب، ولذلك فعليهن أن يلتزمنَ دينياً ويتركن ملذات الدنيا (التي لانعرف ما هي أصلاً).. مع صور تظهر الفقيدة في حالة فرح أو نشاط اجتماعي.. وربما تلك كانت الملذات المقصودة! إذن فحتى الحق في الحياة بات مهدداً بالنسبة للنساء، وهن اللواتي في موتهن مهمشات منسيات أيضاً، فقد مرت حادثة موت الفتاة مرور الكرام ولم تساءل أي جهة حكومية أو ادارية عن التقصير أو معالجة جذور المشكلة التي جعلتنا نفقدها.
لم تمض سوى أشهر قليلة وتوفيت طالبة أخرى، تدعى بسمة صالح مهدي، من جامعة الكوفة في محافظة النجف، دهساً بسيارة نقل بضائع (تريلة) وهي تحاول العبور لتصل إلى “الخط” الخاص بنقلها، عند الجهة المقابلة لبوابة الكلية الموجودة على طريق نقل يعد الأخطر من حيث سرعة السيارات ونوعيتها، فهو مصنف كطريق حولي لمرور سيارات البضائع. اعتبر موت الطالبة قضاءً وقدرا أيضاً، وكما في الحالة السابقة تم بث فيديوهات وعُومل موتها بالطريقة ذاتها، ولم يتم تحليل المشكلة أو نقدها من قبيل؛ لماذا تستقل النساء “الخطوط” أصلاً؟ ولماذا لا يوجد لدينا طرق نقل آمنة؟ أو اقتراح حل من قُبيل استحداث جسر مشاة لتأمين انتقال الطالبات بأمان، أو رفض الناس انتقال سيارات البضائع عبر تلك الطرق فهي تولد ضغطا كبيرا على محاور الشبكة وتسهم في تدميرها، إضافة إلى المبالغ الطائلة والجهد والوقت المطلوب لإعادة اعمارها في ظل انحسار نشاط نقل البضائع عبر السكك الحديدية.
كيف تتنقّل المرأة العراقية؟
“الخط” هو مصطلح شعبي لسيارات أجرة صغيرة أو متوسطة الحجم، يطلق على وسائل النقل التي تقلّ عددا قليلا من الأشخاص بعد أن يتفقوا مع السائق على ترتيب معين. واتسع عمل الخط بعد عام 2003 بسبب تدهور الأوضاع الامنية وكثرة حوادث الاختطاف أو التسليب في وسائل النقل العامة أو بالطرق المؤدية إليها، أو الانفجارات التي تحدث بها أو في محطات النقل (الكراجات). وشكلت النساء، والطالبات منهن تحديداً، شريحة المستهلكين الأكبر للخط باعتباره أكثر أماناً، إلا أنه وعلى الرغم من مرور الوقت واستتباب الأمن بشكل نسبي، إلا أن هؤلاء النسوة لم تعاودن استخدام وسائل النقل العام باعتبار أن السبب قد زال، وعلى الرغم من أن تكلفة الخطوط تظل أغلى من النقل العام، حيث تصل إلى أضعاف التكلفة شهرياً إذا اقتطعنا أيام العطلات الرسمية وغير الرسمية وعطل نهاية الأسبوع، إضافة إلى يوم التوقف الدراسي المحدد حسب كل مرحلة دراسية جامعية من كل شهر.
ويُعزى تدهور قطاع المواصلات العامة والبنية التحتية في العراق، وبشكل ملحوظ منذ عام 2003، إلى عدم صيانة الشوارع وتطويرها وتعرضها للأتلاف بسبب تكرار الأعمال الإرهابية على خطوط النقل الرئيسية في كل محافظة، وزيادة العبء عليها بمرور الأرتال العسكرية والاستعراضات المليشاوية كل فترة في الشوارع، ما أدى إلى استغلال المجتمع الذكوري هذا التدهور بشكل غير مباشر لتقييد حرية حركة وتنقل النساء. لقد باتت وسائل النقل العام العراقية طاردة للمرأة بتحولها لوسيلة تنقّل مجهدة ومرهقة، لا تستطيع الكثير من النساء استخدامها لأنها بعيدة عن المناطق السكنية بالدرجة الأولى، فالكثير من محطات النقل القريبة من المناطق السكنية ألغيت وأدمج عملها في محطة النقل المركزية في المدن. يُضاف إلى ذلك، افتقار وجود كادر سائقين كاف وذي كفاءة، وغياب النساء عن هذه الوظائف بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه عمل النساء كسائقات. كما أن هناك تفشيا لظاهرة التحرش في المواصلات العامة، لدرجة انتشار حملة في مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان #إفضحي_المتحرش، تتناول فيديوهات لرجال مكشوفي الوجوه وهم يمارسون فعل التحرش الذي يصل الى مستوى فعل فاضح في الطريق العام.
بتهالك الشوارع وعدم صيانتها والتي بات تبليطها أقصى سقف طموحات العراقيين، هجرت وسائل النقل العام نسبة لا يستهان بها من النساء. فتلك الطرق مغبرة وغير نظيفة في الغالب، ما تعرض النساء والرجال على حدّ سواء للاتساخ، وخاصة في المدن التي لا ترتدي فيها النساء زياً مقبولا مجتمعياً خارج المنزل سوى العباءة السوداء. ويفاقم الوضع غياب التهوية أو التكييف الذي يجعل الملابس عرضة للإتساخ، أو ترك آثار التعرق بسبب كثرة الملابس التي على النساء ارتداؤها مهما ارتفعت درجة الحرارة. وإلى ذلك كله يُضاف عناء طول الفترة الزمنية التي تستغرقها الباصات للوصول إلى وجهتها، وعدم وجود مواعيد معينة أو ثابتة لانطلاقها، ما قد يعرّض النساء إلى المساءلة وربما ما هو أخطر من قبل ذويها وزوجها في مجتمعنا المحافظ.
نتيجة لذلك، تضطر النساء إلى تحمل تكلفة النقل العالية لدرجة أنها باتت تشكل عائقاً أساسياً إضافياً لحرمانها من الخروج. فعادة ما تكون تكلفة النقل ذهاباً واياباً للمشوار الواحد بمتوسط ثلاثة إلى ستة دولارات، وهذا يعتبر مكلفا في ظل عدم الاستقلال الاقتصادي وتفشي البطالة بين النساء والاعتماد على الشريك أو ولي الأمر في العيش. ومن هنا تجد الكثير من النساء أنفسهن مضطرات لترتيب اولوياتهنّ، فيخترن النقل من أجل الدراسة فيما يستغنين عن بقية المتطلبات، وهناك قصص عديدة عن الطالبات اللواتي اضطررن لتأجيل سنين دراسية من أجل توفير الأموال التي يلزمها الخط لسنة كاملة.
ش. م، هي طالبة في كلية القانون تأهلت لدراسة الماجستير بعد نجاحها في الامتحان التنافسي لكنها قررت تأجيل السنة الدراسية الأولى، بسبب عدم جمعها ما يكفي من المال المخصص للنقل ليغطي السنة الأولى، لا سيما وأنها تسكن في النجف القديمة وكليتها في قضاء الكوفة قرب النهر مما يزيد من أجور الخط. أما ز.ن، فقد قررت تأجيل دراسة المرحلة الرابعة من دراسة البكالوريوس، بسبب عدم قدرة والدها على تغطية تكاليف النقل بعد تغيّر نوع عمله، لاسيما وأنها تسكن في قضاء أبو صخير والكلية في قضاء الكوفة.
التكلفة اقتصادياً لهنّ.. وللدولة
إلى جانب عزوف النساء عن استخدام المواصلات العامة، ما يعني حرمانهن من الخروج وتكبدهن تكلفة النقل الخاص، شهدنا انتعاش تجارة التوصيل للمنازل والتي تعد النساء أهم مستهلكي خدماتها. أدى استخدام النساء لخدمات التوصيل إلى استغنائهن عن التسوق في الخارج بسبب تكلفة التوصيل ونسبتها إلى سعر المنتج، آخذات بعين الاعتبار البطالة المتفشية بينهن واعتمادهن مادياً على الولي او الشريك.
بما أن النساء يشكّلن حوالي نصف نسبة السكان في العراق، فإن النتيجة المترتبة عن جعل وسائل النقل العام غير متاحة لهن، هو خسارة اقتصادية باهظة. فكم خسرت الحكومة العراقية مادياً جراء ذلك، إضافة إلى فقدان صورتها كحامية لمواطناتها عندما لم تأخذ خصوصية حياتهن وتنقلهن في الاعتبار، أي عدم اعتبار المقاربة النسوية في بناء سياساتها؟
بالنظر لأن النساء غائبات عن سياسات النقل والمواصلات، فمن الأرجح أنه ليس ثمة احتساب رسمي للتكلفة التي يتكبدها الاقتصاد القومي جراء عدم استخدام غالبيتهنّ لوسائل النقل العامة. كما أنه على الأرجح ليس هناك احتساب للأرباح التي يجنيها القطاع الخاص، ممثلاً بشركات قامت أساسا لسدّ تلك الفجوة الخدماتية في حياة النساء، مثل شركة بلي وكريم وأوبر، التي تعتبر النساء أكثر الطالبين لخدماتها.
إن إجراء حساب بسيط قد يظهر أن تحسين وسائل النقل من شأنه أن يرفع من القدرة الشرائية للأفراد بسبب تحول تخصيصها من النقل الخاص المكلف إلى شراء السلع والخدمات بشكل مباشر، بدل الاعتماد على التوصيل للمنازل التي تحولت من استثناء إلى قاعدة أساسية، وإلى تجارة رائجة أنشئت بسببها شركات متعددة وبالغة التنوع والكثرة. كما أن تحسين وسائل النقل العام يقلل من المبالغ التي تنفق على الخطوط سنوياً من قبل النساء، وكذلك تسمح بتنوع الوظائف التي تشغلها النساء بشكل أكبر، حيث أظهرت دراسة لمنظمة الهجرة عام 2019 أن إحدى أكبر العوائق أمام عمل النساء في العراق هو رداءة وسائل النقل، من حيث التكلفة والبعد، الأمر الذي من شأنه أن يرفع من التنمية الاقتصادية اكثر.
ما يحدث ليس قدراً.. بل هو أننا طُرحنا عمداً من وسائل النقل العامة ومن قائمة الأولويات في بلدنا.