الزراعة في بابل: "القادم أسوأ!"
12 كانون الأول 2022
"القادم أسوأ!"، يقول المسؤولون للفلاحين بشأن مستقبل الزراعة في بابل. فلا حل قريباً يضمن التدفقات المائية إلى الأراضي. الجفاف قادم. والهجرة أكثر الحلول طرحاً.. رحلة جفاف وهجرة يخوضها مزارعو بابل، يواجهون خلالها أصعب الأحداث ويتمنون لو أنهم استطاعوا البقاء في موطن ولادتهم..
حتّى وهو يعمل في مهنة غير الفلاحة، يستحضر حسن هادي مشاهد بساتينه التي زرع فيها لنحو ثلاثة عقود.
اضطر حسن إلى مغادرة قريته الصغيرة “بني سالة” في ناحية أبي غرق (16 كم عن مركز مدينة الحلة) بعد أن حول الجفاف بساتينه إلى أرض قاحلة.
مني حسن بخسائر فادحة.
كان يمتلك 16 دونما في قريته يزرعها بشتى أنواع المحاصيل من خضروات وفواكه وحنطة وشلب، وكان يربح مالا وفيرا، لكن الماء لم يسعفه في مواصلة حياته في القرية، فنزح إلى مدينة الحلة، مركز محافظة بابل.
“ليس الماء فقط. الحكومة لا تدعمنا في توفير الأسمدة الكيمياوية والبذور ومكائن السقي والوقود” قال حسن.
إنه يمثل أنموذجا لهجرة الفلاحين نحو المدينة.
القادم أسوأ
نالت بابل نصيبا غير قليل من الجفاف الذي يضرب العراق منذ 4 سنوات نتيجة قلة الأمطار وخفض حصص المياه القادمة من إيران وتركيا.
دخلت المحافظة هذه السنة مياه أقل بنسبة 30 بالمئة مقارنة بالسنة السابقة.
علاوة على ذلك، تحصل بابل على 45 بالمئة فقط من الإطلاقات المائية إلى شط الحلة، بينما تذهب 45 بالمئة إلى محافظة الديوانية و10 بالمئة إلى محافظة المثنى.
“مقدار المياه التي تدخل المحافظة يبلغ نحو 80 متراً مكعباً في الثانية” قال فالح السعيدي مدير الموارد المائية في بابل.
الواقع الزراعي يخبر أن هذا المقدار ضئيل.
انخفضت مساحة الأراضي المزروعة العام الحالي إلى 160 ألف دونم بعد أن كانت 330 ألف دونم العام الماضي 2021.
“ستنخفض إلى 106 آلاف دونم الموسم المقبل” قال ثامر عبد جاسم الخفاجي مدير زراعة بابل.
نسبة الضرر الناجم عن الجفاف تتراوح بين 60 و70 بالمئة في بعض المناطق، وتصل إلى 100 بالمئة في مناطق أخرى مثل الصمود ونهاية ناحية الشوملي.
كل ذلك يؤدي إلى هجرة الريف نحو المدينة.
ذهب مفقود.. ريف مهجور
لا تتوفر إحصاءات رسمية دقيقة بشأن أعداد من يهجرون القرى شهرياً أو سنوياً نتيجة تردي الزراعة، لكن متخصصين يؤكدون أن مئات العوائل تهاجر.
أبو فرح واحد من الفلاحين المقبلين على الهجرة.
حُرم أبو فرح زراعة الذرة الصفراء في موسم العام الحالي في حقله البالغ 20 دونما بناحية النيل (10 كم عن مركز الحلة)، وبات يشعر بالإحباط.
“نسمي الذرة الذهب الأصفر لجمال شكلها وفوائدها الكثير” قال لنا.
غير أنه لم يعد يملك من هذا الذهب شيئا، وراح يبحث عن عمل آخر بعيدا عن الريف.
تعد بابل من المحافظات الأولى في إنتاج الذرة الصفراء، كما أنها المحافظة الوحيدة في العراق التي يوجد في مديرية زراعتها قسم الذرة الصفراء.
زرع الفلاحون في بابل العام الماضي أكثر من 79.203 دونما من الذرة الصفراء، وبلغت الكميات المسوقة من المعامل 40 ألفا و709 أطنان، فيما بلغت الكميات المباعة في الأسواق المحلية نحو 30 ألفا و502 من الأطنان.
لم يُزرع غرام واحد في العام الحالي، وكذلك سيكون الحال العام المقبل.
فائدة الذرة الصفراء تتركز في أنها تدخل في صناعة زيت الطعام وأعلاف الأسماك والدواجن.
“كانت الذرة الصفراء المحصول الأكثر تضررا من شح المياه، تليها المحاصيل النجيلية من الحنطة والشعير، كما مات كثير من بساتين النخيل والأعناب والتين” قال الخفاجي.
بحسب إحصاءات الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية في بابل، بقي 10 بالمئة فقط من مزارعي المحافظة يزاول مهنة الزراعة.
منطقة الرشايد، التي تعد من أهم المناطق الزراعية شمالي المحافظة، كانت تحتوي على 368 قطعة زراعية، بينما لا يتجاوز عددها حاليا 40 قطعة فقط مزروعة بشكل جزئي وبمساحات صغيرة ومتفرقة.
خطة تقويض الزراعة
إلى الجنوب من بابل، يوجد جدول مائي متفرع من شط الحلة ضمن قضاء القاسم اسمه جدول الجربوعية، يبلغ طوله 38 كم.
باتت المياه تصل إلى أول 11 كم منه فقط.
يوجد جدول آخر اسمه العمادية تصل المياه إلى أول 3.5 كم منه بينما يبلغ طوله 11 كم.
بدلا من التوجه نحو خطوات تعالج أساس المشكلة المتمثل بشح المياه، استسلمت حكومة العراق للواقع وحاولت تسيير الأمور بما هو موجود.
قررت تقليص المساحات المزروعة.
حُرم آلاف المزارعين والفلاحين من زراعة أراضيهم بموجب ما تسمى الخطة الزراعية، والتي قلصت أراضي الزراعة في الموسم الشتوي إلى 50 بالمئة مقارنة بالعام الماضي 2021، واستبعدت عددا من المحافظات.
تحاول مديرية الموارد المائية في بابل توفير شيء من المياه عبر إزالة التجاوزات على الأنهار والجداول.
“قمنا بإزالة أكثر من 400 تجاوز ومخالفة على الحصص المائية في مناطق عدة” قال السعيدي.
لكن تأثير هذه الإجراءات محدود على ما يبدو.
قال محمد العذاري، الأستاذ في كلية الزراعة بجامعة القاسم الخضراء، إن “الحلول الوقتية للسيطرة على الجفاف غير مجدية. البدائل تكمن في خزن ما يمكن خزنه من المياه السطحية بعد موسم الأمطار، وبناء بعض السدود، وتقليل الهدر في المياه التي تصب في الخليج عن طريق شط العرب، وهذا يستغرق مدة طويلة”.
“حلول الحكومة خجولة جدا ولا ترتقي إلى مستوى المسؤولية” أضاف العذاري.
مقترحات فحسب
ينصح السعيدي باستثمار الأزمة الحالية للتحول من الري القديم المفتوح الذي يعتمد على توزيع المياه بكميات كبيرة على الأراضي الزراعية إلى الري المغلق لضمان الاستخدام الأمثل وتقليل الضائعات المائية وزيادة غلة الدونم الواحد ورفع كفاءة الإرواء وزيادة المساحات المزروعة.
“الري بالطرق الحديثة سيساعدنا على تجاوز أكثر من 70 بالمئة من المشاكل” قال لنا.
في آب من العام الحالي، صرحت وزارة الزراعة بتخصيص مبالغ لمساعدة المزارعين والفلاحين على شراء تقنيات الري الحديث.
ومن المفترض بدء مناقصات منذ ذلك الحين لشراء مرشحات وتوزيعها بين العاملين في الزراعة.
إلا أن مسؤولين كبارا في الوزارة يرون أن ترك الأمر إلى القطاع الخاص لإنشاء مصانع تنتج منظومات الري الحديثة أسرع وأجدى، ذلك أن حركته أسرع من حركة القطاع الحكومي المحكوم بالموازنات والإجراءات الإدارية الطويلة.
وبينما لا تقدم الحكومة حلولا ملموسة للواقع الزراعي المرير، يتشبث حسن هادي بآمال عودة المياه إلى مجاريها.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
حتّى وهو يعمل في مهنة غير الفلاحة، يستحضر حسن هادي مشاهد بساتينه التي زرع فيها لنحو ثلاثة عقود.
اضطر حسن إلى مغادرة قريته الصغيرة “بني سالة” في ناحية أبي غرق (16 كم عن مركز مدينة الحلة) بعد أن حول الجفاف بساتينه إلى أرض قاحلة.
مني حسن بخسائر فادحة.
كان يمتلك 16 دونما في قريته يزرعها بشتى أنواع المحاصيل من خضروات وفواكه وحنطة وشلب، وكان يربح مالا وفيرا، لكن الماء لم يسعفه في مواصلة حياته في القرية، فنزح إلى مدينة الحلة، مركز محافظة بابل.
“ليس الماء فقط. الحكومة لا تدعمنا في توفير الأسمدة الكيمياوية والبذور ومكائن السقي والوقود” قال حسن.
إنه يمثل أنموذجا لهجرة الفلاحين نحو المدينة.
القادم أسوأ
نالت بابل نصيبا غير قليل من الجفاف الذي يضرب العراق منذ 4 سنوات نتيجة قلة الأمطار وخفض حصص المياه القادمة من إيران وتركيا.
دخلت المحافظة هذه السنة مياه أقل بنسبة 30 بالمئة مقارنة بالسنة السابقة.
علاوة على ذلك، تحصل بابل على 45 بالمئة فقط من الإطلاقات المائية إلى شط الحلة، بينما تذهب 45 بالمئة إلى محافظة الديوانية و10 بالمئة إلى محافظة المثنى.
“مقدار المياه التي تدخل المحافظة يبلغ نحو 80 متراً مكعباً في الثانية” قال فالح السعيدي مدير الموارد المائية في بابل.
الواقع الزراعي يخبر أن هذا المقدار ضئيل.
انخفضت مساحة الأراضي المزروعة العام الحالي إلى 160 ألف دونم بعد أن كانت 330 ألف دونم العام الماضي 2021.
“ستنخفض إلى 106 آلاف دونم الموسم المقبل” قال ثامر عبد جاسم الخفاجي مدير زراعة بابل.
نسبة الضرر الناجم عن الجفاف تتراوح بين 60 و70 بالمئة في بعض المناطق، وتصل إلى 100 بالمئة في مناطق أخرى مثل الصمود ونهاية ناحية الشوملي.
كل ذلك يؤدي إلى هجرة الريف نحو المدينة.
ذهب مفقود.. ريف مهجور
لا تتوفر إحصاءات رسمية دقيقة بشأن أعداد من يهجرون القرى شهرياً أو سنوياً نتيجة تردي الزراعة، لكن متخصصين يؤكدون أن مئات العوائل تهاجر.
أبو فرح واحد من الفلاحين المقبلين على الهجرة.
حُرم أبو فرح زراعة الذرة الصفراء في موسم العام الحالي في حقله البالغ 20 دونما بناحية النيل (10 كم عن مركز الحلة)، وبات يشعر بالإحباط.
“نسمي الذرة الذهب الأصفر لجمال شكلها وفوائدها الكثير” قال لنا.
غير أنه لم يعد يملك من هذا الذهب شيئا، وراح يبحث عن عمل آخر بعيدا عن الريف.
تعد بابل من المحافظات الأولى في إنتاج الذرة الصفراء، كما أنها المحافظة الوحيدة في العراق التي يوجد في مديرية زراعتها قسم الذرة الصفراء.
زرع الفلاحون في بابل العام الماضي أكثر من 79.203 دونما من الذرة الصفراء، وبلغت الكميات المسوقة من المعامل 40 ألفا و709 أطنان، فيما بلغت الكميات المباعة في الأسواق المحلية نحو 30 ألفا و502 من الأطنان.
لم يُزرع غرام واحد في العام الحالي، وكذلك سيكون الحال العام المقبل.
فائدة الذرة الصفراء تتركز في أنها تدخل في صناعة زيت الطعام وأعلاف الأسماك والدواجن.
“كانت الذرة الصفراء المحصول الأكثر تضررا من شح المياه، تليها المحاصيل النجيلية من الحنطة والشعير، كما مات كثير من بساتين النخيل والأعناب والتين” قال الخفاجي.
بحسب إحصاءات الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية في بابل، بقي 10 بالمئة فقط من مزارعي المحافظة يزاول مهنة الزراعة.
منطقة الرشايد، التي تعد من أهم المناطق الزراعية شمالي المحافظة، كانت تحتوي على 368 قطعة زراعية، بينما لا يتجاوز عددها حاليا 40 قطعة فقط مزروعة بشكل جزئي وبمساحات صغيرة ومتفرقة.
خطة تقويض الزراعة
إلى الجنوب من بابل، يوجد جدول مائي متفرع من شط الحلة ضمن قضاء القاسم اسمه جدول الجربوعية، يبلغ طوله 38 كم.
باتت المياه تصل إلى أول 11 كم منه فقط.
يوجد جدول آخر اسمه العمادية تصل المياه إلى أول 3.5 كم منه بينما يبلغ طوله 11 كم.
بدلا من التوجه نحو خطوات تعالج أساس المشكلة المتمثل بشح المياه، استسلمت حكومة العراق للواقع وحاولت تسيير الأمور بما هو موجود.
قررت تقليص المساحات المزروعة.
حُرم آلاف المزارعين والفلاحين من زراعة أراضيهم بموجب ما تسمى الخطة الزراعية، والتي قلصت أراضي الزراعة في الموسم الشتوي إلى 50 بالمئة مقارنة بالعام الماضي 2021، واستبعدت عددا من المحافظات.
تحاول مديرية الموارد المائية في بابل توفير شيء من المياه عبر إزالة التجاوزات على الأنهار والجداول.
“قمنا بإزالة أكثر من 400 تجاوز ومخالفة على الحصص المائية في مناطق عدة” قال السعيدي.
لكن تأثير هذه الإجراءات محدود على ما يبدو.
قال محمد العذاري، الأستاذ في كلية الزراعة بجامعة القاسم الخضراء، إن “الحلول الوقتية للسيطرة على الجفاف غير مجدية. البدائل تكمن في خزن ما يمكن خزنه من المياه السطحية بعد موسم الأمطار، وبناء بعض السدود، وتقليل الهدر في المياه التي تصب في الخليج عن طريق شط العرب، وهذا يستغرق مدة طويلة”.
“حلول الحكومة خجولة جدا ولا ترتقي إلى مستوى المسؤولية” أضاف العذاري.
مقترحات فحسب
ينصح السعيدي باستثمار الأزمة الحالية للتحول من الري القديم المفتوح الذي يعتمد على توزيع المياه بكميات كبيرة على الأراضي الزراعية إلى الري المغلق لضمان الاستخدام الأمثل وتقليل الضائعات المائية وزيادة غلة الدونم الواحد ورفع كفاءة الإرواء وزيادة المساحات المزروعة.
“الري بالطرق الحديثة سيساعدنا على تجاوز أكثر من 70 بالمئة من المشاكل” قال لنا.
في آب من العام الحالي، صرحت وزارة الزراعة بتخصيص مبالغ لمساعدة المزارعين والفلاحين على شراء تقنيات الري الحديث.
ومن المفترض بدء مناقصات منذ ذلك الحين لشراء مرشحات وتوزيعها بين العاملين في الزراعة.
إلا أن مسؤولين كبارا في الوزارة يرون أن ترك الأمر إلى القطاع الخاص لإنشاء مصانع تنتج منظومات الري الحديثة أسرع وأجدى، ذلك أن حركته أسرع من حركة القطاع الحكومي المحكوم بالموازنات والإجراءات الإدارية الطويلة.
وبينما لا تقدم الحكومة حلولا ملموسة للواقع الزراعي المرير، يتشبث حسن هادي بآمال عودة المياه إلى مجاريها.