"وين نروح!": لماذا تحوّل "المطعم" إلى وسيلة ترفيه لدى العراقيين؟

وسام إبراهيم عنبر

16 تشرين الثاني 2022

كيف تحوّل الطعام من "حاجة" تساعد البشر على العيش إلى وسيلة ترفيهٍ أساسية في حياة المجتمع؟ ولماذا اتخذنا هذا الخيار؟ وكيف توفّرت الظروف لتكون المطاعم في كلّ مكان؟ وماذا تترك الأطعمة على أجسادنا وأعمارنا من آثار؟ ولماذا غابت وسائل الترفيه الأخرى، وبقيت المطاعم تنافس بعضها بعضاً، وتوفّر كل المغريات لاستدراجنا إليها؟

عام 2010. بغداد في أشدّ أيامها اضطراباً. المُفخخات تنفجر في الشوارع بلا هوادة. كنا، صديقي وأنا، جالسين لفترة في مطعم في منطقة الكرادة. تحدثنا طويلاً حتّى أن الملل لم يعد في رأسي فحسب، وإنما تسرّب إلى مفاصلي. سألت صديقي، الذي يمتلك سيارة، أن نغادر إلى مكان آخر، فردّ عليّ: “وين نروح؟”. والحقيقة أنني لا أملك إجابة. فأين يذهب شابان في العشرينات من عمرهما قضيا ساعات طويلة في مطعم، وتأخرت الساعة وهما خارج منزليهما؟

سيعودان، على الأغلب، الى بيتيهما.

فبالنسبة لشابين مثلنا، أو مثل غالبيّة العراقيين، لن تكون الأنشطة الحركية كالتخييم والصيد وتسلق الجبال، ولا الأنشطة المبنية على ألعاب رياضية، وأيضاً لن تكون الأنشطة الترفيهية ذات الطابع المعرفي، كالاستكشاف، والمتاحف وغيرها، ليس هذا كله ما يوفّر الترفيه لنا، بل المأكل والمشرب، وبأكثر دقّة: المطاعم.

لكن كيف تحوّل الطعام من “حاجة” تساعد البشر على العيش إلى وسيلة ترفيه أساسية في حياة المجتمع؟ ولماذا اتخذنا هذا الخيار؟ وكيف توفّرت الظروف لتكون المطاعم في كلّ مكان؟ وماذا تترك الأطعمة على أجسادنا وأعمارنا من آثار؟ ولماذا غابت وسائل الترفيه الأخرى، وبقيت المطاعم تنافس بعضها بعضاً، وتوفّر كل المغريات لاستدراجنا إليها؟

بداية المطعم

المطعم، بشكله الحديث، ليس قديماً في العراق والمنطقة العربيّة، إذ ألغت العادات والتقاليد العربيّة، التي وفّرت للضيوف المنام والمأكل والمشرب، الحاجة لبيع ما يسدّ الجوع.

بيد أن ازدهار التجارة بين المُدن العربية، وسفر التجّار والمشتغلين معهم بين هذه المدينة وتلك، جعل “الكرم” أقل عمليّة، وكان لا بد من إنشاء مساحة للمسافرين وعابري السبيل تُقدّم كل ما يخفّف عنهم في سفراتهم المؤقتة.. هكذا ظهر “الخان” وانتشر.

وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ الأجانب يصلون إلى العراق على هيئة رحالة فضوليين، مُمهّدين للاحتلال، وتُجار، وأخذت تأتي معهم، بطبيعة الحال، عادات جديدة، ومنها “المطعم”.

تلقّفت الطبقة الارستقراطية المطاعم، وتمسكّت بها، ومع صعود فئة البيروقراطيين والطبقة الوسطى، توسّعت فكرة “الأكل” خارج المنزل. بعد ذلك، شهد المجتمع تحوّلاً اجتماعياً واقتصادياً نتيجة لتغيّر العمل وظروفه ومكانه. صارت أماكن عمل الناس أبعد عن منازلهم، وصارت ساعات الشغل أطول، ما يعني أن الإنسان بحاجة إلى الطعام لإنجاز عمله.

وبمرور الزمن وازدياد عدد السكّان واتساع رقع السكّن الجغرافية، ازدادت أعداد المطاعم. فبعد أن كان البغداديون -العمّال- يبحثون عن الأكل الرخيص المتوفر، صار أحفادهم في الستينات والسبعينات يبحثون عن الجديد والمتنوع، فظهرت مطاعم تقدم الأكل الهندي والإيطالي.. وغيرها. وأغلب هذه المطاعم كانت تقدم المشروبات الكحولية ضمن قائمتها. ثم ظهرت المطاعم في النوادي الترفيهية، ومطاعم الفنادق الفخمة، وبالطبع، فإن المطاعم الشعبية والتقليدية كانت تجد طريقها بسهولة للانتشار.

أما في التسعينيات، فلا يمكن وصف المرحلة بأفضل من الإعلانين “التوعويين”، اللذين بثتهما القناة الرسمية في وقتها، الأول: عن ذبابتين أحدهما اسمها “كوليرا” والأخرى “تيفو” إشارة لأمراض الكوليرا، والتيفوئيد. والآخر: عن شاب يعود للمنزل ليسأل أمه عن غداء اليوم، فتجيبه الأم “تشريب” فيقول: “خما تشريب لحم؟” فتقول له: “لا يمة لا، تشريب باگلا”. والإعلانان يدلان على أكثر من عقد تسيده الجوع والأمراض، أمراض مثل هذه مرتبطة بالفقر وانتشار الأكل المكشوف وغير الصحي. آنذاك، وكان الحصار الاقتصادي الدولي قد اشتد على العراق، ارتفعت نسب سوء التغذية لأكثر من 23 بالمئة عما كانت عليه، وفي جنوب العراق وصلت إلى حدود 33 بالمئة.  

رغم ذلك، فإن إعلانات المطاعم الفخمة مرتفعة الثمن كانت تملأ الشاشات والصحف، ومن يرتادها كانوا على الأغلب طبقات مُحدّدة نجت مالياً بأعجوبة من مخالب الحصار، أو أنها كانت مُقرّبة من نظام البعث الذي كان يؤمّن لها الأموال بطرق ملتوية.

المُنشآت المطعمية

بعد غزو العراق في نيسان 2003، بدأت المطاعم بالعودة، وأخذت تتوسع وتزدهر.

في عام 2014، نشرت وزارة التخطيط العراقية إحصائيّة بعدد المطاعم، وشكّلت الأخيرة أكثر من 65 بالمئة من المنشآت في العراق، وقد بلغت عدد المنشآت العاملة بنشاط الغذاء والمشروبات نحو 24 ألف منشأة. وبحلول العام الجاري، زادت نسبة المطاعم نحو 0.6 بالمئة.

هذا النمو في قطاع المطاعم، وفّره عاملان أساسيان وبديهيان هما الطلب والعرض. وكان الطلب، بطبيعة الحال، قد أنتج العرض بكثافة.

بعد سنوات جوع الحصار اندفع الناس إلى المطاعم، لكن تردي الأمن بعد الغزو حوّل المطعم إلى مكان شبه آمن، إذ أنه مُغلق، وعلى بوابته تخضع السيّارات للتفتيش خشية أن تكون مُلغّمة بالمتفجرات.

وبطبيعة الحال، حدّ الاقتتال الطائفي (2006- 2008) من حركة السكّان داخل المُدن، وألزمهم البقاء في مناطقهم السكنيّة نتيجة للقتل على الهويّة، والحواجز الأمنية التي كانت تنشرها الفصائل المتقاتلة في الشوارع.

رغم بشاعته، كسر الاقتتال الطائفي المركزيّة التي تمتعّت بها بعض المناطق على مدار عقود. لم تعد مناطق مثل الكرادة، والمنصور، وبغداد الجديدة، وغيرها محطّات أساسيّة للترفيه والتسوّق، إذ أخذت المناطق السكنية، بدلاً من ذلك، تتحوّل نحو تغيير الشوارع فيها إلى مناطق تجارية، وشهدت افتتاح مطاعم ومحلات مواد غذائية وألبسة والكترونيات ومعظم البضائع الأساسية التي يحتاجها الفرد.  

أما بعد انتهاء الاقتتال الطائفي، فقد شهدت مُدن العراق، وبغداد على وجه التحديد، زيادة هائلة في عدد المطاعم، وصار بعضها يُقدّم خدمات لسدّ النقص الموجود في شوارع المدينة. فالمطاعم صارت تقدّم مساحة لعب للأطفال، لتمنح ذويهم فرصة للتحدّث فيما بينهم. وأصبحت الكثير منها أيضاً تقدّم أُمسيات غنائية، وتضم أقفاصا لعرض الحيوانات البريّة مثل القرود والنمور والأسود والطيور الجارحة.

في عام 2008، نشرت ABC News تقريراً حول افتتاح مطعمٍ صيني في الكرادة في بغداد، وقالت هيلاري براون، كاتبة التقرير، إن البغداديين “الآن، معتادون على سماع كم أن حياتهم أصبحت أفضل بعد 2003،”، قبل أن تضيف “هناك علامات أخرى على أن الحياة في أخطر مدينة في العالم أصبحت أفضل، بغداد أصبح لديها أول مطعم صيني”.

عدّت براون أن من الإشارات المهمة على تحسّن الحياة ببغداد، بعد الحرب، والقتال الطائفي، افتتاح مطعم صيني بإدارة سيدة وسيد صينيين لا يتكلمان العربية ولا الإنجليزية، ويتواصلان مع زبائنهما بلغة الإشارة على صور وأسماء الوجبات على لائحة الطعام، أو عبر نادلٍ عراقي.

في الواقع، براون مُحقة نوعاً ما، فمن دلائل عودة الحياة إلى بغداد أحدها أن تكون للغرباء الرغبة في العمل والسكن فيها لكن ما لم تلاحظه مراسلة ABC News أن مشاريع أخرى لم تكن لتنجح، مثل المشاريع التي تثير حساسية سياسية واجتماعية، وثقافية ودينية.

المطعم يفوز!

أدّت سياسات الأحزاب التي أدارت السلطة بعد غزو العراق عام 2003 إلى صعود أفكار اجتماعية ودينية مُحافظة، وصار الاستثمار في المشاريع الترفيهية يشكّل خطراً أمنياً واقتصادياً على المستثمرين. وبمقابل ذلك، فإن المطاعم صارت مساحة آمنة للاستثمار، وبديلاً عن مشاريع الترفيه الأخرى.

والحال هذه، أدّى الطلب المتزايد على المطاعم إلى ظهور أنماط طعام جديدة، والتحول نحو الــ”Franchising”، المرتبطة بالوجبات السريعة “Fast Food” وتحويل المطاعم إلى ماركة، وتناول الطعام بالنسبة للناس أضحى إعلانا طبقيا، بالذات مع ارتباط هذا النشاط بالـــ “Stories” و”Check in” واللتان تعلنان عبر مواقع التواصل الاجتماعي أننا في المكان الفلاني، نحظى بوقت مميز، مرفقين هذه “الإقرارات” بصور طعام في الغالب، لن نأكل نصفه، وقد لا نستمتع به أصلاً، لأن الفكرة لا تتعلق بالأكل بالأساس، بل بالحالة والتجربة التي يحس بها مرتادو هذه الأماكن.

أمراض المطاعم والطعام

ارتبطت زيادة عدد المطاعم بمشاكل صحيّة كبيرة. فحسب تقرير لوزارة الصحة صدر عام 2019، بلغ عدد العراقيين الذين يعانون من البدانة نحو 29 مليون شخص، 60 بالمئة من هؤلاء مصابون بمرض السكري، و9 بالمئة منهم يعانون من ارتفاع نسب الكوليسترول والدهون في الدم. جميع هذه الأمراض تؤدي إلى خطر الإصابة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، وبالطبع ترتبط هذه الأمراض باتساع بالوجبات السريعة.

كما برزت مشكلة إهدار كميات هائلة من الطعام، فحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، جاء العراق بالمرتبة الثانية في هدر الطعام بمنطقة آسيا الوسطى، حيث يهدر الفرد العراقي نحو 120 كيلوغراماً من الطعام سنويا، في حين يبلغ الهدر العام سنويا نحو 5 ملايين طن؛ بالتأكيد ليست المطاعم هي المسؤول الوحيد عن الهدر، والمناسبات الاجتماعية والدينية جزء منها، لكن المطاعم عامل رئيسي، نظراً لعددها.  

وإذا ما كان ضرر طعام هذه المطاعم على الأجساد كبيرا، فإن ضرره على العمّال العاملين فيها ليس أقلّ سوءاً. بحسب مؤيد، وهو من ذي قار يعمل في مطعم وسط بغداد، فإن “الشغل هنا يطلع الروح، بس متوازي عليه”.  

تتلخّص المشاكل التي يعانيها مؤيد ورفاقه بساعات العمل التي قد تصل الى 16 ساعة يومياً، وبالأجور الزهيدة، وغياب العطل والاستراحات. كما تتهاون وزارة العمل في متابعة شؤون هؤلاء العمّال ولا تشدد على تطبيق قانون العمل رقم 37 لسنة 2015، الذي يضمن أقل حقوقهم الطبيعية.

نتيجة طبيعية!

الجواب على سؤال “وين نروح” في مدينة مثل بغداد، غالباً سيكون جوابه المطعم أو المنزل. فكل ما في بغداد يدفع الناس إلى المطعم. لا يريد أحد قضاء ساعات عالقاً في ازدحام للتنقل من مسافة بعيدة إلى أخرى، كما أن السير والتجوال صيفاً في ظلّ درجات حرارة تبلغ 50 درجة مئوية سيكون رحلة إلى الجحيم، أما الشتاء وأوحاله فهي مغامرة قد تؤدي إلى السقوط في أحد منافذ مياه التصريف، أو التلوث من أخمص القدمين حتّى منتصف الجسد.

أرصفة بغداد، الصالحة للسير، مشغولة من قبل المحال وباعة البسطات، وما تبقّى من الحدائق فهي مظلمة ليلاً. وعلى هذا الأساس فإن ثقافة الأكل أصبحت نمطاً ترفيهياً، قد يكون الأبرز من بين الأنماط الترفيهية الأخرى.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

عام 2010. بغداد في أشدّ أيامها اضطراباً. المُفخخات تنفجر في الشوارع بلا هوادة. كنا، صديقي وأنا، جالسين لفترة في مطعم في منطقة الكرادة. تحدثنا طويلاً حتّى أن الملل لم يعد في رأسي فحسب، وإنما تسرّب إلى مفاصلي. سألت صديقي، الذي يمتلك سيارة، أن نغادر إلى مكان آخر، فردّ عليّ: “وين نروح؟”. والحقيقة أنني لا أملك إجابة. فأين يذهب شابان في العشرينات من عمرهما قضيا ساعات طويلة في مطعم، وتأخرت الساعة وهما خارج منزليهما؟

سيعودان، على الأغلب، الى بيتيهما.

فبالنسبة لشابين مثلنا، أو مثل غالبيّة العراقيين، لن تكون الأنشطة الحركية كالتخييم والصيد وتسلق الجبال، ولا الأنشطة المبنية على ألعاب رياضية، وأيضاً لن تكون الأنشطة الترفيهية ذات الطابع المعرفي، كالاستكشاف، والمتاحف وغيرها، ليس هذا كله ما يوفّر الترفيه لنا، بل المأكل والمشرب، وبأكثر دقّة: المطاعم.

لكن كيف تحوّل الطعام من “حاجة” تساعد البشر على العيش إلى وسيلة ترفيه أساسية في حياة المجتمع؟ ولماذا اتخذنا هذا الخيار؟ وكيف توفّرت الظروف لتكون المطاعم في كلّ مكان؟ وماذا تترك الأطعمة على أجسادنا وأعمارنا من آثار؟ ولماذا غابت وسائل الترفيه الأخرى، وبقيت المطاعم تنافس بعضها بعضاً، وتوفّر كل المغريات لاستدراجنا إليها؟

بداية المطعم

المطعم، بشكله الحديث، ليس قديماً في العراق والمنطقة العربيّة، إذ ألغت العادات والتقاليد العربيّة، التي وفّرت للضيوف المنام والمأكل والمشرب، الحاجة لبيع ما يسدّ الجوع.

بيد أن ازدهار التجارة بين المُدن العربية، وسفر التجّار والمشتغلين معهم بين هذه المدينة وتلك، جعل “الكرم” أقل عمليّة، وكان لا بد من إنشاء مساحة للمسافرين وعابري السبيل تُقدّم كل ما يخفّف عنهم في سفراتهم المؤقتة.. هكذا ظهر “الخان” وانتشر.

وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ الأجانب يصلون إلى العراق على هيئة رحالة فضوليين، مُمهّدين للاحتلال، وتُجار، وأخذت تأتي معهم، بطبيعة الحال، عادات جديدة، ومنها “المطعم”.

تلقّفت الطبقة الارستقراطية المطاعم، وتمسكّت بها، ومع صعود فئة البيروقراطيين والطبقة الوسطى، توسّعت فكرة “الأكل” خارج المنزل. بعد ذلك، شهد المجتمع تحوّلاً اجتماعياً واقتصادياً نتيجة لتغيّر العمل وظروفه ومكانه. صارت أماكن عمل الناس أبعد عن منازلهم، وصارت ساعات الشغل أطول، ما يعني أن الإنسان بحاجة إلى الطعام لإنجاز عمله.

وبمرور الزمن وازدياد عدد السكّان واتساع رقع السكّن الجغرافية، ازدادت أعداد المطاعم. فبعد أن كان البغداديون -العمّال- يبحثون عن الأكل الرخيص المتوفر، صار أحفادهم في الستينات والسبعينات يبحثون عن الجديد والمتنوع، فظهرت مطاعم تقدم الأكل الهندي والإيطالي.. وغيرها. وأغلب هذه المطاعم كانت تقدم المشروبات الكحولية ضمن قائمتها. ثم ظهرت المطاعم في النوادي الترفيهية، ومطاعم الفنادق الفخمة، وبالطبع، فإن المطاعم الشعبية والتقليدية كانت تجد طريقها بسهولة للانتشار.

أما في التسعينيات، فلا يمكن وصف المرحلة بأفضل من الإعلانين “التوعويين”، اللذين بثتهما القناة الرسمية في وقتها، الأول: عن ذبابتين أحدهما اسمها “كوليرا” والأخرى “تيفو” إشارة لأمراض الكوليرا، والتيفوئيد. والآخر: عن شاب يعود للمنزل ليسأل أمه عن غداء اليوم، فتجيبه الأم “تشريب” فيقول: “خما تشريب لحم؟” فتقول له: “لا يمة لا، تشريب باگلا”. والإعلانان يدلان على أكثر من عقد تسيده الجوع والأمراض، أمراض مثل هذه مرتبطة بالفقر وانتشار الأكل المكشوف وغير الصحي. آنذاك، وكان الحصار الاقتصادي الدولي قد اشتد على العراق، ارتفعت نسب سوء التغذية لأكثر من 23 بالمئة عما كانت عليه، وفي جنوب العراق وصلت إلى حدود 33 بالمئة.  

رغم ذلك، فإن إعلانات المطاعم الفخمة مرتفعة الثمن كانت تملأ الشاشات والصحف، ومن يرتادها كانوا على الأغلب طبقات مُحدّدة نجت مالياً بأعجوبة من مخالب الحصار، أو أنها كانت مُقرّبة من نظام البعث الذي كان يؤمّن لها الأموال بطرق ملتوية.

المُنشآت المطعمية

بعد غزو العراق في نيسان 2003، بدأت المطاعم بالعودة، وأخذت تتوسع وتزدهر.

في عام 2014، نشرت وزارة التخطيط العراقية إحصائيّة بعدد المطاعم، وشكّلت الأخيرة أكثر من 65 بالمئة من المنشآت في العراق، وقد بلغت عدد المنشآت العاملة بنشاط الغذاء والمشروبات نحو 24 ألف منشأة. وبحلول العام الجاري، زادت نسبة المطاعم نحو 0.6 بالمئة.

هذا النمو في قطاع المطاعم، وفّره عاملان أساسيان وبديهيان هما الطلب والعرض. وكان الطلب، بطبيعة الحال، قد أنتج العرض بكثافة.

بعد سنوات جوع الحصار اندفع الناس إلى المطاعم، لكن تردي الأمن بعد الغزو حوّل المطعم إلى مكان شبه آمن، إذ أنه مُغلق، وعلى بوابته تخضع السيّارات للتفتيش خشية أن تكون مُلغّمة بالمتفجرات.

وبطبيعة الحال، حدّ الاقتتال الطائفي (2006- 2008) من حركة السكّان داخل المُدن، وألزمهم البقاء في مناطقهم السكنيّة نتيجة للقتل على الهويّة، والحواجز الأمنية التي كانت تنشرها الفصائل المتقاتلة في الشوارع.

رغم بشاعته، كسر الاقتتال الطائفي المركزيّة التي تمتعّت بها بعض المناطق على مدار عقود. لم تعد مناطق مثل الكرادة، والمنصور، وبغداد الجديدة، وغيرها محطّات أساسيّة للترفيه والتسوّق، إذ أخذت المناطق السكنية، بدلاً من ذلك، تتحوّل نحو تغيير الشوارع فيها إلى مناطق تجارية، وشهدت افتتاح مطاعم ومحلات مواد غذائية وألبسة والكترونيات ومعظم البضائع الأساسية التي يحتاجها الفرد.  

أما بعد انتهاء الاقتتال الطائفي، فقد شهدت مُدن العراق، وبغداد على وجه التحديد، زيادة هائلة في عدد المطاعم، وصار بعضها يُقدّم خدمات لسدّ النقص الموجود في شوارع المدينة. فالمطاعم صارت تقدّم مساحة لعب للأطفال، لتمنح ذويهم فرصة للتحدّث فيما بينهم. وأصبحت الكثير منها أيضاً تقدّم أُمسيات غنائية، وتضم أقفاصا لعرض الحيوانات البريّة مثل القرود والنمور والأسود والطيور الجارحة.

في عام 2008، نشرت ABC News تقريراً حول افتتاح مطعمٍ صيني في الكرادة في بغداد، وقالت هيلاري براون، كاتبة التقرير، إن البغداديين “الآن، معتادون على سماع كم أن حياتهم أصبحت أفضل بعد 2003،”، قبل أن تضيف “هناك علامات أخرى على أن الحياة في أخطر مدينة في العالم أصبحت أفضل، بغداد أصبح لديها أول مطعم صيني”.

عدّت براون أن من الإشارات المهمة على تحسّن الحياة ببغداد، بعد الحرب، والقتال الطائفي، افتتاح مطعم صيني بإدارة سيدة وسيد صينيين لا يتكلمان العربية ولا الإنجليزية، ويتواصلان مع زبائنهما بلغة الإشارة على صور وأسماء الوجبات على لائحة الطعام، أو عبر نادلٍ عراقي.

في الواقع، براون مُحقة نوعاً ما، فمن دلائل عودة الحياة إلى بغداد أحدها أن تكون للغرباء الرغبة في العمل والسكن فيها لكن ما لم تلاحظه مراسلة ABC News أن مشاريع أخرى لم تكن لتنجح، مثل المشاريع التي تثير حساسية سياسية واجتماعية، وثقافية ودينية.

المطعم يفوز!

أدّت سياسات الأحزاب التي أدارت السلطة بعد غزو العراق عام 2003 إلى صعود أفكار اجتماعية ودينية مُحافظة، وصار الاستثمار في المشاريع الترفيهية يشكّل خطراً أمنياً واقتصادياً على المستثمرين. وبمقابل ذلك، فإن المطاعم صارت مساحة آمنة للاستثمار، وبديلاً عن مشاريع الترفيه الأخرى.

والحال هذه، أدّى الطلب المتزايد على المطاعم إلى ظهور أنماط طعام جديدة، والتحول نحو الــ”Franchising”، المرتبطة بالوجبات السريعة “Fast Food” وتحويل المطاعم إلى ماركة، وتناول الطعام بالنسبة للناس أضحى إعلانا طبقيا، بالذات مع ارتباط هذا النشاط بالـــ “Stories” و”Check in” واللتان تعلنان عبر مواقع التواصل الاجتماعي أننا في المكان الفلاني، نحظى بوقت مميز، مرفقين هذه “الإقرارات” بصور طعام في الغالب، لن نأكل نصفه، وقد لا نستمتع به أصلاً، لأن الفكرة لا تتعلق بالأكل بالأساس، بل بالحالة والتجربة التي يحس بها مرتادو هذه الأماكن.

أمراض المطاعم والطعام

ارتبطت زيادة عدد المطاعم بمشاكل صحيّة كبيرة. فحسب تقرير لوزارة الصحة صدر عام 2019، بلغ عدد العراقيين الذين يعانون من البدانة نحو 29 مليون شخص، 60 بالمئة من هؤلاء مصابون بمرض السكري، و9 بالمئة منهم يعانون من ارتفاع نسب الكوليسترول والدهون في الدم. جميع هذه الأمراض تؤدي إلى خطر الإصابة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، وبالطبع ترتبط هذه الأمراض باتساع بالوجبات السريعة.

كما برزت مشكلة إهدار كميات هائلة من الطعام، فحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، جاء العراق بالمرتبة الثانية في هدر الطعام بمنطقة آسيا الوسطى، حيث يهدر الفرد العراقي نحو 120 كيلوغراماً من الطعام سنويا، في حين يبلغ الهدر العام سنويا نحو 5 ملايين طن؛ بالتأكيد ليست المطاعم هي المسؤول الوحيد عن الهدر، والمناسبات الاجتماعية والدينية جزء منها، لكن المطاعم عامل رئيسي، نظراً لعددها.  

وإذا ما كان ضرر طعام هذه المطاعم على الأجساد كبيرا، فإن ضرره على العمّال العاملين فيها ليس أقلّ سوءاً. بحسب مؤيد، وهو من ذي قار يعمل في مطعم وسط بغداد، فإن “الشغل هنا يطلع الروح، بس متوازي عليه”.  

تتلخّص المشاكل التي يعانيها مؤيد ورفاقه بساعات العمل التي قد تصل الى 16 ساعة يومياً، وبالأجور الزهيدة، وغياب العطل والاستراحات. كما تتهاون وزارة العمل في متابعة شؤون هؤلاء العمّال ولا تشدد على تطبيق قانون العمل رقم 37 لسنة 2015، الذي يضمن أقل حقوقهم الطبيعية.

نتيجة طبيعية!

الجواب على سؤال “وين نروح” في مدينة مثل بغداد، غالباً سيكون جوابه المطعم أو المنزل. فكل ما في بغداد يدفع الناس إلى المطعم. لا يريد أحد قضاء ساعات عالقاً في ازدحام للتنقل من مسافة بعيدة إلى أخرى، كما أن السير والتجوال صيفاً في ظلّ درجات حرارة تبلغ 50 درجة مئوية سيكون رحلة إلى الجحيم، أما الشتاء وأوحاله فهي مغامرة قد تؤدي إلى السقوط في أحد منافذ مياه التصريف، أو التلوث من أخمص القدمين حتّى منتصف الجسد.

أرصفة بغداد، الصالحة للسير، مشغولة من قبل المحال وباعة البسطات، وما تبقّى من الحدائق فهي مظلمة ليلاً. وعلى هذا الأساس فإن ثقافة الأكل أصبحت نمطاً ترفيهياً، قد يكون الأبرز من بين الأنماط الترفيهية الأخرى.