العراقيون ونظرية اللون
03 تشرين الثاني 2022
كل الألوان محلّلة اليوم، ومتاحة، ورغم أنّ الكثير من الحركات والتوجهات والثورات والآراء قد حجزت ألوانها واتخذتها كالأعلام تعبّر عنها، إلا أن الألوان لم تنفد بعد، تنتظر من يحسن استخدامها وتقديرها، والاعتزاز بأسرارها والطاقة الكامنة فيها.
قبل ألف عام فزّ الحسن ابن الهيثم مرعوباً من منامه، شاهد كابوسين في ليلة واحدة. في الكابوس الأول رأى نفسه داخل باص يتجول في مسقط رأسه البصرة ولاحظ أنّ الناس يتداولون ورقة ملوّنة وعليها صورته مكتوباً على يسارها “عشرة دنانير”، توقّف الباص ودخلته فرقة تفتيش؛ سألوه عن هوية الأحوال فلم يفهم، أخرجوه وركلوه على خاصرته، فاستيقظ، انقلب على جانبه الآخر ونام. شاهد نفسه داخل باص آخر وإلى جانبه رجل يحصي نقوده، ومرة أخرى، لاحظ صورته على النقود الورقية وعلى يسارها رقم أكبر “عشرة آلاف دينار”. لم يعر بالاً لصعود الرقم ولا لتبدّل شكل العملة الورقيّة وألوانها، الجزء غير المهم من الحكاية يقول إنَّ الحسن بن الهيثم البصري الذي مهّد لنظرية اللون وعلم الرؤية؛ انزعج من تنافر الألوان وسوء انسجامها على بيوت مواطنيه وملابسهم، ومن شدة الضوء الساقط على الأشياء في الليل، كأنه يقتلها ولا ينيرها، أما الجزء المهم من الحكاية هو أنها لم تحدث أبداً.
الشعراء لا الفيزيائيون، هم أوّل من كتب عن نظرية اللون. غوته وقبل أن يكمل عقده الثالث وضع كتاباً عن الألوان اسمه “نظرية اللون”، كان أشبه بإنجيل تحضر فيه الألوان كرسائل القديسين، وعارض فيه أفكار نيوتن والحسن البصري عن علم الرؤية والعلاقات بين الألوان، واصطنع فهمه الرومانسي الخاص عن ألوان الطيف، بل “ذَهبَ بها عريضة” حينما ربط بين حسن اختيار الألوان وأخلاق الإنسان. دافع غوته بشراسة عن تنسيق الألوان ورأى أن “الأطفال وغير المتعلمين والأمم القاسية لديهم ميل عظيم للألوان الفاقعة”. وحدث أن تردّد على صالون ثقافي في شرق ألمانيا تديره روائية مشهورة اسمها يوهانا، وهناك تعرضّ هو وألوانه لنقد علمي حازم، على يد ابن الروائية التعيس، والمترفع عن الشهوات، شوبنهاور، الذي رأى أن الألوان هي ما رآه نيوتن، عبارة عن تنويعات للون واحد هو البياض، وليست حالة فسيولوجية تحدث داخل شبكية العين، وإن السواد هو حالة انعدام الضوء.. ليس إلا.
إذا كان هذا الكلام يبدو معقداً وتقنياً جداً، وتتداخل فيه جدالات طويلة بين آرسطو ونيوتن وشعراء وفلاسفة القرن التاسع عشر، فهناك مقولة تلخيصية صاغها غوته، لا تزال صامدة، وصادق عليها الجميع، بمن فيهم شوبنهاور ابن الروائية، وشركة أدوبي الصانعة لبرنامج الفوتوشوب وتطبيقات تنسيق الألوان وتلوين الأفلام، إذ يقول “اللون هو ظل الضوء”، والمقولات الكبيرة تصبح كذلك حينما تجد نفسك مستسلماً أمامها وخاضعاً لقوة معناها، وكأنك قد أنتجتها بنفسك.
الخبر الطيب، أن النزاع أفضى إلى رد المظالم وتسوية الممتلكات، وصار اللون من اختصاص الفنانين، أما الضوء فهو من اختصاص أهل الفيزياء.
في التسعينات واظبت الكاتبة الأمريكية كاسيّا كلير على كتابة أعمدة صحافية لمجلة الإيكونومست عن عائلات الألوان وأشجار النسب والأسماء الخاصة بها.. كل أسبوع لون. جمعتها بعد ذلك بكتاب مشهور اسمه “الحيّاة السريّة للألوان”1، تتبنى خلاله الفكرة الأساسية القائلة بأن الألوان هي مجرد ظلال. وتنسيق الألوان يقتضي حداً معيناً من الفهم لتلك النظرية. تنقل كاسيّا، أن شاباً عمره 24 سنة كان يقف على حطام مدينة لندن التي التهم الحريق الكبير نصفها تقريباً، استعمل موشوراً ليعيد الضوء إلى ألوانه الأولى، وهي، في حسابات ذلك الوقت، تجربة ممنوعة جرّمتها الكنيسة، لأن مزج الألوان أو التلاعب بها يعد خرقاً لأنظمة الطبيعة. هذا الشاب الذي اسمه نيوتن مارس تلك التجربة الليبرالية المبكرة وصنع ما يعرف اليوم بعَجَلة نيوتن، التي تضم كل الألوان ويستفاد منها في توليد باقات لونية مضمونة الانسجام. تبدأ بالأحمر الذي يتولد من الإضاءة العالية وتنتهي بالأزرق الذي يتولد من القتامة.
في كتاب كاسيّا حديثٌ عن مئات الألوان، وهذا ما يجعل نقل كتابها إلى العربية مهمة شاقة، ذلك لأن اللغة العربية المعاصرة لم تضع أسماءً للألوان غير المشهورة. ولست أعرف إن كان المجمع العلمي للغة العربية قد أصدر كرّاساً في أسماء الألوان المتكثرة والجديدة وغير الواردة في النصوص التراثية، وبذلك اضطلعت صالونات التجميل ودهان الوجوه بمهمة تسمية الألوان بما تحفل قواميسها بأسماء غير فصيحة، وغير موحدة.
تتحدث كاسيّا عن آلية لفهم مبدأ التنسيق بين الألوان، وكيف تحكم العين على شيء ما وتصفه بمتناسق الألوان، والكلام هنا عن العبارة الشعرية ذاتها، “اللون ظل الضوء”، سأهمل هنا شرحها للفكرة واستعين بشارح آخر، هو الأستاذ عبد الإله مدرس الفيزياء في مدرسة الرسالة بحي الحيّانية قبل عقدين من الزمان، حاول، يائساً، أن يجعلنا نفهم قوانين الضوء لا أن ندرخها، وكان الأسهل أن ندرخها لنحصل على درجة كاملة. لم تكن أسئلة البكالوريا في التسعينات تتقصد اختبار الإفهام واستيعاب الدرس، وكان الدرخ أسهل.
فتح ذراعيه أمام الشباك ولاعب رمح الشمس الساقط على الأرضية الملوثة بالقيء والغبار وبخار القنادر، وقال “الضوء يتحكم بالألوان ويصنعها، وإذا أردنا استيعاب العلاقات بين الألوان علينا استيعاب شدة الضوء وخفوته عليها”، وهذا بنظري هو تفسير ملائم لعبارة اللون هو ظل الضوء.
ثم ضرب لنا مثالاً قبل أن يقول: “لو فهمت ما سأقوله الآن فستصبح ماهراً جداً في انتقاء باقة الألوان المناسبة وتنسق بين الحذاء والقاط والرباط…”.
يكمل “فمثلاً، العراق يسمونه أرض السواد لأن الناظر إليه من بعيد يرى السواد الذي هو اخضرار قاتم ينتج من تراكم الخضرة وتعامد الظل عليها”؟. والقصد أن اللون الأخضر في هذا المثال النوستالجي الزائف قد تعرض إلى درجة عالية من الظل نتيجة لكثافة النخيل والشجر، فتحول إلى أسود، والحق أنه ومنذ تلك الأيام قد تحوّل إلى زيتوني جاف إلى أجل غير مسمى.
مثال آخر مشهور عن فهم التناسق، وهو، لو قمت حضرتك بارتداء قميص وبنطرون وجاكيتة وقبعة ورباط وجواريب، كلها باللون نفسه، بالدرجة والشدة نفسيهما، ودخلت مع ابن الهيثم إلى غرفة مظلمة، هندس تماماً، وصرت “مغموراً بنجوم الليل الأبديّة” على رأي مظفر النوّاب.
حينها، لن “تستقبل روح الصحراء”، لأنك في غرفة ضيقة مشبّعة بالظلام الدامس صحبة ابن الهيثم، ولا ينبغي أن يخيفك هذا، سيطلب منك ابن الهيثم أن تقف، لن يرغمك على الركوع، سيطلب منك أن تركّز فيما يقوله لك وترى تقلبات اللون على ملابسك ذات اللون الواحد.
سيقوم بتسليط شعاع ضوئي على جاكيتك، وشعاع آخر على البنطلون أقل شدة من الآخر، وشعاع ثالث على قبعتك، أقل شدة، وأكثر شدة من الشعاع الأخير الذي سيضعه باتجاه رباطك.
على ملابسك الآن أربعة ألوان جديدة مشتقة من لونها الأصلي، لو فرضنا أنها زرقاء فلديك الآن أربعة ألوان من عائلة الأزرق.
أعد التجربة نفسها ولكن قم هذه المرّة بتغيير لون الضوء، فستحصل على أربعة ألوان أخرى جديدة، أعد التجربة نفسها وغيّر لون الأضواء الأربعة التي يمسكها ابن الهيثم، فصار لديك الآن أربعة ألوان إضافية، بالأحرى، صار عندك اثنا عشر لوناً تنتمي للعائلة نفسها، لكنها متباينة، وهذا يعني أن اختيار أي لون من هذه الباقة سيكون متسقاً من اللون الآخر، اجعل لون الجاكيتة من لون، ولون الرباط من لون آخر، أو انتق منها لونين أو ثلاثة وفرّقها على مظهرك، وهكذا، سيرى الناس أن ملابسك متسقة الألوان، ومريحة للناظرين.
إن لم يحدث ذلك، فاستعن ببرامج توليد باقات الألوان على الانترنت، هذا الموقع كمثال.
لا يعني ذلك، أنك ينبغي أن تقوم بتلك التجربة كلما فكّرت بالخروج من البيت، في أغلب الأحيان لا نقوم بإجراء مقارنات فعليّة بين الألوان كي نحزر التنسيق المناسب، ما يحدث هو أن أعيننا تحتفظ بذاكرة جيدة في ما يخص حفظ العلاقات بين الألوان، ونقوم بتقليد ألوان الأشياء المتسقة التي لا نراها في العالم، مثل ألوان الحيوانات والانسجام الطبيعي في النباتات والزهور.
يبدو أن العشوائية في انتقاء الألوان واختيارها وفقاً لأذواق شخصية غير مدرّبة بصرياً، لا يشير إلى أننا مجتمعات محبة للقبح فقط، بل يشير ضمناً إلى أننا لا نرى جيداً، أو على الأقل.. أن ألواننا تشبه ذواتنا وآراءنا، فاقعة وحادة، وغير متصالحة مع عيوبها، ألوان فحلة، قوية الظهور ولا تحب المجاورة، يصعب جداً أن تنتقي لها لوناً يلائمها، لأن اختيارها غير مدروس ولا يخضع لمسألة الظل والضوء والانسجام العائلي، ألوان توحيدية صارمة وصارخة، جعجعة بصرية بلا طائل، ولا معنى، ولا هوية.
ذكَر لي مرّة صديق غير عربي انطباعه عن بيت عراقي من الداخل، قائلاً إن رب أسرة عراقية هاجرت حديثاً إلى شمال الغرب الأمريكي، قد دعاه لتناول طعام عراقي حقيقي، بدلاً من نسخته المؤمركة التي يطلبها من المطاعم. يكمل الأمريكي الذي لم يغزّر فيه الزاد والملح واللون، بعد أن أثنى على المذاق اللاذع للأكلة البغدادية الدسمة، تعرّض إلى حيطان الشقة، أبدى امتعاضه من التشوه اللوني، وكيف أن البيت مبهرج ومصاب بداء الامتلاء، كل قدم مربع تقريباً مزين بلوحة ما أو بزركشة ما. بدا البيت بالنسبة له مثل معبد هندوسي سياحي تتراكم على دكته النذور والتماثيل والشموع، والألوان.. الألوان تتطابخ كأنها تغلي فوق نار لاهبة. شكرت صديقي المقرّب على قلة ذوقه وخيانته لرب أسرة سيئ الحس استأمن عينيه على الضريح المنزلي الذي يعيش فيه مع زوجته وبناته في الغربة. لكنه أضاف قائلاً بنبرة فوقية بيضاء مازحة: إن دخْل هذه الأسرة أقل من المتوسط والأب يتسلّم معاشاً تحت الحد الأدنى للأجور في الولاية، مع ذلك، يتظاهرون بالغنى والجاه.
ما زالت الطريق طويلة إلى أهمية الشعور بالتقشف، التقشف كثقافة عالمية مشتقة من ثقافة الزن وتعاليم الفلسفة الرواقية، التي صارت ثقافة شائعة وموجة شبابية في التنسيق وتأثيث المنازل، تعرف بالـ Minimalism، الحدنويّة أو التقلليّة. في حوار مع كايل تشايكا، مؤلف كتاب “الحنين إلى القليل”، وهو كتاب عن فلسفة الحدنوية والتقشف في الفنون والموسيقى واللبس والديكور والألوان، يجيب فيه عن معنى الحدنوية، مستعملاً تعبيراً لماركوس أوريليوس، مدوّن التعاليم الرواقيّة والإمبراطور الروماني السادس عشر، إذ يقول ” الأمثل هو ما يستغني عن الأشياء”.
يؤمن تشايكا أن البهرجة في التأثيث الداخلي تشير إلى الولع بالظهور منشغلاً، حاجتنا المضنية إلى ان نبدو مكتنزين تحرسنا من القلاقل والأشياء عديمة الغرض، والآلات الغالية التي تفعل ما يمكننا فعله بأيدينا.
أفكّر بكتاب تشايكا ذاك، من زاويتي، وألاحظ أن البهرجة تؤشر فعلاً إلى رذيلة التباهي الأجوف عندنا، والتباهي بالزعابيل المعدنية والخشبية القبيحة التي تطوف حولك كالأقمار وتسبح على جدرانك الملوّنة بلا حساب ولا معيار، والمكتظة بالأشياء والكماليات الصغيرة التي يمكن التخلي عنها. بينما الحدنوية هي إحساسٌ «بالتخليّ»، وكأن تعريف هذه الفلسفة التي باتت منتشرة بين جيل الشباب العاملين في الشركات الرقمية الكبرى، هو تعريف لمذهب أخلاقي قديم وشرحاً لمقام من مقامات السالكين وأهل التصوف!
لا يبدأ القبح في المرئيات عندنا في الشارع ولا في الأزقة الخلفية أو المساكن العشوائية، إنما يبدأ في المكتبات وأغلفة دواوين الشعراء والروايات، بل عند لوحات الفنانين وأصباغ وجوه المذيعات وألوان القناة الفضائية الرسمية.
يبدأ من هناك. ولا ينتهي.
الفن نفسه، وطريقة رصّه في المقاهي وخلفيات صورنا الشخصية، هو تركيز للتلوث والمخلمة الذوقية التي نعيشها، يندر أن يولد تكوينا جميلا من حاصل جمع دزينة الأشياء الجميلة التي علقّتها بلا حساب على حائطك.
لا يبدو أن الدولة تبدو معنيّة بالألوان، ويظهر أن الوزارات لا تملك دليلاً للألوان المستخدمة في مكاتبها وعلى أوراقها وابنيتها ومواقعها الإلكترونية. والدليل اللوني هو تقليد بيروقراطي موجود في المؤسسات ذات القواعد المهنيّة، والافتقار إلى الدليل الذي يحصر استعمالات الدائرة بألوان الزامية محددة، يؤدي بشكل أو بآخر إلى تلك الفوضى اللونية المتفشية في البلاد كلها، والمقصود بالالتزام هو النظام والهوية والسلامة الجمالية، لا الإجبار واللون الفاشي الواحد.
تستعمل الطائفتان العراقيتان الإسلاميتان اللون الأخضر كرمز للقداسة، والكوفية الخضراء هي علامة على النسل المحمدي المتفوق طهرانياً وعرقياً، ولعله أكثر الألوان شيوعاً. تحرّر هو الآخر من حبسته العقائدية وخرج من أقبية الدكتاتورية، ومثل أهله فقد غادر سجنه كالوحش لا كالحر، وللأخضر بأطواله الموجية المتوسطة جماليات قتلتها الأيدلوجيات والمرويات الطائفية، وهو شقيق للزيتوني ومن العائلة الضوئية نفسها.
ينقل مؤرخو الألوان، أن الأزرق اللون المقدس في الكاثوليكية كان محرّماً في العصور الأوربية الوسيطة، بل لم يكن له اسم، وكانوا يرسمون الماء باللون الأخضر، وتوصم به عادة الأقوام البربرية والشياطين. وبعد انتشار انجيل العهد القديم تحرر الأزرق من آيات الكتاب، وصار استعماله حلالاً وأصبح اسمه “أزرق”، ليتحول إلى لون الرداء الدائمي الذي ترتديه العذراء مريم في اللوحات والإيقونات الكنسية، وقد حرّرت الطائفة الموسوية قبل ذلك الأزرق وجعلته لوناً لراية الميعاد والأمل المنتظر. بين أزرق المسيحية واليهودية وأخضر الإسلام، تعيش درجات لونية لا حد لها، ألوان أكثر من الأسماء، ويشار إليها بالكودات الرقمية، لتوخي الدقة في نقلها والتعامل معها.
كل الألوان محلّلة اليوم، ومتاحة، ورغم أنّ الكثير من الحركات والتوجهات والثورات والآراء قد حجزت ألوانها واتخذتها كالأعلام تعبّر عنها، إلا أن الألوان لم تنفد بعد، تنتظر من يحسن استخدامها وتقديرها، والاعتزاز بأسرارها والطاقة الكامنة فيها. الألوان كانت حلالا دائماً في الطبيعة، لم يلاحظ ابن الهيثم لوناً نافراً في كوابيسه الوهمية، مثلما لاحظ الجمع السقيم بين الألوان الذي يدل على أن الأمور ليست على ما يرام، فالألوان، محرار لقياس سلامة المكان من القداسة المفروضة ومشتقاتها، وما يصاحبها من بهرجة وتوق حثيث للشعور بالعظمة الجوفاء.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
قبل ألف عام فزّ الحسن ابن الهيثم مرعوباً من منامه، شاهد كابوسين في ليلة واحدة. في الكابوس الأول رأى نفسه داخل باص يتجول في مسقط رأسه البصرة ولاحظ أنّ الناس يتداولون ورقة ملوّنة وعليها صورته مكتوباً على يسارها “عشرة دنانير”، توقّف الباص ودخلته فرقة تفتيش؛ سألوه عن هوية الأحوال فلم يفهم، أخرجوه وركلوه على خاصرته، فاستيقظ، انقلب على جانبه الآخر ونام. شاهد نفسه داخل باص آخر وإلى جانبه رجل يحصي نقوده، ومرة أخرى، لاحظ صورته على النقود الورقية وعلى يسارها رقم أكبر “عشرة آلاف دينار”. لم يعر بالاً لصعود الرقم ولا لتبدّل شكل العملة الورقيّة وألوانها، الجزء غير المهم من الحكاية يقول إنَّ الحسن بن الهيثم البصري الذي مهّد لنظرية اللون وعلم الرؤية؛ انزعج من تنافر الألوان وسوء انسجامها على بيوت مواطنيه وملابسهم، ومن شدة الضوء الساقط على الأشياء في الليل، كأنه يقتلها ولا ينيرها، أما الجزء المهم من الحكاية هو أنها لم تحدث أبداً.
الشعراء لا الفيزيائيون، هم أوّل من كتب عن نظرية اللون. غوته وقبل أن يكمل عقده الثالث وضع كتاباً عن الألوان اسمه “نظرية اللون”، كان أشبه بإنجيل تحضر فيه الألوان كرسائل القديسين، وعارض فيه أفكار نيوتن والحسن البصري عن علم الرؤية والعلاقات بين الألوان، واصطنع فهمه الرومانسي الخاص عن ألوان الطيف، بل “ذَهبَ بها عريضة” حينما ربط بين حسن اختيار الألوان وأخلاق الإنسان. دافع غوته بشراسة عن تنسيق الألوان ورأى أن “الأطفال وغير المتعلمين والأمم القاسية لديهم ميل عظيم للألوان الفاقعة”. وحدث أن تردّد على صالون ثقافي في شرق ألمانيا تديره روائية مشهورة اسمها يوهانا، وهناك تعرضّ هو وألوانه لنقد علمي حازم، على يد ابن الروائية التعيس، والمترفع عن الشهوات، شوبنهاور، الذي رأى أن الألوان هي ما رآه نيوتن، عبارة عن تنويعات للون واحد هو البياض، وليست حالة فسيولوجية تحدث داخل شبكية العين، وإن السواد هو حالة انعدام الضوء.. ليس إلا.
إذا كان هذا الكلام يبدو معقداً وتقنياً جداً، وتتداخل فيه جدالات طويلة بين آرسطو ونيوتن وشعراء وفلاسفة القرن التاسع عشر، فهناك مقولة تلخيصية صاغها غوته، لا تزال صامدة، وصادق عليها الجميع، بمن فيهم شوبنهاور ابن الروائية، وشركة أدوبي الصانعة لبرنامج الفوتوشوب وتطبيقات تنسيق الألوان وتلوين الأفلام، إذ يقول “اللون هو ظل الضوء”، والمقولات الكبيرة تصبح كذلك حينما تجد نفسك مستسلماً أمامها وخاضعاً لقوة معناها، وكأنك قد أنتجتها بنفسك.
الخبر الطيب، أن النزاع أفضى إلى رد المظالم وتسوية الممتلكات، وصار اللون من اختصاص الفنانين، أما الضوء فهو من اختصاص أهل الفيزياء.
في التسعينات واظبت الكاتبة الأمريكية كاسيّا كلير على كتابة أعمدة صحافية لمجلة الإيكونومست عن عائلات الألوان وأشجار النسب والأسماء الخاصة بها.. كل أسبوع لون. جمعتها بعد ذلك بكتاب مشهور اسمه “الحيّاة السريّة للألوان”1، تتبنى خلاله الفكرة الأساسية القائلة بأن الألوان هي مجرد ظلال. وتنسيق الألوان يقتضي حداً معيناً من الفهم لتلك النظرية. تنقل كاسيّا، أن شاباً عمره 24 سنة كان يقف على حطام مدينة لندن التي التهم الحريق الكبير نصفها تقريباً، استعمل موشوراً ليعيد الضوء إلى ألوانه الأولى، وهي، في حسابات ذلك الوقت، تجربة ممنوعة جرّمتها الكنيسة، لأن مزج الألوان أو التلاعب بها يعد خرقاً لأنظمة الطبيعة. هذا الشاب الذي اسمه نيوتن مارس تلك التجربة الليبرالية المبكرة وصنع ما يعرف اليوم بعَجَلة نيوتن، التي تضم كل الألوان ويستفاد منها في توليد باقات لونية مضمونة الانسجام. تبدأ بالأحمر الذي يتولد من الإضاءة العالية وتنتهي بالأزرق الذي يتولد من القتامة.
في كتاب كاسيّا حديثٌ عن مئات الألوان، وهذا ما يجعل نقل كتابها إلى العربية مهمة شاقة، ذلك لأن اللغة العربية المعاصرة لم تضع أسماءً للألوان غير المشهورة. ولست أعرف إن كان المجمع العلمي للغة العربية قد أصدر كرّاساً في أسماء الألوان المتكثرة والجديدة وغير الواردة في النصوص التراثية، وبذلك اضطلعت صالونات التجميل ودهان الوجوه بمهمة تسمية الألوان بما تحفل قواميسها بأسماء غير فصيحة، وغير موحدة.
تتحدث كاسيّا عن آلية لفهم مبدأ التنسيق بين الألوان، وكيف تحكم العين على شيء ما وتصفه بمتناسق الألوان، والكلام هنا عن العبارة الشعرية ذاتها، “اللون ظل الضوء”، سأهمل هنا شرحها للفكرة واستعين بشارح آخر، هو الأستاذ عبد الإله مدرس الفيزياء في مدرسة الرسالة بحي الحيّانية قبل عقدين من الزمان، حاول، يائساً، أن يجعلنا نفهم قوانين الضوء لا أن ندرخها، وكان الأسهل أن ندرخها لنحصل على درجة كاملة. لم تكن أسئلة البكالوريا في التسعينات تتقصد اختبار الإفهام واستيعاب الدرس، وكان الدرخ أسهل.
فتح ذراعيه أمام الشباك ولاعب رمح الشمس الساقط على الأرضية الملوثة بالقيء والغبار وبخار القنادر، وقال “الضوء يتحكم بالألوان ويصنعها، وإذا أردنا استيعاب العلاقات بين الألوان علينا استيعاب شدة الضوء وخفوته عليها”، وهذا بنظري هو تفسير ملائم لعبارة اللون هو ظل الضوء.
ثم ضرب لنا مثالاً قبل أن يقول: “لو فهمت ما سأقوله الآن فستصبح ماهراً جداً في انتقاء باقة الألوان المناسبة وتنسق بين الحذاء والقاط والرباط…”.
يكمل “فمثلاً، العراق يسمونه أرض السواد لأن الناظر إليه من بعيد يرى السواد الذي هو اخضرار قاتم ينتج من تراكم الخضرة وتعامد الظل عليها”؟. والقصد أن اللون الأخضر في هذا المثال النوستالجي الزائف قد تعرض إلى درجة عالية من الظل نتيجة لكثافة النخيل والشجر، فتحول إلى أسود، والحق أنه ومنذ تلك الأيام قد تحوّل إلى زيتوني جاف إلى أجل غير مسمى.
مثال آخر مشهور عن فهم التناسق، وهو، لو قمت حضرتك بارتداء قميص وبنطرون وجاكيتة وقبعة ورباط وجواريب، كلها باللون نفسه، بالدرجة والشدة نفسيهما، ودخلت مع ابن الهيثم إلى غرفة مظلمة، هندس تماماً، وصرت “مغموراً بنجوم الليل الأبديّة” على رأي مظفر النوّاب.
حينها، لن “تستقبل روح الصحراء”، لأنك في غرفة ضيقة مشبّعة بالظلام الدامس صحبة ابن الهيثم، ولا ينبغي أن يخيفك هذا، سيطلب منك ابن الهيثم أن تقف، لن يرغمك على الركوع، سيطلب منك أن تركّز فيما يقوله لك وترى تقلبات اللون على ملابسك ذات اللون الواحد.
سيقوم بتسليط شعاع ضوئي على جاكيتك، وشعاع آخر على البنطلون أقل شدة من الآخر، وشعاع ثالث على قبعتك، أقل شدة، وأكثر شدة من الشعاع الأخير الذي سيضعه باتجاه رباطك.
على ملابسك الآن أربعة ألوان جديدة مشتقة من لونها الأصلي، لو فرضنا أنها زرقاء فلديك الآن أربعة ألوان من عائلة الأزرق.
أعد التجربة نفسها ولكن قم هذه المرّة بتغيير لون الضوء، فستحصل على أربعة ألوان أخرى جديدة، أعد التجربة نفسها وغيّر لون الأضواء الأربعة التي يمسكها ابن الهيثم، فصار لديك الآن أربعة ألوان إضافية، بالأحرى، صار عندك اثنا عشر لوناً تنتمي للعائلة نفسها، لكنها متباينة، وهذا يعني أن اختيار أي لون من هذه الباقة سيكون متسقاً من اللون الآخر، اجعل لون الجاكيتة من لون، ولون الرباط من لون آخر، أو انتق منها لونين أو ثلاثة وفرّقها على مظهرك، وهكذا، سيرى الناس أن ملابسك متسقة الألوان، ومريحة للناظرين.
إن لم يحدث ذلك، فاستعن ببرامج توليد باقات الألوان على الانترنت، هذا الموقع كمثال.
لا يعني ذلك، أنك ينبغي أن تقوم بتلك التجربة كلما فكّرت بالخروج من البيت، في أغلب الأحيان لا نقوم بإجراء مقارنات فعليّة بين الألوان كي نحزر التنسيق المناسب، ما يحدث هو أن أعيننا تحتفظ بذاكرة جيدة في ما يخص حفظ العلاقات بين الألوان، ونقوم بتقليد ألوان الأشياء المتسقة التي لا نراها في العالم، مثل ألوان الحيوانات والانسجام الطبيعي في النباتات والزهور.
يبدو أن العشوائية في انتقاء الألوان واختيارها وفقاً لأذواق شخصية غير مدرّبة بصرياً، لا يشير إلى أننا مجتمعات محبة للقبح فقط، بل يشير ضمناً إلى أننا لا نرى جيداً، أو على الأقل.. أن ألواننا تشبه ذواتنا وآراءنا، فاقعة وحادة، وغير متصالحة مع عيوبها، ألوان فحلة، قوية الظهور ولا تحب المجاورة، يصعب جداً أن تنتقي لها لوناً يلائمها، لأن اختيارها غير مدروس ولا يخضع لمسألة الظل والضوء والانسجام العائلي، ألوان توحيدية صارمة وصارخة، جعجعة بصرية بلا طائل، ولا معنى، ولا هوية.
ذكَر لي مرّة صديق غير عربي انطباعه عن بيت عراقي من الداخل، قائلاً إن رب أسرة عراقية هاجرت حديثاً إلى شمال الغرب الأمريكي، قد دعاه لتناول طعام عراقي حقيقي، بدلاً من نسخته المؤمركة التي يطلبها من المطاعم. يكمل الأمريكي الذي لم يغزّر فيه الزاد والملح واللون، بعد أن أثنى على المذاق اللاذع للأكلة البغدادية الدسمة، تعرّض إلى حيطان الشقة، أبدى امتعاضه من التشوه اللوني، وكيف أن البيت مبهرج ومصاب بداء الامتلاء، كل قدم مربع تقريباً مزين بلوحة ما أو بزركشة ما. بدا البيت بالنسبة له مثل معبد هندوسي سياحي تتراكم على دكته النذور والتماثيل والشموع، والألوان.. الألوان تتطابخ كأنها تغلي فوق نار لاهبة. شكرت صديقي المقرّب على قلة ذوقه وخيانته لرب أسرة سيئ الحس استأمن عينيه على الضريح المنزلي الذي يعيش فيه مع زوجته وبناته في الغربة. لكنه أضاف قائلاً بنبرة فوقية بيضاء مازحة: إن دخْل هذه الأسرة أقل من المتوسط والأب يتسلّم معاشاً تحت الحد الأدنى للأجور في الولاية، مع ذلك، يتظاهرون بالغنى والجاه.
ما زالت الطريق طويلة إلى أهمية الشعور بالتقشف، التقشف كثقافة عالمية مشتقة من ثقافة الزن وتعاليم الفلسفة الرواقية، التي صارت ثقافة شائعة وموجة شبابية في التنسيق وتأثيث المنازل، تعرف بالـ Minimalism، الحدنويّة أو التقلليّة. في حوار مع كايل تشايكا، مؤلف كتاب “الحنين إلى القليل”، وهو كتاب عن فلسفة الحدنوية والتقشف في الفنون والموسيقى واللبس والديكور والألوان، يجيب فيه عن معنى الحدنوية، مستعملاً تعبيراً لماركوس أوريليوس، مدوّن التعاليم الرواقيّة والإمبراطور الروماني السادس عشر، إذ يقول ” الأمثل هو ما يستغني عن الأشياء”.
يؤمن تشايكا أن البهرجة في التأثيث الداخلي تشير إلى الولع بالظهور منشغلاً، حاجتنا المضنية إلى ان نبدو مكتنزين تحرسنا من القلاقل والأشياء عديمة الغرض، والآلات الغالية التي تفعل ما يمكننا فعله بأيدينا.
أفكّر بكتاب تشايكا ذاك، من زاويتي، وألاحظ أن البهرجة تؤشر فعلاً إلى رذيلة التباهي الأجوف عندنا، والتباهي بالزعابيل المعدنية والخشبية القبيحة التي تطوف حولك كالأقمار وتسبح على جدرانك الملوّنة بلا حساب ولا معيار، والمكتظة بالأشياء والكماليات الصغيرة التي يمكن التخلي عنها. بينما الحدنوية هي إحساسٌ «بالتخليّ»، وكأن تعريف هذه الفلسفة التي باتت منتشرة بين جيل الشباب العاملين في الشركات الرقمية الكبرى، هو تعريف لمذهب أخلاقي قديم وشرحاً لمقام من مقامات السالكين وأهل التصوف!
لا يبدأ القبح في المرئيات عندنا في الشارع ولا في الأزقة الخلفية أو المساكن العشوائية، إنما يبدأ في المكتبات وأغلفة دواوين الشعراء والروايات، بل عند لوحات الفنانين وأصباغ وجوه المذيعات وألوان القناة الفضائية الرسمية.
يبدأ من هناك. ولا ينتهي.
الفن نفسه، وطريقة رصّه في المقاهي وخلفيات صورنا الشخصية، هو تركيز للتلوث والمخلمة الذوقية التي نعيشها، يندر أن يولد تكوينا جميلا من حاصل جمع دزينة الأشياء الجميلة التي علقّتها بلا حساب على حائطك.
لا يبدو أن الدولة تبدو معنيّة بالألوان، ويظهر أن الوزارات لا تملك دليلاً للألوان المستخدمة في مكاتبها وعلى أوراقها وابنيتها ومواقعها الإلكترونية. والدليل اللوني هو تقليد بيروقراطي موجود في المؤسسات ذات القواعد المهنيّة، والافتقار إلى الدليل الذي يحصر استعمالات الدائرة بألوان الزامية محددة، يؤدي بشكل أو بآخر إلى تلك الفوضى اللونية المتفشية في البلاد كلها، والمقصود بالالتزام هو النظام والهوية والسلامة الجمالية، لا الإجبار واللون الفاشي الواحد.
تستعمل الطائفتان العراقيتان الإسلاميتان اللون الأخضر كرمز للقداسة، والكوفية الخضراء هي علامة على النسل المحمدي المتفوق طهرانياً وعرقياً، ولعله أكثر الألوان شيوعاً. تحرّر هو الآخر من حبسته العقائدية وخرج من أقبية الدكتاتورية، ومثل أهله فقد غادر سجنه كالوحش لا كالحر، وللأخضر بأطواله الموجية المتوسطة جماليات قتلتها الأيدلوجيات والمرويات الطائفية، وهو شقيق للزيتوني ومن العائلة الضوئية نفسها.
ينقل مؤرخو الألوان، أن الأزرق اللون المقدس في الكاثوليكية كان محرّماً في العصور الأوربية الوسيطة، بل لم يكن له اسم، وكانوا يرسمون الماء باللون الأخضر، وتوصم به عادة الأقوام البربرية والشياطين. وبعد انتشار انجيل العهد القديم تحرر الأزرق من آيات الكتاب، وصار استعماله حلالاً وأصبح اسمه “أزرق”، ليتحول إلى لون الرداء الدائمي الذي ترتديه العذراء مريم في اللوحات والإيقونات الكنسية، وقد حرّرت الطائفة الموسوية قبل ذلك الأزرق وجعلته لوناً لراية الميعاد والأمل المنتظر. بين أزرق المسيحية واليهودية وأخضر الإسلام، تعيش درجات لونية لا حد لها، ألوان أكثر من الأسماء، ويشار إليها بالكودات الرقمية، لتوخي الدقة في نقلها والتعامل معها.
كل الألوان محلّلة اليوم، ومتاحة، ورغم أنّ الكثير من الحركات والتوجهات والثورات والآراء قد حجزت ألوانها واتخذتها كالأعلام تعبّر عنها، إلا أن الألوان لم تنفد بعد، تنتظر من يحسن استخدامها وتقديرها، والاعتزاز بأسرارها والطاقة الكامنة فيها. الألوان كانت حلالا دائماً في الطبيعة، لم يلاحظ ابن الهيثم لوناً نافراً في كوابيسه الوهمية، مثلما لاحظ الجمع السقيم بين الألوان الذي يدل على أن الأمور ليست على ما يرام، فالألوان، محرار لقياس سلامة المكان من القداسة المفروضة ومشتقاتها، وما يصاحبها من بهرجة وتوق حثيث للشعور بالعظمة الجوفاء.