ثالثهما "اللوعة".. أمامك خياران إن مرضت في نينوى

مجيد العبايجي

30 تشرين الأول 2022

كانت محافظة نينوى تمتلك 4 آلاف سرير في المستشفيات جاهزة في أي وقت لاستقبال المرضى، لكن الحرب والفساد دمرا القطاع الصحي، ولم يبق أمام السكان سوى خيارين للعلاج، وثالثهما "اللوعة"..

واقفاً وسط ردهة الطوارئ في مستشفى الموصل العام، يضغط مصطفى المولى 22 عاماً على مرفق ساعده الأيمن والدم ينز منه ويسيل على الأرض.

قضى الشاب قرابة الساعتين على هذه الحالة ونظراته تتوزع على مكان جرحه وعلى الطابور الممتد أمامه حتى غرفتي الأشعة والطبيب.

تعرض مصطفى لحادث سير ترك في ذراعه 3 كسور، ولم يتحمل الانتظار الطويل فخرج قاصداً مركزاً صحياً أهلياً لتصوير الأشعة وعاد ليعرض نفسه على الطبيب في المستشفى الحكومي.

“لم يكترث لي ولم يعرني نظرة بسبب الزحام وكثرة الحالات المختلفة والقاسية التي تمر عليه خلال اليوم”، يقول.

استطلع الطبيب الأشعة وحدد أماكن الكسور الثلاثة وأبلغ مصطفى حاجته إلى عملية جراحية طارئة لكن موعدها سيكون بعد 3 أشهر لأن جدول غرفة العمليات مزدحم.

ومرة أخرى، كان على الشاب أن يخرج باحثاً عن جرّاح في مستشفى أهلي يجري له العملية ويخلّصه من الألم الذي لازمه طيلة أسبوع بعد الحادث لأنه لم يكن يملك ثمن العلاج.

وجد ضالته وُوضعت له مساند حديدية داخل الذراع المكسورة وخرج من المشفى الخاص بعد دفعه فاتورة تزيد عن ألف دولار عدا ما اشتره من أدوية بأموال استدانها.

تمثل حالة مصطفى وقصته جزءاً من يوميات سكان مدينة الموصل التي دمّرت الحرب أكثر من 70 بالمئة من مؤسساتها الصحية.

فقبل دخول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلى نينوى صيف 2014، كان هناك 4 آلاف سرير جاهز في أي وقت لاستقبال المرضى، لكن الحرب المدمِرة خفضّت العدد إلى 600 سرير.

أما اليوم وبعد 5 أعوام على استعادة المدينة من قبضة التنظيم، فإن عدد الأسرة الطبية في المستشفيات الحكومية يقل عن 2500، يقابلها نحو 4 ملايين نسمة.

دمرت المعارك العسكرية 12 مشفى حكومياً من أصل 14 كما اندثر 70 مركزاً صحياً يتوزع في أحياء المحافظة.

أحد أهم المشافي المدمرة هو مستشفى ابن سينا التعليمي، ثاني أكبر مشفى في العراق بعد مدينة الطب في بغداد وكان يضم مجمعاً طبياً يشمل 15 مشفى ومركزاً تخصيصاً دقيقاً تستوعب 5 آلاف مريض، لكنها الآن وبطاقتها القصوى لا تتسع لأكثر من 500 بعدما تحوّلت إلى قوالب كرفانية.

وهناك أيضاً مستشفى السلام والجمهوري والبتول ومستشفى الأورام السرطانية، وجميعها مدمّرة.

يلقي أعضاء في البرلمان عن نينوى باللوم في تأخر إعمار المستشفيات على مدير دائرة الصحة في المحافظة فلاح الطائي ويتهموه بالفساد المالي والإداري لكنه ينفي.

خياران للعلاج ليس بينهما مشافي الحكومة

يجد العديد من السكان -خاصة من يحتاجون إلى رعاية صحية عاجلة- أنفسهم أمام خيارين: إما اللجوء إلى مستشفيات أهلية أو السفر لإقليم كردستان وعاصمته أربيل المجاورة لنينوى وهناك يوجد أطباء ماهرين نزحوا من الموصل.

اختار أحمد عامر السفر إلى أربيل التي تبعد 90 كيلومتراً عن الموصل، آخذاً معه والده المريض بالسرطان ليتلق الجرعات الكيماوية هناك.

جرّب أحمد البحث عن علاج لوالده في مستشفيات نينوى لكنه اصطدم بما يصفه “بؤس” مركز الأمراض السرطانية الذي تحوّل إلى موقع بديل.

“كل شيء فيه متسخ” والتراب يغطيه، يقول أحمد الذي كان يتجنب لمس أي شيء هناك.

كان الخوف يعتريه من أن تسوء حالة والده إن رقد في إحدى هذه المستشفيات التي تعاني كذلك من نقص “حاد” في الأدوية والمعدات ومختلف الطواقم بما فيها المنظفين، وفق ما لاحظه.

يؤيد سيف، وهو موظف خدمة في مستشفى السلام التعليمي الواقع في الجانب الأيسر من الموصل، ملاحظات أحمد حول نقص الأدوية وغياب النظافة في المستشفيات الحكومية في المدينة.

“نحن 10 موظفين فقط تقع على عاتقنا أعمال تنظيف المشفى كله والذي يعمل على مدار 24 ساعة”.

إبراهيم جمال، هو الآخر سافر إلى أربيل للحصول على علاج لم يجده على مدى 3 سنوات من البحث في الموصل.

ويعاني إبراهيم من هرس في غضروف ركبته وقطع في الرباط سببه السقوط على الأرض بشدة أثناء ما كان يهرب من تنظيم “داعش” عام 2017.

كان “داعش” يسيطر على منطقته، فحاول إبراهيم الانتقال إلى الجهة المقابلة حيث ينتشر الجيش العراقي على بعد عشرات الأمتار فتعثر ووقع.

في مستشفى “فيان” في أربيل، أجريت له عملية ناجحة كلّفته ألفي دولار أميركي.

“والدتي مريضة وأنا حائر”

مرّ مهند العنزي بحالة مشابهة لكنها أقل وطأة، فوالدته البالغة 70 عاماً تدهورت حالتها الصحية ذات مرة في الثانية بعد منتصف الليل، وكان حائراً أثناء جلوسه بقربها.

“هل أحملها إلى المستشفى أما انتظر حلول الصباح وأنقلها إلى عيادة خاصة؟”.

سأل مهند نفسه قبل أن يقرر بسرعة مراجعة المشفى الحكومي بيد أنه لم يستفد شيئاً إذ وجد “الغرفة تغص بالمرضى، ولم يكن العلاج متوفراً”.

واضطر يومها لشراء الدواء من صيدلية أهلية بسعر 20 ألف دينار، وكان على وشك أن يشتريه من الصيدلية الأولى بـ50 ألفاً.

مستشفيات “تسجل أعداد المرضى فقط”

منذ 5 أعوام، يشهد سوق العيادات الطبية والمشافي الخاصة تنامياً ملحوظاً وباتت شوارعه المزدحمة مغطاة بالقطع التعريفية لهذه البنايات والصيدليات الأهلية كذلك. 

هناك يجد المرضى ما لا يجدوه في المستشفيات الحكومية، وصار المئات منهم يقصدون تلك الأماكن بكثافة عندما دخل فيروس “كورونا” إلى العراق في شباط 2020.

وقتها كانت الإصابات اليومية بالفيروس في نينوى تعدد 1500 مع وفيات تتراوح بين 20 – 30 حالة، واكتفت المستشفيات الحكومية بتسجيل أعداد الإصابات فقط، أما العلاج فعلى المرضى إيجاده بأنفسهم.

يقصد المريض مختبراً أهلياً للفحص مقابل 40 ألف دينار، ليبدأ بعدها رحلة علاجية في المنزل حال ظهور نتيجة فحصه إيجابية.

في انتظار عبد الله 

كان جهاز الإنعاش يغطي وجهه خالد المجّعد، وصدره ينقبض وينبسط ويصدر عنه صوتاً خشناً يبدد هدوء الغرفة داخل منزله.

زوجته رويدا ضغطت بقوة على صدره النحيل وطلبت منه بلهجة أقرب إلى التوسل أن يسحب نفساً.

كانت تضع 3 كمامات طبية فوق بعض على وجهها وارتدت قفازات زرقاء اللون لتجنب التقاط العدوى من خالد.

لا تعرف هذه السيدة ذات الخمسين عاماً ما الذي عليها فعله. أخبرها الطبيب أن زوجها يحتاج إلى الأكسجين وهو لا يتوفر بسهولة، لذا فهي تنتظر عبد الله.

يأتيها هذا الشاب بأسطوانات الأكسجين الطبي إلى المنزل مجاناً.

إنه يدرس في جامعة الموصل، وقد فتح عيادة توفر مستلزمات العلاج من كورونا مجاناً للمرضى المحتاجين بعد امتلاء المستشفيات وحصول نقص حاد في الأكسجين، حديث الناس وشغلهم الشاغل في ذروة تفشي الفيروس.

قرر عبد الله أن يفتتح عيادته هذه بعد رحلة علاج مريرة عاشها مع قريب له في إحدى مستشفيات الموصل.

“الوضع كارثي جداً وأخشى على أفراد عائلتي من الدخول إلى هذه المستشفيات”، يقول لجُمّار.

ابن الأثير: ثاني مشفى للأطفال.. مغلق

تمثل الإعلانات الحكومية عن اكتمال إعمار مستشفى ما وقرب افتتاحه مسرّة للسكان المحليين، بيد أن الثقة معدومة.

قبل أكثر من 7 أشهر، أعلنت السلطات الانتهاء من إعمار مستشفى ابن الأثير لأمراض الدم (الثلاسيميا واللوكيميا) وزراعة نخاع العظم، لكن أبوابه بقيت موصدة حتّى منتصف تشرين الأوّل الجاري.

ويسع هذا المشفى لـ81 سرير وكامل طوابقه وأقسامه جاهزة، بخلاف المستشفيات الأخرى التي يعلوها أو تقع بجانبها أقسام ما تزال مدمرة.

 عملت طواقم “ابن الأثير” في موقع بديل يوجد فيه 15 سرير فقط، وهو ثاني مشفى مخصص للأطفال في الموصل.

وهناك مكثت عبير مع وليدها ذو العشرة أيام ويعاني من التهابات حادة في قصباته الهوائية.

أسندت المرأة رأسها على يدها بينما يتعالى حولها صوت بكاء الأطفال المرضى، وعلى الجهة الأخرى غطى البخار رأس طفل موضوع على جهاز التنفس.

في الخارج وقف زوج عبير لـ7 أيام نام لياليها داخل سيارته.

“لا يمكنني إخراج طفلي دون موافقة الطبيب، ولو أعرف مشفىً أهلياً يقدم الرعاية بسعر مناسب لذهبت إليه”.

“متى يُحترم عامل الزمن؟!”

كان أيار الماضي هو موعد افتتاح مستشفى ابن الأثير، لكن الموعد فات عليه أكثر من 5 أشهر ولم تُفتح الأبواب بسبب “نقص الأجهزة الذي سببه تقصير الشركة المنفذة للمشروع”، وفق مدير دائرة الصحة فلاح الطائي.

قبل ذلك كان سكان ناحية القيارة جنوب الموصل، والبالغ عددهم 100 ألف نسمة ينتظرون افتتاح مستشفى مكتمل منذ أكثر من عام ولا ينقصه سوى قص الشريط.

ولا يكف محمود السلامي، إعلامي وناشط في الموصل، عن المطالبة بـ”احترام عامل الزمن” في المشاريع الصحية “لأنها تلامس حياة الناس”.

أوراق لدى “النزاهة”

نظم مشرعون أكثر من مؤتمر صحافي حول تدني الخدمات الصحية في نينوى وتأخر إعمار المشافي، ووجهوا الاتهام مباشرة لمدير دائرة الصحة.

“فلاح الطائي يمارس فساداً مالياً وإدارياً وقدمت الأوراق التي تخص هذه القضية إلى هيئة النزاهة”، يقول نايف الشمري، أحد أعضاء البرلمان هؤلاء، ويتوعد بأن تكون له وزملاؤه “كلمة فصل حول مشكلة الواقع الصحي لأنها تخص 5 ملايين إنسان والكل متضرر منها”.

ويضيف محمد نوري، المشرع الآخر، اتهاماً آخر ويتحدث عن “حاشية” أوصلت نينوى إلى “كارثة صحية”.

“نعرف أن هناك أطباء موظفين في دائرة الصحة في نينوى لكنهم لا يداومون باتفاق مع الطائي ويذهبون للعمل في مستشفيات أربيل”، يقول.

تحدث “جمُّار” إلى مصدر في الدائرة، وأيد مزاعم نوري قائلاً: “أعرف أطباء لا يلتزمون بالدوام ولا نراهم إلّا كل 3 أشهر أو يزيد”.

على المقلب الآخر، يكثر الطائي ظهوره الإعلامي وينظم مؤتمرات صحفية مضادة يكذب عبرها الاتهامات الموجهة إليه ويخرج في جولات مصوّرة تبين “مستوى الخدمة والتعامل” في مستشفيات الموصل.

في 17 تشرين الأوّل الماضي، تداولت وسائل الإعلام بياناً لهيئة النزاهة أعلنت فيه أن محكمة تحقيق نينوى المختصة بقضايا النزاهة أصدرت أمر استقدام بحق المدير العام لدائرة صحة محافظة نينوى على خلفية قيام أحد موظفي الدائرة باستغلال علاقته مع ابن المدير العام لتحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة.

وفق النزاهة، فإن التحقيقات في القضية المُحالة إلى القضاء خلصت إلى أن الموظف تدخل في عمل الدائرة عن طريق علاقته بنجل المدير العام عبر إدراج اسمه في لجان التنفيذ والاستلام للمشاريع المنفذة، بصورة مخالفة للقانون.

نفى الطائي في اليوم ذاته خبر استقدامه على صفحته في فيسبوك.

“نشيد باهلنا ان لا تجذبهم هذه التصاريح الفيسبكية والحذر من تناقل هذه الاخبار التي لا تمس الحقيقة شيء وكل ما ينشر بهذا الخصوص غير صحيح”، قال.

بالنسبة لأحمد عامر، فإن “مشافي الموصل تحتاج إلى مستشفيات تعالجها”، بينما يضع محمود السلامي استراتيجية ذهنية لتجنب “خيبة الأمل”.

“إذا أعلنوا أن مستشفى ما ستبنى خلال سنتين، فإننا سنكون متفائلين لو بنيت فعلاً واكتملت خلال 5 سنوات”، ومع ذلك فإنه يسأل “من يراقب المسؤولين ويسألهم حول مواعيد إكمال بناء المستشفيات؟”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

واقفاً وسط ردهة الطوارئ في مستشفى الموصل العام، يضغط مصطفى المولى 22 عاماً على مرفق ساعده الأيمن والدم ينز منه ويسيل على الأرض.

قضى الشاب قرابة الساعتين على هذه الحالة ونظراته تتوزع على مكان جرحه وعلى الطابور الممتد أمامه حتى غرفتي الأشعة والطبيب.

تعرض مصطفى لحادث سير ترك في ذراعه 3 كسور، ولم يتحمل الانتظار الطويل فخرج قاصداً مركزاً صحياً أهلياً لتصوير الأشعة وعاد ليعرض نفسه على الطبيب في المستشفى الحكومي.

“لم يكترث لي ولم يعرني نظرة بسبب الزحام وكثرة الحالات المختلفة والقاسية التي تمر عليه خلال اليوم”، يقول.

استطلع الطبيب الأشعة وحدد أماكن الكسور الثلاثة وأبلغ مصطفى حاجته إلى عملية جراحية طارئة لكن موعدها سيكون بعد 3 أشهر لأن جدول غرفة العمليات مزدحم.

ومرة أخرى، كان على الشاب أن يخرج باحثاً عن جرّاح في مستشفى أهلي يجري له العملية ويخلّصه من الألم الذي لازمه طيلة أسبوع بعد الحادث لأنه لم يكن يملك ثمن العلاج.

وجد ضالته وُوضعت له مساند حديدية داخل الذراع المكسورة وخرج من المشفى الخاص بعد دفعه فاتورة تزيد عن ألف دولار عدا ما اشتره من أدوية بأموال استدانها.

تمثل حالة مصطفى وقصته جزءاً من يوميات سكان مدينة الموصل التي دمّرت الحرب أكثر من 70 بالمئة من مؤسساتها الصحية.

فقبل دخول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” إلى نينوى صيف 2014، كان هناك 4 آلاف سرير جاهز في أي وقت لاستقبال المرضى، لكن الحرب المدمِرة خفضّت العدد إلى 600 سرير.

أما اليوم وبعد 5 أعوام على استعادة المدينة من قبضة التنظيم، فإن عدد الأسرة الطبية في المستشفيات الحكومية يقل عن 2500، يقابلها نحو 4 ملايين نسمة.

دمرت المعارك العسكرية 12 مشفى حكومياً من أصل 14 كما اندثر 70 مركزاً صحياً يتوزع في أحياء المحافظة.

أحد أهم المشافي المدمرة هو مستشفى ابن سينا التعليمي، ثاني أكبر مشفى في العراق بعد مدينة الطب في بغداد وكان يضم مجمعاً طبياً يشمل 15 مشفى ومركزاً تخصيصاً دقيقاً تستوعب 5 آلاف مريض، لكنها الآن وبطاقتها القصوى لا تتسع لأكثر من 500 بعدما تحوّلت إلى قوالب كرفانية.

وهناك أيضاً مستشفى السلام والجمهوري والبتول ومستشفى الأورام السرطانية، وجميعها مدمّرة.

يلقي أعضاء في البرلمان عن نينوى باللوم في تأخر إعمار المستشفيات على مدير دائرة الصحة في المحافظة فلاح الطائي ويتهموه بالفساد المالي والإداري لكنه ينفي.

خياران للعلاج ليس بينهما مشافي الحكومة

يجد العديد من السكان -خاصة من يحتاجون إلى رعاية صحية عاجلة- أنفسهم أمام خيارين: إما اللجوء إلى مستشفيات أهلية أو السفر لإقليم كردستان وعاصمته أربيل المجاورة لنينوى وهناك يوجد أطباء ماهرين نزحوا من الموصل.

اختار أحمد عامر السفر إلى أربيل التي تبعد 90 كيلومتراً عن الموصل، آخذاً معه والده المريض بالسرطان ليتلق الجرعات الكيماوية هناك.

جرّب أحمد البحث عن علاج لوالده في مستشفيات نينوى لكنه اصطدم بما يصفه “بؤس” مركز الأمراض السرطانية الذي تحوّل إلى موقع بديل.

“كل شيء فيه متسخ” والتراب يغطيه، يقول أحمد الذي كان يتجنب لمس أي شيء هناك.

كان الخوف يعتريه من أن تسوء حالة والده إن رقد في إحدى هذه المستشفيات التي تعاني كذلك من نقص “حاد” في الأدوية والمعدات ومختلف الطواقم بما فيها المنظفين، وفق ما لاحظه.

يؤيد سيف، وهو موظف خدمة في مستشفى السلام التعليمي الواقع في الجانب الأيسر من الموصل، ملاحظات أحمد حول نقص الأدوية وغياب النظافة في المستشفيات الحكومية في المدينة.

“نحن 10 موظفين فقط تقع على عاتقنا أعمال تنظيف المشفى كله والذي يعمل على مدار 24 ساعة”.

إبراهيم جمال، هو الآخر سافر إلى أربيل للحصول على علاج لم يجده على مدى 3 سنوات من البحث في الموصل.

ويعاني إبراهيم من هرس في غضروف ركبته وقطع في الرباط سببه السقوط على الأرض بشدة أثناء ما كان يهرب من تنظيم “داعش” عام 2017.

كان “داعش” يسيطر على منطقته، فحاول إبراهيم الانتقال إلى الجهة المقابلة حيث ينتشر الجيش العراقي على بعد عشرات الأمتار فتعثر ووقع.

في مستشفى “فيان” في أربيل، أجريت له عملية ناجحة كلّفته ألفي دولار أميركي.

“والدتي مريضة وأنا حائر”

مرّ مهند العنزي بحالة مشابهة لكنها أقل وطأة، فوالدته البالغة 70 عاماً تدهورت حالتها الصحية ذات مرة في الثانية بعد منتصف الليل، وكان حائراً أثناء جلوسه بقربها.

“هل أحملها إلى المستشفى أما انتظر حلول الصباح وأنقلها إلى عيادة خاصة؟”.

سأل مهند نفسه قبل أن يقرر بسرعة مراجعة المشفى الحكومي بيد أنه لم يستفد شيئاً إذ وجد “الغرفة تغص بالمرضى، ولم يكن العلاج متوفراً”.

واضطر يومها لشراء الدواء من صيدلية أهلية بسعر 20 ألف دينار، وكان على وشك أن يشتريه من الصيدلية الأولى بـ50 ألفاً.

مستشفيات “تسجل أعداد المرضى فقط”

منذ 5 أعوام، يشهد سوق العيادات الطبية والمشافي الخاصة تنامياً ملحوظاً وباتت شوارعه المزدحمة مغطاة بالقطع التعريفية لهذه البنايات والصيدليات الأهلية كذلك. 

هناك يجد المرضى ما لا يجدوه في المستشفيات الحكومية، وصار المئات منهم يقصدون تلك الأماكن بكثافة عندما دخل فيروس “كورونا” إلى العراق في شباط 2020.

وقتها كانت الإصابات اليومية بالفيروس في نينوى تعدد 1500 مع وفيات تتراوح بين 20 – 30 حالة، واكتفت المستشفيات الحكومية بتسجيل أعداد الإصابات فقط، أما العلاج فعلى المرضى إيجاده بأنفسهم.

يقصد المريض مختبراً أهلياً للفحص مقابل 40 ألف دينار، ليبدأ بعدها رحلة علاجية في المنزل حال ظهور نتيجة فحصه إيجابية.

في انتظار عبد الله 

كان جهاز الإنعاش يغطي وجهه خالد المجّعد، وصدره ينقبض وينبسط ويصدر عنه صوتاً خشناً يبدد هدوء الغرفة داخل منزله.

زوجته رويدا ضغطت بقوة على صدره النحيل وطلبت منه بلهجة أقرب إلى التوسل أن يسحب نفساً.

كانت تضع 3 كمامات طبية فوق بعض على وجهها وارتدت قفازات زرقاء اللون لتجنب التقاط العدوى من خالد.

لا تعرف هذه السيدة ذات الخمسين عاماً ما الذي عليها فعله. أخبرها الطبيب أن زوجها يحتاج إلى الأكسجين وهو لا يتوفر بسهولة، لذا فهي تنتظر عبد الله.

يأتيها هذا الشاب بأسطوانات الأكسجين الطبي إلى المنزل مجاناً.

إنه يدرس في جامعة الموصل، وقد فتح عيادة توفر مستلزمات العلاج من كورونا مجاناً للمرضى المحتاجين بعد امتلاء المستشفيات وحصول نقص حاد في الأكسجين، حديث الناس وشغلهم الشاغل في ذروة تفشي الفيروس.

قرر عبد الله أن يفتتح عيادته هذه بعد رحلة علاج مريرة عاشها مع قريب له في إحدى مستشفيات الموصل.

“الوضع كارثي جداً وأخشى على أفراد عائلتي من الدخول إلى هذه المستشفيات”، يقول لجُمّار.

ابن الأثير: ثاني مشفى للأطفال.. مغلق

تمثل الإعلانات الحكومية عن اكتمال إعمار مستشفى ما وقرب افتتاحه مسرّة للسكان المحليين، بيد أن الثقة معدومة.

قبل أكثر من 7 أشهر، أعلنت السلطات الانتهاء من إعمار مستشفى ابن الأثير لأمراض الدم (الثلاسيميا واللوكيميا) وزراعة نخاع العظم، لكن أبوابه بقيت موصدة حتّى منتصف تشرين الأوّل الجاري.

ويسع هذا المشفى لـ81 سرير وكامل طوابقه وأقسامه جاهزة، بخلاف المستشفيات الأخرى التي يعلوها أو تقع بجانبها أقسام ما تزال مدمرة.

 عملت طواقم “ابن الأثير” في موقع بديل يوجد فيه 15 سرير فقط، وهو ثاني مشفى مخصص للأطفال في الموصل.

وهناك مكثت عبير مع وليدها ذو العشرة أيام ويعاني من التهابات حادة في قصباته الهوائية.

أسندت المرأة رأسها على يدها بينما يتعالى حولها صوت بكاء الأطفال المرضى، وعلى الجهة الأخرى غطى البخار رأس طفل موضوع على جهاز التنفس.

في الخارج وقف زوج عبير لـ7 أيام نام لياليها داخل سيارته.

“لا يمكنني إخراج طفلي دون موافقة الطبيب، ولو أعرف مشفىً أهلياً يقدم الرعاية بسعر مناسب لذهبت إليه”.

“متى يُحترم عامل الزمن؟!”

كان أيار الماضي هو موعد افتتاح مستشفى ابن الأثير، لكن الموعد فات عليه أكثر من 5 أشهر ولم تُفتح الأبواب بسبب “نقص الأجهزة الذي سببه تقصير الشركة المنفذة للمشروع”، وفق مدير دائرة الصحة فلاح الطائي.

قبل ذلك كان سكان ناحية القيارة جنوب الموصل، والبالغ عددهم 100 ألف نسمة ينتظرون افتتاح مستشفى مكتمل منذ أكثر من عام ولا ينقصه سوى قص الشريط.

ولا يكف محمود السلامي، إعلامي وناشط في الموصل، عن المطالبة بـ”احترام عامل الزمن” في المشاريع الصحية “لأنها تلامس حياة الناس”.

أوراق لدى “النزاهة”

نظم مشرعون أكثر من مؤتمر صحافي حول تدني الخدمات الصحية في نينوى وتأخر إعمار المشافي، ووجهوا الاتهام مباشرة لمدير دائرة الصحة.

“فلاح الطائي يمارس فساداً مالياً وإدارياً وقدمت الأوراق التي تخص هذه القضية إلى هيئة النزاهة”، يقول نايف الشمري، أحد أعضاء البرلمان هؤلاء، ويتوعد بأن تكون له وزملاؤه “كلمة فصل حول مشكلة الواقع الصحي لأنها تخص 5 ملايين إنسان والكل متضرر منها”.

ويضيف محمد نوري، المشرع الآخر، اتهاماً آخر ويتحدث عن “حاشية” أوصلت نينوى إلى “كارثة صحية”.

“نعرف أن هناك أطباء موظفين في دائرة الصحة في نينوى لكنهم لا يداومون باتفاق مع الطائي ويذهبون للعمل في مستشفيات أربيل”، يقول.

تحدث “جمُّار” إلى مصدر في الدائرة، وأيد مزاعم نوري قائلاً: “أعرف أطباء لا يلتزمون بالدوام ولا نراهم إلّا كل 3 أشهر أو يزيد”.

على المقلب الآخر، يكثر الطائي ظهوره الإعلامي وينظم مؤتمرات صحفية مضادة يكذب عبرها الاتهامات الموجهة إليه ويخرج في جولات مصوّرة تبين “مستوى الخدمة والتعامل” في مستشفيات الموصل.

في 17 تشرين الأوّل الماضي، تداولت وسائل الإعلام بياناً لهيئة النزاهة أعلنت فيه أن محكمة تحقيق نينوى المختصة بقضايا النزاهة أصدرت أمر استقدام بحق المدير العام لدائرة صحة محافظة نينوى على خلفية قيام أحد موظفي الدائرة باستغلال علاقته مع ابن المدير العام لتحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة.

وفق النزاهة، فإن التحقيقات في القضية المُحالة إلى القضاء خلصت إلى أن الموظف تدخل في عمل الدائرة عن طريق علاقته بنجل المدير العام عبر إدراج اسمه في لجان التنفيذ والاستلام للمشاريع المنفذة، بصورة مخالفة للقانون.

نفى الطائي في اليوم ذاته خبر استقدامه على صفحته في فيسبوك.

“نشيد باهلنا ان لا تجذبهم هذه التصاريح الفيسبكية والحذر من تناقل هذه الاخبار التي لا تمس الحقيقة شيء وكل ما ينشر بهذا الخصوص غير صحيح”، قال.

بالنسبة لأحمد عامر، فإن “مشافي الموصل تحتاج إلى مستشفيات تعالجها”، بينما يضع محمود السلامي استراتيجية ذهنية لتجنب “خيبة الأمل”.

“إذا أعلنوا أن مستشفى ما ستبنى خلال سنتين، فإننا سنكون متفائلين لو بنيت فعلاً واكتملت خلال 5 سنوات”، ومع ذلك فإنه يسأل “من يراقب المسؤولين ويسألهم حول مواعيد إكمال بناء المستشفيات؟”.