"بلاد المخلفات الحربية": أكثر من لغم لكل عراقي
15 تشرين الأول 2022
تنتشر الألغام والمخلفات الحربية المميتة غير المنفلقة على مساحة 6 مليارات متر مربع من أراضي العراق، بينما تحتاج البلاد إلى ستين ضعفاً من العدد المتوفر من المتخصصين لإزالتها.
بينما كانت مدينة الموصل تعود حياً فحياً إلى سيطرة القوات العراقية في أواسط 2017، كان تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش” يحاول بكل إمكاناته الدفاع عن مواقعه في المدينة التي أعلن منها خلافته وسيطر عليها لثلاث سنوات خلت، محولاً شمال العراق إلى ساحة معركة مستمرة وإن خبا القتال. لذلك ما زلتُ اعتقد أن ابن خالي أحمد عُمير قُتل عام 2016، ولم يكن سوى مجرَّد مراهق لم يبلغ السابعة عشر بعد تعثر حظه حينما انفجر به لغم أرضي، بينما كان نازحاً في قرى زمار في محافظة نينوى مع عائلته بحثاً عن مكان آمن.
لم يمت أحمد على الفور. استند على ما بقي فيه من قوة وراح يحبو باتجاه البيت، يجرُّ ساقه المعلقة من الجلد. في الطريق أسعفه أحد المارة، لكنَّ انعدام الإسعافات الأولية هناك في زمار، لم يترك لأحمد فرصة للنجاة. نزف حتى الموت ودفن في الليلة نفسها، ولم يُسجَّل على قوائم ضحايا الألغام في مؤسسات الدولة العراقية أو في قوائم المنظمات الدولية.
أراضي محررة إلا من الألغام
حال زمار كحال الكثير من المناطق التي احتلها داعش وتركها ملوثة بالألغام. ففي مدينة الموصل وحدها، قدّرت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) في بيان لها في 2019، وجود آلاف الأطنان من المتفجرات التي ما زالت مبعثرة في جميع أنحاء المدينة، التي يحتاج تطهيرها من الألغام والمتفجرات بالكامل ما يفوق العشر سنوات.
وبحسب بول هيسلوب، مدير البرامج السابق في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام، فإنه وقبل بدء القتال لتحرير الموصل من تنظيم داعش، كان لدى مقاتلي التنظيم عامان كاملان لتفخيخ المباني وتأزيرها بالمتفجرات والعبوات الناسفة. يضيف هيسلوب، “كان كل شيء خطراً محتملاً، ربما تكون الثلاجة مفخخة، وتنفجر إن فتحتها، أو تدير مفتاح الضوء فتلقاك قنبلة في الانتظار، وكان الكثير من المباني نفسها غير ثابت أبداً، ولو حرَّك فريق الباحثين القطعة الخطأ من الأنقاض، للبحث عن المتفجرات، قد ينهار المبنى بأكمله عليهم”.
أكثر من لغم لكل مواطن
غير أن مأساة العراقيين في بلادهم المفخخة بالألغام ليست مقتصرة على حقبة داعش ولا على المناطق التي احتلها، حيث يعيش اليوم 8.5 مليون عراقي وسط الألغام والمخلفات الحربية المميتة غير المنفلقة في شتى أرجاء العراق. وذلك وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونوهت كذلك إلى إن “العراق يعد واحداً من أكثر البلدان التي تعرضت للتلوث بسبب الذخائر المتفجرة على سطح الكوكب.. وإن المخلفات الحربية القابلة للانفجار في ذلك البلد تنتشر على امتداد ما يزيد عن 3.200 كيلومتر مربع من الأراضي، أي ضعف مساحة مدينة لندن”.
وما يُفاقم هذا الوضع هو أن ثمة “آلاف العائلات تقطن في مناطق غير مأهولة وملوثة بالألغام خلافاً للقانون، بسبب عدم قدرتهم المالية على شراء أو تأجير العقارات”.
قدرت الأمم المتحدة عدد الألغام في العراق بـ50 مليون لغم، أي ما يفوق عدد سكان البلاد البالغ نحو 41 مليوناً، وفق ما نشرته صحيفة “الصباح” الحكومية عام 2021.
وذكرت الأمم المتحدة في إحصائياتها أن العراق بحاجة إلى نحو 19 ألف متخصص في إزالة الألغام، وهو رقم أعلى بستين ضعفاً من العدد المتوفر حالياً.
الألغام تحصد أرواح الصغار والكبار
في شباط 2022، لقى أربعة أطفال (ثلاثة أولاد وفتاة) حتفهم وفقد اثنان آخران أطرافهما، خلال أسبوع واحد، نتيجة لحوادث تتعلق بالذخائر المتفجرة في محافظتي بابل وبغداد. اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الطفل) التي نشرت البيان، قالت إن “هذه ليست حالة منفردة من حالات فقدان أرواح الأطفال، ففي عام 2021، قُتل 125 طفلاً أو تعرضوا للإعاقة نتيجة للمخلفات الحربية المتفجرة، والذخائر غير المنفجرة، وقتل من بينهم 52 طفلاً، وتعرض 73 طفلاً للإعاقة”.
بالنسبة لليونيسيف فإن عام 2021 شهد ارتفاعاً في عدد الضحايا من الأطفال بنسبة 67 في المائة مقارنة بعام 2020 (79 طفلاً، بينهم 61 ولداً). كما تعتقد المنظمة أن “المتفجرات من المخلفات الحربية لا تزال سبباً رئيسياً لسقوط ضحايا من المدنيين، مع كون الأطفال الأكثر ضعفاً بشكل خاص، حيث إن صغر حجمهم يجعلهم أكثر عرضة للأثر الكامل للانفجار، مما يجعله أكثر فتكاً بهم”.
إلى هذه الأعداد، تضاف أرواح البالغين من ضحايا الألغام، الذي سجلت دائرة شؤون الألغام في وزارة البيئة العراقية 34 ألف ضحية حتى عام 2022 الآن، وتعتقد أن هذا العدد سيتضاعف كثيراً إن هي استطاعت تسجيل كل الضحايا غير المسجلين في ملفاتها.
إلى جانب حصاد الأرواح، تؤدي الألغام إلى غلق الطرق وتمنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة والفلاحين من العمل في الأرض، كما وتعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحرم الناس من مصادر كسب العيش، وتعيق جهود إعادة الإعمار ما بعد الحرب وتعيق نشر قوات حفظ السلام وإيصال الإغاثة الإنسانية، ولا يمكن التمييز بين الألغام الأرضية والقنابل العنقودية غير المتفجرة، فاحتمال قتلها لطفل مماثل لاحتمال قتلها لجندي. وتستمر في القتل بعد انتهاء الحروب لفترات طويلة، كما تشير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام.
حيوات مبتورة
يقدّر عدد مبتوري الأطراف بسبب الألغام في العراق يتراوح من 80 إلى 100 ألف شخص، وفق ما ترجحه المؤسسة العامة لشؤون الألغام في العراق، وبحسب إحصائية أولية، وما يجعل هذا العدد قابل للزيادة بشكل كبير هو فقدان العراق للخرائط العسكرية القديمة التي توضح مكان انتشار حقول الألغام.
بين محافظتي الأنبار وصلاح الدين، يعيش طالب حمّاد (43 عاماً) في منطقة “الطرَّاح” أو ما تُعرف بـ “الصدّامية” نسبة للديكتاتور العراقي صدام حسين، الذي اختارها لبناء أحد قصوره على ضفاف بحيرة الثرثار، أكبر بحيرة اصطناعية في العراق.
طالب كان راعياً للأغنام في تلك المنطقة، وعاشقاً لكرة القدم وفق تعريفه عن نفسه عندما يريد الحديث عن الكرة، في أحد نهارات آب 2011، نجا من الموت بأعجوبة، لكنَّ حياته تغيرت إلى الأبد: “كنت عائداً إلى البيت قبيل الغروب، وأهش على الغنم كي استعجلها بالوصول إلى مراحها قرب بيتنا، من أجل الالتحاق برفاقي الذين يلعبون الكرة في ساحة ترابية هي ملعب المنطقة، وفي الطريق رأيت قطعة حديد فتفحصتها بالعصا، وتلك كانت آخر لحظة أتذكرها من حياتي السابقة”.
يعيش طالب الآن على كرسي متحرك قديم، بلا ساقين وبلا يده اليمنى، وكفه اليسرى بُترت منها إصبعين، والكثير من آثار الشظايا في جسده. يتحمد طالب كثيراً أن كتبت له النجاة، لكنه يشعر بالأسى على حاله، وبالغضب على الدولة العراقية التي لم تقدم له شيئاً، وتركته فريسةً للإعاقة والقهر.
رفض طالب تصويره، فهو “لا يبحث عن العطف بعد كل هذه السنوات، ولا يريد أن يراه العالم بهذه الشكل”.
بكثير من الجهد ومساعدة العائلة والأصدقاء تقبل شكل جسده الجديد، ولم يعد بحاجة حتى إلى “الأطراف الصناعية” التي تعب هو وعائلته من أجل الحصول عليها في السنوات الأولى لإعاقته، “لكن الحكومة لا تُعطي غير الوعود” كما يقول.
حلول أم خطر دائم؟
فرق إزالة الألغام الدولية والمحلية ذاتها ليست بمنأى عن خطر الألغام، ففي 6 تموز 2022، انفجرت عبوة ناسفة بفريق لإزالة الألغام في قضاء تلكيف شمالي الموصل، وأعلنت الأمم المتحدة عن إصابة 7 موظفين يعملون مع شركة حلول التطهير الدولية (GCS) أثناء التوجه لموقع عملهم في محافظة نينوى”.
وطالبت الأمم المتحدة السلطات العراقية بإجراء تحقيق معمقٍ في الحادث، وأن تضمن توفير الأمن الكافي للعاملين في مجال إزالة الألغام، وتعد شركة (GCS) واحدة من شركاء الأمم المتحدة العاملة في إزالة الألغام بمحافظة نينوى.
وفي حادثة لا تقل خطراً وغرابة في العراق أيضاً، ففي أحد صباحات كانون الأول 2021 عاد فريق التطهيرالتابع لمنظمة مساعدات الشعب النرويجي إلى الموقع الذي كانوا يعملون فيه في اليوم السابق، وأكتشفوا أن 10 متفجرات قد سُرقت من مخلفات الحرب التي تم التعرف عليها لتدميرها من موقع العمل.
المسروقات هي تسع قذائف حاملة مدفعية من عيار 155 ملم لا تحتوي على أي مواد متفجرة، وقذيفة ناقلة مدفعية من عيار 155 ملم تحتوي على 64 M42 ذخيرة عنقودية، حيث كانت جميع المواد المسروقة من مخلفات حرب عام،1991 بحسب بيان المنظمة التي أبلغت السلطات العراقية بذلك.
من البصرة جنوباً ومروراً بكامل الشريط الحدودي مع إيران (شرقاً) وعلى امتداد صحرائي المثنى والأنبار (غرباً) وصولاً إلى نينوى وإقليم كردستان، لم تستطع الأمم المتحدة وشركاؤها، ولا الحكومات العراقية المتعاقبة من إحصاء المناطق الملوثة بالألغام بالكامل، ولا حصر ضحاياها من المدنيين والعسكريين على مدى أربعة عقود من الحروب والصراعات، فضلاً عن السيطرة على هذه الكارثة التي يسقط من جرائها مئات العراقيين سنوياً.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
بينما كانت مدينة الموصل تعود حياً فحياً إلى سيطرة القوات العراقية في أواسط 2017، كان تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش” يحاول بكل إمكاناته الدفاع عن مواقعه في المدينة التي أعلن منها خلافته وسيطر عليها لثلاث سنوات خلت، محولاً شمال العراق إلى ساحة معركة مستمرة وإن خبا القتال. لذلك ما زلتُ اعتقد أن ابن خالي أحمد عُمير قُتل عام 2016، ولم يكن سوى مجرَّد مراهق لم يبلغ السابعة عشر بعد تعثر حظه حينما انفجر به لغم أرضي، بينما كان نازحاً في قرى زمار في محافظة نينوى مع عائلته بحثاً عن مكان آمن.
لم يمت أحمد على الفور. استند على ما بقي فيه من قوة وراح يحبو باتجاه البيت، يجرُّ ساقه المعلقة من الجلد. في الطريق أسعفه أحد المارة، لكنَّ انعدام الإسعافات الأولية هناك في زمار، لم يترك لأحمد فرصة للنجاة. نزف حتى الموت ودفن في الليلة نفسها، ولم يُسجَّل على قوائم ضحايا الألغام في مؤسسات الدولة العراقية أو في قوائم المنظمات الدولية.
أراضي محررة إلا من الألغام
حال زمار كحال الكثير من المناطق التي احتلها داعش وتركها ملوثة بالألغام. ففي مدينة الموصل وحدها، قدّرت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) في بيان لها في 2019، وجود آلاف الأطنان من المتفجرات التي ما زالت مبعثرة في جميع أنحاء المدينة، التي يحتاج تطهيرها من الألغام والمتفجرات بالكامل ما يفوق العشر سنوات.
وبحسب بول هيسلوب، مدير البرامج السابق في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام، فإنه وقبل بدء القتال لتحرير الموصل من تنظيم داعش، كان لدى مقاتلي التنظيم عامان كاملان لتفخيخ المباني وتأزيرها بالمتفجرات والعبوات الناسفة. يضيف هيسلوب، “كان كل شيء خطراً محتملاً، ربما تكون الثلاجة مفخخة، وتنفجر إن فتحتها، أو تدير مفتاح الضوء فتلقاك قنبلة في الانتظار، وكان الكثير من المباني نفسها غير ثابت أبداً، ولو حرَّك فريق الباحثين القطعة الخطأ من الأنقاض، للبحث عن المتفجرات، قد ينهار المبنى بأكمله عليهم”.
أكثر من لغم لكل مواطن
غير أن مأساة العراقيين في بلادهم المفخخة بالألغام ليست مقتصرة على حقبة داعش ولا على المناطق التي احتلها، حيث يعيش اليوم 8.5 مليون عراقي وسط الألغام والمخلفات الحربية المميتة غير المنفلقة في شتى أرجاء العراق. وذلك وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونوهت كذلك إلى إن “العراق يعد واحداً من أكثر البلدان التي تعرضت للتلوث بسبب الذخائر المتفجرة على سطح الكوكب.. وإن المخلفات الحربية القابلة للانفجار في ذلك البلد تنتشر على امتداد ما يزيد عن 3.200 كيلومتر مربع من الأراضي، أي ضعف مساحة مدينة لندن”.
وما يُفاقم هذا الوضع هو أن ثمة “آلاف العائلات تقطن في مناطق غير مأهولة وملوثة بالألغام خلافاً للقانون، بسبب عدم قدرتهم المالية على شراء أو تأجير العقارات”.
قدرت الأمم المتحدة عدد الألغام في العراق بـ50 مليون لغم، أي ما يفوق عدد سكان البلاد البالغ نحو 41 مليوناً، وفق ما نشرته صحيفة “الصباح” الحكومية عام 2021.
وذكرت الأمم المتحدة في إحصائياتها أن العراق بحاجة إلى نحو 19 ألف متخصص في إزالة الألغام، وهو رقم أعلى بستين ضعفاً من العدد المتوفر حالياً.
الألغام تحصد أرواح الصغار والكبار
في شباط 2022، لقى أربعة أطفال (ثلاثة أولاد وفتاة) حتفهم وفقد اثنان آخران أطرافهما، خلال أسبوع واحد، نتيجة لحوادث تتعلق بالذخائر المتفجرة في محافظتي بابل وبغداد. اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الطفل) التي نشرت البيان، قالت إن “هذه ليست حالة منفردة من حالات فقدان أرواح الأطفال، ففي عام 2021، قُتل 125 طفلاً أو تعرضوا للإعاقة نتيجة للمخلفات الحربية المتفجرة، والذخائر غير المنفجرة، وقتل من بينهم 52 طفلاً، وتعرض 73 طفلاً للإعاقة”.
بالنسبة لليونيسيف فإن عام 2021 شهد ارتفاعاً في عدد الضحايا من الأطفال بنسبة 67 في المائة مقارنة بعام 2020 (79 طفلاً، بينهم 61 ولداً). كما تعتقد المنظمة أن “المتفجرات من المخلفات الحربية لا تزال سبباً رئيسياً لسقوط ضحايا من المدنيين، مع كون الأطفال الأكثر ضعفاً بشكل خاص، حيث إن صغر حجمهم يجعلهم أكثر عرضة للأثر الكامل للانفجار، مما يجعله أكثر فتكاً بهم”.
إلى هذه الأعداد، تضاف أرواح البالغين من ضحايا الألغام، الذي سجلت دائرة شؤون الألغام في وزارة البيئة العراقية 34 ألف ضحية حتى عام 2022 الآن، وتعتقد أن هذا العدد سيتضاعف كثيراً إن هي استطاعت تسجيل كل الضحايا غير المسجلين في ملفاتها.
إلى جانب حصاد الأرواح، تؤدي الألغام إلى غلق الطرق وتمنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة والفلاحين من العمل في الأرض، كما وتعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحرم الناس من مصادر كسب العيش، وتعيق جهود إعادة الإعمار ما بعد الحرب وتعيق نشر قوات حفظ السلام وإيصال الإغاثة الإنسانية، ولا يمكن التمييز بين الألغام الأرضية والقنابل العنقودية غير المتفجرة، فاحتمال قتلها لطفل مماثل لاحتمال قتلها لجندي. وتستمر في القتل بعد انتهاء الحروب لفترات طويلة، كما تشير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام.
حيوات مبتورة
يقدّر عدد مبتوري الأطراف بسبب الألغام في العراق يتراوح من 80 إلى 100 ألف شخص، وفق ما ترجحه المؤسسة العامة لشؤون الألغام في العراق، وبحسب إحصائية أولية، وما يجعل هذا العدد قابل للزيادة بشكل كبير هو فقدان العراق للخرائط العسكرية القديمة التي توضح مكان انتشار حقول الألغام.
بين محافظتي الأنبار وصلاح الدين، يعيش طالب حمّاد (43 عاماً) في منطقة “الطرَّاح” أو ما تُعرف بـ “الصدّامية” نسبة للديكتاتور العراقي صدام حسين، الذي اختارها لبناء أحد قصوره على ضفاف بحيرة الثرثار، أكبر بحيرة اصطناعية في العراق.
طالب كان راعياً للأغنام في تلك المنطقة، وعاشقاً لكرة القدم وفق تعريفه عن نفسه عندما يريد الحديث عن الكرة، في أحد نهارات آب 2011، نجا من الموت بأعجوبة، لكنَّ حياته تغيرت إلى الأبد: “كنت عائداً إلى البيت قبيل الغروب، وأهش على الغنم كي استعجلها بالوصول إلى مراحها قرب بيتنا، من أجل الالتحاق برفاقي الذين يلعبون الكرة في ساحة ترابية هي ملعب المنطقة، وفي الطريق رأيت قطعة حديد فتفحصتها بالعصا، وتلك كانت آخر لحظة أتذكرها من حياتي السابقة”.
يعيش طالب الآن على كرسي متحرك قديم، بلا ساقين وبلا يده اليمنى، وكفه اليسرى بُترت منها إصبعين، والكثير من آثار الشظايا في جسده. يتحمد طالب كثيراً أن كتبت له النجاة، لكنه يشعر بالأسى على حاله، وبالغضب على الدولة العراقية التي لم تقدم له شيئاً، وتركته فريسةً للإعاقة والقهر.
رفض طالب تصويره، فهو “لا يبحث عن العطف بعد كل هذه السنوات، ولا يريد أن يراه العالم بهذه الشكل”.
بكثير من الجهد ومساعدة العائلة والأصدقاء تقبل شكل جسده الجديد، ولم يعد بحاجة حتى إلى “الأطراف الصناعية” التي تعب هو وعائلته من أجل الحصول عليها في السنوات الأولى لإعاقته، “لكن الحكومة لا تُعطي غير الوعود” كما يقول.
حلول أم خطر دائم؟
فرق إزالة الألغام الدولية والمحلية ذاتها ليست بمنأى عن خطر الألغام، ففي 6 تموز 2022، انفجرت عبوة ناسفة بفريق لإزالة الألغام في قضاء تلكيف شمالي الموصل، وأعلنت الأمم المتحدة عن إصابة 7 موظفين يعملون مع شركة حلول التطهير الدولية (GCS) أثناء التوجه لموقع عملهم في محافظة نينوى”.
وطالبت الأمم المتحدة السلطات العراقية بإجراء تحقيق معمقٍ في الحادث، وأن تضمن توفير الأمن الكافي للعاملين في مجال إزالة الألغام، وتعد شركة (GCS) واحدة من شركاء الأمم المتحدة العاملة في إزالة الألغام بمحافظة نينوى.
وفي حادثة لا تقل خطراً وغرابة في العراق أيضاً، ففي أحد صباحات كانون الأول 2021 عاد فريق التطهيرالتابع لمنظمة مساعدات الشعب النرويجي إلى الموقع الذي كانوا يعملون فيه في اليوم السابق، وأكتشفوا أن 10 متفجرات قد سُرقت من مخلفات الحرب التي تم التعرف عليها لتدميرها من موقع العمل.
المسروقات هي تسع قذائف حاملة مدفعية من عيار 155 ملم لا تحتوي على أي مواد متفجرة، وقذيفة ناقلة مدفعية من عيار 155 ملم تحتوي على 64 M42 ذخيرة عنقودية، حيث كانت جميع المواد المسروقة من مخلفات حرب عام،1991 بحسب بيان المنظمة التي أبلغت السلطات العراقية بذلك.
من البصرة جنوباً ومروراً بكامل الشريط الحدودي مع إيران (شرقاً) وعلى امتداد صحرائي المثنى والأنبار (غرباً) وصولاً إلى نينوى وإقليم كردستان، لم تستطع الأمم المتحدة وشركاؤها، ولا الحكومات العراقية المتعاقبة من إحصاء المناطق الملوثة بالألغام بالكامل، ولا حصر ضحاياها من المدنيين والعسكريين على مدى أربعة عقود من الحروب والصراعات، فضلاً عن السيطرة على هذه الكارثة التي يسقط من جرائها مئات العراقيين سنوياً.