الزواج الجماعي في العراق: لمن كل هذا "النسل"؟

زين حسين

13 تشرين الأول 2022

بينما احتفل نظام البعث بحفلات الزواج الجماعي على الأغاني التي تمجّد صدام حسين، فإن النظام الذي أعقبه احتفل بالعرسان المدعوين على أنغام نشيد "موطني" أو الردّات.. لكن النظامين، بكل الأحوال، أرادا من العراقيين نسلهم وطاعتهم فحسب!

بين تسعينيات القرن الماضي واليوم تغيّرت أزياء العرسان والعرائس في حفلات الزفاف الجماعية في العراق، لكن غرض السلطات من إقامة هذه الحفلات لم يتغيّر: لقد أرادت سلطة البعث من هذه الزيجات رجالاً تلقمهم لنار حروبها، بينما تريد سلطة النظام الذي أعقبه، بالإضافة إلى الحصول على فتية الزيجات لتزجهم في فصائلها المسلحة وحروبها، أصواتاً انتخابية لتؤبد نفسها في الحُكم، وذلك من خلال الحصول على أصوات العرسان وأبنائهم في الحفلات الانتخابية. أما المرأة، وسط كل هذا، فهي ليست سوى ماكنة إنتاج! 

استغلال الزواج 

في تسعينيات القرن الماضي، عندما أطبق الحصار الدولي على العراق وكتم أنفاسه، صار العزوف عن الزواج ظاهرة بارزة. كان الزواج، وما يزال، تكلفة باهظة للعريس وأهله. وفي ظلِّ انهيار الدينار العراقي واتساع البطالة، صار الزواج حلماً. لكن سلطة البعث لطالما صوّرت نفسها على أنّها تريد تحقيق أحلام العراقيين، وخاصّة الشباب منهم، وهكذا صارت تقيم حفلات الزفاف الجماعية للمئات من الشباب والشابات.  

بطبيعة الحال، لا ينخرط في هذه الزفافات إلا المعدمون، ممن سُدّت الآفاق أمامهم، العارفون بأن لا أمل لديهم في الارتباط إلا عبر هبات السلطة.

يلعب الجنس، في هذه الزيجات، دوراً رئيساً. إذ قد يتجاوز الفرد العراقي الثلاثينيات من عمره وهو لم يمارس الجنس أو يدخل بعلاقة حميمية.  

ويمثِّل الجنس في هذا السياق للفرد المقهور نوعا من الارتغاب والمقاومة. يسعى الفرد، والحال هذه، إلى تمرير جيناته كنوع من التمسك بالحياة والخلود فيها. عليه فيبات الفعل الجنسي ليس رغبة عارمة فحسب، وإنما بمثابة رابط له في سياق سياسي وديني واجتماعي. 

ويبدو أن سلطة البعث فهمت هذه الرغبة، الأمر الذي دفع نجل صدام حسين، عُدي، إلى إقامة حفلات زواج جماعي كثيرة كان آخرها في عام 2002، أي قبل الغزو الأمريكي للعراق بمدة قصيرة. 

في مقابل ذلك، لم تعد حفلات الزواج الجماعي في عراق ما بعد صدام مركزية ومحصورة بجهة السلطة الحاكمة فحسب. فلقد انخرطت المؤسسات الدينية، والأحزاب الإسلامية وفصائلها، وحتّى بعض المنظمات المدنيّة، في إقامة هذه الزيجات.

وثمة الكثير من حفلات الزفاف التي نظّمت في أوقات استثنائية شهد فيها العراق أزمات حادة اقترنت بالعنف والتهجير، وذلك لكي تعزز السلطة من وجودها في المجتمع على الرغم من تهميشها له في نواحٍ حياتية وخدماتية أساسية.  فمثلاً نظّم الحشد الشعبي زفافاً لنحو 250 مقاتلاً عام 2015 في ذروة القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حيث ارتدى الشبان الزي العسكري والذي ارتدته بعض الشابات أيضاً، وبينهن محجبات ومنقبات، وغطين رؤوسهن بطرحة بيضاء.

بعد عام من ذلك، أقيم حفل زواج جماعي في إقليم كردستان لنازحين من ست محافظات تعرّضت لدمار نتيجة سيطرة تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة منها. كان النازحون يعيشون في مخيمات يفتقر بعضها إلى أبسط مقومات الحياة، حيث يعانون الحر صيفاً والبرد والأمطار شتاءً.. فما الذي دعا السلطة إلى إقامة حفل زواج جماعي لهؤلاء الذين يعيشون بلا مأوى، بدل تقديم مساعدات ومعونات تكفيهم لممارسة حياتهم البسيطة؟ 

كان نظام البعث يقيم فعاليات الزفاف الجماعي في ذكرى ميلاد رئيسه صدام حسين في 28 نيسان، حيث كان عدي صدام حسين يرتّب الحفلات في مناسبات تخص أبيه وحروبه. ومنذ 2003 اتبعت المؤسسات الدينية المقربة من السلطة وأحزاب الإسلام السياسي هذا النهج للتحكم بالمجتمع، وإن اختلفت مناسبات هذه الزيجات الجماعية لتقام بالتزامن مع ولادات الأئمة مثلاً، مما يضيف نوعاً من الشرعية والقدسية عليها. 

نصف الدين! 

يستند منظّمو حملات الزفاف الجماعي في عراق ما بعد الغزو على خطاب إسلامي واضح وصريح يحتذي حديث الرسول القائل بأن “الزواج نصف الدين”، والداعي والمرغب بالإقدام على الزواج والتناسل. ولا يحتكم منظمو هذه الحملات على الظاهر الديني لهذا الخطاب فحسب، وإنما على باطنه السياسي بالأساس. فحديث الرسول “تكاثروا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”، يحث على خلق شعب ينافس به الشعوب الأخرى. ولا تقتصر الدعوة إلى زيادة النسل على الإسلام فقط، فهي عماد أديان وفِرق أخرى، كما توظف في السياسة لتمكين ديانة أو طائفة من الهيمنة على السلطة السياسية، خصوصاً في الأنظمة السياسية المعتمدة على “الكوتا” مثل العراق.

لكن أين تجد السلطات ضالتها من عرسان وعرائس وتجمعهم وتلبسهم ما يخدم صورتها، أو تجعلهم يرقصون أو يستمعون لأغانٍ تمجّدها؟ فالزواج، بالنسبة للطبقات المتوسطة والارستقراطية له عاداته وتقاليده، وفيه من التباهي بالإطعام والاحتفال الكثير. هو مشروع يُظهر كرم الفرد أو العائلة، ولا يقبل، عادةً، بتقاسمه إلا مثلاً مع إخوة، مثل أن يُقام عرساً لشقيقين. 

في الواقع، كما استخدم نظام البعث الطبقة المعدمة لتضخيم حفلاته ومناسباته، وظّف النظام الذي تلاه مراسيم الزواج الجماعي بين أبناء الطبقة ذاتها. مَثَّل المعدمون رأسمال للسلطة لأنها تعيد إنتاج نفسها بلا تغيير كبير، وبهذا فإنها تنتج سلالات تستفيد منها السلطات على الدوام. فالسلطة الدينية التي تداخلت مع السلطة السياسية وباتت غير منفصلة عنها منذ 2003، تنظر إلى المعدمين على إنهم مكائن لإنتاج جمهور / أرقام تساهم بترسيخ وتكريس وجودها؛ جمهور تسهل قيادته والتحكم فيه. والحال هذه، فإنه كلما ازداد الفقر والجهل ازداد الرصيد السياسي / الانتخابي.. إنها عملية طردية. ولو امتنع الجمهور عن التناسل، لاندثرت هذه السلطات تدريجياً وهي تعي ذلك تماماً. 

الدفاع عن التعنيف وسرقة الأعمار 

من هنا تحاول السلطات السياسية متآزرة مع تلك الدينية أن توظف الشرائع والقوانين والفتاوى من أجل إطالة أعمارها عبر تكاثر أفراد المجتمع، ولو عن طريق سرقة أعمار الطفلات الصغيرات من خلال تزويجهن وهنّ قاصرات. هكذا اقترح نواب عام 2014 تعديل القانون العراقي المعمول به حالياً والذي يحدّد سن الزواج القانونية بـ18 عاماً، ويعاقب كل من يخالفه بالسجن والغرامة، وإقرار قانون جديد يسمّى بـ”القانون الجعفري” نسبة إلى المذهب الشيعي.

تركّزت الدعوة إلى التعديلات على إلغاء المادة التي تنص على تحديد الحد الأدنى لسن زواج الفتيات في قانون الأحوال الشخصية النافذ. ودافع أحد رؤساء الكتل البرلمانية صاحبة المقترح بالقول إن المشروع المقدم لم يحدد سناً معينة للزواج، وإنما اشترط بلوغ الفتاة وأن تكون قادرة على اتخاذ قرار الزواج بالإضافة إلى موافقة ولي أمرها أو أحد الفقهاء، فيما أشار إلى أن القانون يهدف إلى تطبيق المعتقدات الإسلامية.

تقف الناشطات والناشطون منذ أعوام ضدّ هذا القانون، لأنه يبيح ويقونن تزويج القاصرات المنتشر أساساً في المجتمعات العشائرية والبيئات المُعدمَة. 

بالنسبة للمؤسسات الراعية لحفلات الزواج الجماعي، وللقوى السياسية الداعمة للقانون الجعفري، فإن هدفهما الرئيس هو “الأسرة” و”الذرية الصالحة”. بيد أن لشكل الأسرة بالنسبة لهذه السلطات أدواراً مُحدّدة ومرسومة تُعلي من شأن الذكر، وتحطّ من دور الأنثى صغيرة السن كانت أم كبيرة.

فالأنثى دورها مرسوم بعناية ولا يسمح لها بتجاوزه، وهي ليست سوى “ماكنة” مهمتها إنتاج الأجنّة والحفاظ على إدامة النظام الأبوي، وعليها التعايش بالشروط المفروضة عليها ومنها تلقّي العنف وتقبله، بل وعدم المطالبة برفضه. 

بصورة أكثر شمولاً، فإن المجتمعات التي سبقت الدولة، ملكت فيها القبائل والعائلات الدينية سلطة القرار واحتكرت العنف لنفسها، وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة عام 1921 حاولت احتكار العنف لنفسها، إلا أن الكثير منها تقاسم الحق الاحتكاري هذا من أجل ضمان استمرارها. 

على سبيل المثال، أرخت سلطة البعث -وهي ذكورية وأبوية بامتياز- قبضتها عن العشائر وسمحت لها بتقاسم العنف معها بعد حرب الخليج التي أضعفت نفوذها، أما السلطة التي أعقبتها فقد قرّرت منذ البداية بناء نظامها على نمط توزيع العنف على جميع الفاعلين. هكذا جرى ما يشبه اتفاقاً عرفياً بين السلطات السياسية والدينية والقبلية على توزيع العنف فيما بينها ووضع خطوط واضحة لعدم الاشتباك فيما بينها عند استخدامه. وكل من هذه السلطات لا ترى في استخدام العنف خطأ أو جريمة، إن كان في الفضاءات العامة أو في الأحياز الخاصة. وتشترك هذه السلطات، جميعها، بنظرتها للعنف المنزلي كصيغة “تأديب”. 

عليه، فلا يبدو مستغرباً أن تدعم السلطة حفلات الزفاف الجماعي وأن تحاول تمرير قانون يسمح بزواج القاصرات، وتمنع في الوقت ذاته قانوناً يحد من العنف الأسري. فمقترح القانون الجعفري يمنح سلطة أكبر وهيمنة أكثر للذكر، أما مقترح قانون العنف الأسري فهو يحدّ من هذه السلطة، ولذا فهو لا يتماشى مع أفكارها ومنهجها. وبين هذا وذاك، فإن المجتمع العراقي ككل هو الفاقد على الرغم من تكاثره.. فلا العائلة ولا أفرادها، إناث كانوا أم ذكور، صغار أم كبار، محط اهتمام أحد، فهم أرقام وحسب.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بين تسعينيات القرن الماضي واليوم تغيّرت أزياء العرسان والعرائس في حفلات الزفاف الجماعية في العراق، لكن غرض السلطات من إقامة هذه الحفلات لم يتغيّر: لقد أرادت سلطة البعث من هذه الزيجات رجالاً تلقمهم لنار حروبها، بينما تريد سلطة النظام الذي أعقبه، بالإضافة إلى الحصول على فتية الزيجات لتزجهم في فصائلها المسلحة وحروبها، أصواتاً انتخابية لتؤبد نفسها في الحُكم، وذلك من خلال الحصول على أصوات العرسان وأبنائهم في الحفلات الانتخابية. أما المرأة، وسط كل هذا، فهي ليست سوى ماكنة إنتاج! 

استغلال الزواج 

في تسعينيات القرن الماضي، عندما أطبق الحصار الدولي على العراق وكتم أنفاسه، صار العزوف عن الزواج ظاهرة بارزة. كان الزواج، وما يزال، تكلفة باهظة للعريس وأهله. وفي ظلِّ انهيار الدينار العراقي واتساع البطالة، صار الزواج حلماً. لكن سلطة البعث لطالما صوّرت نفسها على أنّها تريد تحقيق أحلام العراقيين، وخاصّة الشباب منهم، وهكذا صارت تقيم حفلات الزفاف الجماعية للمئات من الشباب والشابات.  

بطبيعة الحال، لا ينخرط في هذه الزفافات إلا المعدمون، ممن سُدّت الآفاق أمامهم، العارفون بأن لا أمل لديهم في الارتباط إلا عبر هبات السلطة.

يلعب الجنس، في هذه الزيجات، دوراً رئيساً. إذ قد يتجاوز الفرد العراقي الثلاثينيات من عمره وهو لم يمارس الجنس أو يدخل بعلاقة حميمية.  

ويمثِّل الجنس في هذا السياق للفرد المقهور نوعا من الارتغاب والمقاومة. يسعى الفرد، والحال هذه، إلى تمرير جيناته كنوع من التمسك بالحياة والخلود فيها. عليه فيبات الفعل الجنسي ليس رغبة عارمة فحسب، وإنما بمثابة رابط له في سياق سياسي وديني واجتماعي. 

ويبدو أن سلطة البعث فهمت هذه الرغبة، الأمر الذي دفع نجل صدام حسين، عُدي، إلى إقامة حفلات زواج جماعي كثيرة كان آخرها في عام 2002، أي قبل الغزو الأمريكي للعراق بمدة قصيرة. 

في مقابل ذلك، لم تعد حفلات الزواج الجماعي في عراق ما بعد صدام مركزية ومحصورة بجهة السلطة الحاكمة فحسب. فلقد انخرطت المؤسسات الدينية، والأحزاب الإسلامية وفصائلها، وحتّى بعض المنظمات المدنيّة، في إقامة هذه الزيجات.

وثمة الكثير من حفلات الزفاف التي نظّمت في أوقات استثنائية شهد فيها العراق أزمات حادة اقترنت بالعنف والتهجير، وذلك لكي تعزز السلطة من وجودها في المجتمع على الرغم من تهميشها له في نواحٍ حياتية وخدماتية أساسية.  فمثلاً نظّم الحشد الشعبي زفافاً لنحو 250 مقاتلاً عام 2015 في ذروة القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حيث ارتدى الشبان الزي العسكري والذي ارتدته بعض الشابات أيضاً، وبينهن محجبات ومنقبات، وغطين رؤوسهن بطرحة بيضاء.

بعد عام من ذلك، أقيم حفل زواج جماعي في إقليم كردستان لنازحين من ست محافظات تعرّضت لدمار نتيجة سيطرة تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة منها. كان النازحون يعيشون في مخيمات يفتقر بعضها إلى أبسط مقومات الحياة، حيث يعانون الحر صيفاً والبرد والأمطار شتاءً.. فما الذي دعا السلطة إلى إقامة حفل زواج جماعي لهؤلاء الذين يعيشون بلا مأوى، بدل تقديم مساعدات ومعونات تكفيهم لممارسة حياتهم البسيطة؟ 

كان نظام البعث يقيم فعاليات الزفاف الجماعي في ذكرى ميلاد رئيسه صدام حسين في 28 نيسان، حيث كان عدي صدام حسين يرتّب الحفلات في مناسبات تخص أبيه وحروبه. ومنذ 2003 اتبعت المؤسسات الدينية المقربة من السلطة وأحزاب الإسلام السياسي هذا النهج للتحكم بالمجتمع، وإن اختلفت مناسبات هذه الزيجات الجماعية لتقام بالتزامن مع ولادات الأئمة مثلاً، مما يضيف نوعاً من الشرعية والقدسية عليها. 

نصف الدين! 

يستند منظّمو حملات الزفاف الجماعي في عراق ما بعد الغزو على خطاب إسلامي واضح وصريح يحتذي حديث الرسول القائل بأن “الزواج نصف الدين”، والداعي والمرغب بالإقدام على الزواج والتناسل. ولا يحتكم منظمو هذه الحملات على الظاهر الديني لهذا الخطاب فحسب، وإنما على باطنه السياسي بالأساس. فحديث الرسول “تكاثروا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”، يحث على خلق شعب ينافس به الشعوب الأخرى. ولا تقتصر الدعوة إلى زيادة النسل على الإسلام فقط، فهي عماد أديان وفِرق أخرى، كما توظف في السياسة لتمكين ديانة أو طائفة من الهيمنة على السلطة السياسية، خصوصاً في الأنظمة السياسية المعتمدة على “الكوتا” مثل العراق.

لكن أين تجد السلطات ضالتها من عرسان وعرائس وتجمعهم وتلبسهم ما يخدم صورتها، أو تجعلهم يرقصون أو يستمعون لأغانٍ تمجّدها؟ فالزواج، بالنسبة للطبقات المتوسطة والارستقراطية له عاداته وتقاليده، وفيه من التباهي بالإطعام والاحتفال الكثير. هو مشروع يُظهر كرم الفرد أو العائلة، ولا يقبل، عادةً، بتقاسمه إلا مثلاً مع إخوة، مثل أن يُقام عرساً لشقيقين. 

في الواقع، كما استخدم نظام البعث الطبقة المعدمة لتضخيم حفلاته ومناسباته، وظّف النظام الذي تلاه مراسيم الزواج الجماعي بين أبناء الطبقة ذاتها. مَثَّل المعدمون رأسمال للسلطة لأنها تعيد إنتاج نفسها بلا تغيير كبير، وبهذا فإنها تنتج سلالات تستفيد منها السلطات على الدوام. فالسلطة الدينية التي تداخلت مع السلطة السياسية وباتت غير منفصلة عنها منذ 2003، تنظر إلى المعدمين على إنهم مكائن لإنتاج جمهور / أرقام تساهم بترسيخ وتكريس وجودها؛ جمهور تسهل قيادته والتحكم فيه. والحال هذه، فإنه كلما ازداد الفقر والجهل ازداد الرصيد السياسي / الانتخابي.. إنها عملية طردية. ولو امتنع الجمهور عن التناسل، لاندثرت هذه السلطات تدريجياً وهي تعي ذلك تماماً. 

الدفاع عن التعنيف وسرقة الأعمار 

من هنا تحاول السلطات السياسية متآزرة مع تلك الدينية أن توظف الشرائع والقوانين والفتاوى من أجل إطالة أعمارها عبر تكاثر أفراد المجتمع، ولو عن طريق سرقة أعمار الطفلات الصغيرات من خلال تزويجهن وهنّ قاصرات. هكذا اقترح نواب عام 2014 تعديل القانون العراقي المعمول به حالياً والذي يحدّد سن الزواج القانونية بـ18 عاماً، ويعاقب كل من يخالفه بالسجن والغرامة، وإقرار قانون جديد يسمّى بـ”القانون الجعفري” نسبة إلى المذهب الشيعي.

تركّزت الدعوة إلى التعديلات على إلغاء المادة التي تنص على تحديد الحد الأدنى لسن زواج الفتيات في قانون الأحوال الشخصية النافذ. ودافع أحد رؤساء الكتل البرلمانية صاحبة المقترح بالقول إن المشروع المقدم لم يحدد سناً معينة للزواج، وإنما اشترط بلوغ الفتاة وأن تكون قادرة على اتخاذ قرار الزواج بالإضافة إلى موافقة ولي أمرها أو أحد الفقهاء، فيما أشار إلى أن القانون يهدف إلى تطبيق المعتقدات الإسلامية.

تقف الناشطات والناشطون منذ أعوام ضدّ هذا القانون، لأنه يبيح ويقونن تزويج القاصرات المنتشر أساساً في المجتمعات العشائرية والبيئات المُعدمَة. 

بالنسبة للمؤسسات الراعية لحفلات الزواج الجماعي، وللقوى السياسية الداعمة للقانون الجعفري، فإن هدفهما الرئيس هو “الأسرة” و”الذرية الصالحة”. بيد أن لشكل الأسرة بالنسبة لهذه السلطات أدواراً مُحدّدة ومرسومة تُعلي من شأن الذكر، وتحطّ من دور الأنثى صغيرة السن كانت أم كبيرة.

فالأنثى دورها مرسوم بعناية ولا يسمح لها بتجاوزه، وهي ليست سوى “ماكنة” مهمتها إنتاج الأجنّة والحفاظ على إدامة النظام الأبوي، وعليها التعايش بالشروط المفروضة عليها ومنها تلقّي العنف وتقبله، بل وعدم المطالبة برفضه. 

بصورة أكثر شمولاً، فإن المجتمعات التي سبقت الدولة، ملكت فيها القبائل والعائلات الدينية سلطة القرار واحتكرت العنف لنفسها، وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة عام 1921 حاولت احتكار العنف لنفسها، إلا أن الكثير منها تقاسم الحق الاحتكاري هذا من أجل ضمان استمرارها. 

على سبيل المثال، أرخت سلطة البعث -وهي ذكورية وأبوية بامتياز- قبضتها عن العشائر وسمحت لها بتقاسم العنف معها بعد حرب الخليج التي أضعفت نفوذها، أما السلطة التي أعقبتها فقد قرّرت منذ البداية بناء نظامها على نمط توزيع العنف على جميع الفاعلين. هكذا جرى ما يشبه اتفاقاً عرفياً بين السلطات السياسية والدينية والقبلية على توزيع العنف فيما بينها ووضع خطوط واضحة لعدم الاشتباك فيما بينها عند استخدامه. وكل من هذه السلطات لا ترى في استخدام العنف خطأ أو جريمة، إن كان في الفضاءات العامة أو في الأحياز الخاصة. وتشترك هذه السلطات، جميعها، بنظرتها للعنف المنزلي كصيغة “تأديب”. 

عليه، فلا يبدو مستغرباً أن تدعم السلطة حفلات الزفاف الجماعي وأن تحاول تمرير قانون يسمح بزواج القاصرات، وتمنع في الوقت ذاته قانوناً يحد من العنف الأسري. فمقترح القانون الجعفري يمنح سلطة أكبر وهيمنة أكثر للذكر، أما مقترح قانون العنف الأسري فهو يحدّ من هذه السلطة، ولذا فهو لا يتماشى مع أفكارها ومنهجها. وبين هذا وذاك، فإن المجتمع العراقي ككل هو الفاقد على الرغم من تكاثره.. فلا العائلة ولا أفرادها، إناث كانوا أم ذكور، صغار أم كبار، محط اهتمام أحد، فهم أرقام وحسب.