محـمد مسير.. كيف يمكن للمثلث التحول إلى دراجة هوائية؟
12 تشرين الأول 2022
من البليارد، ومن دراجة الوالد في محافظة البصرة، إلى الدراجات الهوائية في فضاء المدينة.. رحلة محمد مسير في التحولات اللونية والموضوعية..
ولد محـمد مسير في محافظة البصرة عام 1963، ودرس الفن التشكيلي في كليّة الفنون الجميلة ببغداد تحت إشراف أساتذة شكلّوا تحولاً في مسار الفن في العراق وعلى رأسهم فائق حسن.
وعلى عكس أقرانه، بقي مسير متأنياً في الإعداد لمعارضه، وكان أوّل معرض شخصي له في بغداد عام 2004 حيث عالج موضوع المقابر الجماعية التي دفن فيها نظام صدّام حسين معارضيه بعد أن مثَّل بجثثهم.
ومُذاك، أخذت أعمال مسير تواجه تحولات على صعيد الموضوع واللون، إذ انتقل من الألوان الترابيّة إلى الألوان الحارة. وشكّلت الدراجة الهوائية في البيئة الحضرية عماداً للوحاته.
في هذا النص يشرح محـمد مسير التحولات والتأملات والأبحاث والذكريات التي قادته إلى رسم أعماله الجديدة:
لا أدري متى بدأ هوسي بلعبة البليارد، ولا أدري أيضاً كيف دلّتني هذه اللعبة، وهي عمادها الكرات، إلى شكل “المثلث” وأهمّيته وتاريخه وتأثيره عليّ وعلى أعمالي وعلى الحياة.
البداية عندما كنتُ أرسم لوحة تجريدية كبيرة، وبعد اكتمالها، وجدتني قد رسمت مثلثاً مُلوَّناً في منتصفها. كان المثلث يشبه ذاك الذي نضعه على طاولة البليارد لنحبس الكرات فيه ونثبّتها وبعدها نوجّه إليها ضربة قويّة لنفرقها. أنظرُ إلى المثلث، بزواياه المنحنيّة، وإطاره الصارم، وكأني أراه للمرّة الأولى في حياتي. هكذا انخرط المثلث، بطريقة لا واعية، في لوحاتي.
رحلة البحث عن المثلث
بعد أن صار واضحاً في أعمالي، أخذت أبحث في المثلث، فاكتشفت عالماً بلا نهاية.
وبمعزل عن هندسة المثلث وما يضمّه من أهميّة، فإن البحث عن المثلث في الحضارة السومرية أفرد أمامي مفاهيم جديدة ومختلفة.
لقد عنى المثلث للسومريين الكثير، فاستعملوه في الكتابة الصورية وذلك برسم الكلمات المُراد كتابتها، أو رسم جزء منها للدلالة عليها. بمعنى أكثر تحديداً: كانوا حين يريدون كتابة كلمة امرأة يرسمون مُثلثاً مقلوباً، وقد وجدت ان المثلث المقلوب مأخوذ من تصميم جذع المرأة.
أما المثلث القائم فكان يعني القوة. ووجدت النجمة السداسية -وهي نجمة سومرية مأخوذة فكرتها من التقاء المثلث المقلوب الذي يعني المرأة أو الأُنثى، مع المثلث القائم الذي يعني القوة أو الرجل، وحين يتداخل المثلثان ينتجان النجمة السداسية.
الحال هذه، كان المثلث بالنسبة للسومريين يعني تكامل الكون -أي جمع المضادات-وينتج استمرار الحياة. وبالطبع، فإن الأضداد لا تعني فقط الرجل والمرأة، وإنما تعني كل الأضداد في الكون: النور والظلام، الحر والبرد، اللون الأخضر واللون الأحمر، وهكذا تكتمل الحياة وتستمر.
بدوره، فإن رأس الجنين يخرج من رأس المثلث المقلوب (المرأة)، وبصورة أشمل، تكتمل فكرة النجمة السداسية، التي تعني امتزاج الأضداد لصنع التكوّن واستمرار الحياة.
كان المثلث، على كل حال، مسار بحث لأعوام، وانتجتُ أعمالاً فنيّة عديدة تخص المفاهيم التي انبثقت عنه.
الانتقال إلى الدراجة الهوائية
لكن ماذا عن الدراجة الهوائية التي صارت واضحة في أعمالي؟ في أحد أيام طفولتي تعلّق في ذهني سؤال حين رأيت أبي وهو يقود الدراجة الهوائية، المعروفة بـ”البايسكل” في اللهجة المحلية، متوجهاً الى عمله.
لماذا الدراجة الهوائية؟ كيف لا يسقط أبي على الأرض والدراجة بعجلتين؟ أصابني الهوس بهذه الآلة العجيبة. أثارتني حتّى كنت أتلمّس أجزائها حينما كان أبي يركنها على جذع النخلة في بيتنا المبني من القصب في منطقة العشار في محافظة البصرة.
عندما أخذت أكبر، أدركت ان الدراجة الهوائية أيضاً مثلث لأنها بعجلتين، أي ضلعين، ولكن هناك ضلع ثالث مخفي، وهو الانطلاقة او الحركة أو السرعة.
أصبحت الدراجة الهوائية، والحال هذه، مثّلثا في رأسي، وشيئاً فشيئاً صارت مفردة رئيسية في أعمالي.
الدراجة الهوائية تلامس جانباً مضمراً في حياة طفولتنا، لكن لها أبعاداً فلسفيّة تعبّر عن الحياة التي لا تتوقف، وتظل دائما تدور مثل عجلة الدراجة. وحين تتوقف العجلة نعرف أن الموت قدّ حلّ. لكن العجلة في أعمالي، لا تتوقّف، والدراجة الهوائية تطير وتطير معها نساء على شكل ملائكة بأجنحة. هكذا تصبح العوالم مترحلّة إلى الأحلام، وفيها الكثير من التفكير الصوفي.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
ولد محـمد مسير في محافظة البصرة عام 1963، ودرس الفن التشكيلي في كليّة الفنون الجميلة ببغداد تحت إشراف أساتذة شكلّوا تحولاً في مسار الفن في العراق وعلى رأسهم فائق حسن.
وعلى عكس أقرانه، بقي مسير متأنياً في الإعداد لمعارضه، وكان أوّل معرض شخصي له في بغداد عام 2004 حيث عالج موضوع المقابر الجماعية التي دفن فيها نظام صدّام حسين معارضيه بعد أن مثَّل بجثثهم.
ومُذاك، أخذت أعمال مسير تواجه تحولات على صعيد الموضوع واللون، إذ انتقل من الألوان الترابيّة إلى الألوان الحارة. وشكّلت الدراجة الهوائية في البيئة الحضرية عماداً للوحاته.
في هذا النص يشرح محـمد مسير التحولات والتأملات والأبحاث والذكريات التي قادته إلى رسم أعماله الجديدة:
لا أدري متى بدأ هوسي بلعبة البليارد، ولا أدري أيضاً كيف دلّتني هذه اللعبة، وهي عمادها الكرات، إلى شكل “المثلث” وأهمّيته وتاريخه وتأثيره عليّ وعلى أعمالي وعلى الحياة.
البداية عندما كنتُ أرسم لوحة تجريدية كبيرة، وبعد اكتمالها، وجدتني قد رسمت مثلثاً مُلوَّناً في منتصفها. كان المثلث يشبه ذاك الذي نضعه على طاولة البليارد لنحبس الكرات فيه ونثبّتها وبعدها نوجّه إليها ضربة قويّة لنفرقها. أنظرُ إلى المثلث، بزواياه المنحنيّة، وإطاره الصارم، وكأني أراه للمرّة الأولى في حياتي. هكذا انخرط المثلث، بطريقة لا واعية، في لوحاتي.
رحلة البحث عن المثلث
بعد أن صار واضحاً في أعمالي، أخذت أبحث في المثلث، فاكتشفت عالماً بلا نهاية.
وبمعزل عن هندسة المثلث وما يضمّه من أهميّة، فإن البحث عن المثلث في الحضارة السومرية أفرد أمامي مفاهيم جديدة ومختلفة.
لقد عنى المثلث للسومريين الكثير، فاستعملوه في الكتابة الصورية وذلك برسم الكلمات المُراد كتابتها، أو رسم جزء منها للدلالة عليها. بمعنى أكثر تحديداً: كانوا حين يريدون كتابة كلمة امرأة يرسمون مُثلثاً مقلوباً، وقد وجدت ان المثلث المقلوب مأخوذ من تصميم جذع المرأة.
أما المثلث القائم فكان يعني القوة. ووجدت النجمة السداسية -وهي نجمة سومرية مأخوذة فكرتها من التقاء المثلث المقلوب الذي يعني المرأة أو الأُنثى، مع المثلث القائم الذي يعني القوة أو الرجل، وحين يتداخل المثلثان ينتجان النجمة السداسية.
الحال هذه، كان المثلث بالنسبة للسومريين يعني تكامل الكون -أي جمع المضادات-وينتج استمرار الحياة. وبالطبع، فإن الأضداد لا تعني فقط الرجل والمرأة، وإنما تعني كل الأضداد في الكون: النور والظلام، الحر والبرد، اللون الأخضر واللون الأحمر، وهكذا تكتمل الحياة وتستمر.
بدوره، فإن رأس الجنين يخرج من رأس المثلث المقلوب (المرأة)، وبصورة أشمل، تكتمل فكرة النجمة السداسية، التي تعني امتزاج الأضداد لصنع التكوّن واستمرار الحياة.
كان المثلث، على كل حال، مسار بحث لأعوام، وانتجتُ أعمالاً فنيّة عديدة تخص المفاهيم التي انبثقت عنه.
الانتقال إلى الدراجة الهوائية
لكن ماذا عن الدراجة الهوائية التي صارت واضحة في أعمالي؟ في أحد أيام طفولتي تعلّق في ذهني سؤال حين رأيت أبي وهو يقود الدراجة الهوائية، المعروفة بـ”البايسكل” في اللهجة المحلية، متوجهاً الى عمله.
لماذا الدراجة الهوائية؟ كيف لا يسقط أبي على الأرض والدراجة بعجلتين؟ أصابني الهوس بهذه الآلة العجيبة. أثارتني حتّى كنت أتلمّس أجزائها حينما كان أبي يركنها على جذع النخلة في بيتنا المبني من القصب في منطقة العشار في محافظة البصرة.
عندما أخذت أكبر، أدركت ان الدراجة الهوائية أيضاً مثلث لأنها بعجلتين، أي ضلعين، ولكن هناك ضلع ثالث مخفي، وهو الانطلاقة او الحركة أو السرعة.
أصبحت الدراجة الهوائية، والحال هذه، مثّلثا في رأسي، وشيئاً فشيئاً صارت مفردة رئيسية في أعمالي.
الدراجة الهوائية تلامس جانباً مضمراً في حياة طفولتنا، لكن لها أبعاداً فلسفيّة تعبّر عن الحياة التي لا تتوقف، وتظل دائما تدور مثل عجلة الدراجة. وحين تتوقف العجلة نعرف أن الموت قدّ حلّ. لكن العجلة في أعمالي، لا تتوقّف، والدراجة الهوائية تطير وتطير معها نساء على شكل ملائكة بأجنحة. هكذا تصبح العوالم مترحلّة إلى الأحلام، وفيها الكثير من التفكير الصوفي.