"دولة الخِرز": حياة تسيرها "الخيرة" والأحجار الكريمة

إيهاب شغيدل

05 تشرين الأول 2022

"دولة الخرز".. هذه الدولة مبنية من الخرافات والأساطير والحروز، فلا سياسة ولا تخطيط ولا خطة عمل، كل ما يحصل هو نوع من الابتكار والارتجال والخرق للواقع الذي تقدمه تلك القوى الغيبية..

لا أتذكر متى كانت أول مرة أخذتني فيها أمي إلى السيد “أبو سعيد” أو الملا “أبو سعيد”، حيث رحبت زوجته بنا على الباب، ودخلنا للبيت المليء بالرطوبة والدعاء. هنا يقبع السيد، داخل “حجرة” ضيّقة وطهرانية، لا أتذكر شكلها جيداً، لكنني لن أنسَى شكل الملا بلحيته البيضاء ويشماغه الأبيض الموضوع على الرأس كما لو أنه غيمة أبدية.

بادرت أمي بشرح معاناتي من القلق وعدم النوم والتخيلات. أومأ برأسه، كما لو أنه قد فهم خارطتي النفسية، ثم وضع يده المليئة بالتجاعيد والإيمان على رأسي، وقرأ بصوت خافت بعض الأدعية والآيات، ثم قرأ فوق “طاسة” من الألمنيوم مليئة بالماء، ومنحها لأمي وأخبرها بأن أستحم به. قبل أن نخرج، عصرت أمي بيديها بعض النقود وأعطتها لزوجته، لكنها رفضت بالبداية، إلا ان إلحاح أمي كان أقوى. 

لم يكن الملا طبيبي الخاصّ، فتقريباً كل إخوتي تمّ شفاؤهم عبر يده وكلماته، أو هذا ما تؤمن به أمي على الأقل. لا أتذكر بعدها هل شُفيت، أم استمر أرق الطفولة حتى الآن، لكننا -أمي وأنا- عملنا على كل التفاصيل التي طلبها “أبو سعيد”. 

إلى حد كبير، أظن أن من هناك -من غرفة السيد.. من ذلك المشهد المليء بالكلمات والرطوبة- بدأت حكايتي مع الخرافات والأساطير والغيب والإيمان بسحر الكلمات أيضاً، القصة التي تبدو مألوفة للعديد من الأطفال الذين يولدون وفي مدينتهم مُلا تقليديّ وتقي كما هي الحال مع سيد زقاقنا. 

لم يكن الجمعة يوماً عادياً، بل هو اليوم الأكثر حيوية وفعالية، فهو اليوم الذي لا نذهب به إلى المدرسة، والأهم من ذلك أن أذهب فيه مع جدتي في رحلتها الأثيرة إلى سيد حمدالله. وسيد حمدالله حسب اعتقاد جدتي هو الذي أوقف “البلدوزرات” التي أمرت بهدم مقامه الواقع بالقرب من وزارة الداخلية في بغداد، لذا يُسمّيه الناس “وكّاف الدوزر”.

كما تروي جدتي أن السيد هذا، كان يعمل بائعاً للسمك، ولما سرقت امرأة منه سمكة، ما إن وصلت البيت حتى تحولت السمكة تلك إلى ثعبان. تحوك جدتي الكثير من القصص حول السيد. في مناسبات كثيرة كنا نذهب لمقامه، لقد كان الدخول إلى مرقده يبعث في نفسي السرور والبهجة، فالمشهد لا يخلو من الحياة والحيوية. عوائل تأكل ما تيسر وسط باحة خضراء فسيحة، وطيور كثيرة تدور حولها تتلقط ما تناثر من الأرز، والأهم بالنسبة لي هو لحظة خروجنا من المرقد، حيث تشتري لي جدتي كيسا من الزبيب والحمص وبعض الحلوى.. وهذا المشهد إلى حد كبير، شكّل علاقتي بالغيب.

 دولة الخرز الديمقراطية 

“دولة الخرز”، هذا ما قاله سيد عبيد وهو يغلق الباب ويرحل منهياً النقاش السياسيّ الذي كان يدور في الغرفة المخصصة للضيوف. كنا مجموعة من الأقارب والأصدقاء نتشاجر دونما طاولة نحوطها على السوء العراقيّ العجيب، بعد أن أصبحت السياسة هي مائدة العراقيين الدائمة. 

أثار بتركيبه هذا “دولة الخرز” فضولاً من نوع خاصّ في نفسي، وعرفت ماذا يقصد منذ البداية، فهو كان يشير إلى أن هذه الدولة مبنية على الخرافات والأساطير والحروز والخِرز (أي الأحجار الكريمة). فلا سياسة ولا تخطيط ولا خطة عمل، كل ما يحصل هو نوع من الابتكار والارتجال والخرق للواقع الذي تقدمه تلك القوى الغيبية التي تضمرها الأحجار الصماء. كان يقول: “رئيس وزراء يدور بمسبحته، ليلة كاملة، من أجل اتخاذ قرار إعدام مجموعة إرهابيين!” ويقصد في ذلك إبراهيم الجعفري، الذي كان رئيس الوزراء العراقيّ الأسبق بين الأعوام 2005 إلى 2006.  

وهذه الرواية ينقلها العديد من الناس، بضمنها أحد أصدقاء العائلة، الذي يعمل في مجلس الوزراء، حيث يقول أن رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفريّ، بقي لمدة ليلة كاملة، يدور بمسبحته ويأخذ “خيرة” من أجل التوقيع على إعدام ستة إرهابيين، حيث بقي الجعفري ينتظر إشارة من السماء رغم أن المحكمة قد حكمت على الجناة بالإعدام.  

و”الخيرة” أو “الاستخارة” هي إحدى الطرق التي يتبعها الناس من أجل اتخاذ قراراتهم المصيرية، والبسيطة حتى، وهي بذلك الطريقة الخرافية والبدائية، التي عبرها تتم دراسة الصفقات التجارية، وفرص الزواج في العالم العجائبيّ الذي نعيشه هنا.

في فيديو انتشر على نطاق واسع على الفيسبوك، ظهر الإعلامي الدكتور حميد عبدالله، الذي سبق له أن أجرى حواراً مطولاً مع السياسي المعروف باقر جبر الزبيدي على قناة “الاتجاه”، ناقلاً عن الزبيدي: “عندما كنت وزيراً للداخلية، كان لدينا هدف مهم ضد القاعدة، حددناه ويفترض أن ننفذ عملية ضد هذا الهدف، لكن لازم ناخذ موافقة القائد العام للقوات المسلحة وفي ذلك الوقت (كان) الدكتور ابراهيم الجعفري وشرحت له القضية وحددنا ساعة الانطلاق بس نريد موافقتك”.

يكمل الزبيدي، “فقال لي: خلي اخذ خيرة اذا الخيرة صالحة وتشجع توكلوا على الله”، سحب الجعفري المسبحة واخذ خيرة وقال لي: “ابو محمد الخيرة ما تشجع”. 

لاحقًا أصدر المكتب الإعلامي للسيد الجعفري بياناً ينفي هذه التصريحات. 

على الرغم من هذا النفي، فقد بدأت أفتّش منذ تلك اللحظة عن الخيط الخفي الذي يربط عالم الأحجار الكريمة والخرز ومدى حضورها بالقرارات السياسية، محاولاً بذلك إيجاد تفسير منطقي لكل سوء الإدارة الذي يعاني منه العراق منذ 2003 حتى الآن.  

لم يأخذ البحث مني سوى أسابيع قليلة، حتى عثرت على قصة لا تقلّ عجائبية عن لحظة الجعفريّ، ففي مناسبة ما جاء رجل أنيق وخلفه حمايات من ذوي البدلات السوداء، أشار لي صديقي، للرجل الذي يبدو أنه مسؤول في دولة الخرز العراقية.  

ـ تعرف هذا الرجل؟ 

ـ قلت له: لا، لكن أعتقد أنه مسؤول.  

فقال: هذا من أقربائي، وكان موظفا بسيطاً في وزارته، وهو طيب ولطيف، لكنه ذكي وبارع في المحابس والخرز، عندما جاء الوزير السابق، قابلهم، وهو استغل الفرصة، “وفرّ” محبسه -أي أداره على إصبعه- فجعله الوزير مديراً عاماً، وعندما جاء الوزير اللاحق صار وكيلاً.

يؤمن ناس كُثر بالقدرة الكامنة داخل بعض خرز المحابس، و”فر الخرزة” يحقّق الأمنيات، بحسب اعتقادهم. 

كان صديقي يتحدث بشيء من الإيمان والثقة، لكنها قصة تبدو خرافية على أية حال، لأن الرجل المقصود مدعوم من جهات سياسية لها وجودها في الكيان العراقي المطرز بالأحجار والمستدام عبر الأساطير. 

في قصّة أخرى، نقلاً عن موظف شهد كيف كان وزير الاتصالات الأسبق السياسيّ العراقيّ المعروف رياض غريب يطّلع يومياً على سير العمل، ويزور العديد من الموظفين بشكل دوري، ونعرف نحن كموظفين متى يأتي ومتى يخرج.. لم تكن الحال كما هي الآن. لكن الوزير اختفى فجأة لأيام، فسألنا مدير مكتبه صدفة، علماً بأن الوزير لم يكن قد خرج لإيفاد عمل على حد علمنا، حاولنا الاطمئنان على صحته، قال مدير المكتب: “السيد الوزير يومياً يستعد للمجيء إلى الوزارة صباحاً، لكنه في الطريق يأخذ خيرة في مسبحته، وإذا كانت الخيرة سلبية يعود إلى منزله”.

باتت القصص تتلاحق، حتى أوشكت على تصديق أن بإمكان حجارة تضعها في جيبك أن تقيك من الرصاص، وتسهل لك مسلكاً للسلطة أو تسهّل ايقاعك بقلب امرأة ما. هذا ما يصدقه الجميع إلا الندرة من الناس التي تستهجن هذه الخميائية العجيبة تلك.

وليس بعيداً عن ذلك، تندّرُ العراقيين من رئيس الوزراء الأسبق نوري كامل المالكي، فيطلق العديد من العراقيين عليه لقب: “أبو السبح” أي بائع المسابح، ويقال إنه كان يعمل بائعا للمسابح في سوريا يومَ كان معارضاً لنظام صدام حسين، لكن هذه غير مثبتة، وتبقى محل شك، بيد أنها قد تدلّ بشكل ما على أن العديد من الناس صارت تعرف أن الخرافات والأساطير هي جزء لا يتجزأ من بنية هذا النظام.‏ 

وقد يذهب تأويل أحدهم إلى أن هذا التخبّط الذي نعيشه والفوضى والارتجال والتشوش، ربما بسبب الخرز. ومما لا شك فيه، أن الأمر لا يبدو منطقياً بشكل كلي، كما لا يمكن استبعاد احتمالية أن بعض القرارات والخطوات السياسية -وحتى التحالفات وغيرها- ربما جاءت نتيجة “خيرة” يأخذها أحد رجالات الدولة العراقية الذين يطلّون على شاشات التلفاز مرصعين بالخواتم والكلمات.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لا أتذكر متى كانت أول مرة أخذتني فيها أمي إلى السيد “أبو سعيد” أو الملا “أبو سعيد”، حيث رحبت زوجته بنا على الباب، ودخلنا للبيت المليء بالرطوبة والدعاء. هنا يقبع السيد، داخل “حجرة” ضيّقة وطهرانية، لا أتذكر شكلها جيداً، لكنني لن أنسَى شكل الملا بلحيته البيضاء ويشماغه الأبيض الموضوع على الرأس كما لو أنه غيمة أبدية.

بادرت أمي بشرح معاناتي من القلق وعدم النوم والتخيلات. أومأ برأسه، كما لو أنه قد فهم خارطتي النفسية، ثم وضع يده المليئة بالتجاعيد والإيمان على رأسي، وقرأ بصوت خافت بعض الأدعية والآيات، ثم قرأ فوق “طاسة” من الألمنيوم مليئة بالماء، ومنحها لأمي وأخبرها بأن أستحم به. قبل أن نخرج، عصرت أمي بيديها بعض النقود وأعطتها لزوجته، لكنها رفضت بالبداية، إلا ان إلحاح أمي كان أقوى. 

لم يكن الملا طبيبي الخاصّ، فتقريباً كل إخوتي تمّ شفاؤهم عبر يده وكلماته، أو هذا ما تؤمن به أمي على الأقل. لا أتذكر بعدها هل شُفيت، أم استمر أرق الطفولة حتى الآن، لكننا -أمي وأنا- عملنا على كل التفاصيل التي طلبها “أبو سعيد”. 

إلى حد كبير، أظن أن من هناك -من غرفة السيد.. من ذلك المشهد المليء بالكلمات والرطوبة- بدأت حكايتي مع الخرافات والأساطير والغيب والإيمان بسحر الكلمات أيضاً، القصة التي تبدو مألوفة للعديد من الأطفال الذين يولدون وفي مدينتهم مُلا تقليديّ وتقي كما هي الحال مع سيد زقاقنا. 

لم يكن الجمعة يوماً عادياً، بل هو اليوم الأكثر حيوية وفعالية، فهو اليوم الذي لا نذهب به إلى المدرسة، والأهم من ذلك أن أذهب فيه مع جدتي في رحلتها الأثيرة إلى سيد حمدالله. وسيد حمدالله حسب اعتقاد جدتي هو الذي أوقف “البلدوزرات” التي أمرت بهدم مقامه الواقع بالقرب من وزارة الداخلية في بغداد، لذا يُسمّيه الناس “وكّاف الدوزر”.

كما تروي جدتي أن السيد هذا، كان يعمل بائعاً للسمك، ولما سرقت امرأة منه سمكة، ما إن وصلت البيت حتى تحولت السمكة تلك إلى ثعبان. تحوك جدتي الكثير من القصص حول السيد. في مناسبات كثيرة كنا نذهب لمقامه، لقد كان الدخول إلى مرقده يبعث في نفسي السرور والبهجة، فالمشهد لا يخلو من الحياة والحيوية. عوائل تأكل ما تيسر وسط باحة خضراء فسيحة، وطيور كثيرة تدور حولها تتلقط ما تناثر من الأرز، والأهم بالنسبة لي هو لحظة خروجنا من المرقد، حيث تشتري لي جدتي كيسا من الزبيب والحمص وبعض الحلوى.. وهذا المشهد إلى حد كبير، شكّل علاقتي بالغيب.

 دولة الخرز الديمقراطية 

“دولة الخرز”، هذا ما قاله سيد عبيد وهو يغلق الباب ويرحل منهياً النقاش السياسيّ الذي كان يدور في الغرفة المخصصة للضيوف. كنا مجموعة من الأقارب والأصدقاء نتشاجر دونما طاولة نحوطها على السوء العراقيّ العجيب، بعد أن أصبحت السياسة هي مائدة العراقيين الدائمة. 

أثار بتركيبه هذا “دولة الخرز” فضولاً من نوع خاصّ في نفسي، وعرفت ماذا يقصد منذ البداية، فهو كان يشير إلى أن هذه الدولة مبنية على الخرافات والأساطير والحروز والخِرز (أي الأحجار الكريمة). فلا سياسة ولا تخطيط ولا خطة عمل، كل ما يحصل هو نوع من الابتكار والارتجال والخرق للواقع الذي تقدمه تلك القوى الغيبية التي تضمرها الأحجار الصماء. كان يقول: “رئيس وزراء يدور بمسبحته، ليلة كاملة، من أجل اتخاذ قرار إعدام مجموعة إرهابيين!” ويقصد في ذلك إبراهيم الجعفري، الذي كان رئيس الوزراء العراقيّ الأسبق بين الأعوام 2005 إلى 2006.  

وهذه الرواية ينقلها العديد من الناس، بضمنها أحد أصدقاء العائلة، الذي يعمل في مجلس الوزراء، حيث يقول أن رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفريّ، بقي لمدة ليلة كاملة، يدور بمسبحته ويأخذ “خيرة” من أجل التوقيع على إعدام ستة إرهابيين، حيث بقي الجعفري ينتظر إشارة من السماء رغم أن المحكمة قد حكمت على الجناة بالإعدام.  

و”الخيرة” أو “الاستخارة” هي إحدى الطرق التي يتبعها الناس من أجل اتخاذ قراراتهم المصيرية، والبسيطة حتى، وهي بذلك الطريقة الخرافية والبدائية، التي عبرها تتم دراسة الصفقات التجارية، وفرص الزواج في العالم العجائبيّ الذي نعيشه هنا.

في فيديو انتشر على نطاق واسع على الفيسبوك، ظهر الإعلامي الدكتور حميد عبدالله، الذي سبق له أن أجرى حواراً مطولاً مع السياسي المعروف باقر جبر الزبيدي على قناة “الاتجاه”، ناقلاً عن الزبيدي: “عندما كنت وزيراً للداخلية، كان لدينا هدف مهم ضد القاعدة، حددناه ويفترض أن ننفذ عملية ضد هذا الهدف، لكن لازم ناخذ موافقة القائد العام للقوات المسلحة وفي ذلك الوقت (كان) الدكتور ابراهيم الجعفري وشرحت له القضية وحددنا ساعة الانطلاق بس نريد موافقتك”.

يكمل الزبيدي، “فقال لي: خلي اخذ خيرة اذا الخيرة صالحة وتشجع توكلوا على الله”، سحب الجعفري المسبحة واخذ خيرة وقال لي: “ابو محمد الخيرة ما تشجع”. 

لاحقًا أصدر المكتب الإعلامي للسيد الجعفري بياناً ينفي هذه التصريحات. 

على الرغم من هذا النفي، فقد بدأت أفتّش منذ تلك اللحظة عن الخيط الخفي الذي يربط عالم الأحجار الكريمة والخرز ومدى حضورها بالقرارات السياسية، محاولاً بذلك إيجاد تفسير منطقي لكل سوء الإدارة الذي يعاني منه العراق منذ 2003 حتى الآن.  

لم يأخذ البحث مني سوى أسابيع قليلة، حتى عثرت على قصة لا تقلّ عجائبية عن لحظة الجعفريّ، ففي مناسبة ما جاء رجل أنيق وخلفه حمايات من ذوي البدلات السوداء، أشار لي صديقي، للرجل الذي يبدو أنه مسؤول في دولة الخرز العراقية.  

ـ تعرف هذا الرجل؟ 

ـ قلت له: لا، لكن أعتقد أنه مسؤول.  

فقال: هذا من أقربائي، وكان موظفا بسيطاً في وزارته، وهو طيب ولطيف، لكنه ذكي وبارع في المحابس والخرز، عندما جاء الوزير السابق، قابلهم، وهو استغل الفرصة، “وفرّ” محبسه -أي أداره على إصبعه- فجعله الوزير مديراً عاماً، وعندما جاء الوزير اللاحق صار وكيلاً.

يؤمن ناس كُثر بالقدرة الكامنة داخل بعض خرز المحابس، و”فر الخرزة” يحقّق الأمنيات، بحسب اعتقادهم. 

كان صديقي يتحدث بشيء من الإيمان والثقة، لكنها قصة تبدو خرافية على أية حال، لأن الرجل المقصود مدعوم من جهات سياسية لها وجودها في الكيان العراقي المطرز بالأحجار والمستدام عبر الأساطير. 

في قصّة أخرى، نقلاً عن موظف شهد كيف كان وزير الاتصالات الأسبق السياسيّ العراقيّ المعروف رياض غريب يطّلع يومياً على سير العمل، ويزور العديد من الموظفين بشكل دوري، ونعرف نحن كموظفين متى يأتي ومتى يخرج.. لم تكن الحال كما هي الآن. لكن الوزير اختفى فجأة لأيام، فسألنا مدير مكتبه صدفة، علماً بأن الوزير لم يكن قد خرج لإيفاد عمل على حد علمنا، حاولنا الاطمئنان على صحته، قال مدير المكتب: “السيد الوزير يومياً يستعد للمجيء إلى الوزارة صباحاً، لكنه في الطريق يأخذ خيرة في مسبحته، وإذا كانت الخيرة سلبية يعود إلى منزله”.

باتت القصص تتلاحق، حتى أوشكت على تصديق أن بإمكان حجارة تضعها في جيبك أن تقيك من الرصاص، وتسهل لك مسلكاً للسلطة أو تسهّل ايقاعك بقلب امرأة ما. هذا ما يصدقه الجميع إلا الندرة من الناس التي تستهجن هذه الخميائية العجيبة تلك.

وليس بعيداً عن ذلك، تندّرُ العراقيين من رئيس الوزراء الأسبق نوري كامل المالكي، فيطلق العديد من العراقيين عليه لقب: “أبو السبح” أي بائع المسابح، ويقال إنه كان يعمل بائعا للمسابح في سوريا يومَ كان معارضاً لنظام صدام حسين، لكن هذه غير مثبتة، وتبقى محل شك، بيد أنها قد تدلّ بشكل ما على أن العديد من الناس صارت تعرف أن الخرافات والأساطير هي جزء لا يتجزأ من بنية هذا النظام.‏ 

وقد يذهب تأويل أحدهم إلى أن هذا التخبّط الذي نعيشه والفوضى والارتجال والتشوش، ربما بسبب الخرز. ومما لا شك فيه، أن الأمر لا يبدو منطقياً بشكل كلي، كما لا يمكن استبعاد احتمالية أن بعض القرارات والخطوات السياسية -وحتى التحالفات وغيرها- ربما جاءت نتيجة “خيرة” يأخذها أحد رجالات الدولة العراقية الذين يطلّون على شاشات التلفاز مرصعين بالخواتم والكلمات.